Wednesday 7 December 2022

تفسير سورة البقرة ح22 تلك أمة قد خلت لها ما كسبت

  


تفسير سورة البقرة- ح ٢٢

(‏ قُلْ أَتُحَاجُّونَنَا فِي اللَّهِ وَهُوَ رَبُّنَا وَرَبُّكُمْ

 وَلَنَا أَعْمَالُنَا وَلَكُمْ أَعْمَالُكُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُخْلِصُونَ) 

أنا دَعوةُ أبي إبراهيمَ ، وبشارَةُ عيسى بي ورؤيا أمِّي الَّتي رأَت

(تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ ۖ لَهَا مَا كَسَبَتْ وَلَكُم مَّا كَسَبْتُمْ)

لن تُسألَ أمةٌ عن سابقتها، ولا نفسٌ عن نفسٍ شيئًا

 

 

مواضيع هذا الجزء:

-نفي أن إبراهيم يهوديا أو نصرانيا، ولكنه على الحنفية التي أمر الله  بها محمدﷺ.

-الآيات هنا تؤكد على أهمية  التزام العقيدة الصحيحة، بالكتب السماوية، والرسل لا نفرق بينهم في التكريم والتعظيم والشرف، مع أنهم عند الله درجات كما سيأتي.

-ضرورة رسوخ الإيمان بالله تعالى أنه هو الرب المربي، والإله المعبود حبا وتبجيلا وتعظيما له.

التفسير:

قوله تعالى : (قُولُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنزِلَ إِلَيْنَا وَمَا أُنزِلَ إِلَىٰ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْبَاطِ وَمَا أُوتِيَ مُوسَىٰ وَعِيسَىٰ وَمَا أُوتِيَ النَّبِيُّونَ مِن رَّبِّهِمْ لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِّنْهُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ ﴿١٣٦﴾‏

قوله تعالى : قولوا آمنا بالله خرج البخاري عن أبي هريرة رضي الله عنه قال : (كانَ أهْلُ الكِتَابِ يَقْرَؤُونَ التَّوْرَاةَ بالعِبْرَانِيَّةِ، ويُفَسِّرُونَهَا بالعَرَبِيَّةِ لأهْلِ الإسْلَامِ، فَقالَ رَسولُ اللَّهِ ﷺ: "لا تُصَدِّقُوا أهْلَ الكِتَابِ ولا تُكَذِّبُوهُمْ وقُولوا: {آمَنَّا باللَّهِ وما أُنْزِلَ}" الآية . قال ابن عباس : جاء نفر من اليهود إلى النبي ﷺ فسألوه عمن يؤمن به من الأنبياء ، فنزلت الآية . فلما جاء ذكر عيسى قالوا : لا نؤمن بعيسى ولا من آمن به .

قوله تعالى : (وَمَا أُنزِلَ إِلَيْنَا وَمَا أُنزِلَ إِلَىٰ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْبَاطِ )

والأسباط : ولد يعقوب عليه السلام ، وهم اثنا عشر ولدا ، ولد لكل واحد منهم أمة من الناس، واحدهم سبط . والسبط في بني إسرائيل بمنزلة القبيلة في ولد إسماعيل . وسموا الأسباط من السبط وهو التتابع ، فهم جماعة متتابعون. وقيل : أصله من السبَط ( بالتحريك ) وهو الشجر، أي هم في الكثرة بمنزلة الشجر،  الواحدة سبطة . قال أبو إسحاق الزجاج : ويبين لك هذا ما جاء عن ابن عباس قال : كل الأنبياء من بني إسرائيل إلا عشرة : نوحا وشعيبا [هو شعيب بن ميكيل بن يَشجر بن مدين من ذرية إبراهيم الخليل عليه الصلاة والسلام، وقيل هو ابن بنت نبي الله لوط] ، وهودا [ نسب هود : هود بن شالخ بن أرفحشذ بن سام بن نوح ]، وصالحا [نسب صالح عليه السلام: صالح بن عبيد بن آسف بن ماشخ بن عبيد بن حاذر بن جابر بن ثمود بن عامر بن إرم بن سام بن نوح عليه السلام] ولوطا وإبراهيم وإسحاق ويعقوب وإسماعيل ومحمدا ﷺ.

ولم يكن أحد له اسمان إلا عيسى ويعقوب. والسبط: الجماعة والقبيلة الراجعون إلى أصل واحد. وشعر سبط وسبط: غير جعد .

(لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِّنْهُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ)  قال الفراء : أي لا نؤمن ببعضهم ونكفر ببعضهم كما فعلت اليهود والنصارى .

قوله تعالى : ( فَإِنْ آمَنُوا بِمِثْلِ مَا آمَنتُم بِهِ فَقَدِ اهْتَدَوا ۖ وَّإِن تَوَلَّوْا فَإِنَّمَا هُمْ فِي شِقَاقٍ ۖ فَسَيَكْفِيكَهُمُ اللَّهُ ۚ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ ) (137)

قوله تعالى : فإن آمنوا بمثل ما آمنتم به فقد اهتدوا الخطاب لمحمد ﷺ وأمته . المعنى : فإن آمنوا مثل إيمانكم، وصدقوا مثل تصديقكم فقد اهتدوا، فالمماثلة وقعت بين الإيمانين، وقيل: إن الباء زائدة مؤكدة . وكان ابن عباس يقرأ فيما حكى الطبري : فإن آمنوا بالذي آمنتم به فقد اهتدوا وهذا هو معنى القراءة وإن خالف المصحف ، ف مثل زائدة كما هي في قوله : ليس كمثله شيء أي ليس كهو شيء .

قوله تعالى ( وَّإِن تَوَلَّوْا)  أي عن الإيمان (فَإِنَّمَا هُمْ فِي شِقَاقٍ ۖ)

الشقاق المنازعة. وقيل : الشقاق المجادلة والمخالفة والتعادي.

وأصله من الشق وهو الجانب، فكأن كل واحد من الفريقين في شق غير شق صاحبه.

قيل: إن الشقاق مأخوذ من فعل ما يشق ويصعب، فكأن كل واحد من الفريقين يحرص على ما يشق على صاحبه.

قوله تعالى ( فَسَيَكْفِيكَهُمُ اللَّهُ ۚ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ ) أي فسيكفي الله رسوله عدوه. فكان هذا وعدا من الله تعالى لنبيه عليه السلام أنه سيكفيه من عانده ومن خالفه من المتولين بمن يهديه من المؤمنين، فأنجز له الوعد، وكان ذلك في قتل بني قينقاع وبني قريظة وإجلاء بني النضير

والكاف والهاء والميم في كلمة ( فَسَيَكْفِيكَهُمُ) في موضع نصب مفعولان. ويجوز في غير القرآن: فسيكفيك إياهم.

 وهذا الحرف ( فَسَيَكْفِيكَهُمُ اللَّهُ ۚ) هو الذي وقع عليه دم عثمان حين قتل بإخبار النبيﷺ إياه بذلك. و (السميع) لقول كل قائل ( العليم) بما ينفذه في عباده ويجريه عليهم.

 وحكي أن أبا دلامة أنه دخل على المنصور وعليه قلنسوة طويلة، ودراعة مكتوب بين كتفيها (فَسَيَكْفِيكَهُمُ اللَّهُ ۚ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ)، وسيف معلق في وسطه، وكان المنصور قد أمر الجند بهذا الزي، فقال له: كيف حالك يا أبا دلامة؟ قال : بشر يا أمير المؤمنين قال : وكيف ذاك؟ قال: ما ظنك برجل وجهه في وسطه، وسيفه في استه، وقد نبذ كتاب الله وراء ظهره،  فضحك المنصور منه، وأمر بتغيير ذلك الزي من وقته.

قوله تعالى: (صِبْغَةَ اللَّهِ ۖ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ صِبْغَةً ۖ وَنَحْنُ لَهُ عَابِدُونَ) ، دين الله أو ملة،

قال الكسائي : وهي منصوبة على تقدير اتبعوا. أو على الإغراء أي الزموا. ولو قرئت بالرفع لجاز، أي هي صبغة الله.

وقال مجاهد : أي فطرة الله التي فطر الناس عليها. قال أبو إسحاق الزجاج : وقول مجاهد هذا يرجع إلى الإسلام، لأن الفطرة ابتداء الخلق، وابتداء ما خلقوا عليه الإسلام.

وعن قتادة قال : إن اليهود تصبغ أبناءهم يهودا، وإن النصارى تصبغ أبناءهم نصارى، وإن صبغة الله الإسلام.

قال ابن عباس : هو أن النصارى كانوا إذا ولد لهم ولد فأتى عليه سبعة أيام غمسوه في ماء لهم يقال له ماء المعمودية، فصبغوه بذلك ليطهروه به مكان الختان، لأن الختان تطهير، فإذا فعلوا ذلك قالوا : الآن صار نصرانيا حقا، فرد الله تعالى ذلك عليهم بأن قال ( صبغة الله) أي صبغة الله أحسن صبغة وهي الإسلام، فسمي الدين صبغة استعارة ومجازا من حيث تظهر أعماله وسمته على المتدين، كما يظهر أثر الصبغ في الثوب.

عن أنس بن مالك رضي الله عنه، قال رسول الله ﷺ: " يُؤْتَى بأَنْعَمِ أهْلِ الدُّنْيا مِن أهْلِ النَّارِ يَومَ القِيامَةِ، فيُصْبَغُ في النَّارِ صَبْغَةً، ثُمَّ يُقالُ: يا ابْنَ آدَمَ، هلْ رَأَيْتَ خَيْرًا قَطُّ؟ هلْ مَرَّ بكَ نَعِيمٌ قَطُّ؟ فيَقولُ: لا واللَّهِ يا رَبِّ، ويُؤْتَى بأَشَدِّ النَّاسِ بُؤْسًا في الدُّنْيا مِن أهْلِ الجَنَّةِ، فيُصْبَغُ صَبْغَةً في الجَنَّةِ، فيُقالُ له: يا ابْنَ آدَمَ، هلْ رَأَيْتَ بُؤْسًا قَطُّ؟ هلْ مَرَّ بكَ شِدَّةٌ قَطُّ؟ فيَقولُ: لا واللَّهِ يا رَبِّ، ما مَرَّ بي بُؤْسٌ قَطُّ، ولا رَأَيْتُ شِدَّةً قَطُّ." (صحيح مسلم)

وقيل : إن الصبغة الاغتسال لمن أراد الدخول في الإسلام، بدلا من معمودية النصارى، ذكره الماوردي. قلت : وعلى هذا التأويل يكون غسل الكافر واجبا تعبدا، وهي المسألة: الثانية: لأن معنى (صِبْغَةَ اللَّه) غسل الله، أي اغتسلوا عند إسلامكم الغسل الذي أوجبه الله عليكم. وبهذا المعنى جاءت السنة الثابتة في قيس بن عاصم وثمامة بن أثال حين أسلما. روى أبو حاتم البستي في صحيح مسنده عن أبي هريرة رضي الله عنه : "أن ثمامة الحنفي أسر فمر به النبي ﷺ يوما فأسلم، فبعث به إلى حائط أبي طلحة فأمره أن يغتسل فاغتسل وصلى ركعتين، فقال رسول الله ﷺ : (حسن إسلام صاحبكم). وخرج أيضا عن قيس بن عاصم أنه أسلم، فأمره النبي ﷺ أن يغتسل بماء وسدر." ذكره النسائي وصححه أبو محمد عبدالحق.

(وَنَحْنُ لَهُ عَابِدُونَ) قال اليهود للمسلمين نحن أهل الكتاب الأول وقبلتنا أقدم ولم تكن الأنبياء من العرب ولو كان محمد نبيا لكان منا فنزل .

قوله تعالى:( قُلْ أَتُحَاجُّونَنَا فِي اللَّهِ وَهُوَ رَبُّنَا وَرَبُّكُمْ وَلَنَا أَعْمَالُنَا وَلَكُمْ أَعْمَالُكُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُخْلِصُونَ)

يقول اللّه تعالى مرشداً نبيّه إلى درء مجادلة المشركين: (قُلْ أَتُحَاجُّونَنَا فِي اللَّهِ) أي تناظروننا في توحيد اللّه والإخلاص له، قال الحسن: كانت المحاجة أن قالوا : نحن أولى بالله منكم، لأنا أبناء الله وأحباؤه. وقيل: لتقدم آبائنا وكتبنا، ولأنا لم نعبد الأوثان. فمعنى الآية : قل لهم يا محمد، أي قل لهؤلاء اليهود والنصارى الذين زعموا أنهم أبناء الله وأحباؤه وادعوا أنهم أولى بالله منكم لقدم آبائهم وكتبهم.
 
(أَتُحَاجُّونَنَا) أي أتجاذبوننا الحجة -أي كل يأتي بحجته- على دعواكم والرب واحد، وكل مجازى بعمله، فأي تأثير لقدم الدين. ومعنى ( فِي اللَّهِ)  أي في دينه والقرب منه والحظوة له. والانقياد، واتباع أوامره، وترك زواجره (وَهُوَ رَبُّنَا وَرَبُّكُمْ) المتصرف فينا وفيكم، المستحق لإخلاص الإلهية له وحده لا شريك له ( ولنا أعمالنا ولكم أعمالكم) أي نحن براء منكم ومما تعبدون وأنتم براء منا كما قال في الآية الأخرى: { فإن كذبوك فقل لي عملي ولكم عملكم، أنتم بريئون مما أعمل وأنا بريء مما تعملون} ، وقال تعالى: ( فَإِنْ حَاجُّوكَ فَقُلْ أَسْلَمْتُ وَجْهِيَ لِلَّهِ وَمَنِ اتَّبَعَنِ)﴿٢٠آل عمران﴾‏  الآية. وقال في هذه الآية الكريمة: (وَلَنَا أَعْمَالُنَا وَلَكُمْ أَعْمَالُكُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُخْلِصُونَ) أي نحن براء منكم كما أنتم براء منا، ونحن له مخلصون أي في العبادة والتوجه.

وقوله تعالى: (أَمْ تَقُولُونَ إِنَّ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْبَاطَ كَانُوا هُودًا أَوْ نَصَارَىٰ ۗ قُلْ أَأَنْتُمْ أَعْلَمُ أَمِ اللَّهُ ۗ وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ كَتَمَ شَهَادَةً عِنْدَهُ مِنَ اللَّهِ ۗ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ )

ثم أنكر تعالى عليهم في دعواهم أن إبراهيم ومن ذكر بعده من الأنبياء والأسباط كانوا على ملتهم، إما اليهودية وإما النصرانية فقال: (قُلْ أَأَنْتُمْ أَعْلَمُ أَمِ اللَّهُ) ؟ تقرير وتوبيخ في ادعائهم بأنهم كانوا هودا أو نصارى. فرد الله عليهم بأنه أعلم بهم منكم، أي لم يكونوا هودا ولا نصارى. يعني: بل الّله أعلم، وقد أخبر أنهم لم يكونوا هودا ولا نصارى كما قال تعالى: (مَا كَانَ إِبْرَاهِيمُ يَهُودِيًّا وَلَا نَصْرَانِيًّا وَلَٰكِن كَانَ حَنِيفًا مُّسْلِمًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ) ﴿٦٧ آل عمران﴾  وقوله: (وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ كَتَمَ شَهَادَةً عِنْدَهُ مِنَ اللَّهِ ۗ) لفظه الاستفهام، والمعنى : لا أحد أظلم ، قال الحسن البصري: كانوا يقرءون في كتاب اللّه الذي أتاهم إن الدين الإسلام، وإن محمداً رسول اللّه، وإن إبراهيم وإسماعيل وإسحاق ويعقوب والأسباط كانوا براء من اليهودية والنصرانية، فشهدوا للّه بذلك وأقروا على أنفسهم اللّه، فكتموا شهادة اللّه عنهم من ذلك. وقوله: (وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ) تهديد ووعيد شديد: أي أن علمه محيط بعلمكم وسيجزيكم عليه.

 ثم قال تعالى: (تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ ) أي قد مضت (لَهَا مَا كَسَبَتْ وَلَكُم مَّا كَسَبْتُمْ) أي لهم أعمالهم ولكم أعمالكم (وَلَا تُسْأَلُونَ عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ) وليس بغني عنكم انتسابكم إليهم من غير متابعة منكم لهم، ولا تغتروا بمجرد النسبة إليهم حتى تكونوا منقادين مثلهم لأوامر اللّه، واتباع رسله الذي بعثوا مبشرين ومنذرين، فإنه من كفر بنبي واحد فقد كفر بسائر الرسل، ولا سيما بسيد الأنبياء وخاتم المرسلين، ورسول رب العالمين إلى جميع الإنس والجن من المكلفين صلوات اللّه وسلامه عليه وعلى سائر أنبياء اللّه أجمعين.

في الحكمة من تكرار الآية:

ذكر الخطيب الإسكافي أن الآية جاءت بعد قوله سبحانه: (أَمْ كُنتُمْ شُهَدَاءَ إِذْ حَضَرَ يَعْقُوبَ الْمَوْتُ إِذْ قَالَ لِبَنِيهِ مَا تَعْبُدُونَ مِن بَعْدِي قَالُوا نَعْبُدُ إِلَٰهَكَ وَإِلَٰهَ آبَائِكَ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ إِلَٰهًا وَاحِدًا وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُون)َ (البقرة ١٣٣)، ومعناه: أن إسرائيل عليه السلام قرر بنيه على عبادتهم التي ثبتت عندهم، ووصاهم بها، فقال تعالى لهؤلاء: أتنفون ما ثبت من وصية يعقوب عليه السلام بنيه، وتقريره إياهم، وإقرارهم بها، والأمة قد انقضت، وحالها في عبادتها قد ثبتت. ومن نفى ما ثبت من الدين، فقد دخل في الكفر. فهذه الآية الأولى جاءت عقب تقرير يعقوب عليه السلام لبنيه، وإقرارهم له.

والآية بعينها كُررت بعد قوله تعالى: (أَمْ تَقُولُونَ إِنَّ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْبَاطَ كَانُوا هُودًا أَوْ نَصَارَىٰ ۗ قُلْ أَأَنتُمْ أَعْلَمُ أَمِ اللَّهُ ۗ) (البقرة ١٤٠) أي: أم أنتم تُثبتون ما هو منتف، ومن أثبت في الدين ما ليس منه، فهو في الإثم كمن نفى عنه ما هو منه. ففي الأول نفي ما هو ثابت من إقرار بني إسرائيل، وفي الثاني إثبات ما هو منتف من كون إبراهيم وإسماعيل وإسحاق كانوا هوداً أو نصارى، وكل واحد من هذين يوجب من البراءة منه، ويستحق به من غلظ الوعيد، والتخويف بالعقاب، والتنبيه على الكبيرة التي تحبط الحسنات، مثل ما يوجبه الآخر، فلذلك أعيد في الدعوى الثانية الباطلة ما قَدَّم في الدعوى الأولى الكاذبة، وكما استحقت تلك براءة الذمة من قائلها، وتنبيهه على فساد قوله، كذلك استحقت هذه فصارت الثانية في مكانها، وحقِّها كما وقعت الأولى في محلها ومستحقها، فلم يكن ذلك تكراراً، بل كان وعيداً عقيب كبيرة، كما كان الأول وعيداً عقيب كبيرة أخرى غير الثانية.

ثانياً: قال الرازي: إنه متى اختلفت الأوقات والأحوال والمواطن، لم يكن التكرار عبثاً، فكأنه تعالى قال: ما هذا إلا بشر، فوَصْفُ هؤلاء الأنبياء فيما أنتم عليه من الدين، لا يسوغ التقليد في هذا الجنس، فعليكم بترك الكلام في تلك الأمة، فلها ما كسبت، وانظروا فيما دعاكم إليه محمد ، فإن ذلك أنفع لكم وأعود عليكم، ولا تسألون إلا عن عملكم.

ثالثاً: قال أبو حيان ما حاصله: ليست الآية الثانية تكراراً للأولى؛ لأن الثانية وردت إثر شيء مخالف لما وردت الآية الأولى بإثره. وإذا كان كذلك، فقد اختلف السياق، فلا تكرار. بيان ذلك: أن الأولى وردت إثر ذكر الأنبياء، فتلك إشارة إليهم، والثانية وردت عقب أسلاف اليهود والنصارى، فالمشار إليه هم. فقد اختلف المخبر عنه والسياق. والمعنى: أنه إذا كان الأنبياء على فضلهم وتقدمهم، يجازون بما كسبوا، فأنتم أحق بذلك.

رابعاً: ذهب ابن عاشور إلى أن الغرض من التكرار زيادة رسوخ مدلوله في نفوس السامعين؛ اهتماماً بما تضمنه؛ لكونه معنى لم يسبق سماعه للمخاطبين، فلم يقتنع فيه بمرة واحدة.

والله أولى وأعلم

 


No comments:

Post a Comment