Thursday, 5 January 2023

تفسير سورة البقرة ح26 عظمة الله في الخلق تدل على وحدانيته

  

محور مواضيع هذا الجزء:

-تعظيم الله يأتي من رؤية عظم خلقه وحكمته فيه بقلب سليم، يثمر محبة في القلب لا تماثلها محبة، فبديع خلقه لا يماثله خلق.

-محبة الله لا يُعادل بمحبة غيره مهما كان.

-ادعاء الكفار أنهم يحبون ما عبدوا ندا لله، كحبهم لله هي دليل على تعظيم محبة الله.

 

التفسير:

قوله تعالى: (إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَالْفُلْكِ الَّتِي تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِمَا يَنفَعُ النَّاسَ وَمَا أَنزَلَ اللَّهُ مِنَ السَّمَاءِ مِن مَّاءٍ فَأَحْيَا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وَبَثَّ فِيهَا مِن كُلِّ دَابَّةٍ وَتَصْرِيفِ الرِّيَاحِ وَالسَّحَابِ الْمُسَخَّرِ بَيْنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ لَآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَعْقِلُونَ) ﴿١٦٤﴾‏

 يذكر هنا ربنا الدليل على تفرده سبحانه بالإلهية من تفرده بخلق السماوات والأرض وما فيهما، وما بين ذلك مما ذرأ وبرأ من المخلوقات الدالة على وحدانيته.

 وقيل أنه لما نزلت (وَإِلَٰهُكُمْ إِلَٰهٌ وَاحِدٌ ۖ) قالت كفار قريش: كيف يسع الناس إله واحد ، فنزلت: (إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ). وروى عن أبي الضحى قال: لما نزلت  (وَإِلَٰهُكُمْ إِلَٰهٌ وَاحِدٌ ۖ) قالوا هل من دليل على ذلك؟ فأنزل الله تعالى: (إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ). فكأنهم طلبوا آية فبين لهم دليل التوحيد.

وفي نهاية الآية بعد أن يعدد جزء من خلقه، يقول تعالى: (لَآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَعْقِلُونَ)، أي كل ما ذكره في الآية لآيات ودلائل لكل ذي لب. فما هي الآيات؟

بدأ بآية السماوات: ارتفاعها بغير عمد من تحتها ولا علائق من فوقها، ودل ذلك على القدرة وخرق العادة. ولو جاء نبي فتحدي بوقوف جبل في الهواء دون علاقة كان معجزا . ثم ما فيها من الشمس والقمر والنجوم السائرة والكواكب الزاهرة شارقة وغاربة نيرة وممحوة آية ثانية .

وآية الأرض: بحارها وأنهارها ومعادنها وشجرها وسهلها ووعرها .

وقيل: جمع السماوات لأنها أجناس مختلفة، كل سماء من جنس غير جنس الأخرى، في التفصيل والبناء والسكان، ووحد الأرض لأنها كلها تراب، وما خلق فيها من تراب، والله أعلم

وآية اختلاف الليل والنهار قيل: اختلافهما بإقبال أحدهما وإدبار الآخر من حيث لا يعلم. وقيل: اختلافهما في الأوصاف من النور والظلمة والطول والقصر، هذا يجيء ثم يذهب ويخلفه الآخر ويعقبه، لا يتأخر عنه لحظة، كما قال تعالى: (لَا الشَّمْسُ يَنبَغِي لَهَا أَن تُدْرِكَ الْقَمَرَ وَلَا اللَّيْلُ سَابِقُ النَّهَارِ وَكُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ) ﴿يس٤٠﴾‏

والنهار، مفرد، ويجمع على: نُهُر وأنْهُرة . وقيل (النُهُر : هو جمع الجمع)

ومن الآيات التي تدل على عظمة الخالق: والفلك التي تجري في البحر الفلك : السفن ، وإفراده وجمعه بلفظ واحد، ونفس اللفظ يذكر ويؤنث، وليست الحركات في المفرد تلك بأعيانها في الجمع، بل كأنه بنى الجمع بناء آخر، قال تعالى: (فَأَنجَيْنَاهُ وَمَن مَّعَهُ فِي الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ)﴿الشعراء ١١٩﴾‏، وقال سبحانه: (وَآيَةٌ لَّهُمْ أَنَّا حَمَلْنَا ذُرِّيَّتَهُمْ فِي الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ) ﴿يس ٤١﴾‏،  فجاء به مذكرا ، وقال هنا: (وَالْفُلْكِ الَّتِي تَجْرِي فِي الْبَحْرِ)، فأنث. ويحتمل أن يقصد به واحدا وجمعا، وقال : (حَتَّىٰ إِذَا كُنتُمْ فِي الْفُلْكِ وَجَرَيْنَ بِهِم بِرِيحٍ طَيِّبَةٍ) ﴿٢٢يونس﴾‏ فجمع، فكأنه إذا قصد بها واحدة المركب فيذكر، ووإذا قصد السفينة فيؤنث .

وقيل : واحده فَلَك، والجمع: فُلْك: مثل أَسَد وأُسْد ، وخَشَب وخُشْب.

وأصل كلمة فلك من الدوران، ومنه: فلك السماء التي تدور عليه النجوم. وسميت السفينة فلكا لأنها تدور بالماء أسهل دوران.

ووجه الآية المقصودة في الفلك: تسخير الله إياها حتى تجري على وجه الماء ووقوفها فوقه مع ثقلها. وأول من عملها نوح عليه السلام بأمر الله وتعليمه له، سبحانه وتعالى.

هذه الآية وما كان مثلها دليل على جواز ركوب البحر مطلقا لتجارة كان أو عبادة، كالحج والجهاد، ومن السنة حديث أبي هريرة قال : جاء رجل إلى رسول الله ﷺ فقال : يا رسولَ اللَّهِ إنَّا نرْكبُ البحرَ ونحمِلُ معنا القليلَ منَ الماءِ فإن توضَّأنا بِهِ عطَشنا، أفنتَوضَّأُ بماءِ البحر؟ِ فقالَ رسولُ اللَّهِ ﷺ: هوَ الطَّهورُ ماؤُهُ الحلُّ ميتتُهُ." (صححه الألباني في صحيح أبي داود)

وفي الحديث عن أنس بن مالك- يقص عن خالته أم حرام بن ملحان-قال: (..فَدَخَلَ عَلَيْهَا رَسولُ اللهِ ﷺ يَوْمًا، فأطْعَمَتْهُ، ثُمَّ جَلَسَتْ تَفْلِي رَأْسَهُ، فَنَامَ رَسولُ اللهِ ﷺ، ثُمَّ اسْتَيْقَظَ وَهو يَضْحَكُ، قالَتْ: فَقُلتُ: ما يُضْحِكُكَ يا رَسولَ اللهِ؟ قالَ: نَاسٌ مِن أُمَّتي عُرِضُوا عَلَيَّ، غُزَاةً في سَبيلِ اللهِ، يَرْكَبُونَ ثَبَجَ هذا البَحْرِ، مُلُوكًا علَى الأسِرَّةِ، أَوْ مِثْلَ المُلُوكِ علَى الأسِرَّةِ، يَشُكُّ أَيَّهُمَا، قالَ: قالَتْ: فَقُلتُ: يا رَسولَ اللهِ، ادْعُ اللَّهَ أَنْ يَجْعَلَنِي منهمْ، فَدَعَا لَهَا، ثُمَّ وَضَعَ رَأْسَهُ، فَنَامَ، ثُمَّ اسْتَيْقَظَ وَهو يَضْحَكُ، قالَتْ: فَقُلتُ: ما يُضْحِكُكَ يا رَسولَ اللهِ؟ قالَ: نَاسٌ مِن أُمَّتي عُرِضُوا عَلَيَّ، غُزَاةً في سَبيلِ اللهِ، كما قالَ في الأُولَى، قالَتْ: فَقُلتُ: يا رَسولَ اللهِ، ادْعُ اللَّهَ أَنْ يَجْعَلَنِي منهمْ، قالَ: أَنْتِ مِنَ الأوَّلِينَ. فَرَكِبَتْ أُمُّ حَرَامٍ بنْتُ مِلْحَانَ البَحْرَ في زَمَنِ مُعَاوِيَةَ، فَصُرِعَتْ عن دَابَّتِهَا حِينَ خَرَجَتْ مِنَ البَحْرِ، فَهَلَكَتْ.) (مسلم)، و أُمُّ حَرامٍ رضِيَ اللهُ عنها مِن مَحارِمِ النَّبيِّ ﷺمن قِبَل خالاتِه؛ لأنَّ أمَّ عَبدِ المطَّلِبِ كانت من بني النَّجَّارِ، وقيل: كانت إحدى خالاتِه ﷺمن الرَّضاعةِ، وهي أختُ أُمِّ سُلَيمٍ، وخالةُ أنَسِ بنِ مالِكٍ.

قوله تعالى: (بِمَا يَنفَعُ النَّاسَ) أي بالذي ينفعهم من التجارات وسائر المآرب التي تصلح بها أحوالهم. وبركوب البحر تكتسب الأرباح، وينتفع من يحمل إليه المتاع أيضا،وقد قال بعض من طعن في الدين : إن الله تعالى يقول في كتابكم: ( مَّا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِن شَيْءٍ ..) ﴿الأنعام ٣٨﴾‏ فأين ذكر التوابل المصلحة للطعام من الملح والفلفل وغير ذلك ؟ فقيل له في قوله : (بِمَا يَنفَعُ النَّاسَ)

قوله تعالى: (وَمَا أَنزَلَ اللَّهُ مِنَ السَّمَاءِ مِن مَّاءٍ) يعني بها الأمطار التي بها إنعاش العالم وإخراج النبات والأرزاق، وجعل منه المخزون عدة للانتفاع في غير وقت نزوله، كما قال تعالى: (وَأَنزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً بِقَدَرٍ فَأَسْكَنَّاهُ فِي الْأَرْضِ وَإِنَّا عَلَىٰ ذَهَابٍ بِهِ لَقَادِرُونَ) ﴿المؤمنون ١٨﴾‏، ( فَأَحْيَا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا ) كما قال تعالى : (وَآيَةٌ لَّهُمُ الْأَرْضُ الْمَيْتَةُ أَحْيَيْنَاهَا وَأَخْرَجْنَا مِنْهَا حَبًّا فَمِنْهُ يَأْكُلُونَ * وَجَعَلْنَا فِيهَا جَنَّاتٍ مِّن نَّخِيلٍ وَأَعْنَابٍ وَفَجَّرْنَا فِيهَا مِنَ الْعُيُونِ) ﴿يس ٣٣-٣٤﴾

قوله تعالى: (وَبَثَّ فِيهَا مِن كُلِّ دَابَّةٍ)  بثَّ : أي فرق ونشر، ومنه كالفراش المبثوث ودابة تجمع الحيوان كله ، على اختلاف أشكالها وألوانها ومنافعها وصغرها وكبرها، وهو يعلم ذلك كله ويرزقه لا يخفى عليه شيء من ذلك.

وقد أخرج بعض الناس الطير، وهو مردود ، قال الله تعالى : (وَمَا مِن دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ إِلَّا عَلَى اللَّهِ رِزْقُهَا ..)﴿هود  ٦﴾‏ ومعلوم إن الطير يدب على رجليه في بعض حالاته، ومنه ما لا يطير أصلا.

قوله تعالى: (وَتَصْرِيفِ الرِّيَاحِ) تصريفها: إرسالها عقيما وملقحة، وصِرا ونصرا وهلاكا، وحارة وباردة، ولينة وعاصفة. و( صرٌ ) جاءت في قوله تعالى: (كَمَثَلِ رِيحٍ فِيهَا صِرٌّ أَصَابَتْ حَرْثَ قَوْمٍ ظَلَمُوا أَنفُسَهُمْ فَأَهْلَكَتْهُ .... ) ﴿آل عمران  ١١٧﴾

ريح فيها صرٌ: شَديدَةُ البَرْدِ. وصوتها شديد.

أي ريح صِرٌّ - صِرٌّ [ص ر ر] (مصدر: صَرَّ)..ريحٌ صِرٌّ أو ريحٌ شديدة.

وقيل : تصريفها إرسالها جنوبا وشمالا ، ودبورا وصبا، وقيل : تصريفها أن تأتي السفن الكبار بقدر ما تحملها، والصغار كذلك، ويصرف عنهما ما يضر بهما، ولا اعتبار بكبر القلاع ولا صغرها ، فإن الريح لو جاءت جسدا واحدا لصدمت القلاع وأغرقت. والرياح جمع ريح سميت به لأنها تأتي بالروح غالبا . روى أبو داود عن أبي هريرة قال سمعت رسول الله ﷺيقول : " الرِّيحُ مِن رَوحِ اللَّهِ، تأتى بالرَّحمةِ وتأتي بالعَذابِ فإذا رأيتُموها فلا تسبُّوها واسأَلوا اللَّهَ خيرَها، واستَعيذوا باللَّهِ مِن شرِّها"  (صححه الألباني في صحيح أبي داود)، أي أن: الرِّيحُ جُندٌ مِن جنودِ اللهِ عزَّ وجلَّ، جعَلَ اللهُ فيها رَحمةً، وجَعَل فيها عذابًا. وفي هذا الحَديثِ يقولُ الرَّسولُ ﷺ: "الرِّيحُ"، أي: الهواءُ، "مِن رَوْحِ اللهِ"، أي: مِن رحْمتِه وفرَجِه، يُرسِلُها ليُريحَ بها المؤمِنينَ، تأتي بالرحمة لهم، فينزل بها المطر، ويسقي الناس والأنعام والزرع.

وعن ابن عباس عن النبي ﷺ أنه قال : " نُصِرْتُ بالصَّبا، وأُهْلِكَتْ عادٌ بالدَّبُورِ." (البخاري، ومسلم)،  وما جاء في غزوة الأحزاب أن الله سبحانه وتعالى نصر نبيه ﷺ والمؤمنين معه بالريح يوم الأحزاب، قال تعالى: ( فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحًا وَجُنُودًا لَّمْ تَرَوْهَا وَكَانَ اللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرًا ) ﴿الأحزاب ٩﴾‏.

(وَتَصْرِيفِ الرِّيَاحِ) أي: تارة تأتي بالرحمة وتارة تأتي بالعذاب ، تارة تأتي مبشرة بين يدي السحاب ، وتارة تسوقه ، وتارة تجمعه ، وتارة تفرقه ، وتارة تصرفه ،( ثم تارة تأتي من الجنوب وهي الشامية ، وتارة تأتي من ناحية اليمن وتارة صبا؛ وهي الشرقية التي تصدم وجه الكعبة، وتارة دبور وهي غربية تفد من ناحية دبر الكعبة، وتسمية الرياح كله بحسب مكان مرورها بالنسبة للكعبة.

ملاحظة: ومن جمع ( الرياح) مع الرحمة ووحد(الريح) مع العذاب فإنه فعل ذلك اعتبارا بالأغلب في القرآن، نحو : (وَهُوَ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّيَاحَ بُشْرًا بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ ) ﴿الأعراف ٥٧﴾،‏   وقوله: (وَأَرْسَلْنَا الرِّيَاحَ لَوَاقِحَ فَأَنزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَسْقَيْنَاكُمُوهُ) ﴿الحجر ٢٢﴾،‏ (وَمِنْ آيَاتِهِ أَن يُرْسِلَ الرِّيَاحَ مُبَشِّرَاتٍ وَلِيُذِيقَكُم مِّن رَّحْمَتِهِ ) ﴿الروم ٤٦﴾ وغيرها كثير.

وجاءت الريح : ( مَّثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ أَعْمَالُهُمْ كَرَمَادٍ اشْتَدَّتْ بِهِ الرِّيحُ ) ﴿ابراهيم  ١٨﴾ ‏(وَفِي عَادٍ إِذْ أَرْسَلْنَا عَلَيْهِمُ الرِّيحَ الْعَقِيمَ) ﴿الذاريات ٤١﴾‏ فجاءت في القرآن مجموعة مع الرحمة مفردة مع العذاب، إلا في سورة يونس، قال: ( حَتَّىٰ إِذَا كُنتُمْ فِي الْفُلْكِ وَجَرَيْنَ بِهِم بِرِيحٍ طَيِّبَةٍ ..) ﴿يونس٢٢﴾، قال القرطبي: فأفردت مع الفلك في "يونس" لأن ريح إجراء السفن إنما هي ريح واحدة متصلة،  ثم وصفت بالطيب فزال الاشتراك بينها وبين ريح العذاب .

وروي أن رسول الله ﷺ كان يقول إذا هبت الريح : "اللهُمَّ اجعلْها رِياحًا ولا تجعلْها رِيحًا" (لا يصح، منكر ، موضوع)

وقوله تعالى: (وَالسَّحَابِ الْمُسَخَّرِ بَيْنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ) أي: سائر بين السماء والأرض، يسخره الله ويصرفه  إلى ما يشاء الله من الأراضي والأماكن .

سمي السحاب سحابا لانسحابه في الهواء . وسحبت ذيلي سحبا  والمسخر : المذلل ، وتسخيره بعثه من مكان إلى آخر . وقد يكون بماء المطر، أو بعذاب ، روى مسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي ﷺ قال: (بَيْنا رَجُلٌ بفَلاةٍ مِنَ الأرْضِ، فَسَمِعَ صَوْتًا في سَحابَةٍ: اسْقِ حَدِيقَةَ فُلانٍ، فَتَنَحَّى ذلكَ السَّحابُ، فأفْرَغَ ماءَهُ في حَرَّةٍ، فإذا شَرْجَةٌ مِن تِلكَ الشِّراجِ قَدِ اسْتَوْعَبَتْ ذلكَ الماءَ كُلَّهُ، فَتَتَبَّعَ الماءَ، فإذا رَجُلٌ قائِمٌ في حَدِيقَتِهِ يُحَوِّلُ الماءَ بمِسْحاتِهِ، فقالَ له: يا عَبْدَ اللهِ، ما اسْمُكَ؟ قالَ: فُلانٌ، لِلاِسْمِ الذي سَمِعَ في السَّحابَةِ، فقالَ له: يا عَبْدَ اللهِ، لِمَ تَسْأَلُنِي عَنِ اسْمِي؟ فقالَ: إنِّي سَمِعْتُ صَوْتًا في السَّحابِ -الَّذي هذا ماؤُهُ- يقولُ: اسْقِ حَدِيقَةَ فُلانٍ، لاِسْمِكَ، فَما تَصْنَعُ فيها؟ قالَ: أمَّا إذْ قُلْتَ هذا، فإنِّي أنْظُرُ إلى ما يَخْرُجُ مِنْها، فأتَصَدَّقُ بثُلُثِهِ، وآكُلُ أنا وعِيالِي ثُلُثًا، وأَرُدُّ فيها ثُلُثَهُ. [وفي رواية]: وَأَجْعَلُ ثُلُثَهُ في المَساكِينِ، والسَّائِلِينَ، وابْنِ السَّبِيلِ)

وفي التنزيل: . اللَّهُ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّيَاحَ فَتُثِيرُ سَحَابًا فَيَبْسُطُهُ فِي السَّمَاءِ كَيْفَ يَشَاءُ وَيَجْعَلُهُ كِسَفًا فَتَرَى الْوَدْقَ يَخْرُجُ مِنْ خِلَالِهِ فَإِذَا أَصَابَ بِهِ مَن يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ إِذَا هُمْ يَسْتَبْشِرُونَ )﴿الروم  ٤٨﴾‏، وقال تعالى: (حَتَّىٰ إِذَا أَقَلَّتْ سَحَابًا ثِقَالًا سُقْنَاهُ لِبَلَدٍ مَّيِّتٍ فَأَنزَلْنَا بِهِ الْمَاءَ..) ﴿الأعراف٥٧﴾‏ وهو في التنزيل كثير . وفي الحديث في مسلم عن عائشة زوج النبي ﷺقالت : "كانَ رَسولُ اللهِ ﷺ إذَا كانَ يَوْمُ الرِّيحِ وَالْغَيْمِ، عُرِفَ ذلكَ في وَجْهِهِ، وَأَقْبَلَ وَأَدْبَرَ، فَإِذَا مَطَرَتْ سُرَّ به، وَذَهَبَ عنْه ذلكَ، قالَتْ عَائِشَةُ: فَسَأَلْتُهُ، فَقالَ: إنِّي خَشِيتُ أَنْ يَكونَ عَذَابًا سُلِّطَ علَى أُمَّتِي، ويقولُ، إذَا رَأَى المَطَرَ: رَحْمَةٌ."

وقوله تعالى: (لَآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَعْقِلُونَ) أي دلالات تدل على وحدانيته وقدرته، ولذلك ذكر هذه الأمور عقيب قوله : (وَإِلَٰهُكُمْ إِلَٰهٌ وَاحِدٌ ۖ لَّا إِلَٰهَ إِلَّا هُوَ الرَّحْمَٰنُ الرَّحِيمُ) ليدل على صدق الخبر عما ذكره قبلها من وحدانيته سبحانه، وذكر رحمته ورأفته بخلقه (الرَّحْمَٰنُ الرَّحِيمُ)

وفي الحديث عن عائشة رضي الله عنها قالتْ : "...فقامَ فتَطَهَّر، ثُم قامَ يًصلِّي، قالتْ: فلمْ يَزلْ يَبكِي حتى بلَّ حِجْرَه ، قالتْ : وكانَ جالِسًا فلمْ يَزلْ يبكِي حتى بَلَّ لِحيتَه . قالتْ : ثُم بكَى حتى بلَّ الأرضَ . فجاء بلالُ يُؤْذِنَه بالصَّلاةِ ، فلمَّا رآهُ يبكِي ، قال: يا رسولَ اللهِ ! تبكِي وقدْ غفر اللهُ لكَ ما تقدَّمَ من ذنبِكَ وما تأخَرَّ ؟ قال: أفلا أكونُ عبدًا شكورًا ؟ لقد أُنزِلتْ علىَّ الليلةَ آيةٌ ؛ ويْلٌ لِمن قرأَها ولم يتفكرِ فيها : (إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ...) الآيةُ كلُّها (قال عنه الألباني في صحيح الترغيب-حسن)

وقوله تعالى: (وَمِنَ النَّاسِ مَن يَتَّخِذُ مِن دُونِ اللَّهِ أَندَادًا يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللَّهِ ۖ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبًّا لِّلَّهِ ۗ وَلَوْ يَرَى الَّذِينَ ظَلَمُوا إِذْ يَرَوْنَ الْعَذَابَ أَنَّ الْقُوَّةَ لِلَّهِ جَمِيعًا وَأَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعَذَابِ)

يذكر تعالى حال المشركين به في الدنيا وما لهم في الدار الآخرة ، حيث جعلوا  له سبحانه أندادا ، أي: أمثالا ونظراء يعبدونهم معه ويحبونهم كحبه، وهو الله لا إله إلا هو، ولا ضد له ولا ند له، ولا شريك معه . وفي الصحيحين عن عبد الله بن مسعود قال: قُلتُ: يا رَسولَ اللَّهِ، أيُّ الذَّنْبِ أعْظَمُ؟ قالَ:" أنْ تَجْعَلَ لِلَّهِ نِدًّا وهو خَلَقَك ." فبالرغم من رؤيتهم هذه الآيات القاهرة ، فإن من ذوي العقول من يتخذ معه أندادا ، وواحدها ند، والمراد الأوثان والأصنام التي كانوا يعبدونها كعبادة الله مع عجزها، يحبونهم كحب الله أي يحبون أصنامهم على الباطل كحب المؤمنين لله على الحق، قاله المبرد ، وقال الزجاج: أي أنهم مع عجز الأصنام يحبونهم كحب المؤمنين لله مع قدرته.  فهم يسوون بين الأصنام وبين الله تعالى في المحبة، والدليل على صحة القول: قوله تعالة: (وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبًّا لِّلَّهِ ۗ)

وقوله: (وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبًّا لِّلَّهِ ۗ) ولحبهم لله وتمام معرفتهم به، وتوقيرهم وتوحيدهم له ، لا يشركون به شيئا، بل يعبدونه وحده ويتوكلون عليه، ويلجئون في جميع أمورهم إليه. وقيل : إنما قال (وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبًّا لِّلَّهِ ۗ) لأن الله تعالى أحبهم أولا ثم أحبوه . ومن شهد له محبوبه بالمحبة كانت محبته أتم، قال الله تعالى: (فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ ) ﴿المائدة٥٤﴾‏

 والمعرفة بالله تزيد من المحبة والتعظيم، فعندما شفى القلب، وملأه تقديرا وتعظيما لآياته الباهرة، واستشعرتها الحواس، وبعد أن ظهر لهم قدرته القاهرة : (إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ)،  أثمرَت وترعرعت شجرة المحبة فصار: ( وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبًّا لِلَّهِ )

وقوله تعالى: (وَلَوْ يَرَى الَّذِينَ ظَلَمُوا إِذْ يَرَوْنَ الْعَذَابَ أَنَّ الْقُوَّةَ لِلَّهِ جَمِيعًا وَأَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعَذَابِ)

ثم توعد تعالى المشركين به ، الظالمين لأنفسهم بذلك فقال : (َلَوْ يَرَى الَّذِينَ ظَلَمُوا إِذْ يَرَوْنَ الْعَذَابَ) .تقدير الكلام : لو عاينوا العذاب لعلموا حينئذ أن القوة لله جميعا ، أي : إن الحكم له وحده لا شريك له، وأن جميع الأشياء تحت قهره وغلبته وسلطانه، قال أبو عبيد: المعنى لو يرى الذين ظلموا في الدنيا عذاب الآخرة لعلموا حين يرونه أن القوة لله جميعا . ويرى على هذا من رؤية البصر ،  قيل بل ويرى بمعنى يعلم ، أي لو يعلمون حقيقة قوة الله عز وجل وشدة عذابه ، فــ (يرى ) واقعة على أن القوة لله ، وجواب لو محذوف، أي لتبينوا ضرر اتخاذهم الآلهة، الإضمار أشد للوعيد

(وَأَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعَذَابِ)، كما قال: (فَيَوْمَئِذٍ لَّا يُعَذِّبُ عَذَابَهُ أَحَدٌ ﴿٢٥﴾‏ وَلَا يُوثِقُ وَثَاقَهُ أَحَدٌ) ﴿الفجر ٢٥-٢٦﴾ يقو : لو علموا ما يعاينونه هنالك، وما يحل بهم من الأمر الفظيع المنكر الهائل على شركهم وكفرهم، لانتهوا عما هم فيه من الضلال .

وقوله تعالى: (إِذْ تَبَرَّأَ الَّذِينَ اتُّبِعُوا مِنَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا وَرَأَوُا الْعَذَابَ وَتَقَطَّعَتْ بِهِمُ الْأَسْبَابُ)

تبرأت منهم الملائكة الذين كانوا يزعمون أنهم يعبدونهم في دار الدنيا ، فتقول الملائكة : ( تَبَرَّأْنَا إِلَيْكَ ۖ مَا كَانُوا إِيَّانَا يَعْبُدُونَ ) ﴿القصص٦٣﴾‏، ويقولون : قَالُوا سُبْحَانَكَ أَنتَ وَلِيُّنَا مِن دُونِهِم ۖ بَلْ كَانُوا يَعْبُدُونَ الْجِنَّ ۖ أَكْثَرُهُم بِهِم مُّؤْمِنُونَ) ﴿سبأ٤١﴾‏، والجن أيضا تتبرأ منهم، والشيطان يتبرأ منهم: (وَقَالَ الشَّيْطَانُ لَمَّا قُضِيَ الْأَمْرُ إِنَّ اللَّهَ وَعَدَكُمْ وَعْدَ الْحَقِّ وَوَعَدتُّكُمْ فَأَخْلَفْتُكُمْ ۖ وَمَا كَانَ لِيَ عَلَيْكُم مِّن سُلْطَانٍ إِلَّا أَن دَعَوْتُكُمْ فَاسْتَجَبْتُمْ لِي ۖ فَلَا تَلُومُونِي وَلُومُوا أَنفُسَكُم )﴿إبراهيم٢٢﴾ ، وقال تعالى : (وَاتَّخَذُوا مِن دُونِ اللَّهِ آلِهَةً لِّيَكُونُوا لَهُمْ عِزًّا ﴿٨١﴾‏ كَلَّا ۚ سَيَكْفُرُونَ بِعِبَادَتِهِمْ وَيَكُونُونَ عَلَيْهِمْ ضِدًّا ) ﴿مريم٨٢﴾، وقال الخليل لقومه: (وَقَالَ إِنَّمَا اتَّخَذْتُم مِّن دُونِ اللَّهِ أَوْثَانًا مَّوَدَّةَ بَيْنِكُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ۖ ثُمَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكْفُرُ بَعْضُكُم بِبَعْضٍ وَيَلْعَنُ بَعْضُكُم بَعْضًا وَمَأْوَاكُمُ النَّارُ وَمَا لَكُم مِّن نَّاصِرِينَ) ﴿العنكبوت٢٥﴾

(وَتَقَطَّعَتْ بِهِمُ الْأَسْبَابُ) وتقطعت بهم الأسباب أي الوصلات التي كانوا يتواصلون بها في الدنيا من رحم وغيره، عن مجاهد وغيره . الواحد سبب ووصلة. وأصل السبب الحبل يشد بالشيء فيجذبه ، ثم جعل كل ما جر شيئا سببا، فهم عاينوا عذاب الله، وتقطعت بهم الحيل وأسباب الخلاص ولم يجدوا عن النار معدلا ولا مصرفا .

وقوله تعالى: (وَقَالَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا لَوْ أَنَّ لَنَا كَرَّةً فَنَتَبَرَّأَ مِنْهُمْ كَمَا تَبَرَّءُوا مِنَّا ۗ كَذَٰلِكَ يُرِيهِمُ اللَّهُ أَعْمَالَهُمْ حَسَرَاتٍ عَلَيْهِمْ ۖ وَمَا هُم بِخَارِجِينَ مِنَ النَّارِ)

وقوله : (وَقَالَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا لَوْ أَنَّ لَنَا كَرَّةً فَنَتَبَرَّأَ مِنْهُمْ كَمَا تَبَرَّءُوا مِنَّا ۗ ) أي وقال الذين اتبعوا لو أن لنا كرة ، أي لو ثبت أن لنا رجعة فنتبرأ منهم جواب التمني. والكرة: الرجعة والعودة إلى حال قد كانت ، أي يقول الأتباع : لو رددنا إلى الدنيا حتى نعمل صالحا ونتبرأ منهم كما تبرءوا منا، فلا نلتفت إليهم، بل نوحد الله وحده بالعبادة. وهم كاذبون في هذا، بل لو ردوا لعادوا لما نهوا عنه . كما أخبر الله تعالى عنهم بذلك، ولهذا قال: ( َكذَٰلِكَ يُرِيهِمُ اللَّهُ أَعْمَالَهُمْ حَسَرَاتٍ عَلَيْهِمْ ۖ وَمَا هُم بِخَارِجِينَ مِنَ النَّارِ) أي: تذهب أعمالهم الصالحة وتضمحل كما قال الله تعالى: (وَقَدِمْنَا إِلَىٰ مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَاءً مَّنثُورًا ) ﴿الفرقان٢٣﴾، وقال تعالى: ( مَّثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ ۖ أَعْمَالُهُمْ كَرَمَادٍ اشْتَدَّتْ بِهِ الرِّيحُ فِي يَوْمٍ عَاصِفٍ ۖ لَّا يَقْدِرُونَ مِمَّا كَسَبُوا عَلَىٰ شَيْءٍ.. ) ﴿إبراهيم١٨﴾‏)  

وقيل: يتحسرون على الأعمال الصالحة التي تركوها ففاتتهم الجنة، ورويت في هذا القول أحاديث . قال السدي : ترفع لهم الجنة فينظرون إليها وإلى بيوتهم فيها لو أطاعوا الله تعالى، ثم تقسم بين المؤمنين فذلك حين يندمون، عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله ﷺ: (لا يَدْخُلُ أحَدٌ الجَنَّةَ إلَّا أُرِيَ مَقْعَدَهُ مِنَ النَّارِ لو أساءَ؛ لِيَزْدادَ شُكْرًا، ولا يَدْخُلُ النَّارَ أحَدٌ إلَّا أُرِيَ مَقْعَدَهُ مِنَ الجَنَّةِ لو أحْسَنَ؛ لِيَكونَ عليه حَسْرَةً.) (البخاري)

وأضيفت هذه الأعمال الصالحة إليهم من حيث هم مأمورون بها، وأما إضافة الأعمال الفاسدة إليهم فمن حيث عملوها. والحسرة واحدة الحسرات، كتمرة وتمرات، وجفنة وجفنات، وشهوة وشهوات. والله أعلم 

     اللهم إنا نسألك رضاك والجنة، ونعوذ بك من سخطك والنار.

No comments:

Post a Comment