Wednesday, 18 January 2023

تفسير سورة البقرة ح27 أمر الله المؤمنين بما أمر الرسل

   

 تفسير سورة البقرة- ح ٢٧

  النداء الثاني للناس كافة في السورة ..

(يَا أَيُّهَا النَّاسُ كُلُوا مِمَّا فِي الْأَرْضِ حَلَالًا طَيِّبًا

وَلَا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ....) 

إن الله طيب لا يقبل إلا طيبا ، 

وإن الله أمر المؤمنين بما أمر به المرسلين

 (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُلُوا مِن طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ ..)

(يَا أَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَاعْمَلُوا صَالِحًا)

 

محور مواضيع هذا الجزء:

-       أمر الله تعالى الناس كافة بأكل الحلال الطيب، فلا عذر لبقية الملل أكل الخبيث.

-       خص الله المؤمنين بأمر بأكل الطيبات بصيغة أمره للأنبياء، لبيان فضلهم.

-       كيف يتبع المؤمن وساوس السيطان الناس وهو يعلمما يريد به.

-       ذم من كتم صفة النبي الخاتم ﷺ، حرصا على منزلة يخشى أن تفوته.

التفسير:

قوله تعالى: (يَا أَيُّهَا النَّاسُ كُلُوا مِمَّا فِي الْأَرْضِ حَلَالًا طَيِّبًا وَلَا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ ۚ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُّبِينٌ)  ﴿١٦٨﴾‏

بعد ما بين تعالى أنه لا إله إلا هو ، وأنه المستقل بالخلق، شرع يبين أنه الرزاق لجميع خلقه، فذكر ذلك في مقام الامتنان أنه أباح لهم أن يأكلوا مما في الأرض في حال كونه حلالا من الله طيبا، أي: مستطابا في نفسه غير ضار للأبدان ولا للعقول، وقيل: والطيب لا يكون طيبًا إلا إذا كان حلالًا، فقوله؛ طيبًا يقصد بها أيضا الحلال، فهو تأكيد باختلاف اللفظ، وفرق الشافعي في المعنى فقال: الطيب المستلذ، فهو تنويع ، ولذلك يمنع أكل الحيوان القذر.

 وسمي الحلال حلالًا لانحلال عقدة الخطر عنه. وعن سهل بن عبد الله : النجاة في ثلاثة: أكل الحلال، وأداء الفرائض، والاقتداء بالنبي ﷺ. وقال أيضا: ولا يصح أكل الحلال إلا بالعلم، ولا يكون المال حلالًا حتى يصفو من ست خصال: الربا والحرام والسحت - وهو اسم مجمل- والغلول والمكروه والشبهة.

معاني هذه المسميات، وأحكامها:

السحت: السحت فهو أكل الحرام عمومًا، ويطلق على كل أنواع الكسب غير المشروع ويعني الهلاك والبلاء. وقيل هو إشارة إلى الرشوة على وجه الخصوص، فكل مرتشٍ قد أكل مالا حراما.

والغلول:  فإن الغلول بالمعنى الخاص هو الأخذ من الغنيمة سرا قبل قسمتها، وبالمعنى العام مطلق الخيانة، اي خيانة الأمانة: كأن يأتمنك صاحب العمل على مخزن أوراق أو أقلام تستعملها في العمل، ولأجله، فتأخذ منها لغير العمل، وتحتفظ به بدون إذن صاحب العمل، فهو غلول. وكذلك من أعارك إشيئا لأجل مسمى فعليك رد العارية بعد الانتهاء من الغرض الذي  حصلت لأجله العارية أو المدة التي ضربت لها، وإن تعذر ردها إليهم، لطول المدة ونسيان،  فيتصدق بها على الفقراء، أو يتصدق بقيمتها بنية أداء العارية.

والمكروه: هو مَا يثاب تاركه امتثالًا، وَلَا يعَاقَبُ فَاعِلهُ وَإِنْ كَانَ مَلُومًا. ومن حيث حكمُه، وثمرتُه العائدةُ على المكلف يمكن القول: المكروه هو ما نهى الشارع عن فعله ليس على سبيل الحتم والإلزام، بحيث يثاب تاركه امتثالًا، ولا يعاقب فاعله. والمكروه لُغَةً: ضدُّ المحبوب، ومنه قول الله تعالى: (كُلُّ ذَلِكَ كَانَ سَيِّئُهُ عِنْدَ رَبِّكَ مَكْرُوهًا )﴿ الإسراء٣٨﴾

فالمسلم يترك المكروه تعففًا، وقد يكون آخذه غير أثم، ولكنه يخشي أن تكون شبه أو حراما لا يدري عنه، كما قال رسول الله ﷺ: ( إنَّ الحَلالَ بَيِّنٌ، وإنَّ الحَرامَ بَيِّنٌ، وبيْنَهُما مُشْتَبِهاتٌ لا يَعْلَمُهُنَّ كَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ، فَمَنِ اتَّقَى الشُّبُهاتِ اسْتَبْرَأَ لِدِينِهِ، وعِرْضِهِ، ومَن وقَعَ في الشُّبُهاتِ وقَعَ في الحَرامِ، كالرَّاعِي يَرْعَى حَوْلَ الحِمَى، يُوشِكُ أنْ يَرْتَعَ فِيهِ، ألا وإنَّ لِكُلِّ مَلِكٍ حِمًى، ألا وإنَّ حِمَى اللهِ مَحارِمُهُ) (مسلم)

من الصيغ التي تفيد الكراهة: لفظ (كره)، وما يُشتَقُّ منها.

مثال: قول النبي ﷺ: "إنَّ اللهَ كَرِهَ لَكُمْ ثَلَاثًا: قِيلَ وَقَالَ، وَإِضَاعَةَ المَالِ، وَكَثْرَةَ السُّؤَالِ" ( متفق عليه)

ومثال المكروه: ما ذكر رسول الله ﷺ الثواب على الترك مع عدم دليل يدل على التحريم، منه

قول النبي ﷺ: "أَنَا زَعِيمٌ بِبَيْتٍ فِي رَبَضِ الْجَنَّةِ لِمَنْ تَرَكَ الْمِرَاءَ وَإِنْ كَانَ مُحِقًّا، وَبِبَيْتٍ فِي وَسَطِ الْجَنَّةِ لِمَنْ تَرَكَ الْكَذِبَ، وَإِنْ كَانَ مَازِحًا وَبِبَيْتٍ فِي أَعْلَى الْجَنَّةِ لِمَنْ حَسَّنَ خُلُقَهُ"( حسنه الألباني – من رواية أبي داود)، وفيه:( المراء) ؛ أي الجدال الكثير: مكروه، ولكن (الكذب ) حرام.

ومنه ما ترك النبيﷺ فعله تنزُّهًا مع عدم الدليل على التحريم:

مثال: قول النبي ﷺ: "لَا آكُلُ مُتَّكِئًا" (البخاري)

حكم المكروه: قسم الحنفية المكروه إلى قسمين:

القسم الأول: المكروه كراهة تحريم؛  وحكمه: إلى الحرام أقرب، وهو عند الجمهور حرام.

منه: لبس الحريرِ والذهبِ للرجال، قال رسول الله ﷺ: " الذَّهبُ و الحريرُ حلالُ لإناثِ أمَّتي ، حرامٌ على ذكورِها" (صححه الألباني في السلسلة الصحيحة)

ومنه أيضا: البيع على البيع، والخِطبة على الخِطبة؛ نَهَى رَسولُ اللَّهِ ﷺ "أنْ يَبِيعَ حَاضِرٌ لِبَادٍ، ولَا تَنَاجَشُوا، ولَا يَبِيعُ الرَّجُلُ علَى بَيْعِ أخِيهِ، ولَا يَخْطُبُ علَى خِطْبَةِ أخِيهِ، ولَا تَسْأَلُ المَرْأَةُ طَلَاقَ أُخْتِهَا لِتَكْفَأَ ما في إنَائِهَا." (البخاري)

القسم الثاني: المكروه كراهة تنزيه، هو ما نهى الشارع عن فعله نهيًّا غير جازم.

وحكمه: إلى الحِل أقرب. وهو ما يسمى عند الجمهور بالمكروه.

مثاله : السابق مثال: قول النبي ﷺ: "لَا آكُلُ مُتَّكِئًا" ( البخاري)

والله أعلم.

ثم نهى الله عن اتباع خطوات الشيطان، قال: (وَلَا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ ۚ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُّبِينٌ) وخطوات الشيطان هي: طرائقه ومسالكه في إضلال أتباعه فيه من تحريم ما أحل الله من البحائر والسوائب والوصائل ونحوها مما زينه لهم في جاهليتهم، ونفاها الله في قوله تعالى:( مَا جَعَلَ اللَّهُ مِن بَحِيرَةٍ وَلَا سَائِبَةٍ وَلَا وَصِيلَةٍ وَلَا حَامٍ وَلَـٰكِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَأَكْثَرُهُمْ لَا يَعْقِلُونَ ) ﴿المائدة ١٠٣﴾- البَحيرة التي تُقطع أذنها إذا ولدت عددًا من البطون، والسائبة وهي التي تُترك للأصنام، والوصيلة وهي التي تتصل ولادتها بأنثى بعد أنثى، والحامي وهو الذكر من الإبل إذا وُلد من صلبه عدد من الإبل، ولكن الكفار نسبوا ذلك إلى الله تعالى افتراء عليه-

وفي حديث عياض بن حمار الذي في صحيح مسلم ، قال: أنَّ رَسولَ اللهِ قالَ ذَاتَ يَومٍ في خُطْبَتِهِ: "أَلَا إنَّ رَبِّي أَمَرَنِي أَنْ أُعَلِّمَكُمْ ما جَهِلْتُمْ، ممَّا عَلَّمَنِي يَومِي هذا: كُلُّ مَالٍ نَحَلْتُهُ عَبْدًا حَلَالٌ، وإنِّي خَلَقْتُ عِبَادِي حُنَفَاءَ كُلَّهُمْ، وإنَّهُمْ أَتَتْهُمُ الشَّيَاطِينُ فَاجْتَالَتْهُمْ عن دِينِهِمْ، وَحَرَّمَتْ عليهم ما أَحْلَلْتُ لهمْ، وَأَمَرَتْهُمْ أَنْ يُشْرِكُوا بي ما لَمْ أُنْزِلْ به سُلْطَانًا....."

فضل أكل الحلال: في الحديث عن ابن عباس قال: تليت هذه الآية عند النبي ﷺ : (يَا أَيُّهَا النَّاسُ كُلُوا مِمَّا فِي الْأَرْضِ حَلَالًا طَيِّبًا)  فقام سعد بن أبي وقاص فقال: يا رسولَ اللهِ ادعُ اللهَ أن يجعلَني مُستجابَ الدَّعوةِ فقال لهُ النَّبيُّ ﷺ: "يا سَعدُ أطِبْ مطعمَك؛ تكُن مُستَجابَ الدَّعوةِ ، والَّذي نَفسُ مُحمَّدٍ بيدِه إنَّ العَبدَ ليقذِفُ الُّلقمةَ الحرامَ في جوفِه ما يُتقبَّلُ منه عَملٌ أربعينَ يومًا، وأيُّما عَبدٍ نبتَ لحمُه من سُحتٍ [ والرِّبا ] ؛ فالنَّارُ أولى بهِ" ( ضعفه الألباني في الترغيب والترهيب)

وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله ﷺ: " أَيُّها النَّاسُ، إنَّ اللَّهَ طَيِّبٌ لا يَقْبَلُ إلَّا طَيِّبًا، وإنَّ اللَّهَ أمَرَ المُؤْمِنِينَ بما أمَرَ به المُرْسَلِينَ، فقالَ: (يَا أَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَاعْمَلُوا صَالِحًا إِنِّي بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ) (المؤمنون٥١)، وقالَ: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ) (البقرة ١٧٢)، ثُمَّ ذَكَرَ الرَّجُلَ يُطِيلُ السَّفَرَ أشْعَثَ أغْبَرَ، يَمُدُّ يَدَيْهِ إلى السَّماءِ، يا رَبِّ، يا رَبِّ، ومَطْعَمُهُ حَرامٌ، ومَشْرَبُهُ حَرامٌ، ومَلْبَسُهُ حَرامٌ، وغُذِيَ بالحَرامِ، فأنَّى يُسْتَجابُ لذلكَ؟!"   (رواه مسلم)

وقوله : (إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُّبِينٌ) تنفير عنه وتحذير منه ، فمن أيقن أنه عدو له ، لا يتبعه، كما قال تعالى: (إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمْ عَدُوٌّ فَاتَّخِذُوهُ عَدُوًّا ۚ إِنَّمَا يَدْعُو حِزْبَهُ لِيَكُونُوا مِنْ أَصْحَابِ السَّعِيرِ ) ﴿فاطر٦﴾‏)، وقال تعالى: (إِلَّا إِبْلِيسَ كَانَ مِنَ الْجِنِّ فَفَسَقَ عَنْ أَمْرِ رَبِّهِ ۗ أَفَتَتَّخِذُونَهُ وَذُرِّيَّتَهُ أَوْلِيَاءَ مِن دُونِي وَهُمْ لَكُمْ عَدُوٌّ ۚ بِئْسَ لِلظَّالِمِينَ بَدَلًا )﴿ الكهف٥٠﴾‏

وقال قتادة ، والسدي في قوله : (وَلَا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ) ، كل معصية لله فهي من خطوات الشيطان .واقول؛ ولو كانت أصلها من هوى النفس، ولكن الشيطان يزينها، ويهون على الناس آثار فعلها.  كما قال عكرمة: هي نزغات الشيطان، وقال مجاهد: خطاه .

وقال الشعبي: نذر رجل أن ينحر ابنه،  فأفتاه مسروق بذبح كبش. وقال: هذا من خطوات الشيطان .

وعن مسروق: أتى عبد الله بن مسعود بضرع وملح ، فجعل يأكل ، فاعتزل رجل من القوم، فقال ابن مسعود: ناولوا صاحبكم. فقال: لا أريده . فقال: أصائم أنت ؟ قال: لا . قال: فما شأنك ؟ قال: حرمت أن آكل ضرعا أبدا . فقال ابن مسعود: هذا من خطوات الشيطان ، فاطعم وكفر عن يمينك "( رجاله رجال الصحيح)

ملاحظة: هل يجوز أن يحظر مسلم على نفسه أكل نوع من الطعام الحلال بغير سبب إلا هواه، أو تقليد لغيره؟؟ الذين يقولون أنهم خضاريين – لا يأكلون اللحم تحريما لأن فيه إزهاق لروح الحيوان وتعذيبا له-وبغير بأس فيهم-!!

وعن ابن عباس قال: ما كان من يمين أو نذر في غضب، فهو من خطوات الشيطان ، وكفارته كفارة يمين .

وعن عكرمة في رجل قال لغلامه: إن لم أجلدك مائة سوط فامرأته طالق، قال: لا يجلد غلامه، ولا تطلق امرأته، هذا من خطوات الشيطان.

وقوله تعالى: (إِنَّمَا يَأْمُرُكُم بِالسُّوءِ وَالْفَحْشَاءِ وَأَن تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ ) ﴿١٦٩﴾‏

إنما يأمركم عدوكم الشيطان بالأفعال السيئة، وأغلظ منها الفاحشة كالزنا ونحوه، وأغلظ من ذلك وهو القول على الله بلا علم، فيدخل في هذا كل كافر وكل مبتدع أيضا .

في اللغة: السوء : هو كل ما يقْبُحُ ، شرّ، فساد، قُبْح، نقص، عيْب، كلّ ما يَسوء، وقد تجمع على مساوئ على غير قياس.

قال القرطبي: سمي السوء سوءا لأنه يسوء صاحبه بسوء عواقبه. وهو مصدر ساءه يسوءه سوءا ومساءة إذا أحزنه . وسؤته فسيء إذا أحزنته فحزن ، قال الله تعالى: (فَلَمَّا رَأَوْهُ زُلْفَةً سِيئَتْ وُجُوهُ الَّذِينَ كَفَرُوا وَقِيلَ هَـٰذَا الَّذِي كُنتُم بِهِ تَدَّعُونَ) ﴿الملك ٢٧﴾‏

والفحشاء أصله: قبح المنظر، كما قال :وجيد كجيد الريم ليس بفاحش.

ثم استعملت اللفظة فيما يقبح من المعاني . والشرع هو الذي يحسن ويقبح، فكل ما نهت عنه الشريعة فهو من الفحشاء.

وقوله تعالى: (وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا مَا أَنزَلَ اللَّهُ قَالُوا بَلْ نَتَّبِعُ مَا أَلْفَيْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا ۗ أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لَا يَعْقِلُونَ شَيْئًا وَلَا يَهْتَدُونَ) ﴿ ١٧٠﴾‏ ، أي : اتبعوا ما أنزل الله بالقبول والعمل. قالوا بل نتبع ما ألفينا عليه آباءنا ، ألفينا: وجدنا. وقال الشاعر : فألفيته غير مستعتب ولا ذاكر الله إلا قليلا.

قوله تعالى: (أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ): الألف للاستفهام، وفتحت الواو لأنها واو عطف، عطفت جملة كلام على جملة؛  لأن غاية الفساد في الالتزام أن يقولوا : نتبع آباءنا ولو كانوا لا يعقلون ، فقُرروا على التزامهم هذا، إذ هي حال آبائهم ، فالذين يقتدون بهم ويقتفون أثرهم (لَا يَعْقِلُونَ شَيْئًا وَلَا يَهْتَدُونَ) أي : ليس لهم فهم ولا هداية، وهم يقرون بذلك !!

وقوة ألفاظ هذه الآية تعطي إبطال التقليد، وفيها أن الله سبحانه أخبر عن جهالة العرب فيما تحكمت فيه بآرائها السفيهة في البحيرة والسائبة والوصيلة، فاحتجوا بأنه أمر وجدوا عليه آباءهم فاتبعوهم في ذلك.

تعلق قوم بهذه الآية في ذم التقليد؛ لذم الله تعالى الكفار باتباعهم لآبائهم في الباطل، واقتدائهم بهم في الكفر والمعصية. وهذا في الباطل صحيح، أما التقليد في الحق فأصل من أصول الدين، وعصمة من عصم المسلمين يلجأ إليها الجاهل المقصر عن درك النظر .

التقليد عند العلماء حقيقته: قبول قول بلا حجة، وعلى هذا فمن قبل قول النبي ﷺ من غير نظر في معجزته يكون مقلدا، وأما من نظر فيها فلا يكون مقلدا. وقيل: التقليد: هو اعتقاد صحة فتيا من لا يعلم صحة قوله.

 والتقليد في اللغة: مأخوذ من قلادة البعير ، فإن العرب تقول: قلدت البعير إذا جعلت في عنقه حبلا يقاد به ، فكأن المقلد يجعل أمره كله لمن يقوده حيث شاء .

ولكن على العامي الذي لا يشتغل باستنباط الأحكام من أصولها لعدم أهليته فيما لا يعلمه من أمر دينه ويحتاج إليه أن يقصد أعلم من في زمانه وبلده فيسأله عن نازلته فيمتثل فيها فتواه، لقوله تعالى: (فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِن كُنتُمْ لَا تَعْلَمُونَ )﴿النحل ٤٣﴾‏، وعليه الاجتهاد في أعلم أهل وقته بالبحث عنه ، حتى يقع عليه الاتفاق من الأكثر من الناس.

وعلى العالم أيضا فرض أن يقلد عالما مثله في نازلة خفي عليه فيها وجه الدليل والنظر، وأراد أن يجدد الفكر فيها والنظر حتى يقف على المطلوب، فضاق الوقت عن ذلك، وخاف على العبادة أن تفوت، أو على الحكم أن يذهب، سواء كان ذلك المجتهد الآخر صحابيا أو غيره.

وقوله تعالى: (وَمَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا كَمَثَلِ الَّذِي يَنْعِقُ بِمَا لَا يَسْمَعُ إِلَّا دُعَاءً وَنِدَاءً ۚ صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لَا يَعْقِلُونَ) ﴿١٧١﴾‏

ثم ضرب لهم تعالى مثلا فقال: (وَمَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا) أي: فيما هم فيه من الغي والضلال والجهل كالدواب السارحة التي لا تفقه ما يقال لها، بل إذا نعق بها راعيها، أي: دعاها إلى ما يرشدها، لا تفقه ما يقول ولا تفهمه، بل إنما تسمع صوته فقط .

قال الطبري : المراد مثل الكافرين في دعائهم آلهتهم كمثل الذي ينعق بشيء بعيد فهو لا يسمع من أجل البعد ، ففيها هذه التأويلات: يشبه الكفار بالناعق الصائح، والأصنام بالمنعوق به.

والنعيق : زجر الغنم والصياح بها ، يقال: نعق الراعي بغنمه ينعق نعيقا ونعاقا ، أي صاح بها وزجرها .

وقوله : ( صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لَا يَعْقِلُونَ) أي : صم عن سماع الحق، بكم لا يتفوهون به، عمي عن رؤية طريقه ومسلكه (فَهُمْ لَا يَعْقِلُونَ) أي: لا يعقلون شيئا ولا يفهمونه، كما قال تعالى: (وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا صُمٌّ وَبُكْمٌ فِي الظُّلُمَاتِ مَن يَشَإِ اللَّهُ يُضْلِلْهُ وَمَن يَشَأْ يَجْعَلْهُ عَلَىٰ صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ ) ﴿الأنعام ٣٩﴾‏ ثم شبه تعالى الكافرين بأنهم صم بكم عمي .

والنِداء للبعيد ، والدعاء للقريب ، ولذلك قيل للأذان بالصلاة نداء لأنه للأباعد . وقد تضم النون في النداء والأصل الكسر .

وقوله تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُلُوا مِن طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ وَاشْكُرُوا لِلَّهِ إِن كُنتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ) ﴿١٧٢﴾ يقول تعالى آمرا عباده المؤمنين بالأكل من طيبات ما رزقهم تعالى، وأن يشكروه على ذلك، إن كانوا عبيده، هذا تأكيد للأمر الأول للناس كافة بالأكل من الحلال الطيب، وخص المؤمنين هنا بالذكر تفضيلا. والمراد بالأكل الانتفاع من جميع الوجوه. وقيل: هو الأكل المعتاد.

والأكل من الحلال سبب لتقبل الدعاء والعبادة ، كما أن الأكل من الحرام يمنع قبول الدعاء والعبادة ، كما جاء في الحديث الذي رواه الإمام أحمد :

كما أسلفنا في الحديث عن أبي هريرة قال : قال رسول الله ﷺ: "......  ثُمَّ ذَكَرَ الرَّجُلَ يُطِيلُ السَّفَرَ أشْعَثَ أغْبَرَ، يَمُدُّ يَدَيْهِ إلى السَّماءِ، يا رَبِّ، يا رَبِّ، ومَطْعَمُهُ حَرامٌ، ومَشْرَبُهُ حَرامٌ، ومَلْبَسُهُ حَرامٌ، وغُذِيَ بالحَرامِ، فأنَّى يُسْتَجابُ لذلكَ؟!" (رواه مسلم) ، وفي تغليظ ذم آكل السحت ، عن جابر بن عبد الله قال: عن رسول الله ﷺ: " لا يدخُلُ الجنَّةَ لَحْمٌ نَبَتَ من سُحْتٍ؛ النَّارُ أَوْلى به" (رواه الذهبي – وصححه).

وقوله تعالى: (إِنَّمَا حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ وَالدَّمَ وَلَحْمَ الْخِنزِيرِ وَمَا أُهِلَّ بِهِ لِغَيْرِ اللَّهِ ۖ فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلَا عَادٍ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ ۚ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ) ﴿١٧٣﴾‏

ولما امتن تعالى عليهم برزقه، وأرشدهم إلى الأكل من طيبه، ذكر أنه لم يحرم عليهم من ذلك إلا الميتة، وهي التي تموت حتف أنفها من غير تذكية، وسواء كانت منخنقة أو موقوذة أو متردية أو نطيحة أو قد عدا عليها السبع .

وقد خصص رسول اللهﷺ من ذلك ميتة البحر لقوله تعالى: ( أُحِلَّ لَكُمْ صَيْدُ الْبَحْرِ وَطَعَامُهُ مَتَاعًا لَّكُمْ وَلِلسَّيَّارَةِ ..) ﴿ المائدة ٩٦﴾‏ ،  وحديث العنبر في الصحيح: [ العنبـر مادة تخرج من جوف الحوت المعروف باسم حوت العنبر فالعنبر يحل استخدامه، وإن استخرج من ميتة الحوت] ، وفي المسند والموطأ والسنن قولهﷺ لما سؤل عن جواز الوضوء في ماء البحر-: " هوَ الطَّهورُ ماؤُهُ الحلُّ ميتتُهُ " ومن حديث عن ابنِ عُمَرَ رضي الله عنهما قال : (أُحِلَّتْ لنا مَيتَتانِ ودَمانِ، فالمَيتَتانِ السمكُ والجَرادُ، والدمَانِ : الكَبِدُ والطِّحالُ " ( رواه النووي- وقال صحيح- وفي حكم المرفوع)

ولبن الميتة وبيضها المتصل بها نجس عند الشافعي وغيره ؛ لأنه جزء منها. وقال مالك في رواية: هو طاهر إلا أنه ينجس بالمجاورة، وكذلك أنفحة الميتة فيها الخلاف والمشهور عندهم أنها نجسة، -ولكن فعل الصحابة يرد هذا ، فقد أكل الصحابة من جبن المجوس عند فتح بلاد فارس، فقال القرطبي في تفسيره عن المنفحة: يخالط اللبن منها يسير، ويعفى عن قليل النجاسة إذا خالط الكثير من المائع. وهو المعمول به، وقد روى ابن ماجه عن سلمان الفارسي قال: "سُئل رسولُ اللهِ ﷺ عن السَّمنِ والجُبنِ والفِراءِ فقال: الحلالُ ما أحلَّ اللهُ في كتابِه، والحرامُ ما حرَّم اللهُ في كتابِه، وما سكت عنه فهو ممَّا عفا عنه" (البخاري).

 وكذلك حرم عليهم لحم الخنزير ، سواء ذكي أو مات حتف أنفه، ويدخل شحمه في حكم لحمه إما تغليبا أو أن اللحم يشمل ذلك، أو بطريق القياس على رأي .

 و كذلك حرم عليهم ما أهل به لغير الله، وهو ما ذبح على غير اسمه تعالى من الأنصاب والأنداد والأزلام ، ونحو ذلك مما كانت الجاهلية ينحرون له . [ وذكر القرطبي عن ابن عطية أنه نقل عن الحسن البصري : أنه سئل عن امرأة عملت عرسا للعبها فنحرت فيه جزورا فقال: لا تؤكل لأنها ذبحت لصنم.

ثم أباح تعالى تناول ذلك عند الضرورة والاحتياج إليها، عند فقد غيرها من الأطعمة ، فقال : (فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلَا عَادٍ  ) أي : في غير بغي ولا عدوان، وهو مجاوزة الحد (فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ) أي: في أكل ذلك (إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ)

وقال مجاهد: (فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلَا عَادٍ ) أي: غير قاطع للسبيل، أو مفارق للأئمة، أو خارج في معصية الله، فله الرخصة، ومن خرج باغيا أو عاديا أو في معصية الله فلا رخصة له ، وإن اضطر إليه ، وكذا روي عن سعيد بن جبير .

وفي رواية عن مقاتل بن حيان: غير باغ : يعني غير مستحله. وقال السدي: غير باغ يبتغي فيه شهوته، وقيل:( غير باغ ) لا يشوي من الميتة ليشتهيه  ويعجبه، ولا يطبخه، ولا يأكل إلا العلقة، ويحمل معه ما يبلغه الحلال، فإذا بلغه ألقاه، وهو قوله : (وَلَا عَادٍ ) يقول: لا يعدو به الحلال  .

وعن ابن عباس : لا يشبع منها ، فقط يسد جوعه . وفسره السدي بالعدوان . وعن ابن عباس (غَيْرَ بَاغٍ وَلَا عَادٍ )  قال: (غَيْرَ بَاغٍ) في الميتة (وَلَا عَادٍ) في أكله. وقال قتادة : (فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلَا عَادٍ ) في أكله : أن يتعدى حلالا إلى حرام، وهو يجد عنه مندوحة .

وحكى القرطبي عن مجاهد في قوله: (فَمَنِ اضْطُرَّ) أي : أكره على ذلك بغير اختياره .

مسألة : ذكر القرطبي إذا وجد المضطر ميتة وطعام الغير بحيث لا قطع فيه ولا أذى، فإنه لا يحل له أكل الميتة بل يأكل طعام الغير بلا خلاف. كذا قال، ثم قال : وإذا أكله ، والحالة هذه ، هل يضمنه أم لا ؟ فيه قولان هما روايتان عن مالك.

ثم أورد من سنن ابن ماجه من حديث عباد بن العنزي قال : أصابتنا سنةٌ فأتيتُ المدينةَ، فدخلتُ حائطًا من حيطانِها، فأخذتُ سنبلًا ففرَكتُه، فأكلتُ منه، وحملتُ في ثوبي، فجاء صاحبُ الحائطِ، فضربني، وأخذ ثوبي، فأتيتُ رسولَ اللهِ ﷺ، فقال: "مَا علَّمتَه إذ كانَ جاهلًا، ولا أطعمتَه إذْ كان ساغبًا، أو جائعًا"، فرد عليَّ الثوبَ، وأمر لي بنصفِ وسْقٍ، أو وسقٍ." . (رواه ابن كثير- إسناد صحيح قوي جيد وله شواهد كثيرة) ومنها ذلك حديث عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جده :" أنَّ النبيَّ ﷺ سُئلَ عن التمرِ المعلقِ فقال من أصاب منه من ذي حاجةٍ غيرَ متخذ خِبنةً فلا شيءَ عليهِ " (رواه الترمذي -حسن)- أي: مَن أكَل بفَمِه لِسَدِّ حاجتِه مِن الجوعِ "غيرَ مُتَّخِذٍ خُبْنَةً"، أي: ولم يُخبِّئْ في خُبنَةِ ثوبِه شيئًا، والخُبنَةُ: هي الجيبُ الَّذي يَكونُ في الثَّوبِ، "فلا شيءَ عليه"، أي: لا إثمَ ولا عُقوبةَ علَيه، وقد قيل: إنَّ هذا يَكونُ في مَكانٍ عُرِف فيه المُسامَحةُ في ذلك، قال: "ومَن خرَج بشيءٍ مِنه"، أي: الثَّمَرِ "فعَلَيه غَرامةُ مِثلَيه"

وقال مقاتل بن حيان في قوله : (فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ ۚ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ)  فيما أكل من اضطرار ، وبلغنا والله أعلم أنه لا يزاد على ثلاث لقم .

وقال سعيد بن جبير : غفور لما أكل من الحرام. رحيم إذ أحل له الحرام في الاضطرار .

وقال وكيع : حدثنا الأعمش، عن أبي الضحى، عن مسروق قال : من اضطر فلم يأكل ولم يشرب، ثم مات دخل النار .

وهذا يقتضي أن أكل الميتة للمضطر عزيمة لا رخصة . قال أبو الحسن الطبري: وهذا هو الصحيح عندنا؛  كالإفطار للمريض في رمضان ونحو ذلك .

وقوله تعالى: (إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنزَلَ اللَّهُ مِنَ الْكِتَابِ وَيَشْتَرُونَ بِهِ ثَمَنًا قَلِيلًا ۙ أُولَٰئِكَ مَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ إِلَّا النَّارَ وَلَا يُكَلِّمُهُمُ اللَّهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلَا يُزَكِّيهِمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ)

يقول تعالى: (إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ) مما يشهد له بالرسالة، (مَا أَنزَلَ اللَّهُ مِنَ الْكِتَابِ) يعني اليهود الذين كتموا صفة محمد ﷺفي كتبهم التي بأيديهم، مما تشهد له بالرسالة والنبوة ، فكتموا ذلك لئلا تذهب رياستهم وما كانوا يأخذونه من العرب من الهدايا والتحف على تعظيمهم إياهم، فخشوا لعنهم الله إن أظهروا ذلك أن يتبعه الناس ويتركوهم، فكتموا ذلك إبقاء على ما كان يحصل لهم من ذلك، وهو نزر يسير، فباعوا أنفسهم بذلك، واعتاضوا عن الهدى واتباع الحق وتصديق الرسول والإيمان بما جاء عن الله بذلك النزر اليسير ،وقوله: ( فِي بُطُونِهِمْ ) ذكر البطون دلالة وتأكيدا على حقيقة الأكل، إذ قد يستعمل مجازا في مثل أكل فلان أرضي ونحوه ، وفي ذكر البطون أيضا تنبيه على جشعهم وأنهم باعوا آخرتهم بحظهم من المطعم الذي لا خطر له .

ومعنى إلا النار، أي إنه حرام يعذبهم الله عليه بالنار ، فسمي ما أكلوه من الرشاء نارا؛  لأنه يؤديهم إلى النار ، هكذا قال أكثر المفسرين. وقيل: أي إنه يعاقبهم على كتمانهم بأكل النار في جهنم حقيقة ، فأخبر عن المآل بالحال فخابوا وخسروا في الدنيا والآخرة ؛ أما في الدنيا فإن الله أظهر لعباده صدق رسوله، بما نصبه وجعله معه من الآيات الظاهرات والدلائل القاطعات ، فصدقه الذين كانوا يخافون أن يتبعوه، وصاروا عونا له على قتالهم، وباءوا بغضب على غضب ، وذمهم الله في كتابه في غير موضع . من ذلك هذه الآية الكريمة :  (إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنزَلَ اللَّهُ مِنَ الْكِتَابِ وَيَشْتَرُونَ بِهِ ثَمَنًا قَلِيلًا ۙ) وهو عرض الحياة الدنيا (أُولَٰئِكَ مَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ إِلَّا النَّارَ) أي : إنما يأكلون ما يأكلونه في مقابلة كتمان الحق نارا تأجج في بطونهم يوم القيامة . كما قال تعالى : (إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَىٰ ظُلْمًا إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَارًا ۖ وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيرًا) ﴿النساء١٠﴾،  وفي الحديث الصحيح عن أم سلمة، أن رسول الله ﷺ قال: " الَّذِي يَشْرَبُ في آنِيَةِ الفِضَّةِ، إنَّما يُجَرْجِرُ في بَطْنِهِ نارَ جَهَنَّمَ." (مسلم)

وقوله : (وَلَا يُكَلِّمُهُمُ اللَّهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلَا يُزَكِّيهِمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ) وذلك لأنه غضبان عليهم ، لأنهم كتموا وقد علموا، فاستحقوا الغضب، فلا ينظر إليهم ولا يزكيهم، أي يثني عليهم ويمدحهم بل يعذبهم عذابا أليما . ولا يكلمهم الله يوم القيامة عبارة عن الغضب عليهم وإزالة الرضا عنهم ، يقال : فلان لا يكلم فلانا إذا غضب عليه ، وقال الطبري : المعنى ولا يكلمهم بما يحبونه ، وفي التنزيل: ( قَالَ اخْسَئُوا فِيهَا وَلَا تُكَلِّمُونِ) ﴿المؤمنون ١٠٨﴾‏، وقيل : المعنى ولا يرسل إليهم الملائكة بالتحية . ولا يزكيهم أي لا يصلح أعمالهم الخبيثة فيطهرهم ، وقال الزجاج : لا يثني عليهم خيرا ولا يسميهم أزكياء

وفي الحديث الذي رواه مسلم أيضا عن أبي هريرة عن رسول اللهﷺ : " ثَلاثَةٌ لا يُكَلِّمُهُمُ اللَّهُ يَومَ القِيامَةِ ولا يُزَكِّيهِمْ، قالَ أبو مُعاوِيَةَ: ولا يَنْظُرُ إليهِم، (وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ): شيخٌ زانٍ، ومَلِكٌ كَذّابٌ، وعائِلٌ مُسْتَكْبِرٌ. " .

وقوله تعالى: (أُولَٰئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الضَّلَالَةَ بِالْهُدَىٰ وَالْعَذَابَ بِالْمَغْفِرَةِ ۚ فَمَا أَصْبَرَهُمْ عَلَى النَّارِ)

ثم قال تعالى مخبرا عنهم : (أُولَٰئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الضَّلَالَةَ بِالْهُدَىٰ) أي : اعتاضوا عن الهدى ، وهو نشر ما في كتبهم من صفة الرسول وذكر مبعثه والبشارة به من كتب الأنبياء واتباعه وتصديقه، استبدلوا عن ذلك واعتاضوا عنه بالضلالة ، وهو تكذيبه والكفر به وكتمان صفاته في كتبهم (وَالْعَذَابَ بِالْمَغْفِرَةِ ۚ) أي : اعتاضوا عن المغفرة بالعذاب وهو ما تعاطوه من أسبابه المذكورة .

وقوله تعالى : (فَمَا أَصْبَرَهُمْ عَلَى النَّارِ) يخبر تعالى أنهم في عذاب شديد عظيم هائل، يتعجب من رآهم فيها من صبرهم على ذلك، مع شدة ما هم فيه من العذاب والنكال والأغلال عياذا بالله من ذلك، و " ما " معناه التعجب وهو مردود إلى المخلوقين، كأنه قال : اعجبوا من صبرهم على النار ومكثهم فيها، وفي التنزيل : (قُتِلَ الْإِنسَانُ مَا أَكْفَرَهُ ) ﴿عبس ١٧﴾، وقوله:‏ ( . أَسْمِعْ بِهِمْ وَأَبْصِرْ يَوْمَ يَأْتُونَنَا..)﴿مريم ٣٨﴾‏، وقيل معنى قوله : (فَمَا أَصْبَرَهُمْ عَلَى النَّارِ) أي : ما أدومهم لعمل المعاصي التي تفضي بهم إلى النار  .

وقوله تعالى: (ذَٰلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ نَزَّلَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ ۗ وَإِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِي الْكِتَابِ لَفِي شِقَاقٍ بَعِيدٍ)

إنما استحقوا هذا العذاب الشديد لأن الله تعالى أنزل على رسوله محمد ﷺوعلى الأنبياء قبله كتبه بتحقيق الحق وإبطال الباطل، وهؤلاء اتخذوا آيات الله هزوا ، فكتابهم يأمرهم بإظهار العلم ونشره ، فخالفوه وكذبوه. وهذا الرسول الخاتم يدعوهم إلى الله تعالى، ويأمرهم بالمعروف وينهاهم عن المنكر، وهم يكذبونه ويخالفونه ويجحدونه، ويكتمون صفته، فاستهزأوا بآيات الله المنزلة على رسله؛ فلهذا استحقوا العذاب والنكال، ولهذا قال : (ذَٰلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ نَزَّلَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ ۗ وَإِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِي الْكِتَابِ لَفِي شِقَاقٍ بَعِيدٍ)

والله أولى وأعلم.

No comments:

Post a Comment