تفسير سورة البقرة- ح ٢٩
أمر ثاني -كُتِبَ- ؛ الوصية... ممن تكون الوصية؟ ولمن...؟
ومتى تكون واجبة، أو جائزة، وما هو الخير ؟
( كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ إِن تَرَكَ خَيْرًا الْوَصِيَّةُ.....)
ما مناسبة ورود الأمر بالوصية بعد القصاص ؟
كُتب:أمر ثالث بالمتتابع (يَا
أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ
لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ)
محور مواضيع هذا لجزء:
-ذكر فرض الوصية لمن (ترك خيرا )، فمن تجب عليه الوصية؟ ولمن تعطى، ومتى تعطى؟ وهل لها مقدار مفروض أو مستحب؟-
-الجنف في الوصية ، هل يصحح؟ وممن يصححه؟
- الأمر الثالث بالتتابع: أمر الله عباده المؤمنين بالصيام، ما أحكامه؟
التفسير:
قوله تعالى: ( كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ إِن تَرَكَ خَيْرًا الْوَصِيَّةُ لِلْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ بِالْمَعْرُوفِ ۖ حَقًّا عَلَى الْمُتَّقِينَ)
كتب عليكم هذه آية الوصية، ليس في القرآن ذكر للوصية إلا في هذه الآية، وفي " النساء " : (من بعد وصية) وفي " المائدة ١٠٦": (إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ حِينَ الْوَصِيَّةِ اثْنَانِ ذَوَا عَدْلٍ مِّنكُمْ أَوْ آخَرَانِ مِنْ غَيْرِكُمْ). والتي في البقرة هنا أتمها وأكملها، ونزلت قبل نزول الفرائض والمواريث التي في آيات النساء، على ما يأتي بيانه، وفي الكلام تقدير واو العطف، أي وكتب عليكم، فلما طال الكلام أسقطت الواو . ومثله في بعض الأقوال: (لَا يَصْلَاهَا إِلَّا الْأَشْقَى ﴿١٥﴾ الَّذِي كَذَّبَ وَتَوَلَّىٰ) ﴿الليل١٦﴾ أي والذي كذب وتولى.
والخير هنا المال من غير خلاف بكل صوره، كقوله : (وَمَا تُنفِقُوا مِنْ خَيْرٍ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ َ) ﴿البقرة ٢٧٢﴾، وقال: (وَإِنَّهُ لِحُبِّ الْخَيْرِ لَشَدِيدٌ) ﴿العاديات ٨﴾ ولم يبين الله تعالى في كتابه مقدار ما يوصى به من المال، وإنما قال: (إِن تَرَكَ خَيْرًا الْوَصِيَّةُ)،فما بين مقدار الخير-المال- واختلفوا في مقداره ، فقيل: إن ترك مالاً كيثراًا .
واختار جماعة لمن ماله قليل وله ورثة ترك الوصية، روى ابن أبي شيبة من حديث ابن أبي مليكة عن عائشة أنه قال لها : إني أريد أن أوصي : قالت : وكم مالك ؟ قال : ثلاثة آلاف . قالت : فكم عيالك ؟ قال: أربعة . قالت : إن الله تعالى يقول : إن ترك خيرا وهذا شيء يسير فدعه لعيالك فإنه أفضل لك.
والوصية: تشمل كل شيء يؤمر بفعله ويعهد به في الحياة وبعد الموت، وخصصها العرف بما يعهد بفعله وتنفيذه بعد الموت، والجمع وصايا كالقضايا جمع قضية، والوصي يكون الموصي والموصى إليه، وأصله من وصى مخففا. وتواصى القوم أوصى بعضهم بعضا. وفي الحديث : "واستَوْصوا بالنِّساءِ خيرًا فإنَّما هنَّ عَوانٍ عندَكُم ".(صحيح الترمذي)
والوصية بإجماعهم واجبة على من قبله ودائع وعليه ديون، وأكثر العلماء على أن الوصية غير واجبة على من ليس قبله شيء من ذلك.
فاختلف العلماء في مقدار ذلك، فروي عن أبي بكر الصديق رضي الله عنه أنه أوصى بالخمس. وقال معمر عن قتادة . أوصى عمر بالربع ، وذكره البخاري عن ابن عباس ، وروي عن علي رضي الله عنه أنه قال : لأن أوصي بالخمس أحب إلي من أن أوصي بالربع ، ولأن أوصي بالربع أحب إلي من أن أوصي بالثلث .
ذهب الجمهور من العلماء إلى أنه لا يجوز لأحد أن يوصي بأكثر من الثلث، للحديث، عن سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه ، قال: "كانَ النبيُّ ﷺَ يَعُودُنِي وأَنَا مَرِيضٌ بمَكَّةَ، فَقُلتُ: لي مَالٌ، أُوصِي بمَالِي كُلِّهِ؟ قالَ: لا قُلتُ: فَالشَّطْرِ؟ قالَ: لا قُلتُ: فَالثُّلُثِ؟ قالَ: الثُّلُثُ والثُّلُثُ كَثِيرٌ، أنْ تَدَعَ ورَثَتَكَ أغْنِيَاءَ خَيْرٌ مِن أنْ تَدَعَهُمْ عَالَةً يَتَكَفَّفُونَ النَّاسَ في أيْدِيهِمْ" ( البخاري)
- وأجمع كل من يحفظ عنه من أهل العلم على أن الوصية هنا للوالدين اللذين لا يرثان- إذا كانا غير مسلمين، أو قتله- أما للأقرباء الذين لا يرثون جائزة، وقال ابن عباس والحسن أيضا وقتادة : الآية عامة، نسخ منها كل من كان يرث بآية الفرائض، وقد قيل : إن آية الفرائض لم تستقل بنسخها بل بضميمة أخرى، وهي قولهﷺ: "إنَّ اللَّهَ قد أعطى كلَّ ذي حقٍ حقَّهُ، فلا وصيَّةَ لوارِثٍ" (رواه أبو أمامة، أخرجه الترمذي وقال: هذا حديث حسن صحيح ) فنسخ الآية إنما كان بالسنة الثابتة عن رسول الله.
وفي البخاري عن ابن عباس قال: " كانَ المَالُ لِلْوَلَدِ، وكَانَتِ الوَصِيَّةُ لِلْوَالِدَيْنِ، فَنَسَخَ اللَّهُ مِن ذلكَ ما أحَبَّ، فَجَعَلَ لِلذَّكَرِ مِثْلَ حَظِّ الأُنْثَيَيْنِ، وجَعَلَ لِلْأَبَوَيْنِ لِكُلِّ واحِدٍ منهما السُّدُسُ، وجَعَلَ لِلْمَرْأَةِ الثُّمُنَ والرُّبُعَ، ولِلزَّوْجِ الشَّطْرَ والرُّبُعَ. ".
على من تجب الوصية؟
وأكثر العلماء على أن الوصية ليست بواجبة إلا على رجل عليه دين أو عنده مال -ودائع - لقوم، فواجب عليه أن يكتب وصيته ويخبر بما عليه، فأما من لا دين عليه ولا وديعة عنده فليست بواجبة عليه إلا أن يشاء، لأن الله فرض أداء الأمانات إلى أهلها، ومن لا حق عليه ولا أمانة قبله فليس واجب عليه أن يوصي. احتج الأولون بما رواه الأئمة عن ابن عمر، قال رسول الله ﷺ: "ما حَقُّ امْرِئٍ مُسْلِمٍ، له شيءٌ يُرِيدُ أَنْ يُوصِيَ فِيهِ، يَبِيتُ لَيْلَتَيْنِ، إِلَّا وَوَصِيَّتُهُ مَكْتُوبَةٌ عِنْدَهُ. [وفي رواية]: غيرَ أنَّهُما قالَا: وَلَهُ شيءٌ يُوصِي فِيهِ، وَلَمْ يَقُولَا: يُرِيدُ أَنْ يُوصِيَ فِيهِ" (رواه مسلم)
-إن لم يترك الموصي ورثة جاز له أن يوصي بماله كله، وقالوا : إن الاقتصار على الثلث في الوصية إنما كان من أجل أن يدع ورثته أغنياء، للحديث السابق، ومن لا وارث له فليس ممن عني بالحديث
أجمع العلماء على أن من مات وله ورثة فليس له أن يوصي بجميع ماله سواء قصد منعهم، او لم يقصد.
والوصية كما في الآية للأقربين، إن أوصى لغير قرابته فقد ختم عمله بمعصية، وروي عن ابن عمر أنه أوصى لأمهات أولاده لكل واحدة بأربعة آلاف. وروي أن عائشة وصت لمولاة لها بأثاث البيت، وروي عن سالم بن عبد الله بمثل ذلك، وقال الحسن: إن أوصى لغير الأقربين ردت الوصية للأقربين، فإن كانت لأجنبي فمعهم، ولا تجوز لغيرهم مع تركهم.
وأجمع العلماء على أن للإنسان أن يغير وصيته ويرجع فيما شاء منها، وذلك حتى الموت. قالوا : إلا المدبر: في الحديث أن وكانت عائشةُ أعتَقَتْها – جارية لها- عن دُبُرٍ منها. فسحرتها الجارية لتموت، تستعجل عتقها، فلما علمت عائشة قال: "إنَّ للهِ عليَّ ألَّا تُعتَقي أبَدًا"، وهذا تَوعُّدٌ من عائِشةَ رضِيَ اللهُ عنها للجاريةِ جَزاءً على خِسَّةِ فَعْلَتِها، ثُمَّ قالتْ عائِشةُ رضِيَ اللهُ عنها: "انْظُروا أسوَأَ العَرَبِ مَلَكةً"، أي: أشَدُّ وأقْسَى النَّاسِ مُعامَلةً للعَبيدِ وأسوَأُهُم مُعامَلةً لِمَماليكِهِ وخُدَّامِهِ "فَبيعُوها منه"؛ لِتكونَ تحتَ إمْرةِ مَن لا يُحسِنُ إليها، وقيلَ: باعوها للأعْرابِ الَّذين لا يُحسِنونَ إلى المَماليكِ، "واشْتَرَتْ بثَمَنِها جاريةً فأعْتَقَتْها بدلها، حتى لا تنقض دبرها- تدبيرهاالأول.
واختلفوا في الرجل يوصي لبعض ورثته بمال-أو غير الورثة-، ويقول في وصيته: إن أجازها الورثة فهي له، وإن لم يجيزوه فهو في سبيل الله، فلم يجيزوه. فقال مالك: إن لم تجز الورثة ذلك رجع إليهم، وفي قول الشافعي وأبي حنيفة ومعمر صاحب عبد الرزاق يمضي في سبيل الله – إذا كانت في حدود الثلث.
قوله تعالى : (بِالْمَعْرُوفِ ۖ) يعني بالعدل، لا وكس فيه ولا شطط، وكان هذا موكلا إلى اجتهاد الميت ونظر الموصي ، ثم تولى الله سبحانه تقدير ذلك على لسان نبيه فقال ﷺ: الثلث والثلث كثير ، وقد تقدم ما للعلماء في هذا ، وقال ﷺ: " إنَّ اللهَ تصدَّق عليكم بثلُثِ أموالِكم عند وفاتِكم زيادةً في حسناتِكم ليجعلَها زيادةً لكم في أعمالِكم" ( رواه الشوكاني- في إسناده ضعف)
وقوله تعالى: (حَقًّا) يعني: ثابتا ثبوت نظر وتحصين، لا ثبوت فرض ووجوب بدليل قوله : (عَلَى الْمُتَّقِينَ)، وهذا يدل على كونه ندبا؛ لأنه لو كان فرضا لكان على جميع المسلمين، فلما خص الله من يتقي، أي يخاف تقصيرا، دل على أنه غير لازم إلا فيما يتوقع تلفه إن مات، فيلزمه فرضا المبادرة بكتبه والوصية به.
قوله تعالى: (فَمَن بَدَّلَهُ بَعْدَمَا سَمِعَهُ فَإِنَّمَا إِثْمُهُ عَلَى الَّذِينَ يُبَدِّلُونَهُ ۚ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ)
(فَمَن بَدَّلَهُ بَعْدَمَا سَمِعَهُ فَإِنَّمَا إِثْمُهُ عَلَى الَّذِينَ يُبَدِّلُونَهُ) ۚفمن بدله شرط، وجوابه فإنما إثمه على الذين يبدلونه و (سَمِعَهُ) يحتمل أن يكون سمعه من الوصي نفسه، ويحتمل أن يكون سمعه ممن يثبت به ذلك عنده، وذلك عدلان ، والضمير في إثمه عائد على التبديل ، أي إثم التبديل عائد على المبدل لا على الميت، فإن الموصي خرج بالوصية عن اللوم وتوجهت على الوارث أو الولي . وقيل: إن هذا الموصي إذا غير الوصية أو لم يجزها على ما رسم له في الشرع فعليه الإثم .
وفي الآية دليل على أن الدين إذا أوصى به الميت خرج به عن ذمته وحصل الولي مطلوبا به، له الأجر في قضائه، وعليه الوزر في تأخيره .(..إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ) إن الله سميع عليم صفتان لله تعالى لا يخفى معهما شيء من جنف الموصين وتبديل المعتدين .
وقوله تعالى: (فَمَنْ خَافَ مِن مُّوصٍ جَنَفًا أَوْ إِثْمًا فَأَصْلَحَ بَيْنَهُمْ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ ۚ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ)
(فَمَنْ خَافَ..) بمعنى خشي ، وقيل: علم، (مُّوصٍ جَنَفًا)، قرأت بالتخفيف للتكثير، وبالتشديد (موَّصٍ).وجنفًا : جنفا من جنف يجنف إذا جار، " الجنف " الميل.
فمن خاف أي من خشي أن يجنف الموصي ويقطع ميراث طائفة لطائفة أخرى، ويتعمد الأذية، أو يأتيها دون تعمد، وذلك هو الجنف دون إثم، فإن تعمد فهو الجنف في إثم ، فالمعنى من وعظ في ذلك ورد عنه فأصلح بذلك ما بينه وبين ورثته وبين الورثة في ذاتهم فلا إثم عليه . إن الله غفور رحيم عن الموصي إذا عملت فيه الموعظة ورجع عما أراد من الأذية .
الخطاب بقوله : (فَمَنْ خَافَ..) لجميع المسلمين إن خفتم من موص ميلا في الوصية وعدولا عن الحق ووقوعا في إثم ولم يخرجها بالمعروف، وذلك بأن يوصي بالمال إلى زوج ابنته أو لولد ابنته لينصرف المال إلى ابنته، أو إلى ابن ابنه، والغرض أن ينصرف المال إلى ابنه، أو أوصى لبعيد وترك القريب ، فبادروا إلى السعي في الإصلاح بينهم، فإذا وقع الصلح سقط الإثم عن المصلح.
قوله تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ
عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ
تَتَّقُونَ)
هنا خص بالخطاب (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا)، قوله تعالى: (كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ) لما ذكر ما كتب على المكلفين من القصاص والوصية ذكر أيضا أنه كتب عليهم الصيام وألزمهم إياه وأوجبه عليهم ، ولا خلاف فيه، قال ﷺ: "بُنِيَ الإسْلَامُ علَى خَمْسٍ: شَهَادَةِ أنْ لا إلَهَ إلَّا اللَّهُ وأنَّ مُحَمَّدًا رَسولُ اللَّهِ، وإقَامِ الصَّلَاةِ، وإيتَاءِ الزَّكَاةِ، والحَجِّ، وصَوْمِ رَمَضَانَ." ( البخاري، رواه ابن عمر)
والصيام في اللغة : الإمساك، وترك التنقل من حال إلى حال .
ويقال للصمت صوم ؛ لأنه إمساك عن الكلام، قال الله تعالى مخبرا عن مريم : (إِنِّي نَذَرْتُ لِلرَّحْمَـٰنِ صَوْمًا فَلَنْ أُكَلِّمَ الْيَوْمَ إِنسِيًّا ) ﴿مريم ٢٦﴾، فبينه ( فَلَنْ أُكَلِّمَ ): أي سكوتا عن الكلام ، والصوم : ركود الريح ، وهو إمساكها عن الهبوب . وصامت الدابة على آريها : قامت وثبتت فلم تعتلف .
الصوم في الشرع : الإمساك عن المفطرات مع اقتران النية به من طلوع الفجر إلى غروب الشمس، وتمامه وكماله باجتناب المحظورات وعدم الوقوع في المحرمات، لقوله ﷺ: " مَن لَمْ يَدَعْ قَوْلَ الزُّورِ والعَمَلَ به، فليسَ لِلَّهِ حَاجَةٌ في أنْ يَدَعَ طَعَامَهُ وشَرَابَهُ" (البخاري)
فضل الصوم عظيم، وثوابه جسيم، ويكفيك من فضله: أن خصه الله بالإضافة إليه ، كما ثبت في الحديث عن النبي ﷺ أنه قال مخبرا عن ربه : "يقول الله تبارك وتعالى: كُلُّ عَمَلِ ابْنِ آدَمَ له إلَّا الصَّوْمَ، فإنَّه لي وأنا أجْزِي به، ولَخُلُوفُ فَمِ الصَّائِمِ أطْيَبُ عِنْدَ اللَّهِ مِن رِيحِ المِسْكِ." ، (البخاري)
وإنما خص الصوم بأنه له وإن كانت العبادات كلها له لأمرين باين الصوم بهما سائر العبادات :
أحدهما : أن الصوم يمنع من ملاذ النفس وشهواتها ما لا يمنع منه سائر العبادات .
الثاني : أن الصوم سر بين العبد وبين ربه لا يظهر إلا له؛ فلذلك صار مختصا به، وما سواه من العبادات ظاهر، ربما فعله تصنعا ورياء؛ فلهذا صار أخص بالصوم من غيره .
وقوله تعالى: (كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ)، كما كتب الكاف في موضع نصب على النعت، التقدير كتابا كما، أو صوما كما ، أو على الحال من الصيام أي كتب عليكم الصيام مشبها كما كتب على الذين من قبلكم .
والتشبيه يرجع إلى وقت الصوم وقدر الصوم ، فإن الله تعالى كتب على قوم موسى وعيسى صوم رمضان فغيروا ، وزاد أحبارهم عليهم عشرة أيام ثم مرض بعض أحبارهم فنذر إن شفاه الله أن يزيد في صومهم عشرة أيام ففعل، فصار صوم النصارى خمسين يوما ، فصعب عليهم في الحر فنقلوه إلى الربيع، واختار هذا القول النحاس وقال: وهو الأشبه بما في الآية، وفيه حديث يدل على صحته أسنده عن دغفل بن حنظلة عن النبي ﷺ.
وقيل:التشبيه راجع إلى أصل وجوبه على من تقدم، لا في الوقت والكيفية، وقيل: التشبيه واقع على صفة الصوم الذي كان عليهم من منعهم من الأكل والشرب والنكاح ، فإذا حان الإفطار فلا يفعل هذه الأشياء من نام ، وكذلك كان في النصارى أولا وكان في أول الإسلام.
( لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ) " لعل " ترج في حقهم ، وتتقون قيل: كلما قل الأكل ضعفت الشهوة، وكلما ضعفت الشهوة قلت المعاصي وهذا وجه مجازي حسن . وقيل: لتتقوا المعاصي ، وقيل : هو على العموم ، لأن الصيام كما قال ﷺ: "الصِّيامُ جُنَّةٌ من النَّارِ " ووجاء :وقاء، وسبب تقوى ؛ لأنه يميت الشهوات.
وقوله تعالى: (أَيَّامًا مَّعْدُودَاتٍ ۚ فَمَن كَانَ مِنكُم مَّرِيضًا أَوْ عَلَىٰ سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِّنْ أَيَّامٍ أُخَرَ ۚ وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ ۖ فَمَن تَطَوَّعَ خَيْرًا فَهُوَ خَيْرٌ لَّهُ ۚ وَأَن تَصُومُوا خَيْرٌ لَّكُمْ ۖ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ)
(أَيَّامًا مَّعْدُودَاتٍ..) ۚأي كتب عليكم الصيام في أيام، والأيام المعدودات: شهر رمضان،
(فَمَن كَانَ مِنكُم مَّرِيضًا ..) للمريض حالتان : إحداهما : ألا يطيق الصوم بحال ، فعليه الفطر واجبا. الثانية: أن يقدر على الصوم بضرر ومشقة، فهذا يستحب له الفطر ولا يصوم إلا جاهل، ومتى حصل الإنسان في حال يستحق بها اسم المرض صح الفطر ، قياسا على المسافر لعِلَة السفر، وإن لم تدع إلى الفطر ضرورة .
قال جمهور من العلماء : إذا كان به مرض يؤلمه ويؤذيه أو يخاف تماديه أو يخاف تزيده صح له الفطر، خشية شدة المرض والزيادة فيه والمشقة الفادحة، وهذا صحيح مذهبه وهو مقتضى الظاهر؛ لأنه لم يخص مرضا من مرض فهو مباح في كل مرض، إلا ما خصه الدليل من الصداع والحمى والمرض اليسير الذي لا كلفة معه في الصيام. ومتى احتمل الضرر معه لم يفطر. وهذا قول الشافعي رحمه الله تعالى .
قال البخاري : اعتللت بنيسابور علة خفيفة وذلك في شهر رمضان ، فعادني إسحاق بن راهويه في نفر من أصحابه فقال لي : أفطرت يا أبا عبد الله ؟ فقلت نعم ، فقال : خشيت أن تضعف عن قبول الرخصة. وعن ابن جريج قال قلت لعطاء: من أي المرض أفطر ؟ قال: من أي مرض كان ، كما قال الله تعالى : فمن كان منكم مريضا .
الثانية : أو على سفر اختلف العلماء في السفر الذي يجوز فيه الفطر والقصر ، بعد إجماعهم على سفر الطاعة كالحج والجهاد، ويتصل بهذين سفر صلة الرحم وطلب المعاش الضروري . أما سفر التجارات والمباحات فمختلف فيه بالمنع والإجازة، والقول بالجواز أرجح .
وأما سفر العاصي فيختلف فيه بالجواز والمنع، والقول بالمنع أرجح ، قاله ابن عطية ، ومسافة الفطر عند مالك حيث تقصر الصلاة واختلف العلماء في قدر ذلك، فقال مالك: يوم وليلة، ثم رجع فقال: ثمانية وأربعون ميلا ، وقول الشافعي: يومان، وقال ابن عمرو وابن عباس والثوري : الفطر في سفر ثلاثة أيام ، حكاه ابن عطية .
قلت : والذي في البخاري : وكان ابن عمر وابن عباس يفطران ويقصران في أربعة برد وهي ستة عشر فرسخا .- الفرسخ ثلاث أميال، والميل 1،7 كم ( 85 كم )
الثالثة : اتفق العلماء على أن المسافر في رمضان لا يجوز له أن يبيت الفطر، لأن المسافر لا يكون مسافرا بالنية بخلاف المقيم، وإنما يكون مسافرا بالعمل والنهوض، والمقيم لا يفتقر إلى عمل؛ لأنه إذا نوى الإقامة كان مقيما في الحين، لأن الإقامة لا تفتقر إلى عمل فافترقا.
ولا خلاف بينهم أيضا في الذي يؤمل السفر أنه لا يجوز له أن يفطر قبل أن يخرج ، فإن أفطر فقال ابن حبيب : إن كان قد تأهب لسفره وأخذ في أسباب الحركة فلا شيء عليه ، فإن عاقه عن السفر عائق كان عليه الكفارة، وحسبه أن ينجو إن سافر ، وقيل: ليس عليه شيء من الكفارة سافر أو لم يسافر ، وقال سحنون : عليه الكفارة سافر أو لم يسافر ، وهو بمنزلة المرأة تقول : غدا تأتيني حيضتي، فتفطر لذلك، ثم رجع إلى قول عبد الملك وأصبغ وقال: ليس مثل المرأة ; لأن الرجل يحدث السفر إذا شاء ، والمرأة لا تحدث الحيضة .
عن محمد بن كعب أنه قال:" أتيتُ أنسَ بنَ مالكٍ في رمضانَ وهوَ يُريدُ السفرَ وقدْ رُحِلَت دابةٌ ولبسَ ثيابَ السفرِ وتقاربَ غروبُ الشمسِ فدعا بطعامٍ فأكلَ مِنهُ ثمَّ رَكِبَ فقلتُ سنةٌ قال نعمْ"(صححه الألباني) وروي عن أنس أيضا قال : قال لي أبو موسَى:" ألم أُنبَّأْ أنَّك إذا خرجتَ خرجتَ صائمًا ، وإذا دخلتَ دخلتَ صائمًا ؟ فإذا خرجتَ فاخرُجْ مُفطِرًا ، وإذا دخلتَ فادخُلْ مُفطِرًا " (صححه الألباني).
وقال الحسن البصري: يفطر إن شاء في بيته يوم يريد أن يخرج . وقال أحمد : يفطر إذا برز عن البيوت .
والفتوى: أنه من كان في بلده ، ثم عزم على السفر ، فلا يسمى مسافرا حتى يفارق عمران بلده . فلا يحل له أن يأخذ برخص السفر كالفطر والقصر بمجرد نية السفر ، لأن الله تعالى إنما أباح الفطر للمسافر، ولا يكون مسافرا حتى يفارق بلده. وعليه فإنه لا يباح له الفطر حتى يُخَلِّف البيوتَ وراء ظهره , يعني أنه يجاوزها ويخرج من بين بنيانها.
وسئل الشيخ ابن عثيمين: عن رجل نوى السفر فأفطر في بيته لجهله، ثم انطلق ، هل عليه الكفارة ؟ فأجاب: "حرام عليه أن يفطر وهو في بيته، ولكن لو أفطر قبل مغادرته بيته فعليه القضاء فقط "
وقد روي عن ابن عمر في هذه المسألة : (يفطر إن شاء في يومه ذلك إذا خرج مسافرا ) وهو قول الشعبي وأحمد. وأما الكفارة فلا وجه لها، ومن أوجبها فقد أوجب ما لم يوجبه الله ولا رسوله ﷺ
روي عن أبي هريرة وابن عمر. قال ابن عمر : "من صام في السفر قضى في الحضر ". وعن عبد الرحمن بن عوف : "الصائم في السفر كالمفطر في الحضر" . وقال به قوم من أهل الظاهر ، واحتجوا بما روى كعب بن عاصم قال : سمعت النبي ﷺ يقول :" ليسَ منَ البرِّ الصِّيامُ في السَّفرِ"( حديث ثابت)
الرابعة : واختلف العلماء في الأفضل من الفطر أو الصوم في السفر ، فقال مالك والشافعي في بعض ما روي عنهما : الصوم أفضل لمن قوي عليه ، وجل مذهب مالك التخيير وكذلك مذهب الشافعي . قال: هو مخير ، ولم يفصل لحديث أنس قال : "سافرنا مع النبي ﷺ في رمضان فلم يعب الصائم على المفطر ولا المفطر على الصائم" (خرجه مالك والبخاري ومسلم)، وروي عن عثمان بن أبي العاص الثقفي وأنس بن مالك صاحبي رسول الله ﷺ أنهما قالا : الصوم في السفر أفضل لمن قدر عليه . وهو قول أبي حنيفة وأصحابه ، وروي عن ابن عمر ، وابن عباس : الرخصة أفضل.
الخامسة : قوله تعالى : ( فَعِدَّةٌ مِّنْ أَيَّامٍ أُخَرَ) ۚفي الكلام حذف ، أي من يكن منكم مريضا أو مسافرا فأفطر فليقض، والجمهور من العلماء على أن أهل البلد إذا صاموا تسعة وعشرين يوما وفي البلد رجل مريض لم يصح فإنه يقضي تسعة وعشرين يوما.
السادسة : قوله تعالى: ( فَعِدَّةٌ )ارتفع ( عدةٌ) على خبر الابتداء ، تقديره فالحكم أو فال واجب عدة ، أي فليصم عدة من أيام. والعدة فعلة من العد، وهي بمعنى المعدود، ، ومنه عدة المرأة .
السابعة : اختلف الناس في وجوب تتابعها على قولين ذكرهما الدارقطني في " سننه " ، فروي عن عائشة رضي الله عنها قالت : نزلت " فعدة من أيام أخر متتابعات " فسقطت ( متتابعات ) قال هذا إسناد صحيح ،وعن ابن عباس في قضاء رمضان ( صمه كيف شئت ) وعن محمد بن المنكدر قال : بلغني أن رسول الله ﷺ " سُئلَ عن تقطيعِ قضاءِ رمضانَ فقالَ ذاكَ إليكَ أرأيتَ لو كانَ على أحدٍ دَينٌ فقضَى الدِّرهمَ والدِّرهمَينِ ألم يَكنْ قضَى فاللَّهُ أحقَّ أن يعفوَ ويغفرَ " ( إسناده حسن إلا أنه مرسل ولا يثبت متصلا) ،
الثامنة : لما قال تعالى:( فَعِدَّةٌ مِّنْ أَيَّامٍ أُخَرَ ) دل ذلك على وجوب القضاء من غير تعيين لزمان؛ لأن اللفظ مسترسل على الأزمان لا يختص ببعضها دون بعض ، وفي الصحيحين عن عائشة رضي الله عنها قالت: "كانَ يَكونُ عَلَيَّ الصَّوْمُ مِن رَمَضَانَ، فَما أَسْتَطِيعُ أَنْ أَقْضِيَهُ إلَّا في شَعْبَانَ؛ الشُّغْلُ مِن رَسولِ اللهِ ﷺ، أَوْ برَسولِ اللهِﷺ". [وفي رواية]:" وَذلكَ لِمَكَانِ رَسولِ اللهِ ﷺ". وهذا نص وزيادة بيان للآية .
وقال بعض الأصوليين : إذا مات بعد مضي اليوم الثاني من شوال لا يعصي على شرط العزم، والصحيح أنه غير آثم ولا مفرط، وهو قول الجمهور، غير أنه يستحب له تعجيل القضاء لئلا تدركه المنية فيبقى عليه الفرض .
التاسعة : من كان عليه قضاء أيام من رمضان فمضت عليه عدتها من الأيام بعد الفطر أمكنه فيها صيامه فأخر ذلك ثم جاءه مانع منعه من القضاء إلى رمضان آخر فلا إطعام عليه؛ لأنه ليس بمفرط حين فعل ما يجوز له من التأخير . هذا قول البغداديين من المالكيين
العاشرة : فإن أخر قضاءه عن شعبان الذي هو غاية الزمان الذي يقضى فيه رمضان فهل يلزمه لذلك كفارة أو لا ، فقال مالك والشافعي وأحمد وإسحاق : نعم .وهو المعمول به.
و قد جاء عن أبي هريرة مسندا فيمن فرط في قضاء رمضان حتى أدركه رمضان آخر قال : يصوم هذا مع الناس ، ويصوم الذي فرط فيه ويطعم لكل يوم مسكينا . خرجه الدارقطني وقال : إسناد صحيح . وروي عنه مرفوعا إلى النبي ﷺ في رجل أفطر في شهر رمضان من مرض ثم صح ولم يصم حتى أدركه رمضان آخر قال: يصوم الذي أدركه ثم يصوم الشهر الذي أفطر فيه ويطعم لكل يوم مسكينا . في إسناده ابن نافع وابن وجيه ضعيفان .
وروي عن ابن عباس أن رجلا جاء إليه فقال : مرضت رمضانين ؟ فقال له ابن عباس : استمر بك مرضك ، أو صححت بينهما ؟ فقال : بل صححت، قال : صم رمضانين وأطعم ستين مسكينا . وهذا بدل من قوله : إنه لو تمادى به مرضه لا قضاء عليه. وهذا يشبه مذهبهم في الحامل والمرضع أنهما يطعمان ولا قضاء عليهما، على ما يأتي .
الثانية عشرة : واختلف من أوجب عليه الإطعام في قدر ما يجب أن يطعم، فكان أبو هريرة والقاسم بن محمد ومالك والشافعي يقولون : يطعم عن كل يوم مدا . وقال الثوري : يطعم نصف صاع عن كل يوم .
الرابعة عشرة : والجمهور على أن من أفطر في رمضان لعلة فمات من علته تلك، أو سافر فمات في سفره ذلك أنه لا شيء عليه، وقال طاوس وقتادة في المريض يموت قبل أن يصح : يطعم عنه .
الخامسة عشرة : واختلفوا فيمن مات وعليه صوم من رمضان لم يقضه ، فقال مالك والشافعي والثوري : لا يصوم أحد عن أحد ، وقال أحمد وأهل الظاهر : يصام عنه ، إلا أنهم خصصوه بالنذر ، وقال أحمد وإسحاق في قضاء رمضان : يطعم عنه . احتج من قال بالصوم بما رواه مسلم عن عائشة أن رسول الله ﷺ قال : "من مات وعليه صيام صام عنه وليه ". إلا أن هذا عام في الصوم ، يخصصه ما رواه مسلم أيضا عن ابن عباس قال :" جاءت امرأة إلى رسول اللهﷺقالت : يا رسول الله ، إن أمي قد ماتت وعليها صوم نذر - وفي رواية صوم شهر - أفأصوم عنها ؟ قال : أرأيت لو كان على أمك دين فقضيتيه أكان يؤدي ذلك عنها قالت : نعم ، قال : فصومي عن أمك " . احتج مالك ومن وافقه بقوله سبحانه : ولا تزر وازرة وزر أخرى وقوله : وأن ليس للإنسان إلا ما سعى وقوله : ولا تكسب كل نفس إلا عليها وبما خرجه النسائي عن ابن عباس عن النبي ﷺأنه قال : عن ابنِ عبَّاسٍ، قال: لا يُصلِّي أحدٌ عن أحدٍ، ولا يصومُ أحدٌ عن أحدٍ، ولكنْ يُطعِمُ عنه مكانَ كلِّ يومٍ مُدًّا مِن حِنطةٍ" ( أبي داود- إسناده صحيح) قلت : وهذا الحديث عام ، فيحتمل أن يكون المراد بقوله : لا يصوم أحد عن أحد صوم رمضان ، فأما صوم النذر فيجوز ،
وعند أهل المدينة، ويعضده القياس الجلي، وهو أن الصيام عبادة بدنية لا مدخل للمال فيها فلا تفعل عمن وجبت عليه كالصلاة . ولا ينقض هذا بالحج لأن للمال فيه مدخلا .
السادسة عشرة : استدل بهذه الآية من قال: إن الصوم لا ينعقد في السفر وعليه القضاء أبدا ، فإن الله تعالى يقول : فمن كان منكم مريضا أو على سفر فعدة من أيام أخر أي فعليه عدة ، ولا حذف في الكلام ولا إضمار وبقوله عليه الصلاة والسلام : ليس من البر الصيام في السفر . قال : ما لم يكن من البر فهو من الإثم ، فيدل ذلك على أن صوم رمضان لا يجوز في السفر ، والجمهور يقولون : فيه محذوف فأفطر ، كما تقدم . وهو الصحيح ، لحديث أنس قال : سافرنا مع رسول الله ﷺ في رمضان فلم يعب الصائم على المفطر ولا المفطر على الصائم رواه مالك عن حميد الطويل عن أنس، وأخرجه مسلم عن أبي سعيد الخدري قال : غزونا مع رسول الله ﷺ لست عشرة مضت من رمضان فمنا من صام ومنا من أفطر ، فلم يعب الصائم على المفطر ولا المفطر على الصائم"
No comments:
Post a Comment