هل يكفي تحريك اللسان في قراءة القرآن ، أو الأذكار دون أيّ صوت
وهل يكفي أيضاً أن تفكّر في الدعاء وأن تسأل الله دون أن تنطق
أو تحرك الفم؟
وماذا بخصوص هذا الأمر مع الذكر- سبحان الله ،
الحمد لله ، الله أكبر....هل لنا فيه أجر؟
هل نؤجر أن نقول الذكر دون تحريك اللسان؟
ما ورد عن الفقهاء:
الأذكار والأدعية والأقوال المشروعة : لابد فيها من حركة اللسان ، وسماع الإنسان صوت نفسه، عند الجمهور.
وذهب بعض أهل العلم إلى أنه يجزئ أن يحرك لسانه ويخرج الحروف دون صوت، وهو مذهب المالكية، والحنفية في قولهم الآخر، واختيار شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله .
وقد علل الفقهاء ذلك بأنه : دون تحريك اللسان ، لا يحصل الكلام، وإنما يكون تفكرا وحديث نفس، كما دل على ذلك قول النبي ﷺ قال: " إِنَّ اللَّهَ تَجَاوَزَ لأُمَّتِي مَا حَدَّثَتْ بِهِ أَنفُسَهَا مَا لَمْ يَتَكَلَّمُوا أَوْ يَعمَلُوا بِهِ " ( رواه البخاري ومسلم) فميز بين حديث النفس والكلام.
والتفكر والتدبر أو الذكر القلبي : يثاب الإنسان عليه، لكن لا يقال لمن تفكر: إنه دعا، ولا نعلم ما يفيد أن الدعاء يكون بالقلب.
قال تعالى: ( ادْعُوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعًا وَخُفْيَةً إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ ) الأعراف/55
وقال: ( وَاذْكُرْ رَبَّكَ فِي نَفْسِكَ تَضَرُّعًا وَخِيفَةً وَدُونَ الْجَهْرِ مِنَ الْقَوْلِ بِالْغُدُوِّ وَالْآصَالِ وَلَا تَكُنْ مِنَ الْغَافِلِينَ) الأعراف (205).
وقال تعالى:(ولَا تَجْهَرْ بِصَلَاتِكَ وَلَا تُخَافِتْ بِهَا وَابْتَغِ بَيْنَ ذَلِكَ سَبِيلًا ) الإسراء /110.
قالت عائشة رضي الله عنها: "نَزَلَتْ هَذِهِ الآيَةُ فِي الدُّعَاءِ " (رواه البخاري ،ومسلم)
قال أبو العباس القرطبي رحمه الله: مقصود الآية التوسط في القراءة والدعاء، فلا يُفْرِط في الجهر، ولا يفرط في الإسرار، ولكن بين المُخافتة والجهر، وخير الأمور أوساطها
قال الزيلعي رحمه الله: " اختلفوا في حد الجهر والإخفاء ، فقال الهندواني: الجهر أن يُسمع غيره، والمخافتة أن يُسمع نفسه. وقال الكرخي: الجهر أن يُسمِع نفسه ، والمخافتة تصحيح الحروف؛ لأن القراءة فعلُ اللسان دون الصِّماخ. والأول أصح؛ لأن مجرد حركة اللسان لا تسمى قراءة بدون الصوت.
وعلى هذا الخلاف: كلُّ ما يتعلق بالنطق، كالتسمية على الذبيحة ، ووجوب السجدة بالتلاوة والعتاق والطلاق والاستثناء" انتهى من تبيين الحقائق
وقال ابن الهمام رحمه الله: " واعلم أن القراءة، وإن كانت فعل اللسان ، لكن فعله الذي هو كلام ، والكلام بالحروف ، والحرف كيفية تعرض للصوت ، وهو أخص من النفَس ، فإنه النفس المعروض بالقرع، فالحرف عارض للصوت، لا للنفس، فمجرد تصحيحها بلا صوت: إيماءٌ إلى الحروف بعضلات المخارج، لا حروف؛ فلا كلام" انتهى من فتح القدير
وقال النووي رحمه الله في "المجموع" : " وأدنى الإسرار: أن يُسمع نفسه، إذا كان صحيح السمع، ولا عارض عنده من لغط وغيره .
وهذا عام في القراءة ، والتكبير ، والتسبيح في الركوع وغيره , والتشهد ، والسلام ، والدعاء ؛ سواء واجبها ونفلها ؛ لا يحسب شيء منها حتى يُسمع نفسه ، إذا كان صحيح السمع ، ولا عارض .
فإن لم يكن كذلك : رفع ، بحيث يسمع ، لو كان كذلك، لا يجزيه غير ذلك، هكذا نص عليه الشافعي واتفق عليه الأصحاب " انتهى .
وقال في "الأذكار" : " اعلم أن الأذكار المشروعة في الصلاة وغيرها ، واجبة كانت أو مستحبة ، لا يحسب شيء منها ، ولا يعتد به : حتى يتلفظ به ، بحيث يُسمع نفسه إذا كان صحيح السمع ، لا عارض له " انتهى.
وقال المرداوي رحمه الله في "الإنصاف" : " قوله ( وبالقراءة بقدر ما يسمع نفسه ) : يعني أنه يجب على المصلي أن يجهر بالقراءة ، في صلاة السر ، وفي التكبير وما في معناه ، بقدر ما يسمع نفسه .
وهذا المذهب ، وعليه الأصحاب . وقطع به أكثرهم .
واختار الشيخ تقي الدين الاكتفاء بالإتيان بالحروف، وإن لم يَسْمعها ، وذكره وجها في المذهب. قلت : والنفس تميل إليه .
واعتبر بعض الأصحاب سماع مَن بِقُرْبه ، قال في الفروع : ويتوجه مثله في كل ما يتعلق بالنطق، كطلاق وغيره . قلت : وهو الصواب .
تنبيه : مراده بقوله " بقدر ما يسمع نفسه " : إن لم يكن ثم مانع ، كطرش ، أو أصوات يسمعها تمنعه من سماع نفسه. فإن كان ثم مانع أتى به ، بحيث يحصل السماع مع عدم المعارض" انتهى.
والحاصل : أن في المسألة قولين معتبرين : وجوب أن يُسمع الإنسان نفسه، أو الاكتفاء بالإتيان بالحروف، ولا يكون ذلك إلا بحركة اللسان والشفتين ، ولو قليلا.
ومن تأمل النصوص الواردة في الدعاء يجد فيها التصريح بالقول، وتارة بالنداء وهو رفع الصوت.
قال تعالى: ( هُنَالِكَ دَعَا زَكَرِيَّا رَبَّهُ قَالَ رَبِّ هَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ ذُرِّيَّةً طَيِّبَةً إِنَّكَ سَمِيعُ الدُّعَاءِ ) آل عمران/38.
وقال: ( قَالَ رَبِّ اغْفِرْ لِي وَلِأَخِي وَأَدْخِلْنَا فِي رَحْمَتِكَ وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ) الأعراف/151.
وقال: ( قَالَ رَبِّ اشْرَحْ لِي صَدْرِي ) طه/25 .
وقال: ( قَالَ رَبِّ انْصُرْنِي بِمَا كَذَّبُونِ ) المؤمنون/26 .
وقال: ( وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا لِلَّذِينَ آمَنُوا امْرَأَتَ فِرْعَوْنَ إِذْ قَالَتْ رَبِّ ابْنِ لِي عِنْدَكَ بَيْتًا فِي الْجَنَّةِ وَنَجِّنِي مِنْ فِرْعَوْنَ وَعَمَلِهِ وَنَجِّنِي مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ)التحريم/11 .
وقال: (وَنُوحًا إِذْ نَادَى مِنْ قَبْلُ فَاسْتَجَبْنَا لَهُ فَنَجَّيْنَاهُ وَأَهْلَهُ مِنَ الْكَرْب الْعَظِيمِ)
الأنبياء/76 .
وقال: ( وَأَيُّوبَ إِذْ نَادَى رَبَّهُ أَنِّي مَسَّنِيَ الضُّرُّ وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ) الأنبياء/83 .
وقال: (وَزَكَرِيَّا إِذْ نَادَى رَبَّهُ رَبِّ لَا تَذَرْنِي فَرْدًا وَأَنْتَ خَيْرُ الْوَارِثِينَ ) الأنبياء/89 .
ولم نقف على شيء في الدعاء بالقلب دون اللسان.
وقال الشيخ ابن باز رحمه الله: " كونه ينوي بقلبه، ويذكر بقلبه، ولا يتكلم بلسانه، ما يسمى قارئاً، ولا يسمى داعيا، ولا يسمى ذاكرا، فهذا ذكر بالقلب، يسمى ذكر القلب، لكن المأمور في الصلاة أن تقرأ كما أمرك الرسول ﷺ تقرأ، وكذلك المأمور في الدعاء أن تدعو، ولا تسمى داعياً، ولا قارئاً إلا إذا تلفظت...
الذكر أنواع ثلاثة، ذكر القلب، وذكر اللسان، وذكر العمل. فإذا ذكر بقلبه من الله خوف، وتعظيم، وتتذكر، عظمته، وخوفه، ورجاءه، والشوق إليه سبحانه وتعالى، ومحبته : هذا ذكر في القلب،
وذكر اللسان سبحان الله، والحمد لله ولا إله إلا الله والله أكبر والحوقلة، وذكر العمل كونه يصلي، ويصوم، ويتصدق يرجو ثواب الله، هذا ذكر بالعمل مع القلب"
وسئل رحمه لله ما نصه: "قال بعض أهل العلم: إن الدعاء إذا لم يتلفظ به الإنسان لا يستجاب.
فأجاب: ما يسمى دعاء. ما يسمى دعاء إلا إذا تلفظ. لابد أن يحرك لسانه" انتهى
الحاصل: أن الدعاء لابد فيه من نطق وإلا فإنه لا يكون دعاء. والله أعلم
مَن هَمَّ بحَسَنَةٍ فَلَمْ يَعْمَلْها، كُتِبَتْ له حَسَنَةً، ومَن هَمَّ بحَسَنَةٍ فَعَمِلَها، كُتِبَتْ له عَشْرًا إلى سَبْعِ مِئَةِ ضِعْفٍ، ومَن هَمَّ بسَيِّئَةٍ فَلَمْ يَعْمَلْها، لَمْ تُكْتَبْ،وإنْ عَمِلَها كُتِبَتْ- سيئة واحدة- (مسلم)
وفي رواية أخرى عن عبد الله بن العباس قال: قال رسول الله ﷺ: " إنَّ اللَّهَ كَتَبَ الحَسَناتِ والسَّيِّئاتِ ثُمَّ بَيَّنَ ذلكَ، فمَن هَمَّ بحَسَنَةٍ فَلَمْ يَعْمَلْها، كَتَبَها اللَّهُ له عِنْدَهُ حَسَنَةً كامِلَةً، فإنْ هو هَمَّ بها فَعَمِلَها، كَتَبَها اللَّهُ له عِنْدَهُ عَشْرَ حَسَناتٍ، إلى سَبْعِ مِائَةِ ضِعْفٍ، إلى أضْعافٍ كَثِيرَةٍ، ومَن هَمَّ بسَيِّئَةٍ فَلَمْ يَعْمَلْها، كَتَبَها اللَّهُ له عِنْدَهُ حَسَنَةً كامِلَةً، فإنْ هو هَمَّ بها فَعَمِلَها، كَتَبَها اللَّهُ له سَيِّئَةً واحِدَةً." (البخاري)
في هذا الحديثِ بَيانٌ لِكَرَمِ اللهِ عَزَّ وجَلَّ مع العِبادِ في كِتابةِ الحَسَناتِ والسَّيِّئاتِ؛ فيَروي النَّبيُّ ﷺ في هذا الحديثِ القُدسيِّ الذي يَرْويه عن ربِّه عزَّ وجلَّ: أنَّ اللهَ أمَرَ المَلائِكةَ الحفَظةَ بكِتابةِ الحَسَناتِ والسَّيِّئاتِ للعبْدِ؛ ليُجازيَه بِهما في الدَّارِ الآخرةِ، أو أنَّ اللهَ عَزَّ وجَلَّ قَدَّرَ الحَسَناتِ والسَّيِّئاتِ قَديمًا وَفْقَ عِلْمِه سُبحانَه، ثمَّ بيَّن للمَلَكينِ كيْف يَكتُبانِها، «فمَن هَمَّ بحَسَنةٍ» والهَمُّ هو النيَّةُ وعَقدُ العَزمِ، والمعنى: فمَن نَوَى حَسَنةً وأراد أنْ يَفعَلَها، ولكنَّه لم يَفعَلْها لمانعٍ، أو لغيرِ مانعٍ، كَتَبها اللهُ عِنده حَسَنةً كاملةً غيْرَ مَنقوصةٍ، واطِّلاعُ المَلَكِ على النيَّةِ التي هي مِن فِعلِ القَلبِ يَكونُ بإطْلاعِ اللهِ تَعالى إيَّاه، فإذا همَّ العَبدُ بالحَسَنةِ فعَمِلها، كَتَبها اللهُ عزَّ وجلَّ وضاعفَها مِن عَشْرِ حَسَناتٍ، إلى سَبعِ مِائةِ ضِعفٍ، إلى أضعافٍ كَثيرةٍ، كما قال تعالى: {مَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنْبَتَتْ سَبْعَ سَنَابِلَ فِي كُلِّ سُنْبُلَةٍ مِائَةُ حَبَّةٍ وَاللَّهُ يُضَاعِفُ لِمَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ} [البقرة ٢٦١]؛ وذلك بحسَبِ الإخلاصِ وصِدقِ العَزمِ، وحُضورِ القَلبِ، وتَعدِّي النَّفعِ. ومِن نَوى عَمَلَ سيِّئةٍ فلمْ يَعمَلْها -خوْفًا مِن اللهِ وحَياءً منه- كَتَبها اللهُ عِنده حَسنةً كاملةً؛ لا يَنقُصُ مِن ثَوابِها شَيءٌ، فإنْ همَّ بها فعَمِلها، كَتَبها اللهُ عليه سيِّئةً واحدةً دونَ زِيادةٍ أو مُضاعَفةٍ كما في الحَسَناتِ.
وفي الحَديثِ: بَيانُ سَعةِ فضْلِ اللهِ على هذه الأمَّةِ؛ إذ لوْلا ذلك كاد لا يَدخُلُ أحدٌ الجنَّةَ؛ لأنَّ عَمَلَ العبادِ للسَّيِّئاتِ أكثرُ مِن عَملِهم للحَسَناتِ. فلله الحمد والمنة
No comments:
Post a Comment