Monday 25 May 2015

تفسير سورة النجم – وربط الآيات ، وبيان المتشابهات ج 2



 


تفسير سورة النجم  ج 2 

يقول تعالى مقرعاً للمشركين في عبادتهم الأصنام والأوثان، واتخاذهم لها البيوت مضاهاة للكعبة التي بناها خليل الرحمن، { أفرأيتم اللات والعزى . ومناة الثالثة الأخرى} لما ذكر الوحي إلى النبي ، وذكر من آثار قدرته ما ذكر، حاج المشركين إذ عبدوا ما لا يعقل وقال : أفرأيتم هذه الآلهة التي تعبدونها؟ هل أوحين إليكم شيئا كما أوحي إلى محمد ؟
ما هي اللات والعزى ومناة؟
أما اللات فقد كانت صخرة بيضاء منقوشة، عليها بيت بالطائف، له أستار وسدنة، يفتخرون بها على من عداهم من أحياء العرب بعد قريش، قال ابن جرير: وكانوا قد اشتقوا اسمها من اسم الله  فقالوا: اللات يعنون مؤنثة منه، تعالى الله عن قولهم علواً كبيراً.
والعزى من العزيز، كذا قال ابن جرير،  وكانت شجرة عليها بناء وأستار بنخلة وهي بين مكة والطائف كانت قريش يعظمونها كما قال أبو سفيان يوم أُحُد: لنا العزى ولا عزى لكم، فقال رسول الله : (قولوا اللّه مولانا ولا مولى لكم). كانت العزى شيطانة تأتي ثلاث سمرات ببطن نخلة، فلما افتتح رسول الله مكة، بعث خالد بن الوليد رضي الله عنه فقال : (ايت بطن نخلة فإنك تجد ثلاث سمرات فاعضد الأولى) أي أقلعها ، فأتاها فعضدها فلما جاء إليه قال : (هل رأيت شيئا) قال : لا. قال : (فاعضد الثانية) فأتاها فعضدها، ثم أتى النبي فقال : (هل رأيت شيئا) قال : لا. قال : (فاعضد الثالثة)  فأتاها فإذا هو بحبشية نافشة شعرها، واضعة يديها على عاتقها تصرف بأنيابها، وخلفها دبية السلمى وكان سادنها فقال :
 يا عز كفرانك لا سبحانك ** إني رأيت الله قد أهانك
ثم ضربها ففلق رأسها فإذا هي حممة، ثم عضد الشجرة وقتل دبية السادن، ثم أتى النبي فأخبره فقال : ( تلك العزى ولن تعبد أبدا)
  وروى البخاري، عن أبي هريرة قال، قال رسول الله : (من حلف فقال في حلفه واللات والعزى فليقل لا إله إلا الله، ومن قال لصاحبه: تعال أُقامرك فليتصدق)  فهذا محمول على من سبق لسانه في ذلك كما كانت ألسنتهم قد اعتادته من زمن الجاهلية .
 وأما مناة فكانت بالمشلل بين مكة والمدينة، وكانت خزاعة والأوس والخزرج في جاهليتها يعظمونها ويهلون منها للحج إلى الكعبة، وقيل مناة من منى الله الشيء إذا قدره، وقيل سمي بذلك؛ لأنهم كانوا يريقون عنده الدماء يتقربون بذلك إليه. ومثله سميت مِنى لكثرة ما يراق فيها من الدماء. وبعث رسول الله عليا رضي الله عنه فهدمها عام الفتح.
وإنما أفرد هذه الآلهة بالذكر لأنها أشهر من غيرها، قال ابن اسحاق: كانت العرب اتخذت مع الكعبة طواغيت، وهي بيوت تعظمها، كتعظيم الكعبة، لها سدنة وحجاب تطوف بها كطوافها بالكعبة،  وتنحر عندها، فكانت لقريش ولبني كنانة العزى بنخلة.
ثم قال تعالى: { ألكم الذكر وله الأنثى} ؟  ردًّا عليهم قولهم : الملائكة بنات الله، والأصنام بنات الله،أي أتجعلون له ولداً وتجعلون ولده أنثى، وتختارون لأنفسكم الذكر، فلو اقتسمتم أنتم ومخلوق مثلكم هذه القسمة لكانت { قسمة ضيزى} أي جائرة عن العدل، خارجة عن الصواب، مائلة عن الحق. فكيف تقاسمون ربكم هذه القسمة، التي لو كانت بين مخلوقين كانت جوراً وسفهاً
 في اللغة:
ضاز في الحكم أي جار،  عن الأخفش : ضاز حقه يضيزه ضيزا أي نقصه وبخسه، قال : وقد يهمز فيقال ضأزه يضأزه ضأزا .
ثم قال تعالى منكراً عليهم فيما ابتدعوه وأحدثوه من عبادة الأصنام وتسميتها آلهة { إن هي إلا أسماء سميتموها أنتم وآباؤكم}  أي من تلقاء أنفسكم { ما أنزل الله بها من سلطان}  أي من حجة { إن يتبعون إلا الظن وما تهوى الأنفس}  أي ليس له مستند إلا حسن ظنهم بآبائهم، الذين سلكوا هذا المسلك الباطل قبلهم، إلا حظ نفوسهم وتعظيم آبائهم الأقدمين، { ولقد جاءهم من ربهم الهدى} أي ولقد أرسل الله إليهم الرسل، بالحق المنير والحجة القاطعة، ومع هذا ما اتبعوا ما جاءهم به ولا انقادوا له، ثم قال تعالى: { أم للإنسان ما تمنى} أي ليس كل من تمنى خيراً حصل له،أو قيل : تمنى أن يكون له البنين دون البنات، ولكن كما قال تعالى: { ليس بأمانيكم ولا أماني أهل الكتاب}  ولا كل من ود شيئاً يحصل له، وقد روي عنه : (إذا تمنى أحدكم فلينظر ما يتمنى فإنه لا يدري ما يكتب له من أمنيته) "تفرد به الإمام أحمد، وإسناده صحيح". وقوله: { فلله الآخرة والأولى}  أي إنما الأمر كله لله، مالك الدنيا والآخرة والمتصرف فيهما، وقوله تعالى: { وكم من ملك في السماوات لا تغني شفاعتهم شيئاً إلا من بعد أن يأذن اللهُ لمن يشاء ويرضى} ، كقوله: { من ذا الذي يشفع عنده إلا بإذنه} ، { ولا تنفع الشفاعة عنده إلا لمن أذن له} هذا توبيخ من الله تعالى لمن عبد الملائكة والأصنام ، وتمنى نفعها له وشفاعتها، أن الملائكة مع كثرة عبادتها وكرامتهم على الله، لا تشفع إلا لمن أذن له أن يشفع، ولمن أذن أن يُشفع له ، له فإذا كان هذا في حق الملائكة المقربين، فكيف ترجون - أيها الجاهلون - شفاعة هذه الأصنام والأنداد عندالله؟
وقيل : إنما ذكر ملكا واحدا، لأن كم تدل على الجمع فتغني.
قوله تعالى منكراً على المشركين، في تسميتهم الملائكة تسمية الأنثى، وجعلهم لها أنها بنات اللهِ، تعالى اللهُ عن ذلك، كما قال اللهُ تعالى: { وجعلوا الملائكة الذين هم عباد الرحمن إناثاً أشهدوا خلقهم؟ ستكتب شهادتهم ويسألون}  ولهذا قال تعالى: { وما لهم به من علم}  أي ليس لهم علم صحيح يصدق ما قالوه، بل هو كذب وزور وافتراء وكفر شنيع، {  إن يتبعون إلا الظن لا يغني من الحق شيئاً} أي لا يجدي شيئاً ولا يقوم أبداً مقام الحق، وقد ثبت في الصحيح أن رسول اللهِ قال: (إياكم والظن فإن الظن أكذب الحديث) وقوله تعالى: { فأعرض عمن تولى عن ذكرنا} أي أعرض عن الذي أعرض عن الحق واهجره، وقوله: { ولم يرد إلا الحياة الدنيا} أي وإنما أكثر همه ومبلغ علمه الدنيا، وهو علم لا خير فيه، ولهذا قال تعالى: { ذلك مبلغهم من العلم} أي طلب الدنيا والسعي لها هو غاية ما وصلوا إليه، وقد روي عن أم المؤمنين عائشة رضي اللهُ عنها قالت: قال رسول اللّه : (الدنيا دار من لا دار له، ومال من لا مال له، ولها يجمع من لا عقل له) "رواه الشيخان " وفي الدعاء المأثور: (اللهم لا تجعل الدنيا أكبر همنا، ولا مبلغ علمنا) ( الترمذي؛ حسن غريب ) وقوله تعالى: { إن ربك هو أعلم بمن ضل عن سبيله وهو أعلم بمن اهتدى} أي هو الخالق لجميع المخلوقات، والعالم بمصالح عباده، وهو الذي يهدي من يشاء ويضل من يشاء، وذلك كله عن قدرته وعلمه وحكمته.
وقوله تعالى: { وَلِلَّـهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْ‌ضِ لِيَجْزِيَ الَّذِينَ أَسَاءُوا بِمَا عَمِلُوا وَيَجْزِيَ الَّذِينَ أَحْسَنُوا بِالْحُسْنَى} خبر تعالى أنه مالك السماوات والأرض، وأنه الغني عما سواه، الحاكم في خلقه بالعدل، وخلق الخلق بالحق ، ثم يجازى كلاً بعمله، إن خيراً فخير وإن شراً فشر، ثم فسر المحسنين فقال : { الذين يجتنبون كبائر الإثم والفواحش إلا اللمم} : أي هم لا يرتكبون كبائر الإثم وهو الشرك؛ لأنه أكبر الآثام. وقوله والفواحش:أي الزنى ، قالها ابن عباس، وقال مقاتل { كبائر الإثم}: كل ذنب ختم بالنار. { والفواحش}  كل ذنب فيه الحد.
وقوله { إلا اللمم} وهي الصغائر التي لا يسلم من الوقوع فيها إلا من عصمه الله وحفظه، وإن وقع منهم بعض الصغائر فإنه يغفر لهم ويستر عليهم كما ، وهذا استثناء منقطع لأن اللمم من صغائر الذنوب ومحقرات الأعمال .وقد اختلف في المقصود منها.
ما المقصود بـ ( اللمم )؟
عن ابن عباس قال: ما رأيت شيئاً أشبه باللمم مما قال أبو هريرة عن النبي قال: (إن اللّه تعالى كتب على ابن آدم حظه من الزنا أدرك ذلك لا محالة، فزنا العين النظر، وزنا اللسان النطق، والنَّفْس تمنّى وتشتهي، والفرج يصدق ذلك أو يكذبه) "رواه الشيخان"
 قال عبد الرحمن ابن نافع: سألت أبا هريرة عن قول الله  إلا { اللمم} ، قال: القُبْلة، والغمزة، والنظرة، والمباشرة، فإذا مس الختان الختان، فقد وجب الغسل وهو الزنا.
 وقال ابن عباس: إلا اللمم، إلا ما سلف،
وروى ابن جرير، عن مجاهد أنه قال: الذي يلم بالذنب ثم يدعه، وعن الحسن قال: اللمم من الزنا، أو السرقة، أو شرب الخمر ثم لا يعود، وروى ابن جرير، عن عطاء، عن ابن عباس: يلم بها في الحين، قلت: الزنا؟ قال: الزنا ثم يتوب، وعنه قال: اللمم الذي يلم المرة، وقال السدي: قال أبو صالح: سئلت عن اللمم، فقلت: هو الرجل يصيب الذنب ثم يتوب، وأخبرت بذلك ابن عباس فقال: لقد أعانك عليها ملك كريم
وهذا القول قريب من القول الثاني: ما سلف ، فإن من تاب عن الفعل ، صار فعله( ما سلف ).
وقوله تعالى:{ إن ربك واسع المغفرة} أي رحمته وسعت كل شيء، ومغفرته تسع الذنوب كلها لمن تاب منها، كقوله تعالى: { قل يا عبادي الذين أسرفوا على أنفسهم لا تقنطوا من رحمة اللّه إن اللّه يغفر الذنوب جميعاً إنه هو الغفور الرحيم} . وقوله تعالى: { هو أعلم بكم إذ أنشأكم من الأرض} أي هو بصير بكم، عليم بأحوالكم وأفعالكم، حين أنشأ أباكم آدم من الأرض، ثم أخرجكم من ظهره في عالم الذر ، وقوله: { وإذ أنتم أجنة في بطون أمهاتكم}  قد كتب الملك الذي يوكل به رزقه وأجله وعمله وشقي أم سعيد، وقوله تعالى: { فلا تزكوا أنفسكم}  أي تمدحوها وتشكروها وتمنوا بأعمالكم أي لا تمدحوها ولا تثنوا عليها، فإنه أبعد من الرياء وأقرب إلى الخشوع، { هو أعلم بمن اتقى}:أ ي أخلص العمل واتقى عقوبة الله، كما قال تعالى: { ألم تر إلى الذين يزكون أنفسهم}الآية.
في التنفير من تزكية النفس:
 روى مسلم في صحيحه، عن محمد بن عمرو بن عطاء قال: سميت ابنتي برة، فقالت لي زينب بنت أبي سلمة: إن رسول اللهِ نهى عن هذا الاسم، وسميتُ برة، فقال رسول اللهِ : (لا تزكوا أنفسكم إن اللهَ أعلم بأهل البر منكم) فقالوا: بم نسميها؟ قال: (سموها زينب) "أخرجه مسلم " وقد ثبت أيضاً، عن أبي بكرة قال: مدح رجل رجلاً عند النبي فقال رسول اللهِ : ( ويلك قطعت عنق صاحبك - مراراً - إذا كان أحدكم مادحاً صاحبه لا محالة فليقل أحسب فلاناً واللّه حسيبه، ولا أزكي على اللّه أحداً، أحسبه كذا وكذا إن كان يعلم ذلك) "" والبخاري ومسلم "  وروى الإمام أحمد، عن همام بن الحارث قال: جاء رجل إلى عثمان فأثنى عليه في وجهه، قال: فجعل المقداد بن الأسود يحثو في وجهه التراب، ويقول: أمرنا رسول اللهِ إذا لقينا المداحين أن نحثو في وجوههم التراب ""أخرجه مسلم "


No comments:

Post a Comment