Monday 6 November 2017

تفسير وربط للآيات، ويبان المتشابهات – سورة التغابن ج 3 – إنما أموالكم وأولادكم فتنة

 

 

 



 سورة التغابن ج 3 – إنما أموالكم وأولادكم فتنة

في الآيتين التاليتين يخبر ربنا عن الأولاد والأزواج أن بعضهم قد يكون عدواً، ولكن جميع الأبناء فتنة....ّ تعالوا إلى النعيم مع كلام ربنا جل وعلا
قوله تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ وَأَوْلادِكُمْ عَدُوًّا لَكُمْ فَاحْذَرُوهُمْ وَإِنْ تَعْفُوا وَتَصْفَحُوا وَتَغْفِرُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ)
يقول تعالى مخبرًا عن الأزواج والأولاد:إن منهم من هو عدو الزوج والوالد، بمعنى:أنه يلتهى به عن العمل الصالح، كقوله: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُلْهِكُمْ أَمْوَالُكُمْ وَلا أَوْلادُكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ [ المنافقون:9 ] ؛ ولهذا قال هاهنا: ( فَاحْذَرُوهُمْ ) قال ابن زيد:يعني على دينكم.
وقال مجاهد: ( إِنَّ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ وَأَوْلادِكُمْ عَدُوًّا لَكُمْ ) قال:يحملُ الرجل على قطيعة الرحم أو معصية ربه، فلا يستطيع الرجل مع حبه إلا أن يطيعه، قال عطاء بن يسا: نزلت في عوف بن مالك الأشجعي كان ذا أهل وولد، وكان إذا أراد الغزو بكوا إليه ورققوه فقالوا: إلى من تدعنا؟ فيرق فيقيم؛  فنزلت الآية كلها بالمدينة في عوف بن مالك الأشجعي، وقال وبقية الآيات إلى آخر السورة بالمدينة.
والوجه العداوة التي قصدت بهذه الآية؛  ذلك أن العدو لم يكن عدواً لذاته وإنما كان عدوا بفعله. فإذا فعل الزوج والولد فعل العدو كان عدوا، ولا فعل أقبح من الحيلولة بين العبد وبين الطاعة. وفي صحيح البخاري من حديث أبي هريرة عن النبي قال: ( إن الشيطان قعد لابن آدم في طريق الإيمان فقال له أتؤمن وتذر دينك ودين آبائك فخالفه فآمن ثم قعد له على طريق الهجرة فقال له أتهاجر وتترك مالك وأهلك فخالفه فهاجر ثم قعد له على طريق الجهاد فقال له أتجاهد فتقتل نفسك فتنكح نساؤك ويقسم مالك فخالفه فجاهد فقتل، فحق على الله أن يدخله الجنة )،  وقعود الشيطان يكون بوجهين: أحدهما: يكون بالوسوسة. والثاني: بأن يحمل على ما يريد من ذلك الزوج والولد والصاحب؛ قال الله تعالى: ( وَقَيَّضْنَا لَهُمْ قُرَنَاءَ فَزَيَّنُوا لَهُم مَّا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَحَقَّ عَلَيْهِمُ الْقَوْلُ فِي أُمَمٍ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهِم مِّنَ الْجِنِّ وَالْإِنسِ ۖ إِنَّهُمْ كَانُوا خَاسِرِينَ ) [ فصلت 25 ] . وفي حكمة عيسى عليه السلام: من اتخذ أهلا ومالا وولدا كان للدنيا عبدا.( هذه حكمة عيسى عليه السلام وليست شرعاً،وشرعنا قول النبي  " أما والله إني لأخشاكم لله وأتقاكم له لكني أصوم وأفطر وأصلي وأرقد وأتزوج النساء فمن رغب عن سنتي فليس مني" رواه البخاري)  وفي صحيح الحديث بيان أدنى من ذلك في حال العبد؛ قال النبي : " تعس عبد الدينار تعس عبد الدرهم تعس عبد الخميصة تعس عبد القطيفة تعس وانتكس وإذا شيك فلا انتقش " . ولا دناءة أعظم من عبادة الدينار والدرهم، ولا همة أخس من همة ترتفع بثوب جديد.
وقال العلماء : كما أن الرجل يكون له ولده وزوجه عدوا كذلك المرأة يكون لها زوجها وولدها عدوا بهذا المعنى بعينه. وعموم قوله: (مِنْ أَزْوَاجِكُمْ ) يدخل فيه الذكر والأنثى لدخولهما في كل آية. والله اعلم.
قوله تعالى: ( فَاحْذَرُوهُمْ ) معناه على أنفسكم. والحذر على النفس يكون بوجهين: إما لضرر في البدن، وإما لضرر في الدين. وضرر البدن يتعلق بالدنيا، وضرر الدين يتعلق بالآخرة. فحذر الله سبحانه العبد من ذلك وأنذره به.
وقال ابن أبي حاتم، عن عِكْرمة، عن ابن عباس - وسأله رجل عن هذه الآية: ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ وَأَوْلادِكُمْ عَدُوًّا لَكُمْ فَاحْذَرُوهُمْ ) - قال:فهؤلاء رجال أسلموا من مكة، فأرادوا أن يأتوا رسول الله ، فأبى أزواجهم وأولادهم أن يَدَعوهم، فلما أتوا رسول الله رأوا الناسَ قد فقهوا في الدين، فَهَمُّوا أن يعاقبوهم، فأنـزل الله هذه الآية:( وَإِنْ تَعْفُوا وَتَصْفَحُوا وَتَغْفِرُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ )

ما الفرق بين العفو والصفح والمغفرة؟

قيل : العفو : عدم المقابلة بالمثل .
والصفح : الإعراض عن اللوم والتوبيخ .
والمغفرة : ستر الذنوب .

وقيل أيضاً:
العفو: ترك العقاب.
والصفح: ترك العتاب.
والغفران: الستر على الأحباب.

وقوله: ( إِنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلادُكُمْ فِتْنَةٌ وَاللَّهُ عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ ) يقول تعالى:إنما الأموال والأولاد فتنة، أي:اختبار وابتلاء من الله لخلقه. ليعلم من يطيعه ممن يعصيه.
وقوله: ( وَاللَّهُ عِنْدَهُ ) أي:يوم القيامة ( أَجْرٌ عَظِيمٌ ) كما قال: زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ مِنَ النِّسَاءِ وَالْبَنِينَ وَالْقَنَاطِيرِ الْمُقَنْطَرَةِ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَالْخَيْلِ الْمُسَوَّمَةِ وَالأَنْعَامِ وَالْحَرْثِ * ذَلِكَ مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَاللَّهُ عِنْدَهُ حُسْنُ الْمَآبِ] [ آل عمران:14]

فائدة:

لما قال تعالى عن الأزواج والأولاد أنهم عدو ، لم يجمل الجميع وإنما قال تعالى: ( إِنَّ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ وَأَوْلادِكُمْ عَدُوًّا لَكُمْ )، أي ليس كلهم، إنما بعض منهم، ولكنه سبحانه لما قال عنهم أنهم فتنة أجملهم جميعا، بل وحصر الفتنة في شيئين  فقال: ( إِنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلادُكُمْ فِتْنَةٌ وَاللَّهُ عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ )، فالأولاد والأموال جميعا بدون استثناء فتنة، وليس كلهم عدو.

حبه لأولاده

وقال الإمام أحمد:حدثنا زيد بن الحباب، حدثني حُسَين بن واقد، حدثني عبد الله بن بُرَيدة، سمعت أبي بريدة يقول: كان رسولُ اللهِ يَخطبُنا إذ جاء الحسنُ والحُسَينُ عليهما قميصانِ أحْمرانِ يمشيان ويعثُرانِ فنزل رسولُ اللهِ من المنبرِ فحملَهما ووضعهما بين يدَيه ثم قال:"  صدق اللهُ إنما أموالُكم وأولادُكم فتنةٌ نظرتُ إلى هذينِ الصَّبِيَّينِ يمشيانِ ويَعثُرانِ فلم أصبِرْ حتى قطعتُ حديثي ورفعتُهما. " ( وقال الترمذي: حسن غريب، إنما نعرفه من حديثه )
وروى الإمام أحمد:بسنده: قال حدثنا الأشعث بن قيس قال:قدمت على رسول الله في وفد كندة، فقال لي: « هل لك من ولد؟ » قلت:غلام ولد لي في مَخرجَي إليك من ابنة جمد، وَلَوَددْتُ أن بمكانه: شبَعَ القوم. قال: « لا تقولن ذلك، فإن فيهم قرة عين، وأجرًا إذا قبضوا » ، ثم قال: « ولئن قلت ذاك:إنهم لمجبنة مَحْزنة » تفرد به أحمد رحمه الله تعالى.
وعند الحافظ أبو بكر البزار: عن أبي سعيد قال:قال رسول الله : « الولد ثمرة القلوب، وإنهم مَجبنة مَبخلة محزنة » ثم قال:لا يعرف إلا بهذا الإسناد
وروى الطبراني عن أبي مالك الأشعري؛ أن رسول الله قال: « ليس عدوُّك الَّذي إن قتلتَه كان لك نورًا، وإن قتلك دخلتَ الجنَّةَ ، ولكن أعدَى عدوٍّ لك ولدُك الَّذي خرج من صُلبِك ، ثمَّ أعدَى عدوٍّ لك مالُك الَّذي ملَكتْ يمينُك " ( ضعيف الترغيب والترهيب)
وقوله تعالى: ( فَاتَّقُوا اللهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ ) أي:جهدكم وطاقتكم. كما ثبت في الصحيحين عن أبي هريرة، رضي الله عنه، قال:قال رسول الله : « إذا نَهيتُكم عن شيءٍ فاجتنبوهُ وإذا أمرتُكم بأمرٍ فأتوا منْهُ ما استطعتُم " ( رواه الشوكاني – صحيح )
وقد قال بعض المفسرين - كما رواه مالك، عن زيد بن أسلم- إن هذه الآية العظيمة ناسخة للتي في « آل عمران » وهي قوله) اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ (  [ آل عمران:102 ]
قال ابن أبي حاتم: عن عطاء - هو ابن دينار- عن سعيد بن جبير في قوله:) اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ ( قال:لما نـزلت الآية اشتد على القوم العمل، فقاموا حتى ورمت عراقيبهم وتقرحت جباههم، فأنـزل الله تخفيفًا على المسلمين: ( فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ ) فنسخت الآية الأولى.
وقوله: ( وَاسْمَعُوا وَأَطِيعُوا ) أي:كونوا منقادين لما يأمركم الله به ورسوله، ولا تحيدوا عنه يمنة ولا يسرة، ولا تقدموا بين يدي الله ورسوله، ولا تتخلفوا عما به أمرتم، ولا تركبوا ما عنه زُجرتم.

وقوله تعالى: ( وَأَنْفِقُوا خَيْرًا لأنْفُسِكُمْ ) أي:وابذلوا مما رزقكم الله على الأقارب والفقراء والمساكين وذوي الحَاجات، وأحسنوا إلى خلق الله كما أحسن إليكم، يكن خيرًا لكم في الدنيا والآخرة، وإن لا تفعلوا يكن شرًّا لكم في الدنيا والآخرة.
وقوله: ( وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ ) تقدم تفسيره في سورة « الحشر » وذكر الأحاديث الواردة في معنى هذه الآية، بما أغنى عن إعادته ها هنا، ولله الحمد والمنة.

وقوله: ( إِنْ تُقْرِضُوا اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا يُضَاعِفْهُ لَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ) أي:مهما أنفقتم من شيء فهو يخلفه، ومهما تصدقتم من شيء فعليه جزاؤه، ونـزل ذلك منـزلة القرض له، كما ثبت في الصحيح : « إنَّ اللَّهَ عزَّ وجلَّ ينزلُ إلى سماءِ الدُّنيا ولَهُ في كلِّ سماءٍ كرسيٌّ فإذا نزلَ إلى سماءِ الدُّنيا جلسَ على كرسيِّهِ ثمَّ يقولُ من ذا الَّذي يقرِضُ غيرَ عديمٍ ولا ظلومٍ » ( صحيح مسلم )، ولهذا قال: ( يُضَاعِفْهُ لَكُمْ ) كما تقدم في سورة البقرة: ( فَيُضَاعِفَهُ لَهُ أَضْعَافًا كَثِيرَةً ) [ البقرة:245 ]
( وَيَغْفِرْ لَكُمْ ) أي:ويكفر عنكم السيئات. ولهذا قال: ( وَاللَّهُ شَكُورٌ ) أي:يجزي على القليل بالكثير، الشكور من أسماء الله الحسنى على وزن فعول بصيغة المبالغة، ومعناه :أن الشكور هو الذي يزكو عنده القليل من أعمال العباد فيضاعف لهم الجزاء، فالشكور الذي يكثر ويضاعف، ( حليم ) أي: [ يعفو] ويصفح ويغفر ويستر، ويتجاوز عن الذنوب والزلات والخطايا والسيئات.
( عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ ) تقدم تفسيره غير مرة.

تم تفسير سورة التعابن فلله الحمد والمِنَّة

اللهم حبِّبْ إلينا الإيمانَ وزَيِّنْه في قلوبِنا ، وكَرِّه إلينا الكفرَ والفسوقَ والعصيانَ واجعلْنا من الراشدين اللهم توفَّنا مسلمِين، و أحْيِنا مسلمِين وألحِقْنا بالصالحين، غيرَ خزايا، ولا مفتونين



No comments:

Post a Comment