Thursday 3 December 2020

تفسير وربط للآيات ، وبيان المتشابهات - سورة النازعات- ج 1 – من النزع فإذا هم بالساهرة1

  


 سورة النازعات- ج 1 – من النزع فإذا هم بالساهرة

 

اسم السورة

سميت بالنازعات نسبة لأول آية بها، كما تُسَمَّى النَّازِعَاتُ تُسَمَّى أَيْضَاً السَّاهِرَةُ ، وَالطَّامَّةُ لورود هذان الاسمان في السورة دون غيرها من السور.

التعريف بالسورة :

السورة مكية  نزلت بمكة قبل الهجرة، وهي من المفصل، في الجزء الثلاثين، وعدد آياتها 46 آية، وترتيبها في المصحف التاسعة والسبعون، نزلت بعد سورة النبأ، وبدأت بالقسم(أقسم  سبحانه وتعالى بالملائكة)، وفيها خمسة أقسام.

محور مواضيع السورة :

تبدأ سورة النازعات في مطلعٍ مخيفٍ، يرهِبُ به الله تعالى الكافرين ويصوِّرُ الأهوال التي ستحدثُ يوم القيامة، ويصف شدَّة تلك الأهوال التي سيعاني منها المجرمون والكافرون، وتعرضُ إحدى الجوانب من قصة موسى عليه السلام وفرعون، وبينت كيفَ جعلَ الله منهم عظةً وعبرةً لكلِّ العالمين.

وسورة النازعات تصور هذا الكون الهائل بما فيه من مخلوقات أبدع الله تعالى صُنعها، وجعلها دلائل على قدرته، وعلامات على عظيمِ خلقه، وإثبات لقدرته على أعادة الخلق بعد الموت.

ثمَّ تتناول الآيات تحقيق وقوع  يوم القيامة العظيم ، وأن الناس في هذا اليوم فريقان : سعداء وأشقياء، وأن الله تعالى اخفى موعد وقوع هذا اليوم حتى عن أعظم الخلق وأحبهم إليه محمد ﷺ

١ ـ إثبات البعث.

٢ ـ مقالة المشركين في إنكاره ، والردّ عليهم.

٣ـ قصة موسى عليه السلام مع فرعون ، وفيها عاقبة الطغاة.

٤ ـ آيات الله في الآفاق.

٥ ـ أهوال يوم القيامة.

٦ ـ الناس في هذا اليوم فريقان : سعداء وأشقياء.

٧ ـ تساؤل المشركين عن الساعة وميقاتها. ونهي الرسولِ ﷺ عن البحث عنها

٨ ـ ذهول المشركين من شدّة الهول، والاستهانة بالدنيا حينما يرون الآخرة.

يَدُورُ مِحْوَرُ السُّورَةِ حَوْلَ القِيَامَةِ وَأَحْوَالِهَا ، وَالسَّاعَةِ وَأَهْوَالِهَا ، وَعَنْ مَئَالِ المُتَّقِين ؛ ومَئَال المُجْرِمِينَ.

 

تبدأ سورة النازعات في مطلعٍ مخيفٍ، يرهِبُ به الله تعالى الكافرين ويصوِّرُ الأهوال التي ستحدثُ يوم القيامة، ويصف شدَّة تلك الأهوال التي سيعاني منها المجرمون والكافرون، قال تعالى: {يَوْمَ تَرْجُفُ الرَّاجِفَةُ * تَتْبَعُهَا الرَّادِفَةُ * قُلُوبٌ يَوْمَئِذٍ وَاجِفَةٌ * أَبْصَارُهَا خَاشِعَةٌ}،[٦]

ومن مقاصد سورة النازعات أيضًا أنَّها تعرضُ النهاية المُخزية والمؤسفة التي ستلحقُ بالكافرين عندما تعرضُ إحدى الجوانب من قصة موسى -عليه السلام- وفرعون، قال تعالى: {هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ مُوسَىٰ * إِذْ نَادَاهُ رَبُّهُ بِالْوَادِ الْمُقَدَّسِ طُوًى * اذْهَبْ إِلَىٰ فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَىٰ * فَقُلْ هَل لَّكَ إِلَىٰ أَن تَزَكَّىٰ * وَأَهْدِيَكَ إِلَىٰ رَبِّكَ فَتَخْشَىٰ * فَأَرَاهُ الْآيَةَ الْكُبْرَىٰ * فَكَذَّبَ وَعَصَىٰ * ثُمَّ أَدْبَرَ يَسْعَىٰ}،[٧]وقد بيَّنت الآيات كيفَ جعلَ الله منهم عظةً وعبرةً لكلِّ العالمين.

ومن مقاصد سورة النازعات تصوير هذا الكون الهائل بما فيه من مخلوقات أبدع الله تعالى صُنعها، وجعلها دلائل على قدرته، وعلامات على عظيمِ خلقه، قال تعالى: {أَأَنتُمْ أَشَدُّ خَلْقًا أَمِ السَّمَاءُ ۚ بَنَاهَا * رَفَعَ سَمْكَهَا فَسَوَّاهَا * وَأَغْطَشَ لَيْلَهَا وَأَخْرَجَ ضُحَاهَا * وَالْأَرْضَ بَعْدَ ذَٰلِكَ دَحَاهَا}

[الآيات ١٥ ـ ٢٦] : تحكي هذه الآيات قصة موسى عليه‌السلام ، وهي قصة تكررت في القرآن الكريم ، لما لقيه موسى من شدّة المعاناة مع قومه ، فأصبح نموذجا للصّبر والثبات. وفي صحيح البخاري؛ عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه، قال: ( قَسَمَ النبيُّ ﷺ قَسمًا، فَقال رجلٌ: إنَّ هذِه لَقِسْمَةٌ ما أُرِيدَ بهَا وجه اللَّه، فأخْبَرْتُ النبيَّ ﷺ فَغَضِبَ، حتَّى رَأَيْتُ الغَضَبَ في وجْهِهِ، وقالَ: "يرحمُ اللَّه موسى لقَد أُوذيَ بأَكْثر مِن هذا فَصبَرَ. "

ثمَّ تتناول الآيات الحديث عن مجيء يوم القيامة العظيم الذي سيُجزى فيه كلُّ إنسان بما عمل، قال تعالى: {فَأَمَّا مَن طَغَىٰ * وَآثَرَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا * فَإِنَّ الْجَحِيمَ هِيَ الْمَأْوَىٰ * وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَىٰ * فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوَىٰ}

وفي النهاية تشيرُ إلى ميعاد الساعة التي كان المشركون يلحُّون في السؤال عن موعدها، قال تعالى: {كَأَنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَهَا لَمْ يَلْبَثُوا إِلَّا عَشِيَّةً أَوْ ضُحَاهَا}، فيؤكدُ الله أنَّ علمها عند الله وحده وعندما يأتي موعدها سيُذهَلُ الكافرون بقدومها على حينِ غرَّة.

التفسير:

قوله تعالى {وَالنَّازِعَاتِ غَرْقًا} أقسم سبحانه خمسة أقسام وبهذه الأشياء التي ذكرها، على أن القيامة حق.

وقوله: {وَالنَّازِعَاتِ} : الملائكة التي تنزع أرواح الكفار؛ قاله علي رضي الله عنه، قال ابن مسعود : يريد أنفس الكفار ينزعها ملك الموت من أجسادهم، من تحت كل شعرة، ومن تحت الأظافير وأصول القدمين نزعا كالسفود (السيخ) ينزع من الصوف الرطب، يغرقها، أي يرجعها في أجسادهم، ثم ينزعها فهذا عمله بالكفار. وقيل : يرى الكافر نفسه في وقت النزع كأنها تغرق.  وأراد بالإغراق : المبالغة في النزع

 وقوله تعالى {وَالنَّاشِطَاتِ نَشْطًا} قال ابن عباس : يعني الملائكة تنشط نفس المؤمن فتقبضها كما ينشط العقال من يد البعير : إذا حل عنه. وإذا ربطت الحبل في يد البعير فقد نشطته، فأنت ناشط، وإذا حللته فقد أنشطته وأنت منشط.

وعن ابن عباس أيضا : هي أنفس المؤمنين عند الموت تنشط للخروج؛ وذلك أنه ما من مؤمن [يحضره الموت] إلا وتعرض عليه الجنة قبل أن يموت، فيرى فيها ما أعد الله له من أزواجه وأهله من الحور العين، فهم يدعونه إليها، فنفسه إليهم نشطة أن تخرج فتأتيهم.

وقيل {وَالنَّازِعَاتِ} للكافرين  {وَالنَّاشِطَاتِ} للمؤمنين، فالملائكة يجذبون روح المؤمن برفق، والنزع جذب: شدة، والنشط جذب برفق.

قوله تعالى {وَالسَّابِحَاتِ سَبْحًا} قال علي رضي الله عنه: هي الملائكة تسبح بأرواح المؤمنين. وقال ابن عباس : السابحات أرواح المؤمنين تسبح شوقا إلى لقاء الله ورحمته حين تخرج.

قوله تعالى {فَالسَّابِقَاتِ سَبْقًا}  عن مجاهد: هي الملائكة سبقت ابن آدم بالخير والعمل الصالح. وقيل : تسبق بني آدم إلى العمل الصالح فتكتبه. وعن مقاتل : هي الملائكة تسبق بأرواح المؤمنين إلى الجنة. ابن مسعود : هي أنفس المؤمنين تسبق، إلى الملائكة الذين يقبضونها وقد عاينت السرور، شوقا إلى لقاء الله تعالى ورحمته.

حال المحتضر ، وهل يرى الملائكة:

إذا حضر الموت : فإن كان العبد من المؤمنين الصالحين ، نزلت عليه ملائكة الرحمة تبشره برحمة الله ، وإن كان من الكافرين العاصين ، نزلت عليه ملائكة العذاب ، تبشره بعذاب الله . فيراهم المؤمن والكافر جميعًا .

قال تعالى :( يَوْمَ يَرَوْنَ الْمَلَائِكَةَ لَا بُشْرَى يَوْمَئِذٍ لِلْمُجْرِمِينَ وَيَقُولُونَ حِجْرًا مَحْجُورًا ) الفرقان/ 22 .

قال ابن كثير رحمه الله :

" أي : هُمْ لَا يَرَوْنَ الْمَلَائِكَةَ فِي يَوْمِ خَيْرٍ لَهُمْ ، بَلْ يَوْمَ يَرَوْنَ الْمَلَائِكَةَ لَا بُشْرَى يَوْمَئِذٍ لَهُمْ ، وَذَلِكَ يَصْدُق عَلَى وَقْتِ الِاحْتِضَارِ حِينَ تُبَشِّرُهُمُ الْمَلَائِكَةُ بِالنَّارِ ، وَغَضَبِ الْجَبَّار ِ، فَتَقُولُ الْمَلَائِكَةُ لِلْكَافِرِ عِنْدَ خُرُوجِ رُوحِهِ : اخْرُجِي أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْخَبِيثَةُ فِي الْجَسَدِ الْخَبِيثِ ، اخْرُجِي إِلَى سَموم وحَميم، وظلِّ مِنْ يَحْمُومٍ. فَتَأْبَى الْخُرُوجَ وَتَتَفَرَّقُ فِي الْبَدَنِ ، فَيَضْرِبُونَهُ ، كَمَا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: ( وَلَوْ تَرَى إِذْ يَتَوَفَّى الَّذِينَ كَفَرُوا الْمَلائِكَةُ يَضْرِبُونَ وُجُوهَهُمْ وَأَدْبَارَهُمْ ) الْأَنْفَالِ/ 50 . وَقَالَ : ( وَلَوْ تَرَى إِذِ الظَّالِمُونَ فِي غَمَرَاتِ الْمَوْتِ وَالْمَلائِكَةُ بَاسِطُو أَيْدِيهِمْ ) أَيْ : بِالضَّرْبِ ، ( أَخْرِجُوا أَنْفُسَكُمُ الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذَابَ الْهُونِ بِمَا كُنْتُمْ تَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ غَيْرَ الْحَقِّ وَكُنْتُمْ عَنْ آيَاتِهِ تَسْتَكْبِرُونَ ) الْأَنْعَامِ/ 93 ؛ ولهذا قال في هذه الآية الْكَرِيمَةِ : ( يَوْمَ يَرَوْنَ الْمَلائِكَةَ لَا بُشْرَى يَوْمَئِذٍ لِلْمُجْرِمِينَ ) ، وَهَذَا بِخِلَافِ حَالِ الْمُؤْمِنِينَ فِي وَقْتِ احْتِضَارِهِمْ ، فَإِنَّهُمْ يُبَشَّرُونَ بِالْخَيْرَاتِ ، وَحُصُولِ الْمَسَرَّاتِ . قَالَ اللَّهُ تَعَالَى : ( إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا تَتَنزلُ عَلَيْهِمُ الْمَلائِكَةُ أَلا تَخَافُوا وَلا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ نَحْنُ أَوْلِيَاؤُكُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الآخِرَةِ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَشْتَهِي أَنْفُسُكُمْ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَدَّعُونَ نُزُلًا مِنْ غَفُورٍ رَحِيمٍ ) فُصِّلَتْ/ 30 -31 .

وَقَالَ آخَرُونَ: بَلِ الْمُرَادُ بِقَوْلِهِ : ( يَوْمَ يَرَوْنَ الْمَلائِكَةَ ) يَعْنِي : يَوْمَ الْقِيَامَة ِ. قَالَهُ مُجَاهِد ، وَالضَّحَّاكُ ؛ وَغَيْرُهُمَا .

وَلَا مُنَافَاةَ بَيْنَ هَذَا وَبَيْنَ مَا تَقَدَّمَ، فَإِنَّ الْمَلَائِكَةَ فِي هَذَيْنَ الْيَوْمَيْنِ يَوْمِ الْمَمَاتِ وَيَوْمِ الْمَعَادِ تَتَجَلَّى لِلْمُؤْمِنِينَ وَلِلْكَافِرِينَ، فَتُبَشِّرُ الْمُؤْمِنِينَ بِالرَّحْمَةِ وَالرِّضْوَانِ، وَتُخْبِرُ الْكَافِرِينَ بِالْخَيْبَةِ وَالْخُسْرَانِ، فَلَا بُشْرَى يَوْمئِذٍ لِلْمُجْرِمِينَ " انتهى من "تفسير ابن كثير" (6/ 101-102).

وروى الإمام أحمد (18534) عن البراء بن عازب رضي الله عنهما عن النبي ﷺقال: " إِنَّ الْعَبْدَ الْمُؤْمِنَ إِذَا كَانَ فِي انْقِطَاعٍ مِنَ الدُّنْيَا وَإِقْبَالٍ مِنَ الْآخِرَةِ ، نَزَلَ إِلَيْهِ مَلَائِكَةٌ مِنَ السَّمَاءِ بِيضُ الْوُجُوهِ ، كَأَنَّ وُجُوهَهُمُ الشَّمْسُ ، مَعَهُمْ كَفَنٌ مِنْ أَكْفَانِ الْجَنَّةِ ، وَحَنُوطٌ مِنْ حَنُوطِ الْجَنَّةِ ، حَتَّى يَجْلِسُوا مِنْهُ مَدَّ الْبَصَرِ ، ثُمَّ يَجِيءُ مَلَكُ الْمَوْتِ ، عَلَيْهِ السَّلَامُ ، حَتَّى يَجْلِسَ عِنْدَ رَأْسِهِ ، فَيَقُولُ : أَيَّتُهَا النَّفْسُ الطَّيِّبَةُ ، اخْرُجِي إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنَ اللهِ وَرِضْوَانٍ ... وَإِنَّ الْعَبْدَ الْكَافِرَ إِذَا كَانَ فِي انْقِطَاعٍ مِنَ الدُّنْيَا وَإِقْبَالٍ مِنَ الْآخِرَةِ ، نَزَلَ إِلَيْهِ مِنَ السَّمَاءِ مَلَائِكَةٌ سُودُ الْوُجُوهِ ، مَعَهُمُ الْمُسُوحُ ، فَيَجْلِسُونَ مِنْهُ مَدَّ الْبَصَرِ ، ثُمَّ يَجِيءُ مَلَكُ الْمَوْتِ ، حَتَّى يَجْلِسَ عِنْدَ رَأْسِهِ ، فَيَقُولُ : أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْخَبِيثَةُ ، اخْرُجِي إِلَى سَخَطٍ مِنَ اللهِ وَغَضَبٍ ، فَتُفَرَّقُ فِي جَسَدِهِ ، فَيَنْتَزِعُهَا كَمَا يُنْتَزَعُ السَّفُّودُ مِنَ الصُّوفِ الْمَبْلُولِ ، فَيَأْخُذُهَا... ) الحديث ، وصححه الألباني في "صحيح الجامع"

وروى الطبري في "تفسيره" (13/ 664) عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ : " إِنَّ الْمُؤْمِنَ إِذَا حَضَرَهُ الْمَوْتُ شَهِدَتْهُ الْمَلَائِكَةُ فَسَلَّمُوا عَلَيْهِ وَبَشَّرُوهُ بِالْجَنَّةِ " .

وقال ابن القيم رحمه الله :

" تنزل الملائكة على المحتضر وتجلس قريبا منه ويشاهدهم عيانا ويتحدثون عنده ، ومعهم الأكفان والحنوط ، إما من الجنة وإما من النار ، ويؤمنون على دعاء الحاضرين بالخير والشر ، وقد يسلمون على المحتضر ويرد عليهم تارة بلفظه وتارة بإشارته وتاره بقلبه ، حيث لا يتمكن من نطق ولا إشارة .

وأبلغ من ذلك كله قول الله عز وجل : ( فَلَوْلَا إِذَا بَلَغَتِ الْحُلْقُومَ * وَأَنْتُمْ حِينَئِذٍ تَنْظُرُونَ * وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْكُمْ وَلَكِنْ لَا تُبْصِرُونَ ) الواقعة/ 83 - 85 . أي : أقرب إليه بملائكتنا ورسلنا ، ولكنكم لا ترونهم ، فهذا أول الأمر ، وهو غير مرئي لنا ولا مشاهد ، وهو في هذه الدار .

ثم يمد الملك يده إلى الروح فيقبضها ويخاطبها ، والحاضرون لا يرونه ولا يسمعونه ، ثم تخرج فيخرج لها نور مثل شعاع الشمس ورائحة أطيب من رائحة المسك ، والحاضرون لا يرون ذلك ولا يشمونه ، ثم تصعد بين سماطين من الملائكة والحاضرون لا يرونهم ... " انتهى من "الروح"

 

قوله تعالى {فَالْمُدَبِّرَاتِ أَمْرًا} قال القشيري : أجمعوا على أن المراد الملائكة، فتدبيرها نزولها بالحلال والحرام وتفصيله؛  قال ابن عباس الأمر هو إلى الله جل ثناؤه، ولكن لما نزلت الملائكة به سميت بذلك؛ كما قال عز وجل: { نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ} (١٩٣ الشعراء) يعني جبريل نزله على قلب محمد ﷺ والله عز وجل هو الذي أنزل.

 وروى عطاء عن ابن عباس {فَالْمُدَبِّرَاتِ أَمْرًا} : الملائكة وكلت بتدبير أحوال الأرض في الرياح والأمطار وغير ذلك. وتدبير أمر الدنيا إلى أربعة من الملائكة؛ جبريل وميكائيل وملك الموت وإسرافيل، فأما جبريل فموكل بالوحي، وأما ميكائيل فموكل بالقطر والنبات، وأما ملك الموت فموكل بقبض الأنفس في البر والبحر، وأما إسرافيل بالنفخ في الصور، وليس من الملائكة أقرب من إسرافيل، وبينه وبين العرش مسيرة خمسمائة عام. وقيل : أي وكلوا بأمور عرفهم الله بها.

القسم  من الله بخلقه، ما حكمته؟

ومن أول السورة إلى هنا آخر خمسة أقسام أقسم الله بها، ولله أن يقسم بما شاء من خلقه،فهو  لا يُسأل عما يفعل وهم يسألون، وليس للعبد أن يسأل الرب عن فعله لم فعله ، أو ما حكمته؟

 لله أن يقسم بما شاء من مخلوقاته من حيوان وجماد ، وإن لم يُعلم وجه الحكمة في ذلك، ومع ذلك نقول: هذه الأشياء التي أقسم الله بها ، من آياته وأدلة توحيده ، وبراهين قدرته ، وبعثه الأموات، وإقسامُه بها تعظيم له سبحانه، وتنبيه للناس إلى ما تدل عليه من أدلة وحدانيته، وآياته الدالة على عظيم قدرته، وتمام ربوبيته.

والأقسام من تمام إقامة الحجة على عباده ؛ حيث أقسم لهم بتلك المخلوقات العظيمة ليلتفتوا إلى جلال المقسم عليه، وكون المقسم به دليلا على المقسم عليه .

وليس لنا ذلك إلا أن نقسم به عز وجل.

وجواب القسم مضمر، كأنه قال : والنازعات وكذا وكذا لتبعثن ولتحاسبن. أضمر لمعرفة السامعين بالمعنى؛ ويدل عليه قوله تعالى { أَإِذَا كُنَّا عِظَامًا نَّخِرَةً} ألست ترى أنه كالجواب لقولهم { أَإِذَا كُنَّا عِظَامًا نَّخِرَةً} نبعث؟  وقيل : الجواب { يَوْمَ تَرْجُفُ الرَّاجِفَةُ} على تقدير ليوم ترجف، فحذف اللام.

 وقوله تعالى: { يَوْمَ تَرْجُفُ الرَّاجِفَةُ* تَتْبَعُهَا الرَّادِفَةُ}  قال ابن عباس والحسن وقتادة : هما الصيحتان. أي النفختان. أما الأولى فتميت كل شيء بإذن الله تعالى، وأما الثانية فتحيي كل شيء بإذن الله تعالى. وروى أبو هريرة  عن النبي ﷺ قال :" ما بيْنَ النَّفْخَتَيْنِ أرْبَعُونَ" قالَ: أرْبَعُونَ يَوْمًا؟ قالَ: أبَيْتُ، قالَ: أرْبَعُونَ شَهْرًا؟ قالَ: أبَيْتُ، قالَ: أرْبَعُونَ سَنَةً؟ قالَ: أبَيْتُ، قالَ: ثُمَّ يُنْزِلُ اللَّهُ مِنَ السَّماءِ ماءً فَيَنْبُتُونَ كما يَنْبُتُ البَقْلُ"( رواه البخاري)، وقيل : الراجفة تحرك الأرض، والرادفة زلزلة أخرى تفني الأرضين. وأصل الرجفة الحركة، قال الله تعالى { يَوْمَ تَرْجُفُ الْأَرْضُ وَالْجِبَالُ} ( المزمل ١٤ )

وعن أبي بن كعب أن رسول الله ﷺ كان إذا ذَهَبَ ثُلُثُ الليلِ، قام فقال: "يا أيُّها الناسُ اذكُروا اللهَ جاءتِ الراجِفَةُ تَتبَعُها الرادِفَةُ، جاء الموتُ بما فيه، جاء الموتُ بما فيه" . ( رواه الترمذي – حسن صحيح)

وقوله تعالى: { قُلُوبٌ يَوْمَئِذٍ وَاجِفَةٌ} أي خائفة وجلة؛ قاله ابن عباس وعليه عامة المفسرين. وقال السدي: زائلة عن أماكنها. نظيره { إِذِ الْقُلُوبُ لَدَى الْحَنَاجِرِ كَاظِمِينَ } [غافر ١٨]. قيل : قلقة مستفزة، مرتكضة غير ساكنة. وقال المبرد : مضطربة. والمعنى متقارب، والمراد قلوب الكفار؛ يقال وجف القلب يجف وجيفا إذا خفق من الخوف.

 و {أَبْصَارُهَا خَاشِعَةٌ} أي منكسرة ذليلة من هول ما ترى. نظيره {خَاشِعَةً أَبْصَارُهُمْ تَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ ۖ} [القلم ٤٣]. والمعنى أبصار أصحابها، فحذف المضاف. { يَقُولُونَ أَإِنَّا لَمَرْدُودُونَ فِي الْحَافِرَةِ} أي يقول هؤلاء المكذبون المنكرون للبعث متعجبون، إذا قيل لهم إنكم تبعثون: أنرد بعد موتنا إلى أول الأمر، فنعود أحياء كما كنا قبل الموت؟ وهو كقولهم {أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ خَلْقًا جَدِيدًا }(الإسراء  ٤٩) يقال : رجع فلان في حافرته، وعلى حافرته، أي رجع من الطريق الذي جاء منه؛ قال قتادة. وأنشد ابن الأعرابي : أحافرة على صلع وشيب ** معاذ الله من سفه وعار ،،،  يقول : أأرجع إلى ما كنت عليه في شبابي من الغزل والصبا بعد أن شبت وصلعت! وفي المثل : النقد عند الحافرة.  أي عند أول كلمة. ويقال : ألتقي القوم فاقتتلوا عند الحافرة. أي عند أول ما التقوا. وقيل : الحافرة : الأرض التي تحفر فيها قبورهم، وقيل: سميت الأرض الحافرة؛ لأنها مستقر الحوافر، والمعنى أئنا لراجعون بعد الموت إلى الأرض فنمشي على أقدامنا.

قوله تعالى { أَإِذَا كُنَّا عِظَامًا نَّخِرَةً } أي بالية متفتتة. أو صارت مجوفة، يقال : نَخِر العظم: أي بلي وتفتت؛ والناخر من العظام التي تدخل الريح فيه ثم تخرج منه ولها نخير.

{قَالُوا تِلْكَ إِذًا كَرَّةٌ خَاسِرَةٌ} أي رجعة خائبة، كاذبة باطلة، أي ليست كائنة؛  وقيل: {خَاسِرَةٌ}  على من كذب بها. وقيل : أي هي كرة خسران. والمعنى أهلها خاسرون؛ كما يقال : تجارة رابحة أي يربح صاحبها. ولا شيء أخسر من كرَّة تقتضي المصير إلى النار

قوله تعالى { فَإِنَّمَا هِيَ زَجْرَةٌ وَاحِدَةٌ} ذكر جل ثناؤه سهولة البعث عليه فقال  { فَإِنَّمَا هِيَ زَجْرَةٌ وَاحِدَةٌ}. وروى الضحاك عن ابن عباس قال: نفخة واحدة { فَإِذَا هُم} أي الخلائق أجمعون {بِالسَّاهِرَةِ} أي على وجه الأرض، بعد ما كانوا في بطنها. قال الفراء : سميت بهذا الاسم؛ لأن فيها نوم الحيوان وسهرهم. والعرب تسمي الفلاة  الخالية ووجه الأرض ساهرة، بمعنى ذات سهو؛ لأنه يسهر فيها خوفا منها، فوصفها بصفة ما فيها.

وقيل : الساهرة : هي الأرض البيضاء. وروى الضحاك عن ابن عباس قال : أرض من فضة لم يعص الله جل ثناؤه عليها قط خلقها حينئذ. وقيل : أرض جددها الله يوم القيامة.  وقال الثوري: الساهرة : أرض الشام. وهب بن منبه: جبل بيت المقدس. عثمان بن أبي العاتكة : إنه اسم مكان من الأرض بعينه، بالشام، وهو الصقع الذي بين جبل أريحاء وجبل حسان يمده الله كيف يشاء. وقيل: الساهرة : بمعنى الصحراء على شفير جهنم؛ أي يوقفون بأرض القيامة، فيدوم السهر حينئذ.

أرض المحشر والمنشر:

يجتمع الناس كلّهم في آخر الزمان في أرض المَحشر؛ وهي أرض الشام، وقد ثبت ذلك في العديد من الأحاديث النبويّة المَرويّة عن النبيّﷺ منها: (عن مَيمونةَ مَوْلاةِ النَّبيِّ ﷺ، عنِ النَّبيِّ ﷺ أنَّها سألتْهُ فقالت: أَفْتِنا في بيتِ المَقدِسِ، فقال: أرضُ المَحشَرِ، والمَنشَرِ، وائْتوهُ فصلُّوا فيه، فإنَّ صلاةً فيه كألْفِ صلاةٍ في غيْرِهِ) ( صححه  شعيب الأرناؤوط)  كما روى أبو ذرّ الغفاريّ رضي الله عنه: (أنَّهُ سأل رسولَ اللهِ ﷺ عَن الصَّلاةِ في بَيتِ المقدِسِ أفضلُ أو في مسجِدِ رسولِ اللهِ ﷺ فَقالَ:" صلاةٌ في مسجِدي هذا، أفضلُ من أربعِ صلواتٍ فيهِ، ولنِعْمَ المصلَّى، هوَ أرضُ المَحشرِ والمنشَرِ، وليأتيَنَّ على النَّاسِ زمانٌ ولقَيْدُ سَوطِ أو قال: قوسِ الرَّجلِ حَيثُ يرى مِنهُ بيتَ المقدسِ؛ خيرٌ لهُ أو أحبَّ إليه مِنَ الدُّنيا جميعًا"( صححه الألباني في صحيح الترغيب والترهيب)

No comments:

Post a Comment