Saturday 5 December 2020

تفسير سورة النازعات ج٢ والجبال أرساها

  
     

تفسير وربط للآيات ، وبيان المتشابهات- سورة النازعات- ج٢  - الجبال أرساها

 

قوله تعالى {هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ مُوسَىٰ} أي قد جاءك وبلغك { حَدِيثُ مُوسَىٰ} وهذا تسلية للنبي ﷺ أي إن فرعون كان أقوى من كفار عصرك، ثم أخذناه، وكذلك هؤلاء. وقيل {هَلْ} بمعنى {ما} أي ما أتاك، ولكن أُخبِرتَ به، فإن فيه عبرة لمن يخشى.

{بِالْوَادِ الْمُقَدَّسِ} و "ِالْوَادِ " المكان المنخفض بين جبلين، أو بين مكانين مرتفعين

المقدس: المطهر، المبارك، و الوادي المقدس: الوادي المطهر المقدس الذي أنس موسى عليه السلام منه ناراً.

والتقديس: هو التطهير الإلهي المذكور في قوله: ﴿ إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّـهُ لِيُذْهِبَ عَنكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا﴾ (الأحزاب ٣٣)، وهو غير التطهير الذي هو إزالة النجاسة المحسوسة، وقوله: ﴿ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ ۖ﴾ (البقرة ٣٠)، أي: نطهر الأشياء تبجيلا لك. وقيل: نقدسك، أي: نصفك بالتقديس.

وقوله: ﴿قل نزله روح القدس﴾ (النحل١٠٢)، يعني به جبريل من حيث إنه ينزل بالقدس من الله، أي: بما يطهر به نفوسنا من القرآن والحكمة والفيض الإلهي.

 والبيت المقدس هو المطهر من النجاسة، أي: الشرك، وكذلك الأرض المقدسة. قال تعالى: ﴿يَا قَوْمِ ادْخُلُوا الْأَرْضَ الْمُقَدَّسَةَ﴾ (المائدة٢١)، وحظيرة القدس. قيل: الجنة. وقيل: الشريعة. وكلاهما صحيح، فالشريعة حظيرة منها يستفاد القدس، أي: الطهارة.

طُوًى:  طُوى: اسم للوادي المقدس بالشام عند  جبل الطور- وادي طوًى، واختاره ابن كثير، وقيل هو معرب معناه ليلا. وقيل: طوى، هو  التكرار أو التتابع، فقيل أن النداء كان مرتان.

وفي {طُوًى} ثلاث قراءات : قرأ ابن محيصن وابن عامر والكوفيون {طُوًى} منونا واختاره أبو عبيد لخفة الاسم. الباقون بغير تنوين؛ لأنه معدول عن طاو، كما عدل عمر عن عامر. وقثم معدول عن قاثم، وهو: الجامع للخير والشر، المانح، وهو ذكر الضبع ومؤنثه قثامِ، وقثم بن العباس (ت 57 هـ) ابن عم رسول الله ﷺ.

وقرأ الحسن وعكرمة {طِوى} بكسر الطاء، على معنى المقدس مرة بعد مرة.

وربه حين ناداه بالوادي المطهَّر المبارك "طُوًى"، فقال له: اذهب إلى فرعون، {إنه طغى} أي إنه قد أفرط وجاوز القدر في العصيان.

وروي عن الحسن قال : كان فرعون علجا من همدان. العَلِجُ من الرجال: الشديد الكثير الصَّرعِ لأقرانه،  وعن مجاهد قال : كان من أهل إصطخر. وعن الحسن أيضا قال : من أهل أصبهان، يقال له ذو ظفر، طول ظفره أربعة أشبار. صفات فرعون موسى كما وصفه صحابة رسول الله ﷺ: انه كان قصير و أصلع و اثرم و اخينس، الأخنس: من انخفضت قَصبَة أَنفِه مع ارتفاع قليل في طَرَف الأنف.

{فَقُلْ هَل لَّكَ إِلَىٰ أَن تَزَكَّىٰ} فقل له: أتودُّ أن تطهِّر نفسك من النقائص وتحليها بالإيمان، تسلم فتطهر من الذنوب.  { تزكى} تكون زكيا مؤمنا، عن ابن عباس قال: هل لك أن تشهد أن لا إله إلا الله. { وَأَهْدِيَكَ إِلَىٰ رَبِّكَ} أي وأُرشدك إلى طاعة ربك، { فَتَخْشَىٰ} أي فتخشاه وتتقيه؟

وقال صخر بن جويرية : لما بعث الله موسى إلى فرعون قال له {أذهب إلى فرعون} إلى قول { وأهديك إلى ربك فتخشى} ولن يفعل، فقال : يا رب، وكيف أذهب إليه وقد علمت أنه لا يفعل؟ فأوحى الله إليه أن أمض إلى ما أمرتك به، فإن في السماء اثني عشر ألف ملك يطلبون علم القدر، فلم يبلغوه ولا يدركوه. والله سبحانه وتعالى يعلم أن فرعون لن يستجيب لدعوة ربه له ، ولكن الله يقيم عليه الحجة، وأمره أن يكون لينا معه، وهذا زيادة في إقامة الحجة ، لن يقول كان عنيفا معي فردني عن الدين، وفيه تعليم للناس والدعاة والرسل أن عليهم الدعوة بالحكمة والموعظة الحسنة، وليس عليهم أمر الهداية، فالهداية من الله سبحانه وتعالى.

 ﴿ فَأَرَاهُ الْآيَةَ الْكُبْرَىٰ﴾ أي العلامة العظمى وهي المعجزة وقيل: العصا. وقيل: اليد البيضاء تبرق كالشمس. وقيل: فلق البحر. وقيل: الآية : إشارة إلى جميع آياته ومعجزاته.

{ فَكَذَّبَ} أي كذب نبي الله موسى { وَعَصَىٰ} أي عصى ربه عز وجل. { ثُمَّ أَدْبَرَ يَسْعَىٰ} أي ولى مدبرا معرضا عن الإيمان { يَسْعى} أي يعمل بالفساد في الأرض. وقيل : يعمل في نكاية موسى. وقيل {ثُمَّ أَدْبَرَ يَسْعَىٰ} هاربا من الحية. {فَحَشَرَ فَنَادَىٰ} أي جمع أصحابه يمنعوه منها. وقيل : جمع جنوده للقتال والمحاربة، والسحرة للمعارضة. وقيل : حشر الناس للحضور. { فَنَادَىٰ} أي قال لهم بصوت عال {أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلَىٰ} أي لا رب لكم فوقي.

ويروى : إنه لما قال فرعون أنا ربكم الأعلى، تصور له إبليس بصورة الإنس بمصر في الحمام، فأنكره فرعون، فقال له إبليس : ويحك! أما تعرفني؟ قال : لا. قال : وكيف وأنت خلقتني؟ ألست القائل أنا ربكم الأعلى. ذكره الثعلبي في كتاب العرائس.

وقال عطاء : كان صنع لقومه أصناما صغارا وأمرهم بعبادتها، فقال أنا رب أصنامكم. وقيل : أراد القادة والسادة. هو ربهم، وأولئك، هم أرباب السفلة.

وقال الحسن إن فرعون كان يعبد الكواكب ويعتقد أنها المربية للعالم السفلى كله، وهو رب النوع الإنساني.

{ فَأَخَذَهُ اللَّـهُ نَكَالَ الْآخِرَةِ وَالْأُولَىٰ }  أي نكال قوله { مَا عَلِمْتُ لَكُم مِّنْ إِلَـٰهٍ غَيْرِي} (القصص ٣٨) وقوله بعد {أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلَىٰ}  قاله ابن عباس ومجاهد وعكرمة. وكان بين الكلمتين أربعون سنة.

 قال ابن عباس. والمعنى : أمهله في الأولى، ثم أخذه في الآخرة، فعذبه بكلمتيه. وقيل : نكال الأولى : هو أن أغرقه، ونكال الآخرة هو عذاب الآخرة.

والنكال : اسم لما جعل نكالا للغير أي عقوبة له حتى يعتبر به. يقال : نكل فلان بفلان : إذا أثخنه عقوبة. والكلمة من الامتناع، ومنه النكول عن اليمين، والنكل القيد.

{إِنَّ فِي ذَٰلِكَ لَعِبْرَةً لِّمَن يَخْشَىٰ}  أي اعتبارا وعظة لمن يخاف الله عز وجل ويخشاه.

 

وجاء من روايات صحابة رسول الله انه بين يوم قول فرعون { مَا عَلِمْتُ لَكُم مِّنْ إِلَـٰهٍ غَيْرِي} (القصص ٣٨)  التي قالها في يوم الزينة وقوله {أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلَىٰ} التي قالها عندما حشر جنده لمواجهة موسى وشعبه في يوم عاشوراء الخروج قبل غرقه فقالوا ان بينهما 40 عاما.

 

قوله تعالى: {أَأَنتُمْ أَشَدُّ خَلْقًا أَمِ السَّمَاءُ ۚ} يريد أهل مكةن ومن بعدهم الناس أجمعين، أي أخلقكم بعد الموت أشد في تقديركم {أَمِ السَّمَاءُ ۚ}  فمن قدر على السماء قدر على الإعادة؛ كقوله تعالى { لَخَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ أَكْبَرُ مِنْ خَلْقِ النَّاسِ} (غافر ٥٧) ، وقوله تعالى { أَوَلَيْسَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِقَادِرٍ عَلَىٰ أَن يَخْلُقَ مِثْلَهُم ۚ بَلَىٰ وَهُوَ الْخَلَّاقُ الْعَلِيمُ} (يس ٨١)، فمعنى الكلام التقريع والتوبيخ.

وصف سبحانه السماء فقال {ۚ بَنَاهَا} أي رفعها فوقكم كالبناء{رَفَعَ سَمْكَهَا} أي أعلى سقفها في الهواء؛ يقال : سمكت الشيء أي رفعته في الهواء، وسمك الشيء سموكا : ارتفع. وبناء مسموك وسنام سامك تامك أي عال، والمسموكات : السموات.

{فَسَوَّاهَا} أي خلقها خلقا مستويا، لا تفاوت فيه، ولا شقوق، ولا فطور.

قوله تعالى {وَأَغْطَشَ لَيْلَهَا} أي جعله مظلما؛ غطش الليل وأغطشه الله؛ كقولك : أظلم الليل وأظلمه الله. والغطش والغبش : الظلمة. ورجل أغطش : أي أعمى، أو شبيه به، وقد غطش، والمرأة غطشاء.

قوله تعالى {وَأَخْرَجَ ضُحَاهَا} أي أبرز نهارها وضوءها وشمسها. وأضاف الضحى إلى السماء كما أضاف إليها الليل؛ لأن فيها سبب الظلام والضياء وهو غروب الشمس وطلوعها.

{وَالْأَرْضَ بَعْدَ ذَٰلِكَ دَحَاهَا} أي بسطها. وهذا يشير إلى كون الأرض بعد السماء. والعرب تقول : دحوت الشيء أدحوه دحوا : إذا بسطته. ويقال لعش النعامة أُدحِي؛ لأنه مبسوط على وجه الأرض. وقيل {دَحَاهَا}: حرثها وشقها، وقيل : دحاها مهدها للأقوات، والمعنى متقارب

{ أَخْرَجَ مِنْهَا مَاءَهَا وَمَرْعَاهَا} أي أخرج من الأرض { مَاءَهَا} أي العيون المتفجرة بالماء. {وَمَرْعَاهَا}  أي النبات الذي يرعى.

قال القتبي : دل بشيئين على جميع ما أخرجه من الأرض قوتا ومتاعا للأنام من العشب والشجر والحب والتمر والعصف والحطب واللباس والنار والملح؛ لأن النار من العيدان والملح من الماء. { وَالْجِبَالَ أَرْسَاهَا} قراءة العامة {وَالْجِبَالَ} بالنصب، أي وأرسى الجبال أي: أثبتها فيها أوتادا لها. { مَتَاعًا لَّكُمْ} أي منفعة لكم، {وَلِأَنْعَامِكُمْ} من الإبل والبقر والغنم. أي دحا الأرض فأنبع عيونها، وأظهر مكنونها، وأجرى أنهارها، وأنبت زروعها وأشجارها وثبت جبالها لتستقر بأهلها ويقر قرارها، كل ذلك متاعاً لخلقه ولما يحتاجون إليه من الأنعام، التي يأكلونها ويركبونها مدة احتياجهم إليها في هذه الدار، إلى أن ينتهي الأمد وينقضي الأجل.

No comments:

Post a Comment