Monday 11 January 2021

تفسير سورة عبس ج2 حملة القرآن السفرة الكرام البررة

  


تفسير سورة  عبس ج ٢- حملة القرآن السفرة الكرام البررة

 

وقوله تعالى: { كَلَّا إِنَّهَا تَذْكِرَةٌ } { كلا} كلمة ردع وزجر؛ أي ما الأمر كما تفعل مع الفريقين؛ أي لا تفعل بعدها مثلها، أي هذه الوصية بالمساواة بين الناس، في إبلاغ العلم بين شريفهم ووضيعهم،

 وقال قتادة { كَلَّا إِنَّهَا تَذْكِرَةٌ } يعني القرآن {فَمَن شَاءَ ذَكَرَهُ } أي فمن شاء ذكر اللّه تعالى في جميع أموره، وقوله تعالى: { فِي صُحُفٍ مُّكَرَّمَةٍ*  مَّرْفُوعَةٍ مُّطَهَّرَةٍ} أي هذه السورة أو العظة {فِي صُحُفٍ مُّكَرَّمَةٍ} أي معظمة موقرة، {مَّرْفُوعَةٍ } أي عالية القدرة، { مُّطَهَّرَةٍ} أي من الدنس والزيادة والنقصان، مصانة عن أن ينالها الكفار.

وقوله تعالى: {بِأَيْدِي سَفَرَةٍ } قال ابن عباس ومجاهد: هي الملائكة، وقال وهب بن منبه: هم أصحاب محمد ، وقال قتادة: هم القراء، وقال ابن جرير: والصحيح أن السفرة الملائكة، والسفرة يعني بين اللّه تعالى وبين خلقه، ومنه السفير الذي يسعى بين الناس في الصلح والخير.

وقال البخاري: سفرة: الملائكة: سفرتُ أصلحت بينهم، وجُعلت الملائكة إذا نزلت بوحي اللّه تعالى وتأديته كالسفير الذي يصلح بين القوم. وهي مطهرة تجعل التطهير لمن حملها، {بِأَيْدِي سَفَرَةٍ * كِرَامٍ بَرَرَةٍ }هي لفظة مخصوصة بالملائكة عند الإطلاق، ولا يشاركهم فيها سواهم، ولا يدخل معهم في متناولها غيرهم.

 بر وبار : إذا كان أهلا للصدق، ومنه بر فلان في يمينه: أي صدق، وفلان يبر خالقه ويتبرره : أي يطيعه؛ فمعنى {بَرَرَةٍ } مطيعون لله، صادقون لله في أعمالهم.

وقوله تعالى: { كِرَامٍ بَرَرَةٍ} أي خَلْقهم كريم، وأخلاقهم بارة طاهرة، وفي الصحيح: (الَّذي يقرأُ القرآنَ وهو ماهرٌ به مع السَّفَرةِ الكِرامِ البَررةِ ، والَّذي يقرأُ القرآنَ - قال هشامٌ - وهو عليه شاقٌّ فله أجران) (أخرجه الجماعة عن عائشة رضي اللّه عنها مرفوعاً) الماهر بالقرآن: مع الملائكةُ، أمَّا مَن كان يقرؤُه فيتعاهدُه وهو عليه شديدٌ؛ لضعْفِ حفْظِه، فإنَّ له أجرينِ أجرًا لِقراءتِه وأجرًا لِعنائه وما يُلاقيه مِن شِدَّةٍ في حفْظِه، وليسَ المرادُ أنَّ أجْرَه أكثرُ مِن أجْرِ الماهر، بلِ الأوَّلُ أكثرُ؛ ولذا كان مع السَّفَرةِ فالحافظُ لا يصيرُ كذلك إلَّا بعد عناءٍ كثيرٍ ومشقَّةٍ شديدةٍ غالبًا.

يقول ربنا  ذاماً لمن أنكر البعث والنشور من بني آدم: {قُتِلَ الْإِنسَانُ مَا أَكْفَرَهُ} ، أي عباس: لعن جنس الإنسان المكذب لكثرة تكذيبه، يقول: ما أشد كفره، وقال ابن جرير: ويحتمل أن يكون المراد أي شيء جعله كافراً أي ما حمله على التكذيب بالمعاد؟ وقال قتادة: { مَا أَكْفَرَهُ} ما ألعنه، قال  ابن عباس { ما أكفره}: أي شيء أكفره؟

والأصح ما قيل { ما} أنها تعجب؛ وعادة العرب إذا تعجبوا من شيء قالوا : قاتله الله ما أحسنه! وأخزاه الله ما أظلمه؛ والمعنى : اعجبوا من كفر الإنسان لجميع ما ذكرنا بعد هذا. وقيل : ما أكفره بالله ونعمه مع معرفته بكثرة إحسانه إليه على التعجب.

وقيل { ما} استفهام أي أي شيء دعاه إلى الكفر؛ فهو استفهام توبيخ.

قوله تعالى { مِنْ أَيِّ شَيْءٍ خَلَقَهُ * مِن نُّطْفَةٍ خَلَقَهُ فَقَدَّرَهُ } أي من أي شيء خلق الله هذا الكافر فيتكبر؟ أي اعجبوا لخلقه. {مِن نُّطْفَةٍ} أي من ماء يسير مهين جماد {خَلَقَهُ} فلم يغلط فيه ! قال الحسن : كيف يتكبر من خرج من سبيل البول مرتين. {خَلَقَهُ فَقَدَّرَهُ } في بطن أمه، ي قدر يديه ورجليه وعينيه وسائر آرابه، وحسنا ودميما، وقصيرا وطويلا، وشقيا وسعيدا.كما قال { أَكَفَرْتَ بِالَّذِي خَلَقَكَ مِن تُرَابٍ ثُمَّ مِن نُّطْفَةٍ ثُمَّ سَوَّاكَ رَجُلًا }( الكهف٣٧)، وقيل: قدّر أجله ورزقه وعمله وشقي أو سعيد، كما قال الصادق المصدوق: " أنَّ خَلْقَ أحَدِكُمْ يُجْمَعُ في بَطْنِ أُمِّهِ أرْبَعِينَ يَوْمًا أوْ أرْبَعِينَ لَيْلَةً، ثُمَّ يَكونُ عَلَقَةً مِثْلَهُ، ثُمَّ يَكونُ مُضْغَةً مِثْلَهُ، ثُمَّ يُبْعَثُ إلَيْهِ المَلَكُ فيُؤْذَنُ بأَرْبَعِ كَلِماتٍ، فَيَكْتُبُ: رِزْقَهُ، وأَجَلَهُ، وعَمَلَهُ، وشَقِيٌّ أمْ سَعِيدٌ، ثُمَّ يَنْفُخُ فيه الرُّوحَ " ( متفق عليه واللفظ للبخاري)

قوله تعالى: {ثُمَّ السَّبِيلَ يَسَّرَهُ } يسره للخروج من بطن أمه. مجاهد : يسره لطريق الخير والشر؛ أي بين له ذلك. دليله { إنا هديناه السبيل} و { هديناه النجدين} . فالإنسان إما إلة سبيل الشقاء أو السعادة، وهو سبيل الإسلام. وقال أبو بكر بن طاهر : يسر على كل أحد ما خلقه له وقدره عليه؛ دليله قوله عليه السلام : [اعملوا فكل ميسر لما خلق له].

[ الحديث كما رواه البخاري: عن علي بن أبي طالب : قال: كانَ النبيُّ في جَنَازَةٍ، فأخَذَ شيئًا فَجَعَلَ يَنْكُتُ به الأرْضَ، فَقالَ: " ما مِنكُم مِن أحَدٍ إلَّا وقدْ كُتِبَ مَقْعَدُهُ مِنَ النَّارِ، ومَقْعَدُهُ مِنَ الجَنَّةِ قالوا: يا رَسولَ اللَّهِ، أفلا نَتَّكِلُ علَى كِتَابِنَا، ونَدَعُ العَمَلَ؟ قالَ: اعْمَلُوا فَكُلٌّ مُيَسَّرٌ لِما خُلِقَ له، أمَّا مَن كانَ مِن أهْلِ السَّعَادَةِ فيُيَسَّرُ لِعَمَلِ أهْلِ السَّعَادَةِ، وأَمَّا مَن كانَ مِن أهْلِ الشَّقَاءِ فيُيَسَّرُ لِعَمَلِ أهْلِ الشَّقَاوَةِ"  ثُمَّ قَرَأَ: {فَأَمَّا مَن أعْطَى واتَّقَى وصَدَّقَ بالحُسْنَى} الآيَةَ.

 قوله تعالى { ثُمَّ أَمَاتَهُ فَأَقْبَرَهُ } أي جعل له قبرا يواري فيه إكراما، ولم يجعله مما يلقي على وجه الأرض تأكله الطير والعوافي ، وهو ينظر إليه يتآكل، أي : جعل له قبرا، وأمر أن يقبر.

في اللغة:

قبره؛  القابر هو الدافن بيده، يقال : قبرت الميت : إذا دفنته.

وأقبره الله : أي صيره بحيث يقبر، وجعل له قبرا؛

وقوله تعالى: { ثُمَّ إِذَا شَاءَ أَنشَرَهُ } أي أحياه وبعثه بعد موته، ومنه يقال البعث والنشور، عن أبي سعيد عن النبي قال: " يأكُلُ التُّرابُ كلَّ شيءٍ مِن الإنسانِ إلَّا عَجْبَ ذَنَبِه قيل: وما هو يا رسولَ اللهِ ؟ قال: ( مِثْلُ حبَّةِ خَرْدلٍ منه ينشَأُ" ( صحيح ابن حبان)

وقوله تعالى:{ كَلَّا لَمَّا يَقْضِ مَا أَمَرَهُ } يقول: أي حقا  لم يؤد ما فرض عليه من الفرائض لربه عزَّ وجلَّ، عن مجاهد قال: لا يقضي أحد أبداً  كل ما افترض عليه، وأينا يتصور  أنه فعل، وقيل: لم يف بالميثاق الذي أخذ عليه في صلب آدم.

{ كَلَّا} ردع وزجر، أي ليس الأمر : كما يقول الكافر؛ فإن الكافر إذا أخبر بالنشور قال { وَلَئِن رُّجِعْتُ إِلَىٰ رَبِّي إِنَّ لِي عِندَهُ لَلْحُسْنَىٰ } (فصلت ٥٠).

قوله تعالى: {فَلْيَنظُرِ الْإِنسَانُ إِلَىٰ طَعَامِهِ}  لما ذكر جل ثناؤه ابتداء خلق الإنسان، ذكر ما يسر من رزقه؛ أي فلينظر كيف خلق الله طعامه. وهذا النظر نظر القلب بالفكر؛ أي ليتدبر كيف خلق الله طعامه الذي هو قوام حياته، وكيف هيأ له أسباب المعاش، ليستعد بها للمعاد. وفيه امتنان، وفيه استدلال بإحياء النبات من الأرض الهامدة، على إحياء الأجسام بعدما كانت عظاماً بالية وتراباً متمزقاً.

قوله تعالى { أَنَّا صَبَبْنَا الْمَاءَ صَبًّا} قراءة العامة { إنا} بالكسر، على الاستئناف، وقرأ الكوفيون ورويس عن يعقوب { أنا} بفتح الهمزة، فـ { أنا} في موضع خفض على الترجمة عن الطعام، فهو بدل منه؛ كأنه قال { فلينظر الإنسان إلى طعامه} إلى { أنا صببنا} فلا يحسن الوقف على { طعامه} من هذه القراءة.

{ أَنَّا صَبَبْنَا الْمَاءَ صَبًّا} أي أنزلناه من السماء على الأرض، { ثُمَّ شَقَقْنَا الْأَرْضَ شَقًّا} أي أسكناه فيها فيدخل في تخومها، فنبت وارتفع وظهر على وجه الأرض، { فَأَنبَتْنَا فِيهَا حَبًّا * وَعِنَبًا وَقَضْبًا } ، فالحب كل ما يذكر من الحبوب، قمحا وشعيرا وسلتا وسائر ما يقصد ويدخر ، والعنب معروف، والقضب هو الفصفصة التي تأكلها الدواب رطبة، ويقال لها القت أيضاً. قال ذلك ابن عباس وقتادة، وقال الحسن البصري: القضب العلف، { وَزَيْتُونًا} وهو معروف، وهو أدم وعصيره أدم، ويستصبح به ويدهن به، {وَنَخْلًا} يؤكل بلحاً وبسراً، ورطباً وتمراً، ونيئاً ومطبوخاً، ويعتصر منه رب وخل. { {وَحَدَائِقَ غُلْبًا} أي بساتين، {غُلْبًا} نخل غلاظ كرام، وقال ابن عباس: كل ما التف واجتمع من الأشجار، وقال أيضا: هو الشجر الذي يستظل به.

وقوله تعالى: { وفاكهة وأباً} أما الفاكهة فكل ما يتفكه به من الثمار، قال ابن عباس: الفاكهة كل ما أكل رطباً، والأَبُّ: ما أنبت الأرض مما تأكله الدواب ولا يأكله الناس، وقيل:  هو الحشيش للبهائم، وقال مجاهد: الأب الكلأ. وقوله تعالى: { مَّتَاعًا لَّكُمْ وَلِأَنْعَامِكُمْ} أي عيشة لكم ولأنعامكم في هذه الدار، إلى يوم القيامة.

 وهذا ضرب مثل ضربه الله تعالى لبعث الموتى من قبورهم، كنبات الزرع بعد دثوره، كما تقدم بيانه في غير موضع. ويتضمن امتنانا عليهم بما أنعم به.

No comments:

Post a Comment