Thursday 28 January 2021

تفسير سورة التكوير ج2 القرآن الكريم من رسول الملائكة إلى النبي المختار

   

تفسير سورة التكوير - ج٢ – قرآن كريم – من رسول ملك كريم إلى رسول من البشر كريم

 

قوله تعالى { فلا أقسم} أي أقسم، و { لا} زائدة، كما تقدم.

وقال المحققون: لا أقسم: لا ليست نافية لأن المراد إثبات القسم لا نفيه، أي "أقسم" فالجملة ثبوتية وليست نافيةو "لا" هنا للتنبيه، لتنبيه المخاطب، لأن الكلام إذا جاء على غير النسق المعروف فلا بد أن ينتبه الإنسان لماذا جاء على هذا السياق؟

فالمقصود "أُقسم" والله عزّ وجل هو الذي يقسم.

معظم المفسرين يرفضون فكرة وجود أي حرف زائد في القرآن لأنه كلام الله، وكلام الله لا زيادة فيه ولا نقصان.

وقوله تعالى: { بالْخُنَّسِ ، الْجَوَارِ الْكُنَّسِ} ، قالوا هي الكواكب الخمسة الدراري : زحل والمشتري وعطارد والمريخ والزهرة،- هذه الكواكب التي كانوا يرونهافي ذلك الوقت- فيما ذكر أهل التفسير. والله أعلم. وهو مروي عن علي رضي الله عنه،

وقال الحسن وقتادة : هي النجوم التي تخنس بالنهار وإذا غربت، وقاله علي رضي الله عنه، قال: هي النجوم تخنس بالنهار، وتظهر بالليل؛ وتكنس في وقت غروبها :أي تتأخر عن البصر لخفائها، فلا ترى.

وفي اللغة :

كنس الظبي: أي دخل مأواه ليستتر، كناس الظبي : أي بيته الذي يلجأ إليه أو يختفي فيه؛ ومثله: اكتنست الغزالة: دخلت الكناس.

كنس النجوم كنوسا: استمرت في مجاريها ثم انصرفت راجعة( الجوار الكنس)

يقال : خنس عنه يخنس بالضم خُنوسا : تأخر، وأخنسه غيره : إذا خلفه ومضى عنه. والخنس تأخر الأنف عن الوجه مع ارتفاع قليل في الأرنبة، والرجل أخنس، والمرأة خنساء، والبقر كلها خنس.

قال القرطبي: والأصح الحمل على النجوم، لذكر الليل والصبح بعد هذا، فذكر النجوم أليق بذلك. وأيضا : لله أن يقسم بما شاء من مخلوقاته من حيوان وجماد، وإن لم يعلم وجه الحكمة في ذلك.وقال ابن مسعود: أقسم تعالى بالقر الوحشي.

وقد ورد تفسير علمي حديث لقوله تعالى( الجوار الكنس) أي النجوم السوداء- التي فسروها بالثقب الأسود- التي تكنس السماء من بقايا النجوم التي تنفجر أو قال تموت، بمعنى التنظيف حقيقتة، وتبتلعها الثقوب السوداء بفعل الجاذبية، وهذا التفسير بالإضافة إلى أنه يخالف العربية – معنى الخنس والكنس- بالإضافة إلى أن الكنس بمعنى التنظيف معنى مستحدث، فهو لم يدل عليه دليل أكيد على أن هناك نجوم سوداء، بالرغم من تأكيد صاحبها عليه، وأنها هي الثقوب التي ترى في السماء، فهذا من قوله وحده. والله أولى وأعلم.

وقوله تعالى: والجواري : جمع جارية من جرى يجري، وهي النجوم تجري في السماء، كما قال تعالى عن الشمس: {وَالشَّمْسُ تَجْرِي لِمُسْتَقَرٍّ لَّهَا ۚ ذَٰلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ} ( يس٣٨)

{ وَاللَّيْلِ إِذَا عَسْعَسَ} قال الفراء : أجمع المفسرون على أن معنى عسعس: أدبر؛حكاه الجوهري. وقال بعض أصحابنا : إنه دنا من أوله وأظلم وكذلك السحاب إذا دنا من الأرض. المهدوي قال عسعس: أدبر أو ذهب بظلامه؛ عن ابن عباس ومجاهد وغيرهما. وروي عنهما : أقبل بظلامه الفراء : العرب تقول عسعس وسعسع إذا لم يبق منه إلا اليسير. الخليل وغيره : عسعس الليل إذا أقبل أو أدبر. المبرد : هو من الأضداد، والمعنيان يرجعان إلى شيء واحد، وهو ابتداء الظلام في أوله، وإدباره في آخره؛

ويقال للذئب العسعس والعسعاس والعساس؛ لأنه يعس بالليل ويطلب. ويقال للقنافذ العساعس لكثرة ترددها بالليل. قال أبو عمرو : والتعسعس الشم.

ومنه سمي رجال الشرطة الذين يعملون ليلا: العسس.

قوله تعالى { وَالصُّبْحِ إِذَا تَنَفَّسَ} أي امتد حتى يصير نهارا واضحا؛ أي أضاء، يقال للنهار إذا زاد : تنفس. وكذلك الموج إذا نضح الماء.

ومعنى التنفس : خروج النسيم من الجوف. وقيل { إِذَا تَنَفَّسَ} أي انشق وانفلق؛ ومنه تنفست القوس أي تصدعت.

 أما الزمخشري فقد ذكر فيه وجها آخر،  فقال في الكشاف : " فإن قلت: ما معنى تنفس الصبح؟ قلت: إذا أقبل الصبح أقبل بإقباله روح و نسيم عليل جميل، فجعل ذلك نفسا له على المجاز". وقيل: نوع من الاستعارة بتشبيه الصبح، و قد طلع بعد غشيان الظلام للآفاق ، بمن أحاطت به متاعب أعمال شاقة ثم وجد خلاء من الزمان فاستراح فيه، و تنفس ، فعد إضاءته للأفق تنفسا منه.

وهنا كأنما ربنا  أقسم بالليل وظلامه إذا أقبل، وبالفجر وضيائه إذا أشرق، كما قال تعالى: { وَاللَّيْلِ إِذَا يَغْشَىٰ *وَالنَّهَارِ إِذَا تَجَلَّىٰ } ، وقال: { وَالضُّحَىٰ * وَاللَّيْلِ إِذَا سَجَىٰ}

قوله تعالى: { إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ} هذا جواب القسم. والرسول الكريم جبريل؛ قال الحسن، والمعنى { إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ} عن الله { كَرِيمٍ} على الله. وأضاف الكلام إلى جبريل عليه السلام، ثم عداه عنه بقول { تَنزِيلٌ مِّن رَّبِّ الْعَالَمِينَ} (الواقعة ٨٠) ليعلم أهل التحقيق في التصديق، أن الكلام لله عز وجل.يعني إن هذا القرآن لتبليغ رسول كريم، أي ملك شريف حسن الخلق بهي المنظر، وهو جبريل عليه الصلاة والسلام، {ذِي قُوَّةٍ} كقوله تعالى: { عَلَّمَهُ شَدِيدُ الْقُوَىٰ ﴿٥﴾ ذُو مِرَّةٍ فَاسْتَوَىٰ} ( النجم ٥- ٦) أي شديد الخلق، شديد البطش والفعل، {عِندَ ذِي الْعَرْشِ مَكِينٍ } أي له مكانة عند اللّه عزَّ وجلَّ ومنزلة رفيعة، { مُّطَاعٍ ثَمَّ أَمِينٍ} أي له وجاهة وهو مسموع القول مطاع في الملأ الأعلى، قال قتادة: {مُطاعٍ ثَمّ} ثَمَّ: أي في السموات، يعني ليس هو من أفناد الملائكة،  أفناد: جماعات الملائكة، بل هو من السادة والأشراف، معتنى به انتخب لهذه الرسالة العظيمة، وقوله تعالى: {أَمِينٍ} صفة لجبريل بالأمانة، وهذا عظيم جداً، أن الرب عزَّ وجلَّ يزكي عبده ورسوله الملكي جبريل كما زكى عبده ورسوله البشري محمداً بقوله تعالى: {وَمَا صَاحِبُكُم بِمَجْنُونٍ} قال الشعبي وميمون: عني محمداً .

وقوله تعالى: { وَلَقَدْ رَآهُ بِالْأُفُقِ الْمُبِينِ} يعني ولقد رأى محمد جبريل الذي يأتيه بالرسالة عن اللّه عزَّ وجلَّ، على الصورة التي خلقه اللّه عليها له ستمائة جناح، {بِالْأُفُقِ الْمُبِينِ}  أي البين، أي بمطلع الشمس من قبل المشرق؛ لأن هذا الأفق إذا كان منه تطلع الشمس فهو مبين،  وهي الرؤية الأولى كانت بالبطحاء، وهي المذكورة في قوله: { عَلَّمَهُ شَدِيدُ الْقُوَىٰ * ذُو مِرَّةٍ فَاسْتَوَىٰ * وَهُوَ بِالْأُفُقِ الْأَعْلَىٰ } ( النجم ٥ -٧ ) ، والظاهر أن هذه السورة نزلت قبل ليلة الإسراء، لأنه لم يذكر فيها إلا هذه الرؤية وهي الأولى، وأما الثانية وهي المذكورة في قوله تعالى: {أَفَتُمَارُونَهُ عَلَىٰ مَا يَرَىٰ *وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرَىٰ*عِندَ سِدْرَةِ الْمُنتَهَىٰ } ( النجم ١٢ -١٤) فتلك إنما ذكرت في سورة النجم، وقد نزلت بعد سورة الإسراء.

وجاء في {عَلَّمَهُ شَدِيدُ الْقُوَى} قالوا كان من شدة قوة جبريل عليه السلام أنه رفع مدائن قوم لوط وكن سبعاً، بمن فيها من الأمم وكانوا قريباً من أربعمائة ألف، وما معهم من الدواب والحيوان وما لتلك المدن من الأراضي والمعتملات والعمارات وغير ذلك، رفع ذلك كله على طرف جناحه حتى بلغ بهن عنان السماء حتى سمعت الملائكة نباح كلابهم وصياح ديكتهم ثم قلبها فجعل عاليها سافلها فهذا هو شديد القوى

عن عبد الله بن مسعود قال: قال رسول الﷺ: « إذا تكلَّم اللهُ بالوَحيِ سَمِعَ أهلُ السَّماءِ للسَّماءِ صلصلةً كجَرِّ السِّلسلةِ على الصَّفا، فيصعقون، فلا يزالون كذلك حتى يأتيَهم جبريلُ، حتى إذا جاءهم جِبريلُ فُزِّعَ عن قلوبِهم قال: فيقولون: يا جبريلُ، ماذا قال ربُّك؟ فيقول: الحَقَّ، فيقولون: الحَقّ الحَقّ» رواه أبو داود وصححه الألباني.

وذكر في القرآن باسمه صراحة في سورتي البقرة والتحريم

في التحريم: {وَإِن تَظَاهَرَا عَلَيْهِ فَإِنَّ اللَّـهَ هُوَ مَوْلَاهُ وَجِبْرِيلُ وَصَالِحُ الْمُؤْمِنِينَ ۖ وَالْمَلَائِكَةُ بَعْدَ ذَٰلِكَ ظَهِيرٌ} ( آية ٤ )

وفي سورة البقرة: {قُلْ مَن كَانَ عَدُوًّا لِّجِبْرِيلَ فَإِنَّهُ نَزَّلَهُ عَلَى قَلْبِكَ بِإِذْنِ اللّهِ مُصَدِّقاً لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ وَهُدًى وَبُشْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ *مَن كَانَ عَدُوًّا لِّلّهِ وَمَلآئِكَتِهِ وَرُسُلِهِ وَجِبْرِيلَ وَمِيكَالَ فَإِنَّ اللّهَ عَدُوٌّ لِّلْكَافِرِينَ} (سورة البقرة ٩٧ -٩٨)

وقوله تعالى: {وَمَا هُوَ عَلَى الْغَيْبِ بِضَنِينٍ} بالضاد، أي ببخيل بل يبذله لكل أحد، وتقرأ بالظاء {عَلَى الْغَيْبِ بظنين} أي متهم أو فاجر، أي يُظن فيه الظنون السيئة، قال سفيان بن عيينة: ظنين وضنين سواء، أي ما هو بفاجر، والظنين المتهم، والضنين البخيل، وقال قتادة: كان القرآن غيباً فأنزله اللّه على محمد، فما ضنّ به على الناس بل نشره وبلغه وبذله لكل من أراده، واختار ابن جرير قراءة الضاد.( وهي هكذا عند حفص) قلت: وكلاهما متواتر ومعناه صحيح كما تقدَّم.

 وقوله تعالى: { وَمَا هُوَ بِقَوْلِ شَيْطَانٍ رَّجِيمٍ} أي وما هذا القرآن بقول شيطان رجيم، أي لا يقدر على حمله ولا يريده ولا ينبغي له، كما قال تعالى: { وَمَا تَنَزَّلَتْ بِهِ الشَّيَاطِينُ* وَمَا يَنبَغِي لَهُمْ وَمَا يَسْتَطِيعُونَ *إِنَّهُمْ عَنِ السَّمْعِ لَمَعْزُولُونَ} ( الشعراء٢١٠- ٢١٢).

وقوله تعالى: { فأين تذهبون} ؟ فأين تذهب عقولكم في تكذيبكم بهذا القرآن، مع ظهوره ووضوحه وبيان كونه حقاً من عند اللّه عزَّ وجلَّ! كما قال الصديق رضي اللّه عنه لوفد بني حنيفة حين قدموا مسلمين، وأمرهم فتلوا عليه شيئاً من قرآن مسيلمة الكذّاب الذي هو في غاية الهذيان والركاكة فقال: (ويحكم أين تذهب عقولكم؟ واللّه إن هذا الكلام لم يخرج من إل) أي من إله، وقال قتادة: {فَأَيْنَ تَذْهَبُونَ}:  أي عن كتاب اللّه وعن طاعته.

 وقوله تعالى: {إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ لِّلْعَالَمِينَ} أي هذا القرآن ذكر لجميع الناس يتذكرون به ويتعظون {لِمَن شَاءَ مِنكُمْ أَن يَسْتَقِيمَ} أي لمن أراد الهداية فعليه بهذا القرآن فإنه منجاة له وهداية، ولا هداية فيما سواه، {وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَن يَشَاءَ اللَّـهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ} أي ليست المشيئة موكولة إليكم، بل ذلك كله تابع لمشيئة اللّه تعالى رب العالمين، قال سفيان الثوري: لما نزلت هذه الآية: { لِمَن شَاءَ مِنكُمْ أَن يَسْتَقِيمَ} قال أبو جهل: الأمر إلينا إن شئنا استقمنا، وإن شئنا لم نستقم، فأنزل اللّه تعالى: {وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَن يَشَاءَ اللَّـهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ}

 

والسورة: قال الصابوني: ثم تناولت أولا ( حقيقة يوم القيامة) ، ثم تناولت (حقيقة الوحي) وصفة النبي الذي يتلقاه، ثم شأن القوم المخاطبين بهذا الوحي، والرسول الذي نزل به لينقلهم من ظلمات الشرك والضلال، إلى نور العلم والإيمان.

* وختمت السورة الكريمة ببيان بطلان مزاعم المشركين، حول القرآن العظيم، وذكرت أنه موعظة من الله تعالى لعباده { فَأَيْنَ تَذْهَبُونَ* إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ لِّلْعَالَمِينَ *لِمَن شَاءَ مِنكُمْ أَن يَسْتَقِيمَ *وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَن يَشَاءَ اللَّـهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ}

لله الحمد والفضل والمنة، تم تفسير سورة التكوير


No comments:

Post a Comment