Thursday 14 January 2021

تفسير سورة عبس 3 والأخير، الصاخة وجوه يومئذ مسفرة

 



 يوم تأتي الصاخَّة تتميز الناس بين وجوه منيرة، ووجوه

 

التفسير:

 

قوله تعالى: ﴿فَإِذَا جَاءَتِ الصَّاخَّةُ﴾،  لما ذكر أمر المعاش ذكر أمر المعاد، ليتزودوا له بالأعمال الصالحة، وبالإنفاق مما امتن به عليهم.

{الصَّاخَّةُ} يعني يوم القيامة، سميت بذلك لأنها تصخ الأسماع، وقال البغوي: { الصاخة} يعني يوم القيامة، سميت بذلك لأنها تصخ الأسماع، أي تبالغ في إسماعها حتى تكاد تصمها،

من شدتها.

عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قالَ رسولُ اللَّهِ : " خيرُ يومٍ طلعت فيهِ الشَّمسُ يومُ الجمعةِ، فيهِ خُلِقَ آدمُ، وفيهِ أُهْبِطَ، وفيهِ تيبَ علَيهِ، وفيهِ قُبِضَ، وفيهِ تقومُ السَّاعةُ، ما علَى الأرضِ من دابَّةٍ إلَّا وَهيَ تصبحُ يومَ الجمعةِ مُصيخةً، حتَّى تطلعَ الشَّمسُ شفقًا منَ السَّاعةِ إلَّا ابنَ آدمَ" ( صحيح النسائي )، وقوله: "ما على الأرضِ مِن دابَّةٍ إلَّا وهي تُصبِحُ يومَ الجُمُعةِ مُصِيخةً"، وفي روايةِ أحمَدَ وأبي داودَ: "مُسِيخةً"، أي: مُصْغيَةً ومُستمِعةً، "حتَّى تَطلُعَ الشَّمسُ؛ شَفَقًا مِن السَّاعةِ"، أي: خوفًا مِن قِيامِ السَّاعةِ في ذلك اليَومِ؛ وذلك لِمَا جبَلَه اللهُ عليها، "إلَّا ابنَ آدمَ"، وفي روايةِ أحمَدَ وأبي داودَ: "إلَّا الجِنَّ والإنسَ"، أي: فإنَّهم لا يتَرقَّبون ولا يَخافون قِيامَ السَّاعةِ في هذا اليومِ؛ لِكَثرةِ غَفلتِهم، الله عافنا من الغفلة.

أما في اللغة:

الصاخَّة تقال ، ويقصد بها معنيين متضادين ، قال الخليل : الصاخة : صيحة تصخ الآذان صخا أي تصمها بشدة وقعتها.

أصل الكلمة في اللغة : الصك الشديد. وقيل : هي مأخوذة من صخه بالحجر : إذا صكه

الطبري : وأحسبه من صخ فلان فلانا : إذا أصماه، أصمه،  قال ابن العربي : الصاخة التي تورث الصمم، وإنها لمسمعة، وهذا من بديع الفصاحة، فهي تسمع من علو صوتها، وتصم الآذان من شدته، وقال آخر: لعمر الله إن صيحة القيامة لمسمعة تصم عن الدنيا، وتسمع أمور الآخرة.

قوله تعالى {يَوْمَ يَفِرُّ الْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ} أي يهرب، أي تجيء الصاخة في هذا اليوم الذي يهرب فيه من أخيه؛ أي من موالاة أخيه ومكالمته؛ لأنه لا يتفرغ لذلك، لاشتغاله بنفسه؛ كما قال بعده {لِكُلِّ امْرِئٍ مِّنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ} أي يشغله عن غيره.

وقيل : إنما يفر حذرا من مطالبتهم إياه، لما بينهم من التبعات.

وقيل : لئلا يروا ما هو فيه من الشدة.

وقيل : لعلمه أنهم لا ينفعونه ولا يغنون عنه شيئا؛ كما قال {يَوْمَ لَا يُغْنِي مَوْلًى عَن مَّوْلًى شَيْئًا وَلَا هُمْ يُنصَرُونَ} (الدخان ٤١).

وقال عبدالله بن طاهر الأبهري : يفر منهم لما تبين له من عجزهم وقلة حيلتهم، إلى من يملك كشف تلك الكروب والهموم عنه، وهو ربه تعالى، ولو ظهر له ذلك في الدنيا لما اعتمد شيئا سوى عليه تبارك وتعالى.

وذكر الضحاك عن ابن عباس قال : يفر قابيل من أخيه هابيل، ويفر النبي من أمه، وإبراهيم عليه السلام من أبيه، ونوح عليه السلام من ابنه، ولوط من امرأته، وآدم من سوأة بنيه. وقال الحسن : أول من يفر يوم القيامة من، أبيه : إبراهيم، وأول من يفر من ابنه نوح؛ وأول من يفر من امرأته لوط. والله أعلم.

يراهم ويفر منهم؛ لأن الهول عظيم، والخطب جليل، قال عكرمة: يلقى الرجل زوجته فيقول لها: يا هذه أي بعل كنت لكِ؟ فتقول: نعم البعل كنت، وتثني بخير ما استطاعت، فيقول لها: فإني أطلب إليك اليوم حسنة واحدة تهبيها لي لعلي أنجو مما ترين، فتقول له: ما أيسر ما طلبت، ولكن لا أطيق أن أعطيك شيئاً أتخوف مثل الذي تخاف، ومثلها الولد لوالده ووالدته، والأب والأم لأبنائهم.

وفي الحديث الصحيح في أمر الشفاعة: حتى عيسى بن مريم يقول يومها: "لا أسأله اليوم إلا نفسي، لا أسأله مريم التي ولدتني"

عن عائشة رضي الله عنها، قالت: قال رسول الله : " يُبعثُ النَّاسُ يومَ القيامةِ ، حفاةً عراةً غرلًا بُهْمًا . فقالت عائشةُ : فَكيفَ بالعوْراتِ؟ قالَ : {لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ} ( متفق عليه، واللفظ للإمام أحمد) أي له حال يشغله عن الأقرباء.

مقارنة بين ما جاء في سورة المعارج:{...يَوَدُّ الْمُجْرِمُ لَوْ يَفْتَدِي مِنْ عَذَابِ يَوْمِئِذٍ بِبَنِيهِ * وَصَاحِبَتِهِ وَأَخِيهِ * وَفَصِيلَتِهِ الَّتِي تُؤْوِيهِ }

وهنا في سورة (عبس)قوله: { يَوْمَ يَفِرُّ الْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ* وَأُمِّهِ وَأَبِيهِ * وَصَاحِبَتِهِ وَبَنِيهِ}

قال الدكتور فاضل السامرائي: في سور عبس: المشهد هو مشهد فرار، والفرار عادة يكون من الأباعد ثم ينتهي بالأقربين. المذكورون هنا: هم الأخ والأم والأب والصاحبة أي الزوجة والأبناء، الأبعد هو الأخ  مسافة عادة ،بينما يأوي الإنسان كل يوم إلى بيته وزوجه وأولاده. ولأن هذا مشهد فرار فلكون الأم لا تستطيع أن تفعل له شيء فهي أبعد من الأب في هذا المشهد.

في سورة المعارج: أولاً ربنا قال عنه: مجرم والمجرم يود النجاة بكل سبيل ويضحي ببنيه لأنه يصنع أيّ شيء ليفتدي نفسه، لا يهمه أحد، فبدأ بالأقرب. لكن الملاحظ أنه ذكر الأخ والأبناء والصاحبة ولم يذكر الأب والأم في الفداء لعظيم منزلتهما عند الله لا يجرؤ أن يفتدي بهما لأنه عندما يفتدي الشخص يفتدي بمن يحبه الشخص المقابل صاحب الشأن.

لو أراد شخصاً أن يفدي نفسه عند حاكم يفتدي بما يريده الحاكم لا بما يرضيه هو فلو افتدى بهما يقال له: هذا ما وصيتك به؟! تفتدي بهما وأنا أوصيتك بالإحسان إليهما وأنت تضعهما في النار؟!، لا يجرؤ مع أنه مجرم أن يفتدي بأبيه وأمه لعظيم منزلتهما عند الله لا يستطيع أن يقول أنا أفتدي بأمي وأبي، يقال له تعصي أمري الآن؟

وأقول: أنه لما أراد أن يفتدي نفسه، فيفتدي نفسه بما يملك، فهو يملك أبناؤه، كما قال رسول الله  : " أنتَ ومالُكَ لِأبيكَ" ( ضعيف)، لكنه لا يملك والديه ليفدي نفسه بهما، بل هما يملكانه.

فافتدى نفسه: بما يملك : ابنه ، وثم صاحبته ، وهي الزوجة، فهو بيعها ليتشري نفسه بما أمهرها، وله عليها من حق، وذكره أخاه من هذا الباب.

أما في مشهد الفرار ، فإنه يفر خزيا، وخوفا من يطلب منه حسنات، فيفر من أخيه أولا ، لأنه عرض نفسه عليه بأحسن صورة، ثم أمه وأبيه ، ثم تأتي صاحبته التي تعرفه أكثر من غيرها، والله أعلم.

 

وقوله تعالى { وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ مُّسْفِرَةٌ} أي يوم الصاخة يكون الناس هنالك فريقين، وجوه مسفرة أي مستنيرة مشرقة مضيئة، قد علمت مالها من الفوز والنعيم، وهي وجوه المؤمنين. {ضَاحِكَةٌ} أي مسرورة فرحة. {مُّسْتَبْشِرَةٌ}: أي قد ظهر البشر على وجوههم، بما آتاها الله من الكرامة، وهؤلاء هم أهل الجنة.

 {وَوُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ عَلَيْهَا غَبَرَةٌ * تَرْهَقُهَا قَتَرَةٌ } أي يعلوها وتغشاها {قَتَرَةٌ} أي سواد، وفي الحديث عن عبدِ اللهِ بنِ عمروِ بنِ العاصِ لا يرفعه، قال: يشتدُّ كربُ ذلك اليومِ حتى يلجمَ الكافرُ العرقَ ، قيل له : فأين المؤمنون ؟ قال: على الكراسي من ذهبٍ ويظلِّلُ عليهم الغمامَ. (  فهو قوله تعالى: { ووجوه يومئذ عليها غبرة} (أخرجه ابن أبي حاتم)، وقال ابن عباس { تَرْهَقُهَا قَتَرَةٌ} أي يغشاها سواد الوجوه وذلة وشدة.

 والقتر في كلام العرب : الغبار، جمع القترة، وقال زيد بن أسلم، القترة : ما ارتفعت إلى السماء، والغبرة : ما انحطت إلى الأرض، والغبار والغبرة : واحد.

وقوله تعالى: {أُولَـٰئِكَ هُمُ الْكَفَرَةُ الْفَجَرَةُ} أي الكفرة قلوبهم، الفجرة في أعمالهم، كما قال تعالى: {وَلَا يَلِدُوا إِلَّا فَاجِرًا كَفَّارًا } . و {الْفَجَرَةُ} جمع فاجر، وهو الكاذب المفتري على الله تعالى. وقيل : الفاسق.

يقال : فجر فجورا : أي فسق، وفجر : أي كذب. وأصله : الميل، والفاجر : المائل عن الحقيقة.

قال الإمام السعدي رحمه الله: {أُولَئِكَ} الذين بهذا الوصف {هُمُ الْكَفَرَةُ الْفَجَرَةُ } أي: الذين كفروا بنعمة الله وكذبوا بآيات الله، وتجرأوا على محارمه. فذُكر وصفاهم الدالان على مجموع فساد الاعتقاد وفساد العمل .

وذكر وصف { الفجرة } بدون عاطف يفيد أنهم جمعوا بين الكفر والفجور .

و«أُولئِكَ» مبتدأ و«هُمُ» ضمير فصل و«الْكَفَرَةُ الْفَجَرَةُ» خبران والجملة مستأنفة.

نسأل الله العفو والعافية إنه جواد كريم

[والحمد لله رب العالمين الذي بنعمته تتم الصالحات].

No comments:

Post a Comment