Thursday, 11 May 2023

تفسير سورة البقرة ح37 عسى أن تكرهو شيئا وهو خير لكم

      
 
 

                 تفسير سورة البقرة- ح ٣٧               

              (وَعَسَىٰ أَن تَكْرَهُوا شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ....)

             رب أمر تتقيه جر أمرا  ترتضيه ** خفي المحبوب منه وبدا المكروه فيه

(..وَالْفِتْنَةُ أَكْبَرُ مِنَ الْقَتْلِ ۗ)

اللهم إنا نَعُوذُ بِكَ مِنْ ضَرَّاءَ مُضِرَّةٍ ، وَمِنْ فِتْنَةٍ مُضِلَّةٍ   

     (فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَإِثْمُهُمَا أَكْبَرُ مِن نَّفْعِهِمَا ۗ.)

مقياس التحريم والتحليل

محور مواضيع هذا الجزء:

-لا يدري الإنسان ما هو خير له، وما الشر، والله هو مقدر الأقداروالرضا بما قضى هو السبيل لراحة البال، فلا تتسخط من أمر أنت لا تستطيع الكشف عن عواقبه، حتى يجليها ربك لك.

-ما هي الأشهر الحرم؟ ومن حرمها؟ ومتى؟

-يستهين البعض بما هو عند الله عظيم، ويستعظم ما هو هين، وهذا افتراء على الله.

-كيف حرمت الخمر؟ وما جعله الحاكم سبحانه قياس التحريم والتحليل.

- حكمة الله تعالى في التدرج في تحريمها .

-جمع تعالى في آية تحريم الخمر، مع الحض على الإنفاق!

التفسير:

قوله تعالى: (كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَّكُمْ ۖ وَعَسَىٰ أَن تَكْرَهُوا شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ ۖ وَعَسَىٰ أَن تُحِبُّوا شَيْئًا وَهُوَ شَرٌّ لَّكُمْ ۗ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنتُمْ لَا تَعْلَمُونَ) (٢١٦)

" كتب " معناه فرض،كما مر علينا فيمواضع، منها قوله تعالى: (كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ..) (١٨٧)، ‏ وقوله تعالى: ( كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى ۖ...)  (١٧٨)، وقوله: ( كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ إِن تَرَكَ خَيْرًا الْوَصِيَّةُ ..) (١٨٠)، وغيرها سيأتي.

وفي هذه الآية فرض الجهاد، ففيه إيجاب من اللّه تعالى للجهاد على المسلمين أن يكفوا شر الأعداء عن حوزة الإسلام، وقال الزهري: الجهاد واجب على كل أحد غزا أو قعد، فالقاعد عليه إذا استعين أن يعين، وإذا استغيث أن يغيث، وإذا استنفر أن ينفر، وإن لم يحتج إليه قعد. قلت ولهذا ثبت في صحيح مسلم، عن أبي هريرة رضي الله عنه قال رسول الله ﷺ: "مَن ماتَ ولَمْ يَغْزُ، ولَمْ يُحَدِّثْ به نَفْسَهُ، ماتَ علَى شُعْبَةٍ مِن نِفاقٍ".قال عليه السلام يوم الفتح: "لا هِجْرَةَ بَعْدَ الفَتْحِ، ولَكِنْ جِهادٌ ونِيَّةٌ، وإذا اسْتُنْفِرْتُمْ فانْفِرُوا."(البخاري عن عبد الله بن عباس)، حيث بيَّن سبحانه أن هذا مما امتحنوا به وجعل وصلة إلى الجنة.

والمراد بالقتال قتال الأعداء من الكفار، وهذا كان معلوما لهم بقرائن الأحوال، ولم يُؤذن للنبي ﷺفي القتال مدة إقامته بمكة، فلما هاجر أُذن له في قتال من يقاتله من المشركين فقال تعالى: (أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَإِنَّ اللَّهَ عَلَىٰ نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ) (الحج ٣٩)،ثم أذن له في قتال المشركين عامة. واختلفوا من المراد بهذه الآية، فقيل: أصحاب النبي ﷺ خاصة، فكان القتال مع النبي ﷺ فرض عين عليهم، فلما استقر الشرع صار على الكفاية.

وقال الجمهور من الأمة : أول فرضه إنما كان على الكفاية دون تعيين، غير أن النبيﷺ كان إذا استنفرهم تعين عليهم النفير لوجوب طاعته.

قال ابن عطية : والذي استمر عليه الإجماع أن الجهاد على كل أمة محمد ﷺفرض كفاية، فإذا قام به من قام من المسلمين سقط عن الباقين، إلا أن ينزل العدو بساحة الإسلام فهو حينئذ فرض عين.

قوله تعالى: (..وَهُوَ كُرْهٌ لَّكُمْ ۖ (مبتداء وخبر، وهو كره في الطباع. قال ابن عرفة: الكُره- بالضم- المشقة، والكَره -بالفتح - ما أُكْرهت عليه.

في اللغة:

كَرُهَ،  يَكْرُهُ . كَرَاهَةٌ، كَرَاهِيَةٌ. "كَرُهَ الْمَنْظَرُ أَوِ الأَمْرُ" : قَبُحَ.

 ويجوز الضم في معنى الفتح فيكونان لغتين، يقال: كرهت الشيء كَرها وكُرها وكَراهَة وكَراهِية؛ وأكْرِهْتُهُ عليه إكراها .

وإنما كان الجهاد كَرها لأن فيه إخراج المال ومفارقة الوطن والأهل، والتعرض بالجسد للشجاج والجراح وقطع الأطراف وذهاب النفس، فكانت كراهيتهم لذلك، لا أنهم كرهوا فرض الله تعالى . وقال عكرمة في هذه الآية: إنهم كرهوه ثم أحبوه وقالوا : سمعنا وأطعنا، وهذا لأن امتثال الأمر يتضمن مشقة، لكن إذا عرف الثواب هان في جنبه مقاساة المشقات .

قال القرطبي: ومثاله في الدنيا إزالة ما يؤلم الإنسان ويخاف منه كقطع عضو وقلع ضرس وفصد وحجامة ابتغاء العافية ودوام الصحة، ولا نعيم أفضل من الحياة الدائمة في دار الخلد والكرامة.

وقوله تعالى: (وَعَسَىٰ أَن تَكْرَهُوا شَيْئًا) قيل: "عَسَىٰ" : بمعنى قد. وقيل: هي واجبة.     و "عَسَىٰ" من الله واجبة في جميع القرآن إلا قوله تعالى: (عَسَىٰ رَبُّهُ إِن طَلَّقَكُنَّ أَن يُبْدِلَهُ) ( التحريم٥). وقال أبو عبيدة : "عَسَىٰ"  من الله إيجاب، والمعنى: عسى أن تكرهوا ما في الجهاد من المشقة وهو خير لكم في أنكم تغلبون وتظفرون وتغنمون وتؤجرون، ومن مات مات شهيدا،  و"عَسَىٰ"  أن تحبوا الدعة وترك القتال وهو شر لكم في أنكم تغلبون وتذلون ويذهب أمركم .

وهذا صحيح لا غبار عليه، كما حدث في بلاد الأندلس، تركوا الجهاد واجتنبوا القتال وأكثروا من الفرار، فاستولى العدو على البلاد، وأي بلاد ؟ وأسر وقتل وسبى واسترق، فإنا لله وإنا إليه راجعون! ذلك بما قدمت أيدينا وكسبته!

والمعنى أعم وأشمل، قال الحسن في معنى الآية: لا تكرهوا الملمات الواقعة، فلرب أمر تكرهه فيه نجاتك، ولرب أمر تحبه فيه عطبك، وأنشد أبو سعيد الضرير :

رب أمر تتقيه جر أمرا ترتضيه    خفي المحبوب منه وبدا المكروه فيه

(وَعَسَىٰ أَن تُحِبُّوا شَيْئًا وَهُوَ شَرٌّ لَّكُمْ) وهذا عام في الأمور كلها. قد يحب المرء شيئاً وليس له فيه خيرة ولا مصلحة، ومن ذلك القعود عن القتال قد يعقبه استيلاء العدو على البلاد والحكم، وغير ذلك كثير من الأحوال اليومية، العامة والخاصة. ثم قال تعالى: (وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنتُمْ لَا تَعْلَمُونَ) أي هو أعلم بعواقب الأمور منكم، وأخبر بما فيه صلاحكم في دنياكم وأُخراكم، فاستجيبوا له وانقادوا لأمره لعلكم ترشدون.

قوله تعالى: (يَسْأَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرَامِ قِتَالٍ فِيهِ ۖ قُلْ قِتَالٌ فِيهِ كَبِيرٌ ۖ وَصَدٌّ عَن سَبِيلِ اللَّهِ وَكُفْرٌ بِهِ وَالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَإِخْرَاجُ أَهْلِهِ مِنْهُ أَكْبَرُ عِندَ اللَّهِ ۚ وَالْفِتْنَةُ أَكْبَرُ مِنَ الْقَتْلِ ۗ وَلَا يَزَالُونَ يُقَاتِلُونَكُمْ حَتَّىٰ يَرُدُّوكُمْ عَن دِينِكُمْ إِنِ اسْتَطَاعُوا ۚ وَمَن يَرْتَدِدْ مِنكُمْ عَن دِينِهِ فَيَمُتْ وَهُوَ كَافِرٌ فَأُولَٰئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ ۖ وَأُولَٰئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ ۖ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ) (٢١٧)

قوله تعالى: (يَسْأَلُونَكَ..)؛ قال ابن عباس رضي الله عنهما قال: "ما رأيتُ قومًا خيرًا مِن أصحابِ محمَّدٍ ﷺ، ما سألوهُ إلَّا عن اثنتَي عشرةَ مسألةٍ كلَّها في القُرآنِ: (يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ ..) ، (و يَسْأَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرَامِ..)، (ويَسْأَلُونَكَ عَنِ الْيَتَامَى ..)، يعني هذا وأشباهُهُ مما سألوا عنه.(إسناده صحيح)

وقوله: (و يَسْأَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرَامِ..)، سبب نزولها في قصة عبد الله بن جحش، وأن النبي ﷺ بعثه مع تسعة رهط، وقيل ثمانية، في آخر جمادى الآخرة قبل بدر بشهرين، وقيل في رجب. قال أبو عمر - في كتاب الدرر: أن رسول اللهﷺ بعث في رجب عبد الله بن جحش بن رئاب الأسدي ومعه ثمانية رجال من المهاجرين، وهم أبو حذيفة بن عتبة، وعكاشة بن محصن، وعتبة بن غزوان، وسهيل بن بيضاء الفهري، وسعد بن أبي وقاص، وعامر بن ربيعة، وواقد بن عبد الله التميمي، وخالد بن بكير الليثي. وكتب لعبد الله بن جحش كتابا، وأمره ألا ينظر فيه حتى يسير يومين ثم ينظر فيه فيمضي لما أمره به ولا يستكره أحدا من أصحابه، وكان أميرهم، ففعل عبد الله بن جحش ما أمره به.

 فلما فتح الكتاب وقرأه وجد فيه: "إذا نظرت في كتابي هذا فامض حتى تنزل نخلة بين مكة والطائف فترصد بها قريشا، وتعلم لنا من أخبارهم" . فلما قرأ الكتاب قال: سمعا وطاعة لله وللرسول.

 ثم أخبر أصحابه بذلك، وبأنه لا يستكره أحدا منهم، وأنه ناهض لوجهه بمن أطاعه، وأنه إن لم يطعه أحد مضى وحده، فمن أحب الشهادة فلينهض، ومن كره الموت فليرجع . فقالوا: كلنا نرغب فيما ترغب فيه، وما منا أحد إلا وهو سامع مطيع لرسول الله ﷺ، ونهضوا معه ، فسلك على الحجاز، وشرد لسعد بن أبي وقاص وعتبة بن غزوان جمل كانا يعتقبانه فتخلفا في طلبه، ونفذ عبد الله بن جحش مع الباقي لوجهته حتى نزل بنخلة، فمرت بهم عير لقريش تحمل زبيبا وتجارة فيها عمرو بن الحضرمي، وعثمان بن عبد الله بن المغيرة، وأخوه نوفل بن عبد الله بن المغيرة المخزوميان، والحكم بن كيسان مولى بني المغيرة، فتشاور المسلمون وقالوا: نحن في آخر يوم من رجب الشهر الحرام، فإن نحن قاتلناهم هتكنا حرمة الشهر الحرام: وإن تركناهم الليلة دخلوا الحرم، ثم اتفقوا على لقائهم، فرمى واقد بن عبد الله التميمي عمرو بن الحضرمي فقتله، وأسروا عثمان بن عبد الله والحكم بن كيسان، وأفلت نوفل بن عبد الله، ثم قدموا بالعير والأسيرين، وقال لهم عبد الله بن جحش: اعزلوا مما غنمنا الخمس لرسول الله ﷺ ففعلوا ، فكان أول خمس في الإسلام، ثم نزل القرآن: (وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُم مِّن شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ) (الأنفال٤١)، فأقر الله ورسوله فعل عبد الله بن جحش ورضيه وسنه للأمة إلى يوم القيامة، وهي أول غنيمة غنمت في الإسلام- وكانت قبلها أنفال لله وللرسول ﷺ- وهو أول أمير، وعمرو بن الحضرمي أول قتيل . وأنكر رسول الله ﷺ قتل ابن الحضرمي في الشهر الحرام، فسقط في أيدي القوم، فأنزل الله عز وجل: (يَسْأَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرَامِ قِتَالٍ فِيهِ ۖ..) إلى قوله: (هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ).

وقبل رسول الله ﷺ الفداء في الأسيرين، وبعث أهل مكة في فداء أسيريهم، فقال: لا نفديهما حتى يقدم سعد وعتبة، وإن لم يقدما قتلناهما بهما، فلما قدما فاداهما،فأما عثمان بن عبد الله فمات بمكة كافرا، وأما الحكم بن كيسان فأسلم وأقام مع رسول الله ﷺ حتى استشهد ببئر معونة، ورجع سعد بن أبي وقاص ،وعتبة إلى المدينة سالمين . وقيل : إن انطلاق سعد بن أبي وقاص وعتبة في طلب بعيرهما كان عن إذن من عبد الله بن جحش، وإن عمرو بن الحضرمي وأصحابه لما رأوا أصحاب رسول الله ﷺ هابوهم ، فقال عبد الله بن جحش: إن القوم قد فزعوا منكم، فاحلقوا رأس رجل منكم فليتعرض لهم، فإذا رأوه محلوقا أمنوا وقالوا : قوم عمار لا بأس عليكم، وتشاوروا في قتالهم، الحديث .

وتفاءلت اليهود وقالوا: واقد وقدت الحرب، وعمرو عمرت الحرب، والحضرمي حضرت الحرب.

فهذا سبب نزول قوله تعالى : (يَسْأَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرَامِ..)

وذكر ابن إسحاق أن قتل عمرو بن الحضرمي كان في آخر يوم من رجب ، على ما تقدم . وذكر الطبري عن السدي وغيره أن ذلك كان في آخر يوم من جمادى الآخرة، والأول أشهر ، على أن ابن عباس قد ورد عنه أن ذلك كان في أول ليلة من رجب، والمسلمون يظنونها من جمادى. قال ابن عطية: وذكر الصاحب بن عباد في رسالته المعروفة بالأسدية أن عبد الله بن جحش سمي أمير المؤمنين في ذلك الوقت لكونه مؤمرا على جماعة من المؤمنين.

هل هذه الآية منسوخة:

واختلف العلماء في نسخ هذه الآية، فالجمهور على أنها منسوخة، وأن قتال المشركين في الأشهر الحرم مباح.

واختلفوا في ناسخها، فقال الزهري: نسخها:  (وَقَاتِلُوا الْمُشْرِكِينَ كَافَّةً كَمَا يُقَاتِلُونَكُمْ كَافَّةً وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ) (التوبة ٣٦)‏.

وقيل نسخها غزو النبي ﷺ ثقيفا في الشهر الحرام، وقيل بل كانت هذه الغزوة في شوال.

وقيل: نسخها بيعة الرضوان على القتال في ذي القعدة، وهذا ضعيف ، فإن النبي ﷺ لما بلغه قتل عثمان بمكة وأنهم عازمون على حربه بايع حينئذ المسلمين على دفعهم لا على الابتداء بقتالهم.

فسبحانه وتعالى أخبر في كتابه أن القتال في الشهر الحرام حرام كما كان، وأن الذي يستحلون من المؤمنين هو أكبر من ذلك من صدهم عن سبيل الله حين يسجنونهم ويعذبونهم ويحبسونهم أن يهاجروا إلى رسول الله ، وكفرهم بالله وصدهم المسلمين عن المسجد الحرام في الحج والعمرة والصلاة فيه، وإخراجهم أهل المسجد الحرام وهم سكانه من المسلمين، وفتنتهم إياهم عن الدين،، كل هذا أكبر عند الله.

وكان عطاء يقول: الآية محكمة، ولا يجوز القتال في الأشهر الحرم، ويحلف على ذلك ؛ لأن الآيات التي وردت بعدها عامة في الأزمنة، وهذا خاص والعام لا ينسخ الخاص باتفاق . وروى أبو الزبير عن جابر قال: كان رسول الله لا يقاتل في الشهر الحرام إلا أن يغزى .

أي يسألك الكفار تعجبا من هتك حرمة الشهر، فسؤالهم عن الشهر إنما كان لأجل القتال فيه.

قوله تعالى: (قُلْ قِتَالٌ فِيهِ كَبِيرٌ ۖ)، أي مستنكر، وهو اثم عظيم؛ لأن تحريم القتال في الشهر الحرام كان ثابتا عند العرب يومئذ، والشهر في الآية اسم جنس، والأشهر الأربعة التي حرمها الله تعالى في قوله سبحانه (مِنْهَا أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ) يحرم انتهاكها بالمعاصي، ويحرم القتال فيها؛ ليأمن قاصدو البيت للحج والعمرة فيها، وتحريمها جاء على لسان الخليل عليه السلام، وتوارث العرب ذلك بالقول والعمل إلا أنهم عبثوا فيه بالنسيء وهو التأخير، وهي حيلة عملوها لإباحة المحرم كما هي عادة أهل الأهواء (إِنَّمَا النَّسِيءُ زِيَادَةٌ فِي الكُفْرِ يُضَلُّ بِهِ الَّذِينَ كَفَرُوا يُحِلُّونَهُ عَامًا وَيُحَرِّمُونَهُ عَامًا لِيُوَاطِئُوا عِدَّةَ مَا حَرَّمَ اللهُ فَيُحِلُّوا مَا حَرَّمَ اللهُ..) (التوبة ٣٧).

فكانت العرب لا تسفك دما ولا تغير في الأشهر الحرم، وهي؛  رجب وذو القعدة وذو الحجة والمحرم، ثلاثة سرد ،وواحد فرد -رجب-

وقوله تعالى: (وَصَدٌّ عَن سَبِيلِ اللَّهِ وَكُفْرٌ بِهِ وَالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَإِخْرَاجُ أَهْلِهِ مِنْهُ أَكْبَرُ عِندَ اللَّهِ ۚ وَالْفِتْنَةُ أَكْبَرُ مِنَ الْقَتْلِ ۗ..)

قوله تعالى: (وَصَدٌّ عَن سَبِيلِ اللَّهِ ) ابتداء، ويعطف عليها  (َكُفْرٌ بِهِ) عطف على  (وَصَدٌّ)، (وَالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ) عطف على (سَبِيلِ اللَّهِ)،  (وَإِخْرَاجُ أَهْلِهِ مِنْهُ) عطف على (وَصَدٌّ)، وخبر الابتداء (أَكْبَرُ عِندَ اللَّهِ ۚ) أي أعظم إثما من القتال في الشهر الحرام، وهو الصحيح ، لطول منع الناس عن الكعبة أن يطاف بها . (َكُفْرٌ بِهِ) أي بالله ، وقيل : (َكُفْرٌ بِهِ)،  أي بالحج والمسجد الحرام . (وَإِخْرَاجُ أَهْلِهِ مِنْهُ أَكْبَرُ عِندَ اللَّهِ ۚ) أي أعظم عقوبة عند الله من القتال في الشهر الحرام.

ومعنى الآية على قول الجمهور: إنكم يا كفار قريش تستعظمون علينا القتال في الشهر الحرام ، وما تفعلون أنتم من الصد عن سبيل الله لمن أراد الإسلام، ومن كفركم بالله وإخراجكم أهل المسجد منه، كما فعلتم برسول الله وأصحابه أكبر جرما عند الله . وقال عبد الله بن جحش رضي الله عنه :

تعدون قتلا في الحرام عظيمة وأعظم منه لو يرى الرشد راشد

صدودكم عما يقول محمد وكفر به والله راء وشاهد

وإخراجكم من مسجد الله أهله لئلا يُرى للهِ في البيت ساجد

فإنا وإن عيرتمونا بقتله وأرجف بالإسلام باغ وحاسد

سقينا من ابن الحضرمي رماحنا بنخلة لما أوقد الحرب واقد

دما وابن عبد الله عثمان بيننا ينازعه غل من القد عاند

قوله تعالى: (وَالْفِتْنَةُ أَكْبَرُ مِنَ الْقَتْلِ..)  قال الجمهور: معنى الفتنة هنا فتنتهم المسلمين عن دينهم حتى يهلكوا ، أي أن ذلك أشد اجتراما من قتلكم في الشهر الحرام، وهو الحق. وَلَا يَزَالُونَ يُقَاتِلُونَكُمْ حَتَّىٰ يَرُدُّوكُمْ عَن دِينِكُمْ إِنِ اسْتَطَاعُوا ۚ وَمَن يَرْتَدِدْ مِنكُمْ عَن دِينِهِ فَيَمُتْ وَهُوَ كَافِرٌ فَأُولَٰئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ ۖ

قوله تعالى: (وَلَا يَزَالُونَ يُقَاتِلُونَكُمْ حَتَّىٰ يَرُدُّوكُمْ عَن دِينِكُمْ إِنِ اسْتَطَاعُوا ۚ) عبارة: (وَلَا يَزَالُونَ)  ابتداء خبر من الله تعال، وتحذير منه للمؤمنين من شر الكفرة، وأن غايتهم صد المؤمنين عن الإيمان. قال مجاهد : يعني كفار قريش، (َحَتَّىٰ يَرُدُّوكُمْ) نصب بحتى؛ لأنها غاية مجردة .

قوله تعالى : (وَمَن يَرْتَدِدْ مِنكُمْ )  أي يرجع عن الإسلام إلى الكفر . (فَأُولَٰئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ أي بطلت وفسدت، ومنه الحبط وهو فساد يلحق المواشي في بطونها من كثرة أكلها الكلأ فتنتفخ أجوافها، وربما تموت من ذلك، فالآية تحذير للمسلمين ليثبتوا على دين الإسلام .

واختلف العلماء في المرتد هل يستتاب أم لا ؟ وهل يحبط عمله بنفس الردة أم لا ، إلا على الموافاة على الكفر ؟ وهل يورث أم لا ؟ فهذه ثلاث مسائل :

الأولى : قالت طائفة: يستتاب، فإن تاب وإلا قتل، وفي الفترة التي تمنح له ليعود، قيل : ساعة واحدة . وقيل بزيادة وقال الحسن: يستتاب مائة مرة ، والزنديق عندهم والمرتد سواء.

من ارتد ثم عاد إلى الإسلام هل يحبط عمله؟

قال الشافعي : إن من ارتد ثم عاد إلى الإسلام لم يحبط عمله ولا حجه الذي فرغ منه، لكنه إن مات على الردة فحينئذ تحبط أعماله . وقال مالك : تحبط بنفس الردة ، ويظهر الخلاف في المسلم إذا حج ثم ارتد ثم أسلم ، فقال مالك : يلزمه الحج ؛ لأن الأول قد حبط بالردة . وقال الشافعي : لا إعادة عليه ؛ لأن عمله باق ، ولكن سياق بقية الآية يحسم الخلاف ، فقوله تعالى: (وَمَن يَرْتَدِدْ مِنكُمْ عَن دِينِهِ فَيَمُتْ وَهُوَ كَافِرٌ فَأُولَٰئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ ۖ وَأُولَٰئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ ۖ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ) ، ففيها الدليل على حبط عمله.

واستظهر علماء المالكية حكمهم بقوله تعالى: (لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ) (الزمر ٦٥)، قالوا : وهو خطاب للنبي والمراد أمته؛ لأنه عليه السلام يستحيل منه الردة شرعا. وقال أصحاب الشافعي: بل هو خطاب النبي على طريق التغليظ على الأمة، وبيان أن النبي على شرف منزلته لو أشرك لحبط عمله ، فكيف أنتم! لكنه لا يشرك لفضل مرتبته.

وقوله تعالى: (إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَاجَرُوا وَجَاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أُولَٰئِكَ يَرْجُونَ رَحْمَتَ اللَّهِ ۚ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ) (٢١٨)

( إن الذين آمنوا ) ثم هي باقية في كل من فعل ما ذكره الله عز وجل. وقيل أنهم كانوا يقولون فيهم: إن لم يكونوا أصابوا وزرا فليس لهم أجر ، فأنزل الله: (إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَاجَرُوا ..) إلى آخر الآية . فوضع اللّه من ذلك على أعظم الرجاء. فقال أبو بكر الصديق رضي اللّه عنه في غزوة عبداللّه بن جحش.

والهجرة: معناها الانتقال من موضع إلى موضع ، وقصد ترك الأول إيثارا للثاني .

والهجر ضد الوصل. وقد هجره هجرا وهجرانا، والاسم الهجرة . والمهاجرة من أرض إلى أرض ترك الأولى للثانية . والتهاجر التقاطع .

(وَجَاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ .)؛  وجاهد مفاعلة من جهد إذا استخرج الجهد، مجاهدة وجهادا . والاجتهاد والتجاهد : بذل الوسع والمجهود .

والجَهاد (بالفتح): الأرض الصلبة. و ( يَرْجُونَ رَحْمَتَ اللَّهِ ۚ) يرجون؛ أي: يطمعون ويستقربون . وإنما قال ( يَرْجُونَ ) وقد مدحهم لأنه لا يعلم أحد في هذه الدنيا أنه صائر إلى الجنة ولو بلغ في طاعة الله كل مبلغ ، لأمرين : أحدهما : لا يدري بما يختم له . والثاني : لئلا يتكل على عمله، والرجاء ينعم، والرجاء أبدا معه خوف ولابد ، كما أن الخوف معه رجاء. والرجاء من الأمل ممدود، يقال: رجوت فلانا رجوا ورجاء ورجاوة، يقال: ما أتيتك إلا رجاوة الخير. وترجيته وارتجيته ورجيته وكله بمعنى رجوته.

وما لي في فلان رجية ، أي ما أرجو. وقد يكون الرجو والرجاء بمعنى الخوف، قال الله تعالى: (مَّا لَكُمْ لَا تَرْجُونَ لِلَّهِ وَقَارًا ) (نوح  ١٣)‏؛ أي لا تخافون عظمة الله ، قال أبو ذؤيب :إذا لسعته النحل لم يرج لسعها : أي لم يخف ولم يبال. والرجا - مقصور -: ناحية البئر وحافتاها، وكل ناحية رجا.

وقوله تعالى: (يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ ۖ قُلْ فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَإِثْمُهُمَا أَكْبَرُ مِن نَّفْعِهِمَا ۗ وَيَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنفِقُونَ قُلِ الْعَفْوَ ۗ كَذَٰلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآيَاتِ لَعَلَّكُمْ تَتَفَكَّرُونَ) (٢١٩)

قوله تعال : (يَسْأَلُونَكَ..) هذه أول آية نزلت في الخمر، والسائلون هم المؤمنون، والخمر مأخوذة من خمر إذا ستر ، ومنه خمار المرأة . وكل شيء غطى شيئا فقد خمره، ومنه  قوله ﷺ: " خَمِّرُوا الآنِيَةَ، وأَجِيفُوا الأبْوابَ، وأَطْفِئُوا المَصابِيحَ" ( البخاري) ، فالخمر تخمر العقل، أي تغطيه وتستره، ومن ذلك الشجر الملتف يقال له: الخمَر (بفتح الميم ) لأنه يغطي ما تحته ويستره، يقال منه : أخمرت الأرض كثر خمرها

ومنه قولهم: دخل في غمار الناس وخمارهم، أي هو في مكان خاف.

ولما كانت الخمر تستر العقل وتغطيه سميت بذلك وقيل: إنما سميت الخمر خمرا لأنها تركت حتى أدركت، كما يقال: قد اختمر العجين، أي بلغ إدراكه. وخمر الرأي، أي ترك حتى يتبين فيه الوجه الصحيح.

 وقيل: إنما سميت الخمر خمرا لأنها تخالط العقل، من المخامرة وهي المخالطة ، ومنه قولهم: دخلت في خمار الناس، أي اختلطت بهم . فالمعاني الثلاثة متقاربة ، فالخمر تركت وخمرت حتى أدركت، ثم خالطت العقل، ثم خمرته، والأصل الستر .

والخمر : ماء العنب الذي غلى أو طبخ، وما خامر العقل من غيره فهو في حكمه؛ لأن إجماع العلماء أن القمار كله حرام. وإنما ذكر الميسر من بينه فجعل كله قياسا على الميسر، والميسر إنما كان قمارا في الجزر خاصة ، فكذلك كل ما كان كالخمر فهو بمنزلتها .

والجمهور من الأمة على أن ما أسكر كثيره من غير خمر العنب فمحرم قليله وكثيره ، والحد في ذلك واجب. وقال أبو حنيفة والثوري وابن أبي ليلى وابن شبرمة وجماعة من فقهاء الكوفة : ما أسكر كثيره من غير خمر العنب فهو حلال، وإذا سكر منه أحد دون أن يتعمد الوصول إلى حد السكر فلا حد عليه ، وهذا ضعيف يرده النظر والخبر.

وقال بعض المفسرين: إن الله تعالى لم يدع شيئا من الكرامة والبر إلا أعطاه هذه الأمة، ومن كرامته وإحسانه أنه لم يوجب عليهم الشرائع دفعة واحدة ، ولكن أوجب عليهم مرة بعد مرة ، فكذلك تحريم الخمر .

وهذه الآية أول ما نزل في أمر الخمر، ثم بعده: (لَا تَقْرَبُوا الصَّلَاةَ وَأَنتُمْ سُكَارَىٰ حَتَّىٰ تَعْلَمُوا مَا تَقُولُونَ) ( النساء ٤٣)،  ثم قوله: (إِنَّمَا يُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَن يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ وَيَصُدَّكُمْ عَن ذِكْرِ اللَّهِ وَعَنِ الصَّلَاةِ فَهَلْ أَنتُم مُّنتَهُونَ) (المائدة ٩١)‏ ،  ثم قوله: (إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنصَابُ وَالْأَزْلَامُ رِجْسٌ مِّنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ)‏ (المائدة ٩٠)

روى الإمام أحمد عن أبي ميسرة عن عمر أنه قال: لما نزل تحريم الخمر قال: اللهم بيّن لنا في الخمر بياناً شافياً ، فنزلت هذه الآية التي في سورة البقرة: (يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ ۖ قُلْ فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ)، فدعي عمر فقرئت عليه، فقال: اللهم بيِّن لنا في الخمر بياناً شافياً، فنزلت الآية التي في النساء: (لَا تَقْرَبُوا الصَّلَاةَ وَأَنتُمْ سُكَارَىٰ حَتَّىٰ تَعْلَمُوا مَا تَقُولُونَ)  فكان منادي رسول اللّه إذا قام الصلاة نادى: أن لا يقربن الصلاة سكران، فدعي عمر فقرئت عليه، فقال: اللهم بيِّن لنا في الخمر بياناً شافياً. فنزلت الآية التي في المائدة، فدعي عمر فقرئت عليه فلما بلغ (فَهَلْ أَنتُم مُّنتَهُونَ) قال عمر رضي الله عنه: "انتهينا انتهينا "

قوله تعالى: (وَالْمَيْسِرُ) الميسر : قمار العرب بالأزلام . قال ابن عباس : ( كان الرجل في الجاهلية يخاطر الرجل على أهله وماله فأيهما قمر صاحبه ذهب بماله وأهله) فنزلت الآية. وعن علي بن أبي طالب رضي الله عنه وابن عباس أيضا: ( كل شيء فيه قمار من نرد وشطرنج فهو الميسر ، حتى لعب الصبيان بالجوز والكعاب، إلا ما أبيح من الرهان في الخيل والقرعة في إفراز الحقوق)، وقال مالك: الميسر ميسران: ميسر اللهو، وميسر القمار ، فمن ميسر اللهو النرد والشطرنج والملاهي كلها. وميسر القمار : ما يتخاطر الناس عليه . قال علي بن أبي طالب: الشطرنج ميسر العجم. وكل ما قومر به فهو ميسر عند مالك وغيره من العلماء .

والميسر مأخوذ من اليسر، وهو وجوب الشيء لصاحبه، يقال : يسر لي كذا إذا وجب فهو ييسر يسرا وميسرا . والياسر : اللاعب بالقداح ، وقد يسر ييسر

وقال الأزهري : الميسر : الجزور الذي كانوا يتقامرون عليه ، سمي ميسرا لأنه يجزأ أجزاء ، فكأنه موضع التجزئة ، وكل شيء جزأته فقد يسرته . والياسر : الجازر ؛ لأنه يجزئ لحم الجزور . قال: وهذا الأصل في الياسر ، ثم يقال للضاربين بالقداح والمتقامرين على الجزور: ياسرون ؛ لأنهم جازرون إذ كانوا سببا لذلك . وفي الصحاح : ويسر القوم الجزور أي اجتزروها واقتسموا أعضاءها .

وقوله تعالى: (قُلْ فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ) ، أما إثمهما فهو في الدين، ومن حيث أنها تُذهب العقل، وأما المنافع فدنيوية، من حيث إنه كما يقولون، قليل منها ينفع البدن، وتهضيم الطعام، وإخراج الفضلات، وتنفع كونها رائجة في التجارة، فالواضح أن هذه المصالح لا توازي مضرته ومفسدته الراجحة لتعلقها بالعقل والدين، ولهذا قال الله تعالى: (وَإِثْمُهُمَا أَكْبَرُ مِن نَّفْعِهِمَا ۗ)، ولهذا كانت هذه الآية ممهدة لتحريم الخمر على البتات، ولم تكن مصرحة بل معرضة، ولهذا قال عمر رضي اللّه عنه لما قرئت عليه: اللهم بيِّن لنا في الخمر بياناً شافياً حتى نزل التصريح بتحريمها في سورة المائدة.

وقوله تعالى: (وَيَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنفِقُونَ قُلِ الْعَفْوَ ۗ كَذَٰلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآيَاتِ لَعَلَّكُمْ تَتَفَكَّرُونَ) (٢١٩)

روي أن معاذ بن جبل وثعلبة أتيا رسول اللّه فقالا: يا رسول اللّه: إن لنا أرقاء وأهلين من أموالنا فأنزل اللّه: (وَيَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنفِقُونَ)، وعن ابن عباس: (وَيَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنفِقُونَ قُلِ الْعَفْوَ) قال: ما يفضل عن أهلك، (قُلِ الْعَفْوَ)  يعني الفضل، وعن طاوس: اليسير من كل شيء، وعن الربيع: أفضل مالك وأطيبه، والكل يرجع إلى الفضل.

 ويدل على ذلك ما رواه ابن جرير عن أبي هريرة قال، قال رجل فقال: (يا رَسولَ الله، عندي دينارٌ فما أصنعُ به؟ قال: أنفِقْه على نفسِك. قال: عندي آخَرُ فما أصنعُ به؟ قال: أنفِقْه على أهلِك. قال: عندي آخَرُ، قال: أنفِقْه على ولَدِك. قال: عندي آخَرُ فما أصنعُ به؟ قال: أنفِقْه على خادِمِك. قال: عندي آخَرُ فما أصنَعُ به؟ قال: أنت أعلمُ)."رواه ابن جرير وأخرجه مسلم بنحوه"  وعن جابر أن رسول اللّه قال لرجل: (ابدأ بنفسِك فتصدَّق عليها فإن فضلَ شيءٌ فلأهلِك فإن فضلَ شيءٌ عن أهلِك فلذي قرابتِك فإن فضلَ عن ذي قرابتِك شيءٌ فَهكذا وَهكذا ويقولُ بينَ يديكَ وعن يمينِك وعن شمالِك) "رواه مسلم أيضا" ، وقال رسول اللّه: "خير الصدقة ما كان عن ظهر غنى، واليد العليا خير من اليد السفلى، وابدأ بمن تعول" ( مسلم عن أبي هريرة)، وفي الحديث أيضاً: (ابن آدم إنك إن تبذل الفضل خير لك وإن تمسكه شر لك ولا تلام على كفاف)، ثم قيل: إنها منسوخة بآية الزكاة، وقيل: مبينة بآية الزكاة وهو أوجه. وقوله تعالى: (كَذَٰلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآيَاتِ لَعَلَّكُمْ تَتَفَكَّرُونَ * فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ ۗ) أي كما فصل لكم هذه الأحكام وبينها أوضحها، كذلك يبين لكم سائر الآيات في أحكامه، ووعده ووعيده لعلكم تتفكرون في الدنيا والآخرة، قال ابن عباس: يعني في زوال الدنيا وفنائها وإقبال الآخرة وبقائها. وقال الحسن: هي واللّه لمن تفكر فيها، ليعلم أن الدنيا دار بلاء ثم دار فناء، وليعلم أن الآخرة دار جزاء ثم دار بقاء.

 

No comments:

Post a Comment