Thursday, 18 May 2023

تفسير سورة البقرة ح38 قل أصلاح لهم خير

  
   

                   تفسير سورة البقرة- ح ٣٨                 

               (قُلْ إِصْلَاحٌ لَّهُمْ خَيْرٌ ۖ وَإِن تُخَالِطُوهُمْ فَإِخْوَانُكُمْ ۚ.)

             لماذا يسألون؟ وكيف يكون الأصلح لهم؟

(.وَاللَّهُ يَعْلَمُ الْمُفْسِدَ مِنَ الْمُصْلِحِ ۚۗ)

فاظْفَرْ بذاتِ الدِّينِ، تَرِبَتْ يَداكَ.

     ( وَلَأَمَةٌ مُّؤْمِنَةٌ خَيْرٌ مِّن مُّشْرِكَةٍ وَلَوْ أَعْجَبَتْكُمْ ۗۗ.)

 

محور مواضيع هذا الجزء:

-مخالطة اليتيم مع أهل بيت كافله أفضل له ويقدم على حفظ ماله مع النية بالإصلاح.

-الله يرى ما في القلوب ويحاسب عليها قبل النظر للأعمال.

-الجمع بين ما نزل من أحكام معاملة اليتيم في القرآن.

-الحكمة من تحليل زواج المسلم بالكتابية، وتحريم الزواج بغيرها من المشركات.

-الله يدعوكم إلى جنته فاقبلوا دعاءه باتباع هدية

-جمع الله لمحابه بين التوابين والمتطهرين.

 

التفسير:

وقوله تعالى: ( ...وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْيَتَامَىٰ ۖ قُلْ إِصْلَاحٌ لَّهُمْ خَيْرٌ ۖ وَإِن تُخَالِطُوهُمْ فَإِخْوَانُكُمْ ۚ وَاللَّهُ يَعْلَمُ الْمُفْسِدَ مِنَ الْمُصْلِحِ ۚ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَأَعْنَتَكُمْ ۚ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ ) (٢٢٠)

قوله تعالى : (..وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْيَتَامَىٰ)

روى أبو داود والنسائي عن ابن عباس قال: لما أنزل الله تعالى: (وَلَا تَقْرَبُوا مَالَ الْيَتِيمِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ) ( الأنعام١٥٢)، وقوله تعالى:‏ (إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَىٰ ظُلْمًا إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَارًا وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيرًا) (النساء ١٠) الآية، انطلق من كان عنده يتيم فعزل طعامه من طعامه وشرابه من شرابه فجعل ما يبقى من طعامه يحفظ له، حتى يأكله أو يفسد ، فاشتد ذلك عليهم، فذكروا ذلك لرسول الله فأنزل الله تعالى: (.وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْيَتَامَىٰ ۖ قُلْ إِصْلَاحٌ لَّهُمْ خَيْرٌ ..)، فخلطوا طعامهم بطعامه وشرابهم بشرابه ، لفظ أبي داود . والآية متصلة بما قبل؛ لأنه اقترن بذكر الأموال الأمر بحفظ أموال اليتامى. وقيل: إن السائل عبد الله بن رواحة. وقيل: كانت العرب تتشاءم بملابسة أموال اليتامى في مؤاكلتهم، فنزلت هذه الآية .

ولما أذن الله جل وعز في مخالطة الأيتام مع قصد الإصلاح بالنظر إليهم، كان ذلك دليلا على جواز التصرف في مال اليتيم؛ تصرف الوصي في البيع والقسمة وغير ذلك، على الإطلاق لهذه الآية. فإذا كفل الرجل اليتيم وحازه وكان في نظره جاز عليه فعله وإن لم يقدمه وال عليه ؛ لأن الآية مطلقة والكفالة ولاية عامة . لم يؤثر عن أحد من الخلفاء أنه قدم أحدا على يتيم مع وجودهم في أزمتهم ، وإنما كانوا يقتصرون على كونهم عندهم .

الثالثة : تواترت الآثار في دفع مال اليتيم مضاربة والتجارة فيه، وفي جواز خلط ماله بماله دلالة على جواز التصرف في ماله بالبيع والشراء إذا وافق الصلاح، وجواز دفعه مضاربة، إلى غير ذلك على ما نذكره مبينا. واختلف في عمله هو قراضا ، فمنعه أشهب، وقاسه على منعه من أن يبيع لهم من نفسه أو يشتري لها. وقال غيره: إذا أخذه على جزء من الربح بنسبة قراض مثله فيه أمضي، كشرائه شيئا لليتيم بتعقب فيكون أحسن لليتيم.  ويجوز له أن يبيع له بالدين إن رأى ذلك نظرا. قال ابن كنانة: وله أن ينفق في عرس اليتيم ما يصلح من صنيع وطيب، ومصلحته بقدر حاله وحال من يزوج إليه، وبقدر كثرة ماله. هذا إن لم يكن اليتيم راشدا- أو راشدة- بعد أن بلغ، لقوله تعالى: (وَابْتَلُوا الْيَتَامَىٰ حَتَّىٰ إِذَا بَلَغُوا النِّكَاحَ فَإِنْ آنَسْتُم مِّنْهُمْ رُشْدًا فَادْفَعُوا إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ) (النساء ٦)، قال: وكذلك في ختانه، فإن خشي أن يتهم رُفع ذلك إلى السلطان فيأمره بالقصد، وكل ما فعله على وجه النظر فهو جائز، وما فعله على وجه المحاباة وسوء النظر فلا يجوز .

ودل الظاهر على أن ولي اليتيم يعلمه أمر الدنيا والآخرة، ويستأجر له ويؤاجره ممن يعلمه الصناعات. وإذا وهب لليتيم شيء فللوصي أن يقبضه لما فيه من الإصلاح.

-ولما ينفقه الوصي والكفيل من مال اليتيم حالتان: حالة يمكنه الإشهاد عليه، فلا يقبل قوله إلا ببينة. وحالة لا يمكنه الإشهاد عليه فقوله مقبول بغير بينة، فمهما اشترى من العقار وما جرت العادة بالتوثق فيه لم يقبل قوله بغير بينة . وأن  كان اليتيم في دار الوصي ينفق عليه فلا يكلف الإشهاد على نفقته وكسوته؛ لأنه يتعذر عليه الإشهاد على ما يأكله ويلبسه في كل وقت، ولكن إذا قال: أنفقت نفقة لسنة قبل منه، وبين أن يكون عند أمه أو حاضنته فيدعي الوصي أنه كان ينفق عليه، أو كان يعطي الأم أو الحاضنة النفقة والكسوة فلا يقبل قوله على الأم أو الحاضنة إلا ببينة أنها كانت تقبض ذلك له مشاهرة أو مساناة .

- واختلف العلماء في الرجل ينكح نفسه من يتيمته ، وهل له أن يشتري لنفسه من مال يتيمه أو يتيمته؟ فقال مالك: ولاية النكاح بالكفالة والحضانة أقوى منها بالقرابة، وأما الشراء منه فقال مالك: يشتري في مشهور الأقوال، وكذلك قال أبو حنيفة: له أن يشتري مال الطفل اليتيم لنفسه بأكثر من ثمن المثل؛ لأنه إصلاح دل عليه ظاهر القرآن. وأبو حنيفة يقول: إذا كان الإصلاح خيرا فيجوز تزويجه ويجوز أن يزوج منه. والشافعي لا يرى في التزويج إصلاحا إلا من جهة دفع الحاجة، ولا حاجة قبل البلوغ . وأحمد بن حنبل يجوز للوصي التزويج لأنه إصلاح.

وهاهنا فقد أذن الله سبحانه في صورة المخالطة، ووكل الحاضنين في ذلك إلى أمانتهم بقوله: (وَاللَّهُ يَعْلَمُ الْمُفْسِدَ مِنَ الْمُصْلِحِ ۚ)  وكل أمر مخوف وكل الله سبحانه المكلف إلى أمانته لا يقال فيه : إنه يتذرع إلى محظور به فيمنع منه، وكان طاوس إذا سئل عن شيء من أمر اليتامى قرأ : (وَاللَّهُ يَعْلَمُ الْمُفْسِدَ مِنَ الْمُصْلِحِ ۚ). وكان ابن سيرين أحب الأشياء إليه في مال اليتيم أن يجتمع نصحاؤه فينظرون الذي هو خير له ، ذكره البخاري. وفي هذا دلالة على جواز الشراء منه لنفسه، كما ذكرنا . والقول الآخر أنه لا ينبغي للولي أن يشتري مما تحت يده شيئا، لما يلحقه في ذلك من التهمة إلا أن يكون البيع في ذلك بيع سلطان في ملإ من الناس . وقال محمد بن عبد الحكم : لا يشتري من التركة، ولا بأس أن يدس من يشتري له منها إذا لم يعلم أنه من قبله .

وقوله تعالى: (وَإِن تُخَالِطُوهُمْ فَإِخْوَانُكُمْ..) هذه المخالطة كخلط المثل بالمثل كالتمر بالتمر . وقال أبو عبيد : مخالطة اليتامى أن يكون لأحدهم المال ويشق على كافله أن يفرد طعامه عنه، ولا يجد بدا من خلطه بعياله فيأخذ من مال اليتيم ما يرى أنه كافيه بالتحري فيجعله مع نفقة أهله، وهذا قد يقع فيه الزيادة والنقصان، فجاءت هذه الآية الناسخة بالرخصة فيه . قال أبو عبيد : وهذا عندي أصل لما يفعله الرفقاء في الأسفار فإنهم يتخارجون النفقات بينهم بالسوية ، وقد يتفاوتون في قلة المطعم وكثرته ، وليس كل من قل مطعمه تطيب نفسه بالتفضل على رفيقه ، فلما كان هذا في أموال اليتامى واسعا كان في غيرهم أوسع ، ولولا ذلك لخفت أن يضيق فيه الأمر على الناس .

وقوله تعالى: (فَإِخْوَانُكُمْ ۚ..) خبر لمبتدإ محذوف، أي فهم إخوانكم ، والفاء جواب الشرط . وقوله تعالى: (وَاللَّهُ يَعْلَمُ الْمُفْسِدَ مِنَ الْمُصْلِحِ ۚ) تحذير ، أي يعلم المفسد لأموال اليتامى من المصلح لها ، فيجازي كلا على إصلاحه وإفساده .

وقوله تعالى: (ولو شاء الله لأعنتكم..)  روى الحكم عن مقسم عن ابن عباس: ولو شاء الله لأعنتكم قال: ( لو شاء لجعل ما أصبتم من أموال اليتامى موبقا ). وقيل: لأعنتكم لأهلككم، عن الزجاج وأبي عبيدة . وقال القتبي: لضيَّق عليكم وشدد، ولكنه لم يشأ إلا التسهيل عليكم. وقيل: أي لكلفكم ما يشتد عليكم أداؤه وأثمكم في مخالطتهم، كما فعل بمن كان قبلكم، ولكنه خفف عنكم.

والعنت: المشقة ، وقد عنت وأعنته غيره. وعنتت الدابة تعنت عنتا: إذا حدث في قوائمها كسر بعد جبر لا يمكنها معه جري .

وقال ابن الأنباري: أصل العنت التشديد، فإذا قالت العرب: فلان يتعنت فلانا ويعنته فمرادها يشدد عليه ويلزمه ما يصعب عليه أداؤه ، ثم نقلت إلى معنى الهلاك. والأصل ما وصفنا .

قوله تعالى : إن الله عزيز أي لا يمتنع عليه شيء. حكيم يتصرف في ملكه بما يريد لا حجر عليه ، جل وتعالى علوا كبيرا .

وقوله تعالى: (وَلَا تَنكِحُوا الْمُشْرِكَاتِ حَتَّىٰ يُؤْمِنَّ ۚ وَلَأَمَةٌ مُّؤْمِنَةٌ خَيْرٌ مِّن مُّشْرِكَةٍ وَلَوْ أَعْجَبَتْكُمْ ۗ وَلَا تُنكِحُوا الْمُشْرِكِينَ حَتَّىٰ يُؤْمِنُوا ۚ وَلَعَبْدٌ مُّؤْمِنٌ خَيْرٌ مِّن مُّشْرِكٍ وَلَوْ أَعْجَبَكُمْ ۗ أُولَٰئِكَ يَدْعُونَ إِلَى النَّارِ ۖ وَاللَّهُ يَدْعُو إِلَى الْجَنَّةِ وَالْمَغْفِرَةِ بِإِذْنِهِ ۖ وَيُبَيِّنُ آيَاتِهِ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ ) (٢٢١)

قوله تعالى: (وَلَا تَنكِحُوا الْمُشْرِكَاتِ حَتَّىٰ يُؤْمِنَّ ۚ وَلَأَمَةٌ مُّؤْمِنَةٌ خَيْرٌ مِّن مُّشْرِكَةٍ وَلَوْ أَعْجَبَتْكُمْ ۗ )

قوله تعالى: (وَلَا تَنكِحُوا ..)؛ ونكح أصله الجماع، ويستعمل في التزوج تجوزا واتساعا،

- لما أذن الله سبحانه وتعالى في مخالطة الأيتام، وفي مخالطة النكاح؛ بيَّن أن مناكحة المشركين لا تصح. وقال مقاتل : نزلت هذه الآية في مرثد بن أبي مرثد، واسمه كناز بن حصين الغنوي، بعثه رسول الله مكة سرا ليخرج رجلا من أصحابه، وكانت له بمكة امرأة يحبها في الجاهلية يقال لها "عناق"، فجاءته تريده، فقال لها: إن الإسلام حرم ما كان في الجاهلية، قالت: فتزوجني، قال: حتى أستأذن رسول الله، فأتى النبي فاستأذنه فنهاه عن التزوج بها ؛ لأنه كان مسلما وهي مشركة.

- واختلف العلماء في تأويل هذه الآية، فقالت طائفة : حرم الله نكاح المشركات في سورة " البقرة " ثم نسخ من هذه الجملة نساء أهل الكتاب، فأحلهن في سورة "المائدة "  قال تعالى: (وَطَعَامُكُمْ حِلٌّ لَّهُمْ ۖ وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الْمُؤْمِنَاتِ وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِن قَبْلِكُمْ إِذَا آتَيْتُمُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ مُحْصِنِينَ غَيْرَ مُسَافِحِينَ وَلَا مُتَّخِذِي أَخْدَانٍ... ) ( المائدة ٥)‏ وروي هذا القول عن ابن عباس،وعن كثير غيره . وقال قتادة وسعيد بن جبير: لفظ الآية العموم في كل كافرة، والمراد بها الخصوص في الكتابيات، وبينت الخصوص آية " المائدة "وهذا مذهب مالك رحمه الله، ذكره ابن حبيب، وقال: ونكاح اليهودية والنصرانية وإن كان قد أحله الله تعالى مستثقل مذموم.

وقال إسحاق بن إبراهيم الحربي: ذهب قوم فجعلوا الآية التي في "البقرة" هي الناسخة، والتي في " المائدة " هي المنسوخة، فحرموا نكاح كل مشركة كتابية أو غير كتابية. قال النحاس: ومن الحجة لقائل هذا مما صح سنده عن نافع أن عبد الله بن عمر كان إذا سئل عن نكاح الرجل النصرانية أو اليهودية قال: حرم الله المشركات على المؤمنين، ولا أعرف شيئا من الإشراك أعظم من أن تقول المرأة ربها عيسى، أو عبد من عباد الله! . قال النحاس: وهذا قول خارج عن قول الجماعة الذين تقوم بهم الحجة؛ لأنه قد قال بتحليل نكاح نساء أهل الكتاب من الصحابة والتابعين جماعة ، منهم عثمان وطلحة وابن عباس وجابر وحذيفة . وأيضا فيمتنع أن تكون هذه الآية من سورة (البقرة ) ناسخة للآية التي في سورة (المائدة) لأن سورة (البقرة) من أول ما نزل بالمدينة ، و (المائدة)  من آخر ما نزل. وإنما الآخر ينسخ الأول، وأما حديث ابن عمر فلا حجة فيه ؛ لأن ابن عمر رحمه الله كان رجلا متوقفا ، فلما سمع الآيتين ، في واحدة التحليل ، وفي أخرى التحريم ولم يبلغه النسخ توقف، ولم يؤخذ عنه ذكر النسخ وإنما تؤول عليه، وليس يؤخذ الناسخ والمنسوخ بالتأويل .

وقال بعض العلماء: وأما الآيتان فلا تعارض بينهما، فإن ظاهر لفظ الشرك لا يتناول أهل الكتاب، لقوله تعالى: (مَّا يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَلَا الْمُشْرِكِينَ أَن يُنَزَّلَ عَلَيْكُم مِّنْ خَيْرٍ مِّن رَّبِّكُمْ..) (البقرة ١٠٥)، وقال: (لَمْ يَكُنِ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَالْمُشْرِكِينَ مُنفَكِّينَ ) (البينة ١)، ففرق بين المشركين، وأهل الكتاب في اللفظ، وظاهر العطف يقتضي مغايرة بين المعطوف والمعطوف عليه، وأيضا فاسم الشرك عموم وليس بنص، وقوله تعالى: والمحصنات من الذين أوتوا الكتاب بعد قوله والمحصنات من المؤمنات نص، فلا تعارض بين المحتمل وبين ما لا يحتمل.

-وأما نكاح أهل الكتاب إذا كانوا حربا فلا يحل ، وسئل ابن عباس عن ذلك فقال: لا يحل، وتلا قول الله تعالى: (قَاتِلُوا الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلَا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَلَا يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَلَا يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حَتَّىٰ يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَن يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ) (التوبة٢٩). قال المحدث: حدثت بذلك إبراهيم النخعي فأعجبه. وكره مالك تزوج الحربيات، لعلة ترك الولد في دار الحرب، ولتصرفها في الخمر والخنزير .

-قوله تعالى: (وَلَأَمَةٌ مُّؤْمِنَةٌ خَيْرٌ مِّن مُّشْرِكَةٍ وَلَوْ أَعْجَبَتْكُمْ ۗ) إخبار بأن المؤمنة المملوكة خير من المشركة وإن كانت ذات الحسب والمال. ولو أعجبتكم في الحسن وغير ذلك، هذا قول الطبري وغيره. ونزلت في خنساء وليدة سوداء كانت لحذيفة بن اليمان ، فقال لها حذيفة: يا خنساء، قد ذكرت في الملإ الأعلى مع سوادك ودمامتك، وأنزل الله تعالى ذكرك في كتابه، فأعتقها حذيفة وتزوجها. وقال السدي: نزلت في عبد الله بن رواحة ، كانت له أمة سوداء فلطمها في غضب ثم ندم، فأتى النبي فأخبره ، فقال: "ما هي يا عبد الله"، قال: تصوم وتصلي وتحسن الوضوء وتشهد الشهادتين، فقال رسول الله : "هذه مؤمنة". فقال ابن رواحة: لأعتقنها ولأتزوجنها  ففعل، فطعن عليه ناس من المسلمين وقالوا: نكح أمة، وكانوا يرون أن ينكحوا إلى المشركين، وكانوا ينكحونهم رغبة في أحسابهم، فنزلت هذه الآية . والله أعلم .

-واختلف العلماء في نكاح إماء أهل الكتاب، فقال مالك: لا يجوز نكاح الأمة الكتابية. وقال أشهب في كتاب محمد، فيمن أسلم وتحته أمة كتابية: إنه لا يفرق بينهما. وقال أبو حنيفة وأصحابه ، يجوز نكاح إماء أهل الكتاب. قال ابن العربي: درسنا الشيخ أبو بكر الشاشي بمدينة السلام قال: احتج أصحاب أبي حنيفة على جواز نكاح الأمة الكتابية بقوله تعالى: ولأمة مؤمنة خير من مشركة. ووجه الدليل من الآية أن الله سبحانه خاير بين نكاح الأمة المؤمنة والمشركة، فلولا أن نكاح الأمة المشركة جائز لما خاير الله تعالى بينهما ؛ لأن المخايرة إنما هي بين الجائزين لا بين جائز وممتنع، ولا بين متضادين . والجواب أن المخايرة بين الضدين تجوز لغة وقرآنا: لأن الله سبحانه قال: (أَصْحَابُ الْجَنَّةِ يَوْمَئِذٍ خَيْرٌ مُّسْتَقَرًّا وَأَحْسَنُ مَقِيلًا ) (الفرقان٢٤)‏، والأصح عدمه.

قوله تعالى: (وَلَا تُنكِحُوا الْمُشْرِكِينَ حَتَّىٰ يُؤْمِنُوا ۚ وَلَعَبْدٌ مُّؤْمِنٌ خَيْرٌ مِّن مُّشْرِكٍ وَلَوْ أَعْجَبَكُمْ ۗ )

- (وَلَا تُنكِحُوا الْمُشْرِكِينَ ..) أي لا تزوجوا المسلمة من المشرك. وأجمعت الأمة على أن المشرك لا يطأ المؤمنة بوجه، لما في ذلك من الغضاضة على الإسلام. والقراء على ضم التاء من تنكحوا .

- في هذه الآية دليل بالنص على أن لا نكاح إلا بولي. قال محمد بن علي بن الحسين: "النكاح بولي في كتاب الله "، ثم قرأ : (وَلَا تُنكِحُوا الْمُشْرِكِينَ). قال ابن المنذر: ثبت أن رسول الله قال: " لا نِكاحَ إلَّا بوَلِيٍّ." (صحيح)

-وقد اختلف أهل العلم في النكاح بغير ولي، فقال كثير من أهل العلم: لا نكاح إلا بولي، روي هذا الحديث عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه وعلي بن أبي طالب وابن مسعود وابن عباس وأبي هريرة رضي الله عنهم، وبه قال سعيد بن المسيب والحسن البصري وغيرهم كثير،  وهذا القول يعضده قول الله عز وجل: (فَلَا تَعْضُلُوهُنَّ أَن يَنكِحْنَ أَزْوَاجَهُنَّ إِذَا تَرَاضَوْا بَيْنَهُم بِالْمَعْرُوفِ ۗ ..) ( البقرة٢٣٢)‏. وهذه الآية نزلت في معقل بن يسار إذ عضل أخته- منعها- عن مراجعة زوجها، قاله البخاري. ولولا أن له حقا في الإنكاح ما نهي عن العضل .

قلت: ومما يدل على هذا أيضا من الكتاب قوله: (فانكحوهن بإذن أهلهن)، وقوله : (وأنكحوا الأيامى منكم) فلم يخاطب تعالى بالنكاح غير الرجال، ولو كان إلى النساء لذكرهن .

 قال الطبري: في حديث حفصة حين تأيمت وعقد عمر عليها النكاح ولم تعقده، هي إبطال قول من قال: إن للمرأة البالغة المالكة لنفسها تزويج نفسها وعقد النكاح دون وليها، ولو كان ذلك لها لم يكن رسول الله ليدع خطبة حفصة لنفسها إذا كانت أولى بنفسها من أبيها، وخطبها إلى من لا يملك أمرها ولا العقد عليها، وفيه بيان قوله عليه السلام: "الثيّبُ- الأيم- أحقُّ بنفسِهَا من ولِيّها" (صحيح -البيهقي)، أن معنى ذلك أنها أحق بنفسها في أنه لا يعقد عليها إلا برضاها، لا أنها أحق بنفسها في أن تعقد عقد النكاح على نفسها دون وليها . وروى الدارقطني عن أبي هريرة قال: قال رسول الله : "لا تزوِّجُ المرأةُ المرأةَ ولا تزوِّجُ المرأةُ نفسَها فإنَّ الزانيةَ هي التي تزوِّجُ نفسَها". (صحيح). وروى أبو داود من حديث سفيان عن الزهري عن عروة عن عائشة قالت : قال رسول الله : "أيُّما امرأةٍ نكَحَت بغيرِ إذنِ وَلِيِّها فنكاحُها باطِلٌ، باطِلٌ، باطِلٌ" فإن دخل بها فالمهر لها بما أصاب منها فإن تشاجروا فالسلطان ولي من لا ولي له وهذا الحديث صحيح.

قلت: وقد أخرج هذا الحديث أبو حاتم محمد بن حبان التميمي ، وليس له سند.

وعن الزهري عن عروة عن عائشة أن رسول الله قال: "لا نِكاحَ إلَّا بوَليٍّ وشاهِدَيْ عَدلٍ، وأيُّما امرأةٍ أنكَحَها وَليٌّ مَسخوطٌ عليه، فنِكاحُها باطِلٌ.". وقد كان الزهري والشعبي يقولان: " إذا زوجت المرأة نفسها كفؤا بشاهدين فذلك نكاح جائز " . وكذلك كان أبو حنيفة يقول: إذا زوجت المرأة نفسها كفؤا بشاهدين فذلك نكاح جائز، وهو قول زفر . وإن زوجت نفسها غير كفء فالنكاح جائز، وللأولياء أن يفرقوا بينهما . قال ابن المنذر: وأما ما قاله النعمان فمخالف للسنة، خارج عن قول أكثر أهل العلم . وبالخبر عن رسول الله نقول. وقال أبو يوسف: لا يجوز النكاح إلا بولي، فإن سلم الولي جاز، وإن أبى أن يسلم والزوج كفء أجازه القاضي. وإنما يتم النكاح في قوله حين يجيزه القاضي، وهو قول محمد بن الحسن، وقد كان محمد بن الحسن يقول: يأمر القاضي الولي بإجازته، فإن لم يفعل استأنف عقدا. ولا خلاف بين أبي حنيفة وأصحابه أنه إذا أذن لها وليها فعقدت النكاح بنفسها جاز . وقال الأوزاعي : " إذا ولت أمرها رجلا فزوجها كفؤا فالنكاح جائز ، وليس للولي أن يفرق بينهما، إلا أن تكون عربية تزوجت مولى "، وهذا نحو مذهب مالك على ما يأتي. وحمل القائلون بمذهب الزهري وأبي حنيفة والشعبي قوله عليه السلام: لا نكاح إلا بولي على الكمال لا على الوجوب، كما قال عليه السلام : لا صلاة لجار المسجد إلا في المسجد و لا حظ في الإسلام لمن ترك الصلاة . واستدلوا على هذا بقوله تعالى: )فَلَا تَعْضُلُوهُنَّ أَن يَنكِحْنَ أَزْوَاجَهُنَّ إِذَا تَرَاضَوْا بَيْنَهُم بِالْمَعْرُوفِ ۗ( )٢٣٢( وقوله تعالى: (فَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا فَعَلْنَ فِي أَنفُسِهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ ۗ.) (٢٣٤)، وبما روى الدارقطني عن سماك بن حرب قال: جاء رجل إلى علي رضي الله عنه فقال: امرأة أنا وليها تزوجت بغير إذني ؟ فقال علي: "ينظر فيما صنعت، فإن كانت تزوجت كفؤا أجزنا ذلك لها، وإن كانت تزوجت من ليس لها بكفء جعلنا ذلك إليك"

- الأولياء من العصبة، وقد روي عن مالك أن الشريفة والدنيئة لا يزوجها إلا وليها أو السلطان، ولا يفرق بين المسكينة والتي لها قدر في ذلك؛ لأن النبي قد سوى بين أحكامهم في الدماء فقال: "المسلِمونَ تتَكافأُ دماؤُهُم. ويَسعى بذمَّتِهم أدناهم، ويردُّ عليْهم أقصاهم، وَهم يدٌ على من سِواهم ولا يُقتَلُ مسلِمٌ بِكافرٍ، ولا ذو عَهدٍ في عَهدِهِ" (رواه علي بن أبي طالب  في هداية الرواة– صححه الألباني) وإذا كانوا في الدماء سواء فهم في غير ذلك شيء واحد. وإذا كانت المرأة بموضع لا سلطان فيه ولا ولي لها فإنها تصير أمرها إلى من يوثق به من جيرانها، فيزوجها ويكون هو وليها في هذه الحال ؛ لأن الناس لابد لهم من التزويج ، وإنما يعملون فيه بأحسن ما يمكن، فأما إذا صيرت أمرها إلى رجل وتركت أولياءها فإنها أخذت الأمر من غير وجهه، وفعلت ما ينكره الحاكم عليها والمسلمون، فيفسخ ذلك النكاح من غير أن يعلم أن حقيقته حرام، لما وصفنا من أن المؤمنين بعضهم أولياء بعض، ولما في ذلك من الاختلاف، ولكن يفسخ لتناول الأمر من غير وجهه، ولأنه أحوط للفروج ولتحصينها، فإذا وقع الدخول وتطاول الأمر وولدت الأولاد وكان صوابا لم يجز الفسخ.

وأما الشافعي وأصحابه فالنكاح عندهم بغير ولي مفسوخ أبدا قبل الدخول وبعده، ولا يتوارثان إن مات أحدهما. والولي عندهم من فرائض النكاح، لقيام الدليل عندهم من الكتاب والسنة: قال الله تعالى: (وأنكحوا الأيامى منكم) كما قال: (فانكحوهن بإذن أهلهن)، وقال مخاطبا للأولياء:(فلا تعضلوهن) . وقال عليه السلام: لا نكاح إلا بولي .

-واختلفوا في النكاح يقع على غير ولي ثم يجيزه الولي قبل الدخول، فقال مالك وأصحابه إلا عبد الملك: ذلك جائز، إذا كانت إجازته لذلك بالقرب، وسواء دخل أو لم يدخل.

-أما منازل الأولياء وترتيبهم، فكان مالك يقول: أولهم البنون وإن سفلوا، ثم الآباء، ثم الإخوة للأب والأم، ثم للأب، ثم بنو الإخوة للأب والأم، ثم بنو الإخوة للأب، ثم الأجداد للأب وإن علوا، ثم العمومة على ترتيب الإخوة، ثم بنوهم على ترتيب بني الإخوة وإن سفلوا، ثم المولى ثم السلطان أو قاضيه . والوصي مقدم في إنكاح الأيتام على الأولياء، وهو خليفة الأب ووكيله، فأشبه حاله لو كان الأب حيا. وقال الشافعي : لا ولاية لأحد مع الأب، فإن مات فالجد، ثم أب أب الجد؛ لأنهم كلهم آباء. والولاية بعد الجد للإخوة، ثم الأقرب. وقال المزني: قال في الجديد: من انفرد بأم كان أولى بالنكاح، كالميراث . وقال في القديم : هما سواء .

قلت: وروى المدنيون عن مالك مثل قول الشافعي، وأن الأب أولى من الابن، وهو أحد قولي أبي حنيفة، حكاه الباجي. وروي عن المغيرة أنه قال: " الجد أولى من الإخوة"  وقال أحمد: أحقهم بالمرأة أن يزوجها أبوها، ثم الابن، ثم الأخ، ثم ابنه، ثم العم. وقال إسحاق: الابن أولى من الأب، كما قاله مالك، واختاره ابن المنذر؛ لأن عمر ابن أم سلمة زوجها بإذنها من رسول الله . قلت: أخرجه النسائي عن أم سلمة وترجم له (إنكاح الابن أمه ) .

قلت : وكثيرا ما يستدل بهذا علماؤنا وليس بشيء، والدليل على ذلك ما ثبت في الصحاح أن عمر بن أبي سلمة قال: كنت غلاما في حجر رسول الله وكانت يدي تطيش في الصحفة، فقال:" يا غُلَامُ، سَمِّ اللَّهَ، وَكُلْ بيَمِينِكَ، وَكُلْ ممَّا يَلِيكَ" وقال أبو عمر في كتاب الاستيعاب: ولد عمر بن أبي سلمة في السنة الثانية من الهجرة بأرض الحبشة. وقيل : إنه كان يوم قبض رسول الله ابن تسع سنين .

قلت: ومن كان سنه هذا لا يصلح أن يكون وليا، ولكن ذكر أبو عمر أن لأبي سلمة من أم سلمة ابنا آخر اسمه سلمة، وهو الذي عقد لرسول الله على أمه أم سلمة ، وكان سلمة أسن من أخيه عمر بن أبي سلمة، ولا أحفظ له رواية عن النبي ، وقد روى عنه عمر أخوه .

-الشهادة على النكاح فليست بركن عند مالك وأصحابه، ويكفي من ذلك شهرته والإعلان به، وخرج عن أن يكون نكاح سر . قال ابن القاسم عن مالك: لو زوج ببينة ، وأمرهم أن يكتموا ذلك لم يجز النكاح؛ لأنه نكاح سر. وإن تزوج بغير بينة على غير استسرار جاز ، وأشهدا فيما يستقبلان. وروى ابن وهب عن مالك في الرجل يتزوج المرأة بشهادة رجلين ويستكتمهما قال: يفرق بينهما بتطليقة ولا يجوز النكاح، ولها صداقها إن كان أصابها، ولا يعاقب الشاهدان. وقال أبو حنيفة والشافعي وأصحابهما : إذا تزوجها بشاهدين وقال لهما: اكتما جاز النكاح. وهذا قول يحيى بن يحيى الليثي الأندلسي صاحبنا، قال: كل نكاح شهد عليه رجلان فقد خرج من حد السر .

قلت : قول الشافعي أصح للحديث الذي ذكرناه . وروي عن ابن عباس أنه قال : "لا نِكاحَ إلَّا بوَليٍّ مُرشِدٍ، وشاهِدَيْ عَدلٍ." (ضعيف -وقيل لا يثبت في الشهادة حديث) لا مخالف له من الصحابة فيما علمته

والإشهاد يصلح بعد العقد للتداعي والاختلاف فيما ينعقد بين المتناكحين، وقد روي عن النبي أنه قال: "أعلِنوا النِّكاحَ." (حسن لغيره)، وقول مالك هذا قول ابن شهاب وأكثر أهل المدينة .

- قوله تعالى: (وَلَعَبْدٌ مُّؤْمِنٌ خَيْرٌ مِّن مُّشْرِكٍ وَلَوْ أَعْجَبَكُمْ ۗ) أي مملوك خير من مشرك أي حسيب. ولو أعجبكم أي حسبه وماله، حسب ما تقدم. وقيل المعنى: ولرجل مؤمن، وكذا ولأمة مؤمنة، أي ولامرأة مؤمنة ، كما بيناه . قال : "لا يَقُولَنَّ أحَدُكُمْ عَبْدِي وأَمَتي كُلُّكُمْ عَبِيدُ اللهِ، وكُلُّ نِسائِكُمْ إماءُ اللهِ" (صحيح مسلم)،وقال: لا تمنعوا إماء الله مساجد الله وقال تعالى: نعم العبد إنه أواب. وهذا أحسن ما حمل عليه القول في هذه الآية، وبه يرتفع النزاع ويزول الخلاف، والله الموفق .

- قوله تعالى: (أُولَٰئِكَ يَدْعُونَ إِلَى النَّارِ ۖ وَاللَّهُ يَدْعُو إِلَى الْجَنَّةِ وَالْمَغْفِرَةِ بِإِذْنِهِ ۖ وَيُبَيِّنُ آيَاتِهِ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ)، أولئك إشارة للمشركين والمشركات، فهم يدعون إلى النار أي إلى الأعمال الموجبة للنار، فإن صحبتهم ومعاشرتهم توجب الانحطاط في كثير من هواهم مع تربيتهم النسل. والله يدعو إلى الجنة أي إلى عمل أهل الجنة . بإذنه أي بأمره .

قوله تعالى: (وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْمَحِيضِ ۖ قُلْ هُوَ أَذًى فَاعْتَزِلُوا النِّسَاءَ فِي الْمَحِيضِ ۖ وَلَا تَقْرَبُوهُنَّ حَتَّىٰ يَطْهُرْنَ ۖ فَإِذَا تَطَهَّرْنَ فَأْتُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمُ اللَّهُ ۚ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ) (٢٢٢)

عن أنَس رضي الله عنه قال: " أنَّ اليَهُودَ كَانُوا إذَا حَاضَتِ المَرْأَةُ فيهم لَمْ يُؤَاكِلُوهَا، ولَمْ يُجَامِعُوهُنَّ في البُيُوتِ فَسَأَلَ أصْحَابُ النبيِّ النبيَّ فأنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى (وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ المَحِيضِ قُلْ هو أذًى فَاعْتَزِلُوا النِّسَاءَ في المَحِيضِ)، إلى آخِرِ الآيَةِ، فَقالَ رَسولُ اللهِ :" اصْنَعُوا كُلَّ شيءٍ إلَّا النِّكَاحَ" فَبَلَغَ ذلكَ اليَهُودَ، فَقالوا: ما يُرِيدُ هذا الرَّجُلُ أنْ يَدَعَ مِن أمْرِنَا شيئًا إلَّا خَالَفَنَا فِيهِ، فَجَاءَ أُسَيْدُ بنُ حُضَيْرٍ، وعَبَّادُ بنُ بشْرٍ فَقالَا يا رَسولَ اللهِ، إنَّ اليَهُودَ تَقُولُ: كَذَا وكَذَا، فلا نُجَامِعُهُنَّ؟ فَتَغَيَّرَ وجْهُ رَسولِ اللهِ حتَّى ظَنَنَّا أنْ قدْ وجَدَ عليهمَا، فَخَرَجَا فَاسْتَقْبَلَهُما هَدِيَّةٌ مِن لَبَنٍ إلى النبيِّ ، فأرْسَلَ في آثَارِهِما فَسَقَاهُمَا، فَعَرَفَا أنْ لَمْ يَجِدْ عليهمَا. " (رواه مسلم)

 فقوله: ( فاعتزلوا النساء في المحيض)  يعني الفرج لقوله: " اصْنَعُوا كُلَّ شيءٍ إلَّا النِّكَاحَ"، ولهذا ذهب كثير من العلماء أو أكثرهم إلى أنه يجوز مباشرة الحائض فيما عدا الفرج، قال أبو داود عن بعض أزواج النبي كان إذا أراد من الحائض شيئاً ألقى على فرجها ثوباً. وعن مسروق قال، قلت لعائشة: "ما يحل للرجل من امرأته إذا كانت حائضاً؟ قالت: كل شيء إلا الجماع"، وروي ابن جرير عن عائشة قالت له: ما فوق الإزار، قلت: ويحل مضاجعتها ومؤاكلتها بلا خلاف. قالت عائشة: كان رسول اللّه يأمرني فأغسل رأسه وأنا حائض، وكان يتكئ في حجري وأنا حائض فيقرأ القرآن، وفي الصحيح عنها قالت:" كنتُ أتعرَّقُ العَظمَ وأَنا حائِضٌ فأعطيهِ النَّبيَّ فيضعُ فمَهُ في المَوضعِ الَّذي فيهِ وضعتُهُ وأشرَبُ الشَّرابَ فأُناولُهُ فيضعُ فمَهُ في المَوضعِ الَّذي كنتُ أشربُ مِنهُ " وقال آخرون: إنما تحل له مباشرتها فيما عدا ما تحت الإزار كما ثبت في الصحيحين عن ميمونة قالت: كان النبي إذا أراد أن يباشر امرأة من نسائه أمرها فأتزرت وهي حائض. وروى الإمام أحمد عن عبداللّه بن سعد الأنصاري أنه سأل رسول اللّه ما يحل لي من امرأتي وهي حائض؟ قال: (ما فوقَ الإزارِ)، ولأبي داود عن معاذ بن جبل قال: سألت رسول اللّه عما يحل لي من امرأتي وهي حائض قال: (ما فوقَ الإزارِ، والتعفُّفُ عن ذلك أفضَلُ.). فهذه الأحاديث وما شابهها حجة من ذهب إلى أنه يحل ما فوق الإزار منها، وهو أحد القولين في مذهب الشافعي رحمه اللّه، الذي رجحه كثير من العراقيين وغيرهم، ومأخذهم أنه حريم الفرج فهو حرام، لئلا يتوصل إلى تعاطي ما حرم اللّه عز وجلّ، الذي أجمع العلماء على تحريمه، وهو المباشرة في الفرج، -ثم من فعل ذلك فقد أثم فيستغفر اللّه ويتوب إليه، وهل يلزمه مع ذلك كفارة أم لا؟ فيه قولان، أحدهما: نعم، لما رواه الإمام أحمد وأهل السنن عن ابن عباس عن النبي : "في الَّذي يَأتي امْرَأتَه وهي حائِضٌ، قالَ: يَتَصدَّقُ بدينارٍ أو نِصْفِ دينارٍ." (ضعيف)  وعند الإمام أحمد أيضاً عنه: " أن رسول الله جعل في الحائض تصاب ديناراً فإن أصابها وقد أدبر الدم عنها ولم تغتسل فنصف دينار، والقول الثاني: وهو الصحيح الجديد من مذهب الشافعي وقول الجمهور: أنه لا شيء في ذلك، بل يستغفر اللّه عزّ وجلّ، لأنه لم يصح عندهم رفع هذا الحديث، فإنه قد روي مرفوعاً كما تقدم وموقوفاً، وهو الصحيح عند كثير من أئمة الحديث. فقوله تعالى: { ولا تقربوهن حتى يطهرن} تفسير لقوله: { فاعتزلوا النساء في المحيض} ونهى عن قربانهن بالجماع ما دام الحيض موجوداً ومفهومه حله إذا انقطع. وقوله تعالى: { فإذا تطهرن فأتوهن من حيث أمركم الله} فيه ندب وإرشاد إلى غشيانهن بعد الاغتسال، وذهب ابن حزم إلى وجوب الجماع بعد كل حيضة لقوله: { فإذا تطهرن فأتوهن من حيث أمركم الله} وليس له في ذلك مستند لأن هذا أمر بعد الحظر، وقد اتفق العلماء على أن المرأة إذا انقطع حيضها لا تحل حتى تغتسل بالماء أو تتيمم. إن تعذر ذلك عليها بشرطه، إلا أن أبا حنيفة رحمه الّله يقول فيما إذا انقطع دمها لأكثر الحيض هو عشرة أيام عنده إنها تحل بمجرد الانقطاع، ولا تفتقر إلى غسل واللّه أعلم. وقال ابن عباس: (وَلَا تَقْرَبُوهُنَّ حَتَّىٰ يَطْهُرْنَ) أي من الدم، (ۖ فَإِذَا تَطَهَّرْنَ) أي بالماء، وكذا قال مجاهد وعكرمة. وقوله تعالى: (فَأْتُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمُ اللَّهُ) قال ابن عباس: في الفرج ولا تَعَدَّوه إلى غيره، فمن فعل شيئاً من ذلك فقد اعتدى، وقال ابن عباس: ( مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمُ اللَّهُ)، وفيه دلالة على تحريم الوطء في الدبر كما سيأتي قريباً إن شاء اللّه، وقال الضحاك: (فَأْتُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمُ اللَّهُ) يعني طاهرات غير حيّض، ولهذا قال: (إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ)  أي من الذنب وإن تكرر غشيانه، (وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ) أي المتنزهين عن الأقذار والأذى، وهو ما نهوا عنه من إتيان الحائض أو في غير المأتى.

 وقوله تعالى (نِسَاؤُكُمْ حَرْثٌ لَّكُمْ فَأْتُوا حَرْثَكُمْ أَنَّىٰ شِئْتُمْ ۖ وَقَدِّمُوا لِأَنفُسِكُمْ ۚ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّكُم مُّلَاقُوهُ ۗ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ) (٢٢٣)

 قوله تعالى: (نِسَاؤُكُمْ حَرْثٌ لَّكُمْ) قال ابن عباس: الحرث موضع الولد، (فَأْتُوا حَرْثَكُمْ أَنَّىٰ شِئْتُمْ ۖ) أي كيف شئتم مقبلة ومدبرة في صمام واحد، كما ثبتت بذلك الأحاديث. قال البخاري: عن جابر قال: كانت اليهود تقول: إذا جامعها من ورائها جاء الولد أحول، فنزلت: (نِسَاؤُكُمْ حَرْثٌ لَّكُمْ فَأْتُوا حَرْثَكُمْ أَنَّىٰ شِئْتُمْ ۖ)

وعن جابر بن عبداللّه أن اليهود قالوا للمسلمين من أتى امرأة وهي مدبرة جاء الولد أحول فأنزل اللّه: (نِسَاؤُكُمْ حَرْثٌ لَّكُمْ فَأْتُوا حَرْثَكُمْ أَنَّىٰ شِئْتُمْ ۖ)

 فقال رسول اللّه: "مقبلة ومدبرة إذا كان ذلك في الفرج: (رواه مسلم )، وعن ابن عباس قال: أُنزلت هذه الآية (نِسَاؤُكُمْ حَرْثٌ لَّكُمْ) في أناس من الأنصار، أتوا النبي فسألوه، فقال النبي : "ائتها على كل حال إذا كان في الفرج"  (رواه أحمد)، قال الإمام أحمد: عن عبد اللّه بن سابط قال: دخلتُ على حفصة بنت عبدالرحمن بن أبي بكر فقلت: إني لسائلك عن أمر وأنا أستحي أن أسألك قالت: فلا تستحي يا ابن أخي، قال: عن إتيان النساء في أدبارهن، قالت: حدثتني أم سلمة أن الأنصار كانوا يُحْبُون النساء وكانت اليهود تقول: إنه من أحبى امرأته كان ولده أحول، فلما قدم المهاجرون المدينة نكحوا في نساء الأنصار، فأَحْبَوْهن فأبت امرأة أن تطيع زوجها وقالت: لن تفعل ذلك حتى آتي رسول اللّه فدخلت على أم سلمة فذكرت لها ذلك فقالت: اجلسي حتى يأتي رسول اللّه ، فلما جاء رسول اللّه استحت الأنصارية أن تسأل رسول اللّه فخرجت فسألته أم سلمة فقال: (ادعي الأنصارية) فدعتها، فتلا عليها هذه الآية (نِسَاؤُكُمْ حَرْثٌ لَّكُمْ فَأْتُوا حَرْثَكُمْ أَنَّىٰ شِئْتُمْ ۖ) "صماماً واحداً" (رواه أحمد الترمذي)  وعن ابن عباس قال: جاء عمر بن الخطاب إلى رسول الله فقال: يا رسول اللّه هلكت! قال: (ما الذي أهلكك؟) قال: حولت رحلي البارحة، قال فلم يرد عليه شيئاً، قال: فأوحى اللّه إلى رسول اللّه هذه الآية: (نِسَاؤُكُمْ حَرْثٌ لَّكُمْ فَأْتُوا حَرْثَكُمْ أَنَّىٰ شِئْتُمْ ۖ)، "أقبل وأدبر واتق الدبر والحيضة" (رواه أحمد). وعن نافع قال: قرأت ذات يوم (نِسَاؤُكُمْ حَرْثٌ لَّكُمْ فَأْتُوا حَرْثَكُمْ أَنَّىٰ شِئْتُمْ ۖ)،فقال ابن عمر: أتدري فيما نزلت؟ قالت: لا، قال: نزلت في إتيان النساء في أدبارهن. وهذا الحديث محمول - على ما تقدم - وهو أنه يأتيها في قبلها من دبرها،  لما روى كعب بن علقمة عن أبي النضر أنه أخبره أنه قال لنافع مولى ابن عمر: إنه قد أكثر عليك القول أنك تقول عن ابن عمر إنه أفتى أن تؤتى النساء في أدبارهن قال: كذبوا عليّ ولكن سأحدثك كيف كان الأمر؛ إن ابن عمر عرض المصحف يوماً وأنا عنده حتى بلغ (نِسَاؤُكُمْ حَرْثٌ لَّكُمْ فَأْتُوا حَرْثَكُمْ أَنَّىٰ شِئْتُمْ ۖ) فقال: يا نافع، هل تعلم من أمر هذه الآية؟ قلت: لا، قال إنا كنا معشر قريش نحبي النساء، فلما دخلنا المدينة ونكحنا نساء الأنصار أردنا منهن مثل ما كنا نريد، فآذاهن فكرهن ذلك وأعظمنه، وكانت نساء الأنصار قد أخذن بحال اليهود إنما يؤتين على جنوبهن، فأنزل الله: (نِسَاؤُكُمْ حَرْثٌ لَّكُمْ فَأْتُوا حَرْثَكُمْ أَنَّىٰ شِئْتُمْ ۖ) (رواه النسائي،وهذا إسناد صحيح)،

وفي رواية قال: "إنَّ اللهَ لا يَسْتحيي مِن الحقِّ، لا تَأْتوا النِّساءَ في أعْجازِهنَّ" وقال رسول اللّه : "لا ينظرُ اللهُ إلى رجلٍ أتى رجلًا أو امرأةً في الدَّبُرِ" (رواه الترمذي -موقوف على ابن عباس).

عن عكرمة قال: جاء رجل إلى ابن عباس وقال: كنت أتى أهلي في دبرها وسمعت قول اللّه(نِسَاؤُكُمْ حَرْثٌ لَّكُمْ فَأْتُوا حَرْثَكُمْ أَنَّىٰ شِئْتُمْ ۖ) فظننت أن ذلك لي حلال، فقال: يا لكع إنما قوله: (فَأْتُوا حَرْثَكُمْ أَنَّىٰ شِئْتُمْ ۖ) قائمة وقاعدة ومقبلة ومدبرة في أقبالهن لا تعدوا ذلك إلى غيره.

وقال عمر رضي اللّه عنه: "إنَّ اللهَ لا يَسْتحيي مِن الحقِّ، لا تَأْتوا النِّساءَ في أعْجازِهنَّ. وقال مَرَّةً: في أدْبارِهنَّ." (رواه الأرناؤوط- ضعيف)  وعن أبو جويرة قال: سأل رجل علياً عن إتيان المراة في دبرها فقال: سفلت سفل اللّه بك، ألم تسمع قول اللّه عزّ وجلّ: (وَلُوطًا إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ أَتَأْتُونَ الْفَاحِشَةَ مَا سَبَقَكُم بِهَا مِنْ أَحَدٍ مِّنَ الْعَالَمِينَ) (الأعراف٨٠) ؟ وقد تقدم قول ابن مسعود وأبي الدرداء وأبي هريرة وابن عباس وعبدالله بن عمر في تحريم ذلك، وهو الثابت بلا شك عن عبد اللّه بن عمر رضي اللّه عنهما أنه يحرمه. عن سعيد بن يسار أبي الحباب قال: قلت لابن عمر: "ما تقول في الجواري أيحمض لهن؟ قال: وما التحميض؟ فذكر الدبر فقال: وهل يفعل ذلك أحد من المسلمين؟" (رواه الدارمي في مسنده، وهذا إسناد صحيح )،ونص صريح منه بتحريم ذلك، فكل ما ورد عنه مما يحتمل ويحتمل فهو مردود إلى هذا المحكم. وروي معمر بن عيسى عن مالك أن ذلك حرام. وقال أبو بكر النيسابوري بسنده عن إسرائيل بن روح سألت مالك بن أنَس: ما تقول في إيتان النساء في أدبارهن؟ قال: ما أنتم إلى قوم عرب، هل يكون الحرث إلا موضع الزرع؟ لا تعدوا الفرج، قلت: يا أبا عبد اللّه إنهم يقولون إنك تقول ذلك، قال: يكذبون عليَّ فهذا هو الثابت عنه: وغيرهم من السلف أنهم أنكروا ذلك أشد الإنكار، ومنهم من يطلق على فعله الكفر وهو مذهب جمهور العلماء.

وقوله تعالى: (وَقَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ) أي من فعل الطاعات مع امتثال ما أنهاكم عنه من ترك المحرمات ولهذا قال: (وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّكُم مُّلَاقُوهُ ۗ) أي فيحاسبكم على أعمالكم جميعها (وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ) أي المطيعين للّه فيما أمرهم، التاركين ما عنه زجرهم، وقال ابن جرير عن ابن عباس (وَقَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ) قال: تقول باسم اللّه التسمية عند الجماع، وقد ثبت في صحيح البخاري عن ابن عباس قال: قال رسول اللّه : (لَوْ أنَّ أحَدَكُمْ إذا أرادَ أنْ يَأْتِيَ أهْلَهُ، فقالَ: باسْمِ اللَّهِ، اللَّهُمَّ جَنِّبْنا الشَّيْطانَ وجَنِّبِ الشَّيْطانَ ما رَزَقْتَنا، فإنَّه إنْ يُقَدَّرْ بيْنَهُما ولَدٌ في ذلكَ لَمْ يَضُرُّهُ شيطانٌ أبَدًا.)

No comments:

Post a Comment