تفسير سورة البقرة- ح ٣٩
(وَلَا تَجْعَلُوا اللَّهَ عُرْضَةً لِّأَيْمَانِكُمْ أَن تَبَرُّوا وَتَتَّقُوا ۚ.)
لا تكثروا من الأيمان وتجعلونها سببًا في منعكم البر والإصلاح
(لِّلَّذِينَ يُؤْلُونَ مِن نِّسَائِهِمْ تَرَبُّصُ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ ۖ)
لماذا خصصها بأربعة أشهر؟
( وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنفُسِهِنَّ ثَلَاثَةَ قُرُوءٍ ۚ.)
محور مواضيع هذا الجزء:
-أحكام الأيمان، منها ما نهى الله عنه، ويدعو إلى أصلاحه، ويحث عليه.
- الإيمان ثلاثة أنواع، منها ما هو لغو لا يؤاخذ عليه، ومنها ما فيه كفارة، ومنها الغموس.
-الإيلاء-الحلف- ما هي أحكامه، ولماذا أبيح؟
-بداية أحكام الطلاق، وما على المطلقة في عدتها.
التفسير:
قوله تعالى: (وَلَا تَجْعَلُوا اللَّهَ عُرْضَةً لِّأَيْمَانِكُمْ أَن تَبَرُّوا وَتَتَّقُوا وَتُصْلِحُوا بَيْنَ النَّاسِ ۗ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ) (٢٢٤)
قال أهل العلم: يأمر الله تعالى عباده بالإحسان، والإنفاق وصحبة الأيتام والنساء بجميل المعاشرة قال: لا تمتنعوا عن شيء من المكارم تعللا بأنا حلفنا ألا نفعل كذا، قال سعيد بن جبير: هو الرجل يحلف ألا يبر ولا يصل ولا يصلح بين الناس، فيقال له: بر ، فيقول: قد حلفت. وقال بعض المتأولين: المعنى ولا تحلفوا بالله كاذبين إذا أردتم البر والتقوى والإصلاح، فلا يحتاج إلى تقدير " لا " بعد " أن " . وقيل: المعنى لا تستكثروا من اليمين بالله فإنه أهيب للقلوب، ولهذا قال تعالى: (وَاحْفَظُوا أَيْمَانَكُمْ )(المائدة ٨٩)، وذم من أكثر اليمين، فقال تعالى: (وَلَا تُطِعْ كُلَّ حَلَّافٍ مَّهِينٍ ) (القلم ١٠). والعرب تمتدح بقلة الأيمان، حتى قال قائلهم :
قليل الألايا حافظ ليمينه وإن صدرت منه الألية برت
وعلى هذا (أَن تَبَرُّوا) معناه: أقلوا الأيمان لما فيه من البر والتقوى، فإن الإكثار يكون معه الحنث وقلة رعي لحق الله تعالى، وهذا تأويل حسن . مالك بن أنس: بلغني أنه الحلف بالله في كل شيء. وقيل: المعنى: لا تجعلوا اليمين مبتذلة في كل حق وباطل.
وقال الزجاج وغيره: معنى الآية أن يكون الرجل إذا طلب منه فعل خير اعتل بالله فقال: علي يمين، وهو لم يحلف.
وقال القتبي: المعنى إذا حلفتم على ألا تصلوا أرحامكم ولا تتصدقوا ولا تصلحوا، وعلى أشباه ذلك من أبواب البر فكفروا اليمين. وهذا حسن لما بيناه، وهو الذي يدل عليه سبب النزول ، على ما سيأتي.
سبب النزول:
قيل: نزلت بسبب الصديق إذ حلف ألا ينفق على مسطح حين تكلم في عائشة رضي الله عنها، في حديث الإفك. وقيل: نزلت في الصديق أيضا حين حلف ألا يأكل مع الأضياف.
الحديث عن عبد الرحمن بن أبي بكر قال:" نزل بنا أضيافٌ لنا قال وكان أبو بكرٍ يتحدَّثُ عند رسولِ اللهِ ﷺبالليلِ فقال: لا أرجِعنَّ إليك حتى تفرغَ من ضيافةِ هؤلاء ومِن قِراهُم، فأتاهم بقراهم فقالوا لا نطعمُهُ حتَّى يأتيَ أبو بكرٍ ، فجاء فقال: ما فعل أضيافُكم أفرغتُم من قِراهُم؟ قالوا: لا، قلتُ قد أتيتُهم بقِراهم فأبوا وقالوا واللَّهِ لا نطعمُه حتى يجيءَ فقالوا: صدَقَ قد أتانا به فأبينا حتى تجيءَ قال: فما منعكم قالوا : مكانَك، قال: واللهِ لا أطعمُه الليلةَ قال فقالوا ونحن واللهِ لا نطعمُه حتى تطعمَه قال: ما رأيتُ في الشرِّ كالليلةِ قطُّ، قال: قرَّبوا طعامَكم قال فقرب طعامهم فقال بسمِ اللهِ، فطَعِم وطعموا فأخبرتُ أنه أصبح فغدا على النبيِّ ﷺ فأخبره بالذي صنع وصنعوا قال: "بل أنتَ أبرُّهم وأصدقُهم" ولم يؤمر بكفارة.
وقيل نزلت في عبد الله بن رواحة حين حلف ألا يكلم بشير بن النعمان وكان ختنه على أخته، والله أعلم .
وقوله تعالى: (عُرْضَةً لِّأَيْمَانِكُمْ) أي نصبا، وفلان عرضة ذاك، أي عرضة لذلك، أي مقرن له قوي عليه. والعرضة: الهمة.
وفلان عرضة للناس: أي أنهم لا يزالون يقعون فيه، وجعلت فلانا عرضة لكذا أي نصبته له، وقيل: العرضة من الشدة والقوة ، ومنه قولهم للمرأة: عرضة للنكاح ، إذا صلحت له وقويت عليه ، ولفلان عرضة: أي قوة على السفر والحرب.
والمعنى: لا تجعلوا اليمين بالله قوة لأنفسكم، وعدة في الامتناع من البر .
قوله تعالى: (أَن تَبَرُّوا وَتَتَّقُوا) مبتدأ وخبره محذوف، أي: إن البر والتقوى والإصلاح أولى وأمثل ، مثل طاعة وقول معروف. وقيل: محله النصب، أي لا تمنعكم اليمين بالله عز وجل البر والتقوى والإصلاح. وقيل: مفعول من أجله . وقيل : معناه ألا تبروا ، فحذف " لا " ، كقوله تعالى: (يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ أَن تَضِلُّوا ۗ ) ( النساء١٧٦)؛ أي: لئلا تضلوا ، وقيل: كراهة أن تبروا .
والله سميع أي لأقوال العباد ، عليم بنياتهم .
وقوله تعالى: (لَّا يُؤَاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ وَلَٰكِن يُؤَاخِذُكُم بِمَا كَسَبَتْ قُلُوبُكُمْ ۗ وَاللَّهُ غَفُورٌ حَلِيمٌ ) (٢٢٥)
قوله تعالى: ( باللغو ) اللغو : مصدر لغا يلغو ويلغى.
ولغي يلغى لغا إذا أتى بما لا يحتاج إليه في الكلام، أو بما لا خير فيه، أو بما يلغي إثمه.
وفي الحديث في البخاري، عن أبي هريرة : " إِذَا قُلْتَ لِصَاحِبِكَ يَومَ الجُمُعَةِ: أنْصِتْ، والإِمَامُ يَخْطُبُ، فقَدْ لَغَوْتَ." أو قال أبو هريرة " فقد لغيت "
-ما هي الأيمان التي تعد لغوًا ؟
1-قال ابن عباس: (هو قول الرجل في درج كلامه واستعجاله في المحاورة: لا والله، وبلى والله، دون قصد لليمين). وهو ما اتفق العلماء عليه أنه لغو. ويؤيده ما روى ابن وهب بسنده أن عروة حدثه أن عائشة زوج النبيﷺ قالت: "اللَّغوُ في الأيمانِ ما كان المِراءُ والهَزلُ والمُزاحةُ، والحديثُ الَّذي لا يُعقدُ عليه القلبُ، وأيمانُ الكفَّارةِ على كلِّ يمينٍ حلفتَ عليها على جِدٍّ من الأمرِ في غضبٍ أو غيرِهِ: لتفعلنَّ أو لتتركنَّ، فذلكَ عقدُ الأيمانِ فيها الكفَّارةُ " (رواه ابن رجب في جامع العلوم والحكم-إسناده صحيح)، وفى البخاري عن عائشة رضي الله عنها قالت: نزل قوله تعالى: (لَّا يُؤَاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ) في قول الرجل : لا والله، وبلى والله”
2-ويعد أيضا من اللغو ما يحلف على الظن؛ ما قال به مالك فيما حكاه ابن القاسم عنه -وقال به جماعة من السلف أيضا-: اللغو ما يحلف به على الظن، فيكون بخلافه، وفي الحديث الذي رواه الشوكاني عن أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها، قالت: " هو الذي يَحْلِفُ على الشيءِ لا يريدُ به إلا الصدقَ فيكونُ على غيرِ ما حَلَف عليه" (ضعيف) ومثله روي عن ابن عباس.
3- وروي: أن قوما تراجعوا القول عند رسول الله ﷺ وهم يرمون بحضرته، فحلف أحدهم لقد أصبت وأخطأت يا فلان- حلف أنه هو أصاب المرمى، وأخطأ صاحبه- فإذا الأمر بخلاف ذلك، فقال الرجل: حنث يا رسول الله، فقال النبي ﷺ: " أيمانُ الرُّماةِ لَغوٌ لا كفَّارةَ لَها ولا عُقوبةَ" (لم يثبت) .
4-في أيمان المتبايعان: وعن مجاهد: هما الرجلان يتبايعان فيقول أحدهما: والله لا أبيعك بكذا، ويقول الآخر، والله لا أشتريه بكذا، ثم يفعل؛ فهو من اللغو ولا كفارة عليه.
5-اليمين وهو غضبان! وروي عن ابن عباس -إن صح عنه- قال : (لغو اليمين أن تحلف وأنت غضبان)، وقاله طاوس. وروى ابن عباس أن رسول الله ﷺ قال: "لا يمين في غضب" (أخرجه مسلم)، والمقصود هنا الغضب المطبق، فلا يدري ما يقول، فلا يلتفت إلى يمينه.
6-اليمين على الظن، ويظهر خلافه:وفي الموطأ قال مالك : أحسن ما سمعت في هذا أن اللغو حلف الإنسان على الشيء يستيقن أنه كذلك ثم يوجد بخلافه، فلا كفارة فيه .
7-نسيان اليمين: وقال النخعي : هو الرجل يحلف ألا يفعل الشيء ثم ينسى فيفعله، قال ابن العربي: أما اليمين مع النسيان فلا شك في إلغائها. لأنها جاءت على خلاف قصده، فهي لغو محض.
8-وحكى ابن عبد البر قولا: إن اللغو أيمان المكره عليه.
ما هو اليمين الموجب للكفارة؟
اليمين المستحق للكفارة، هو ما كان من القلب، ويعينيه صاحبة.
إنما الكفارة على من حلف ألا يفعل الشيء المباح له فعله ثم يفعله، أو أن يفعله ثم لا يفعله، مثل إن حلف ألا يبيع ثوبه بعشرة دراهم ثم يبيعه بمثل ذلك، أو حلف ليضربن غلامه ثم لا يضربه.
وقال سعيد بن جبير: هو تحريم الحلال، فيقول: مالي علي حرام إن فعلت كذا، والحلال علي حرام، يكفر عن يمينه وماله حلال له، وقال ومالك: إلا في الزوجة فإنه ألزم فيها التحريم إلا أن يخرجها الحالف بقلبه.
حكم يمين المعصية: قال سعيد بن المسيب، وأبو بكر بن عبد الرحمن وعروة وعبد الله ابنا الزبير: لا يمين في معصية، ولا كفارة فيها؛ كالذي يقسم ليشربن الخمر أو ليقطعن الرحم، فبره ترك ذلك الفعل ، وقيل ولا كفارة عليه- الأصح أن عليه الكفارة.
وحجتهم حديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده أن النبي ﷺ قال: "مَن حلَفَ على يَمينٍ، فرَأى غيرَها خيرًا منها؛ فكفَّارَتُها تَرْكُها." (أخرجه ابن ماجه في سننه – ضعيف)
والصحيح أن عليه الكفارة مع ترك اليمين؛ وتأييده ما ورد في صحيح مسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه قول رسول الله ﷺ: " مَن حَلَفَ علَى يَمِينٍ، فَرَأَى غَيْرَها خَيْرًا مِنْها، فَلْيَأْتِ الذي هو خَيْرٌ، ولْيُكَفِّرْ عن يَمِينِهِ."
وليس من اللغو و فيه اثم:
قال ابن العربي : وأما من قال إنه من اللغو يمين المعصية فباطل؛ لأن الحالف على ترك المعصية تنعقد يمينه عبادة، والحالف على فعل المعصية تنعقد يمينه معصية، ويقال له: لا تفعل وكفر، فإن أقدم على الفعل أثم في إقدامه وبر في قسمه..
ومن قال: إنه من اللغو دعاء الإنسان على نفسه:
قال زيد بن أسلم: قول الرجل أعمى الله بصره ، أذهب الله ماله، هو يهودي ، هو مشرك، هو لغية إن فعل كذا . إن لم يكن كذا فينزل به كذا ، فهو قول لغو ، في طريق الكفارة، ولكنه منعقد في القصد، مكروه ، وربما يؤاخذ به ؛ لأن النبي ﷺ قال: "لا تدعُوا على أنفُسِكُمْ ، ولا تدعُوا على أولادِكم، ولا تدعوا على خدمِكم، ولا تدعوا على أموالِكم، لا تُوَافِقوا من اللهِ ساعةً يُسألُ فيها عطاءٌ فيُستجابُ لكم" (رواه مسلم).
وقال ﷺ: لا تدعوا على أنفسكم إلا بخير، فإن الملائكة يؤمنون على ما تقولون" (رواه مسلم). وأما من قال إنه يمين الغضب ليس عليه كفارة،فإنه يرده واقعة: حلف النبي ﷺ غاضبا ألا يحمل الأشعريين وحملهم وكفر عن يمينه . قال ابن العربي: وأما من قال: إنه اليمين المكفرة فلا متعلق له يحكى. وضعفه ابن عطية أيضا وقال: قد رفع الله عز وجل المؤاخذة بالإطلاق في اللغو، فحقيقتها لا إثم فيه ولا كفارة . والمؤاخذة في الأيمان هي بعقوبة الآخرة في اليمين الغموس المصبورة، وفيما ترك تكفيره مما فيه كفارة، وبعقوبة الدنيا في إلزام الكفارة، فيضعف القول بأنها اليمين المكفرة ؛ لأن المؤاخذة قد وقعت فيها، وتخصيص المؤاخذة بأنها في الآخرة فقط تحكم .
اليمين الغموس:
الذي يحلف على الشيء وهو يعلم أنه فيه آثم كاذب ليرضي به أحدا، أو يعتذر لمخلوق، أو يقتطع به مالا ، فهذا اليمين أعظم من أن يكون فيه كفارة، وسمي اليمين الغموس؛ أي الذي يغمس صاحبه في النار.
وقد ورد اليمين الغموس: أنَّه أتَى رَجُلانِ يَختَصِمانِ إلى رسولِ اللهِ ﷺ في أرضٍ، فقال أحَدُهما: هي لي، وقال الآخَرُ: هي لي حُزتُها فقَبَضتُها، فقالﷺ: "فيها اليَمينُ للَّذي بيَدِه الأرضُ" فلمَّا تَفوَّهَ لِيَحلِفَ، قال له رسولُ اللهِﷺ: "أمَا إنَّه مَن حلَفَ على مالِ امرئٍ مُسلِمٍ، لَقِيَ اللهَ عزَّ وجلَّ وهو عليه غَضبانُ، قال: فمَن ترَكَها؟ قال: فله الجَنَّةُ" ( صححه الأرناؤوط في تخريج من سنن الدارقطني).
عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه- وكان يحدث الناس ويعظهم- قال: قال رسول الله ﷺ: "مَن حَلَفَ يَمِينَ صَبْرٍ لِيَقْتَطِعَ بها مالَ امْرِئٍ مُسْلِمٍ، لَقِيَ اللَّهَ وهْوَ عليه غَضْبانُ فأنْزَلَ اللَّهُ تَصْدِيقَ ذلكَ: (إنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بعَهْدِ اللَّهِ وأَيْمانِهِمْ ثَمَنًا قَلِيلًا، أُولَئِكَ لا خَلاقَ لهمْ في الآخِرَةِ ..) (آل عمران ٧٧) إلى آخِرِ الآيَةِ، قالَ: فَدَخَلَ الأشْعَثُ بنُ قَيْسٍ، وقالَ: ما يُحَدِّثُكُمْ أبو عبدِ الرَّحْمَنِ؟ قُلْنا: كَذا وكَذا، قالَ: فِيَّ أُنْزِلَتْ كانَتْ لي بئْرٌ في أرْضِ ابْنِ عَمٍّ لِي، قالَ النبيُّ ﷺ: "بيِّنَتُكَ أوْ يَمِينُه"، فَقُلتُ: "إذًا يَحْلِفَ يا رَسولَ اللَّهِ، فقالَ النبيُّﷺ: "مَن حَلَفَ علَى يَمِينِ صَبْرٍ، يَقْتَطِعُ بها مالَ امْرِئٍ مُسْلِمٍ، وهْوَ فيها فاجِرٌ، لَقِيَ اللَّهَ وهْوَ عليه غَضْبانٌ." (البخاري)
قوله تعالى: (فِي أَيْمَانِكُمْ..) جمع يمين، واليمين الحلف، وأصله أن العرب كانت إذا تحالفت أو تعاقدت أخذ الرجل يمين صاحبه بيمينه، ثم كثر ذلك حتى سمي الحلف والعهد نفسه يمينا . وقيل: يمين فعيل من اليمن؛ وهو البركة، سماها الله تعالى بذلك لأنها تحفظ الحقوق. ويمين تذكر وتؤنث، وتجمع : أيمان وأيمن، قال زهير : فتجمع أيمن منا ومنكم بقسمة تمور بها الدماء
وقوله تعالى: (وَلَٰكِن يُؤَاخِذُكُم بِمَا كَسَبَتْ قُلُوبُكُمْ ۗ.)، أي كسبت من الإثم، هو أن يحلف على الشيء وهو يعلم أنه كاذب، أي هذا اللغو عفونا عنه، إلا أن يعقد الإشراك بقلبه ويكسبه بكذبه، وهذه مثل قوله تعالى: (وَلَٰكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا عَقَّدْتُمُ الْأَيْمَانَ ۖ) ( المائدة ٨٩)
( وَاللَّهُ غَفُورٌ حَلِيمٌ ) صفتان لائقتان بما ذكر من طرح المؤاخذة، إذ هو باب رفق وتوسعة، غفور لعباده ، حليم عليهم.
وهنا في سورة البقرة لم يبين الكفارة ، وبينها في سورة المائدة، فقال: (فَكَفَّارَتُهُ إِطْعَامُ عَشَرَةِ مَسَاكِينَ مِنْ أَوْسَطِ مَا تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ أَوْ كِسْوَتُهُمْ أَوْ تَحْرِيرُ رَقَبَةٍ ۖ فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ ۚ ذَٰلِكَ كَفَّارَةُ أَيْمَانِكُمْ إِذَا حَلَفْتُمْ ۚ..)
وقال زيد بن أسلم: قوله تعالى: قال ابن عباس ومجاهد وغير واحد: هو أن يحلف على الشيء وهو يعلم أنه كاذب، أي هذا اللغو ، إلا أن يعقد الإشراك بقلبه ويكسبه. (وَاللَّهُ غَفُورٌ حَلِيمٌ) صفتان لائقتان بما ذكر من طرح المؤاخذة، إذ هو باب رفق وتوسعة، فهو سبحانه غفور لعباده، حليم عليهم .
وقوله تعالى: (لِّلَّذِينَ يُؤْلُونَ مِن نِّسَائِهِمْ تَرَبُّصُ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ ۖ فَإِن فَاءُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ ) (٢٢٦)
قوله تعالى : (لِّلَّذِينَ يُؤْلُونَ) "يؤلون" معناه يحلفون، والمصدر إيلاء وألية وألوة وإلوة .
وقرأ أبي وابن عباس " للذين يقسمون" –قراءة نفسيرية- ومعلوم أن "يقسمون" تفسير "يؤلون" ، يقال : آلى يؤلي إيلاء، وتألى تأليا، وائتلى ائتلاء، أي حلف، ومنه قوله تعالى: (وَلَا يَأْتَلِ أُولُو الْفَضْلِ مِنكُمْ وَالسَّعَةِ..) ( النور ٢٢)
قال عبد الله بن عباس: كان إيلاء الجاهلية السنة والسنتين وأكثر من ذلك، يقصدون بذلك إيذاء المرأة ، فوقت الله لهم أربعة أشهر، فمن آلى بأقل من ذلك فليس بإيلاء حكمي ، وليس شرطا.
قلت: وقد آلى النبي ﷺ، ففي البخاري عن أم سلمة رضي الله عنها: ( أنَّ النبيَّ ﷺ حَلَفَ لا يَدْخُلُ علَى بَعْضِ أهْلِهِ شَهْرًا، فَلَمَّا مَضَى تِسْعَةٌ وعِشْرُونَ يَوْمًا غَدَا عليهنَّ أوْ رَاحَ، فقِيلَ له: يا نَبِيَّ اللَّهِ، حَلَفْتَ أنْ لا تَدْخُلَ عليهنَّ شَهْرًا؟ قالَ: إنَّ الشَّهْرَ يَكونُ تِسْعَةً وعِشْرِينَ يَوْمًا.)، وسبب إيلائه سؤال نسائه إياه من النفقة ما ليس عنده، كما في صحيح مسلم.
والإيلاء: يلزمه كل من يلزمه الطلاق- أي يقع منه ويُلزم به من حلف على ذلك، فالحر والعبد والسكران يلزمه الإيلاء. وكذلك السفيه والمولى عليه إذا كان بالغا غير مجنون. لا يقع الإيلاء إلا باليمين بالله تعالى وحده. لقوله ﷺ: "من كان حالفًا فلْيحلفْ باللهِ أو ليصمتْ" (صحيح)
فإن حلف بالنبي أو الملائكة أو الكعبة ألا يطأها، أو قال هو يهودي أو نصراني أو زان إن وطئها، فهذا ليس بمول، قاله مالك وغيره. قال الباجي: ومعنى ذلك عندي أنه أورده على غير وجه القسم ، وأما لو أورده على أنه مول بما قاله من ذلك أو غيره ، ففي المبسوط : أن ابن القاسم سئل عن الرجل يقول لامرأته: لا مرحبا، يريد بذلك الإيلاء يكون موليا، قال: قال مالك: كل كلام نوي به الطلاق فهو طلاق، وهذا والطلاق سواء.
فقال ابن عباس: (لا يكون موليا حتى يحلف ألا يمسها أبدا)
وقال ابن عباس: ( كل يمين منعت جِماعا فهي إيلاء )، وبه قالجمهور الفقهاء والأئمة الأربعة. قال ابن عبد البر: وكل يمين لا يقدر صاحبها على جماع امرأته من أجلها إلا بأن يحنث فهو بها مول. فإن قال: أقسم أو أعزم ولم يذكر بـــ " الله " فقيل : لا يدخل عليه الإيلاء.
ومن حلف بالله ألا يطأ واستثنى فقال: إن شاء الله ، فإنه يكون موليا، فإن وطئها فلا كفارة عليه وقال ابن الماجشون في المبسوط: ليس بمول ، وهو أصح لأن الاستثناء يحل اليمين ويجعل الحالف كأنه لم يحلف. لأنه بيَّن بالاستثناء أنه غير عازم على الفعل. ووجه ما رواه الأول مبني على أن الاستثناء لا يحل اليمين ، ولكنه يؤثر في إسقاط الكفارة.
-والإيلاء هو أن يحلف ألا يطأ أربعة أشهر، -فيجب بعد الأربعة اشهر سقوط الإيلاء، ولا يسقط إلا بالفيء وهو الجماع في داخل المدة ، فإن لم يفيء فالطلاق بعد انقضاء الأربعة الأشهر، قال الإمام مالك: أن المولي لا يلزمه طلاق حتى يوقفه السلطان بمطالبة زوجته له ليفيء فيراجع امرأته بالوطء ويكفر يمينه أو يطلق، ولا يتركه حتى يفيء أو يطلق. والفيء: الجماع فيمن يمكن مجامعتها.
فإن راجع لا تصح رجعته حتى يطأ في العدة. قال الأبهري: وذلك أن الطلاق إنما وقع لدفع الضرر، فمتى لم يطأ فالضرر باق، فلا معنى للرجعة إلا أن يكون له عذر يمنعه من الوطء فتصح رجعته ؛ لأن الضرر قد زال، وامتناعه من الوطء ليس من أجل الضرر وإنما هو من أجل العذر.
-والإيلاء يحصل سواء أكانت اليمين في غضب أو غير غضب، فهو إيلاء، وقاله ابن مسعود والثوري ومالك وأهل العراق والشافعي وأصحابه وأحمد، إلا أن مالكا قال: ما لم يرد إصلاح ولد (أي يكون بسبب رضاعة ولدها فليس أيلاء) قال ابن المنذر: وهذا أصح؛ لأنهم لما أجمعوا أن الظهار والطلاق وسائر الأيمان سواء في حال الغضب والرضا كان الإيلاء كذلك.
- من امتنع من وطء امرأته بغير يمين حلفها إضرارا بها أمر بوطئها، فإن أبى وأقام على امتناعه مضرا بها فرق بينه وبينها من غير ضرب أجل . وقد قيل : يضرب أجل الإيلاء. وقد قيل: لا يدخل على الرجل الإيلاء في هجرته من زوجته وإن أقام سنين لا يغشاها، ولكنه يوعظ ويؤمر بتقوى الله تعالى في ألا يمسكها ضرارا .
-واختلفوا فيمن حلف ألا يطأ امرأته حتى تفطم ولدها لئلا يمغل ولدها -المُغْل: اللَّبن الذي تُرضعُه المَرْأَةُ ولدَها وهي حاملٌ؛ يقولون يؤذي الرضيع- ولم يرد إضرارا بها حتى ينقضي أمد الرضاع لم يكن لزوجته عند مالك مطالبة لقصد إصلاح الولد. وقال به علي بن أبي طالب -فلم يره إيلاء- وبه قال الشافعي في أحد قوليه، والقول الآخر يكون موليا، ولا اعتبار برضاع الولد.
- قوله تعالى: (تَرَبُّصُ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ ۖ...) التربص: التأني والتأخر، مقلوب التصبر ، قال الشاعر :
تربص بها ريب المنون لعلها تطلق يوما أو يموت حليلها
-وأما فائدة توقيت الأربعة الأشهر فيما ذكر ابن عباس عن أهل الجاهلية كما تقدم، فمنع الله من ذلك وجعل للزوج مدة أربعة أشهر في تأديب المرأة بالهجر ، لقوله تعالى: (واهجروهن في المضاجع..) وقد آلى النبي ﷺ من أزواجه شهرا تأديبا لهن. وقد قيل: الأربعة الأشهر هي التي لا تستطيع ذات الزوج أن تصبر عنه أكثر منها ، وقد روي أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه كان يطوف ليلة بالمدينة فسمع امرأة تنشد :
ألا طال هذا الليل واسود جانبه وأرقني أن لا حبيب ألاعبه
فوالله لولا الله لا شيء غيره لزعزع من هذا السرير جوانبه
مخافة ربي والحياء يكفني وإكرام بعلي أن تنال مراكبه
فلما كان من الغد استدعى عمر بتلك المرأة وقال لها: أين زوجك ؟ فقالت: بعثت به إلى العراق ! فاستدعى نساء فسألهن عن المرأة كم مقدار ما تصبر عن زوجها ؟ فقلن: شهرين، ويقل صبرها في ثلاثة أشهر، وينفد صبرها في أربعة أشهر ، فجعل عمر مدة غزو الرجل أربعة أشهر ، فإذا مضت أربعة أشهر استرد الغازين ووجه بقوم آخرين ، وهذا والله أعلم يقوي اختصاص مدة الإيلاء بأربعة أشهر .
وقوله تعالى: (وَإِنْ عَزَمُوا الطَّلَاقَ فَإِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ ) (٢٢٧)
في قوله تعالى: (وَإِنْ عَزَمُوا الطَّلَاقَ..) دليل على أنها لا تطلق بمضي مدة أربعة أشهر، كما قال مالك: ما لم يقع إنشاء تطليق بعد المدة، وأيضا فإنه قال: (سميع) وسميع يقتضي مسموعا بعد المضي . وقال أبو حنيفة : "سميع" لإيلائه ، " عليم " بعزمه الذي دل عليه مضي أربعة أشهر . وروى سهيل بن أبي صالح عن أبيه قال: سألت اثني عشر رجلا من أصحاب رسول الله ﷺ عن الرجل يولي من امرأته، فكلهم يقول: ليس عليه شيء حتى تمضي أربعة أشهر فيوقف، فإن فاء وإلا طلق.
قال القاضي ابن العربي: وتحقيق الأمر أن تقدير الآية عندنا : (لِّلَّذِينَ يُؤْلُونَ مِن نِّسَائِهِمْ تَرَبُّصُ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ ۖ فَإِن فَاءُوا " بعد انقضائها " (فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ ). (وَإِنْ عَزَمُوا الطَّلَاقَ فَإِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ). وتقديرها عندهم: -للذين يؤلون من نسائهم تربص أربعة أشهر فإن فاءوا " فيها " فإن الله غفور رحيم ، وإن عزموا الطلاق بترك الفيئة فيها، يريد مدة التربص فيها فإن الله سميع عليم ، قال ابن العربي: وهذا احتمال متساو، ولأجل تساويه توقفت الصحابة فيه .
وإذا تساوى الاحتمال كان قول الكوفيين أقوى قياسا على المعتدة بالشهور والأقراء، إذ كل ذلك أجل ضربه الله تعالى، فبانقضائه انقطعت العصمة وأبينت من غير خلاف، ولم يكن لزوجها سبيل عليها إلا بإذنها، فكذلك الإيلاء، حتى لو نسي الفيء وانقضت المدة لوقع الطلاق.
وقوله تعالى: (وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنفُسِهِنَّ ثَلَاثَةَ قُرُوءٍ ۚ وَلَا يَحِلُّ لَهُنَّ أَن يَكْتُمْنَ مَا خَلَقَ اللَّهُ فِي أَرْحَامِهِنَّ إِن كُنَّ يُؤْمِنَّ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ۚ وَبُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ فِي ذَٰلِكَ إِنْ أَرَادُوا إِصْلَاحًا ۚ وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ ۚ وَلِلرِّجَالِ عَلَيْهِنَّ دَرَجَةٌ ۗ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ ) (٢٢٨)
وقوله تعالى: (وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنفُسِهِنَّ ثَلَاثَةَ قُرُوءٍ ۚ .) وذلك أن الرجل كان إذا طلق امرأته فهو أحق بها ، وإن طلقها ثلاثا ، فنسخ ذلك وقال : الطلاق مرتان الآية . والمطلقات لفظ عموم ، والمراد به الخصوص في المدخول بهن، وخرجت المطلقة قبل البناء بآية "الأحزاب" : (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نَكَحْتُمُ الْمُؤْمِنَاتِ ثُمَّ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِن قَبْلِ أَن تَمَسُّوهُنَّ فَمَا لَكُمْ عَلَيْهِنَّ مِنْ عِدَّةٍ تَعْتَدُّونَهَا ) (الأحزاب ٤٩)، فهذا الأمر من الله سبحانه وتعالى للمطلقات المدخول بهن من ذوات الأقراء، بأن يتربصن بأنفسهن ثلاثة قروء، أي: بأن تمكث إحداهن بعد طلاق زوجها لها ثلاثة قروء ؛ ثم تتزوج إن شاءت، وقد أخرج الأئمة الأربعة من هذا العموم الأمة إذا طلقت ، فإنها تعتد عندهم بقرءين، لأنها على النصف من الحرة، والقرء لا يتبعض فكمل لها قرءان. ولما رواه ابن جريح عن عائشة: أن رسول الله ﷺ قال: " طلاق الأمة تطليقتان وعدتها حيضتان" .رواه أبو داود ، والترمذي وابن ماجه .
عن ابنِ عمرَ قالَ : "إذا كانت الحرَّةُ تحتَ العبدِ فقد بانت منْهُ بتطليقتينِ، وعدَّتُها ثلاثُ حِيَضٍ، وإذا كانت الأمةُ تحتَ الحرِّ فقد بانت منْهُ بثلاثٍ وعدَّتُها حَيضتانِ. " (رواه ابن حزم في المحلى- صحيح)
وهو الصحيح ما رواه سالم ونافع عن ابن عمر ،وهكذا روي عن عمر بن الخطاب. قالوا : ولم يعرف بين الصحابة خلاف . وقال بعض السلف : بل عدتها كعدة الحرة لعموم الآية؛ ولأن هذا أمر جبلي فكان الإماء والحرائر في هذا سواء ، والله أعلم
-عن أسماء بنت يزيد أم سلمة الأنصارية: " أنَّها طُلِّقَت علَى عَهْدِ رسولِ اللَّهِ ﷺ، ولم يَكُن للمُطلَّقةِ عدَّةٌ ، فأنزلَ اللَّهُ عزَّ وجلَّ حينَ طُلِّقَت أسماءُ بالعدَّةِ للطَّلاقِ "، فَكانت أوَّلَ من أُنْزِلَت فيها العدَّةُ للمُطلَّقاتِ" (صحيح ابن داود للألباني- حسن)
وقد اختلف السلف والخلف والأئمة في المراد بالأقراء ما هو ؟ على قولين :
قال أبو عمرو بن العلاء: من العرب من يسمي الحيض قرءا، ومنهم من يسمي الطهر قرءا، ومنهم من يجمعهما جميعا ، فيسمي الطهر مع الحيض قرءا.
وقيل: القرء ، الخروج إما من طهر إلى حيض أو من حيض إلى طهر ، وعلى هذا قال الشافعي في قول : القرء الانتقال من الطهر إلى الحيض، ولا يرى الخروج من الحيض إلى الطهر قرءا .
وفي أن المراد بها: الأطهار ؛ قال مالك في الموطأ عن عائشة أنها قالت: " أنَّها انتقَلَتْ حَفْصةُ بنتُ عبدِ الرحمنِ حينَ دخَلَتْ في الدمِ منَ الحَيْضةِ الثالثةِ"، قال ابنُ شِهابٍ: فذكَرَ ذلك لعَمْرةَ بنتِ عبدِ الرحمنِ، فقالت: صدَقَ عُرْوةُ، وقد جادَلَها في ذلك ناسٌ، وقالوا: إنَّ اللهَ تعالى يقولُ (ثَلَاثَةَ قُرُوءٍ..) ، فقالت عائشةُ رَضِيَ اللهُ عنها: "صَدَقْتم، وهل تَدْرونَ ما الأقْراءُ؟ الأقْراءُ: الأطْهارُ." (رواه في زاد المعاد- إسناده صحيح)
وقال مالك مثل قول عائشة وقال مالك: عن نافع، عن عبد الله بن عمر، أنه كان يقول: "إذا طلق الرجل امرأته فدخلت في الدم من الحيضة الثالثة فقد برئت منه وبرئ منها" . وقال مالك: وهو الأمر عندنا وهو قول جمهور كبير من العلماء، واستدلوا عليه بقوله تعالى: ( فطلقوهن لعدتهن ) (الطلاق ١) أي: في الأطهار.
والقول الثاني: أن المراد بالأقراء: الحيض، فلا تنقضي العدة حتى تطهر من الحيضة الثالثة، زاد آخرون: وتغتسل منها . وبهذا القول قال كثير من الصحابة، والتابعين، وهذا مذهب أبي حنيفة وأصحابه ، وأصح الروايتين عن الإمام أحمد بن حنبل ، وحكى عنه الأثرم أنه قال : الأكابر من أصحاب رسول الله ﷺ يقولون: الأقراء الحيض. وأيده كثيرون.
ويؤيد هذا ما جاء في الحديث الذي رواه أبو داود والنسائي عن عروة بن الزبير عن فاطمة بنت أبي حبيش أن رسول الله ﷺ قال لها : " دعي الصلاة أيام أقرائك" (صححه الأرناؤوط من تخريج شرح السنة)، فهذا لو صح لكان صريحا في أن القرء هو الحيض، ولكن المنذر هذا قال فيه أبو حاتم: مجهول ليس بمشهور . وذكره ابن حبان في الثقات .
-وأصل القرء في كلام العرب : " الوقت لمجيء الشيء المعتاد مجيئه في وقت معلوم ، ولإدبار الشيء المعتاد إدباره لوقت معلوم " . وهذه العبارة تقتضي أن يكون مشتركا بين الطهر والحيض.
وأقل مدة تصدق فيها المرأة في انقضاء عدتها اثنان وثلاثون يوما ولحظتان .
وقوله تعالى: (وَلَا يَحِلُّ لَهُنَّ أَن يَكْتُمْنَ مَا خَلَقَ اللَّهُ فِي أَرْحَامِهِنَّ) أي: من حبل أو حيض. قاله ابن عباس ، وابن عمر ،وغير واحد.
وقوله : (إِن كُنَّ يُؤْمِنَّ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ۚ) تهديد لهن على قول خلاف الحق. ودل هذا على أن المرجع في هذا إليهن؛ لأنه أمر لا يعلم إلا من جهتين، وتتعذر إقامة البينة غالبا على ذلك، فرد الأمر إليهن، وتوعدن فيه، لئلا تخبر بغير الحق إما استعجالا منها لانقضاء العدة، أو رغبة منها في تطويلها، لما لها في ذلك من المقاصد. فأمرت أن تخبر بالحق في ذلك من غير زيادة ولا نقصان .
وقوله : (وَبُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ فِي ذَٰلِكَ إِنْ أَرَادُوا إِصْلَاحًا ۚ.) أي: وزوجها الذي طلقها أحق بردتها ما دامت في عدتها، إذا كان مراده بردتها الإصلاح والخير. وهذا في الرجعيات. فأما المطلقات البوائن فلم يكن حال نزول هذه الآية مطلقة بائن، وإنما صار ذلك لما حصروا في الطلقات الثلاث ، فأما حال نزول هذه الآية فكان الرجل أحق برجعة امرأته وإن طلقها مائة مرة ، فلما قصروا في الآية التي بعدها على ثلاث تطليقات صار للناس مطلقة بائن وغير بائن .
قوله تعالى: (وَبُعُولَتُهُنّ)َ البعولة جمع البعل، وهو الزوج ، سمي بعلا لعلوه على الزوجة بما قد ملكه من زوجيتها، ومنه قوله تعالى: (أَتَدْعُونَ بَعْلًا وَتَذَرُونَ أَحْسَنَ الْخَالِقِينَ) (الصافات ١٢٥) أي ربا ، لعلوه في الربوبية، يقال: بعل وبعولة ، كما يقال في جمع الذكر: ذكر وذكورة
وأجمع العلماء على أن الحر إذا طلق زوجته الحرة ، وكانت مدخولا بها تطليقة أو تطليقتين ، أنه أحق برجعتها ما لم تنقض عدتها وإن كرهت المرأة .
فإن لم يراجعها المطلق حتى انقضت عدتها فهي أحق بنفسها وتصير أجنبية منه، لا تحل له إلا بخطبة ونكاح مستأنف بولي وإشهاد، ليس على سنة المراجعة، وهذا إجماع من العلماء.
قال المهلب : وكل من راجع في العدة فإنه لا يلزمه شيء من أحكام النكاح غير الإشهاد على المراجعة فقط ، وهذا إجماع من العلماء ، لقوله تعالى: (فَإِذَا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ فَارِقُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِّنكُمْ) (الطلاق ٢)، فذكر الإشهاد في الرجعة ولم يذكره في النكاح ولا في الطلاق.
واختلفوا فيما يكون به الرجل مراجعا في العدة، فقال مالك: إذا وطئها في العدة وهو يريد الرجعة وجهل أن يشهد فهي رجعة . وينبغي للمرأة أن تمنعه الوطء حتى يشهد، وبه قال إسحاق، لقوله عليه السلام: إنما الأعمال بالنيات، وإنما لكل امرئ ما نوى. فإن وطئ في العدة لا ينوي الرجعة فقال مالك: يراجع في العدة ولا يطأ حتى يستبرئها من مائه الفاسد. وقالت طائفة : إذا جامعها فقد راجعها، وقد قيل: وطؤه مراجعة على كل حال، نواها أو لم ينوها، ويروى ذلك عن طائفة من أصحاب مالك ، وإليه ذهب الليث . فمن قبل أو باشر ينوي بذلك الرجعة كانت رجعة، وإن لم ينو بالقبلة والمباشرة الرجعة كان آثما وليس بمراجع . ولا خلاف في صحة الارتجاع بالقول، والسنة أن يشهد قبل أن يطأ أو قبل أن يقبل أو يباشر . ولو ارتجعها ليس عليه مهر .
ما يجوز أن يراه منها وهي عدتها-
تبقى في بيتها لقوله تعالى: (وَاتَّقُوا اللَّهَ رَبَّكُمْ ۖ لَا تُخْرِجُوهُنَّ مِن بُيُوتِهِنَّ وَلَا يَخْرُجْنَ.) ( الطلاق ١)
اختلفوا هل له أن يدخل عليها ويرى شيئا من محاسنها، وهل تتزين له وتتشرف، فقال مالك: لا يخلو معها، ولا يدخل عليها إلا بإذن، ولا ينظر إليها إلا وعليها ثيابها، ولا ينظر إلى شعرها، ولا بأس أن يأكل معها إذا كان معهما غيرهما، ولا يبيت معها في بيت وينتقل عنها .
وقال أبو حنيفة وأصحابه في أنها تتزين له وتتطيب وتلبس الحلي وتتشرف له. وعن سعيد بن المسيب قال: إذا طلق الرجل امرأته تطليقة فإنه يستأذن عليها، وتلبس ما شاءت من الثياب والحلي، فإن لم يكن لهما إلا بيت واحد فليجعلا بينهما سترا ، ويسلم إذا دخل، لقوله تعالى: (لَا تَدْرِي لَعَلَّ اللَّهَ يُحْدِثُ بَعْدَ ذَٰلِكَ أَمْرًا ..) ( الطلاق١) ، أي لا تدري لعل الله يحدث أمرا أن يراجعها.
ولفظ ( أحق ) يطلق عند تعارض حقين، ويترجح أحدهما، فالمعنى : حق الزوج في مدة التربص أحق من حقها بنفسها، فإنها إنما تملك نفسها بعد انقضاء العدة، ومثل هذا قوله عليه السلام : " الأيمُ أحقُّ بنفسِها من وليِّها " . (صحيح).
-الرجل مندوب إلى المراجعة، ولكن إذا قصد الإصلاح بإصلاح حاله معها، وإزالة الوحشة بينهما، فأما إذا قصد الإضرار وتطويل العدة والقطع بها عن الخلاص من ربقة النكاح فمحرم ، لقوله تعالى: (ولا تمسكوهن ضرارا لتعتدوا )، ثم من فعل ذلك فالرجعة صحيحة، وإن ارتكب النهي ظلم نفسه.
وقوله: (وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ ۚ ) أي: ولهن على الرجال من الحق مثل ما للرجال عليهن ، فليؤد كل واحد منهما إلى الآخر ما يجب عليه بالمعروف ، كما ثبت في صحيح مسلم ، عن جابر ، أن رسول الله ﷺقال في خطبته ، في حجة الوداع : " أيُّها النَّاسُ، إنَّ النساءَ عندكم عَوانٍ، أخذتُموهنَّ بأمانة الله، واستحلَلْتُم فروجَهنَّ بكلمةِ اللهِ، ولكم عليهنَّ حَقٌّ، ومِن حَقِّكم عليهنَّ ألَّا يُوطِئْنَ فُرُشَكم أحدًا، ولا يَعْصينَكم في معروفٍ، فإذا فعَلْنَ ذلك فلهن رِزقُهنَّ وكِسوتُهنَّ بالمعروفِ " ( رواه ابن جرير عن عبد الله بن عمر-صحيح) وفي حديث بهز بن حكيم ، عن معاوية بن حيدة القشيري ، عن أبيه ، عن جده ، أنه قال: " يا رسولَ اللَّهِ، ما حقُّ زوجةِ أحدِنا ؟ قالَ: " أن تُطْعِمَها إذا طعِمتَ ، وتَكْسوَها إذا اكتسيتَ ، ولا تضربَ الوجهَ ، ولا تقبِّحَ ، ولا تَهْجرَ إلَّا في البيتِ" وعنِ ابنِ عبَّاسٍ ، قالَ : "إنِّي لأحبُّ أن أتزيَّنَ للمرأةِ كما أحبُّ أن تتزيَّنَ ليَ المرأةُ ، لأنَّ اللَّهَ يقول : (وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ )" ( رواه أحمد شاكر -عمدة التفسير- إسناده صحيح)
وقوله : (وَلِلرِّجَالِ عَلَيْهِنَّ دَرَجَةٌ ۗ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ) رجل بيِّن الرجلة، أي القوة . وهو أرجل الرجلين، أي أقواهما. وفرس رجيل، أي قوي ، ومنه الرجل، لقوته على المشي. فزيادة درجة الرجل بعقله وقوته على الإنفاق وبالدية والميراث والجهاد . ، كما قال تعالى: (الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاءِ بِمَا فَضَّلَ اللَّهُ بَعْضَهُمْ عَلَىٰ بَعْضٍ وَبِمَا أَنفَقُوا مِنْ أَمْوَالِهِمْ ۚ) (النساء ٣٤ ) .
(دَرَجَةٌ ۗ) تقتضي التفضيل، وتشعر بأن حق الزوج عليها أوجب من حقها عليه، ولهذا قال ﷺ: " لو كنْتُ آمِرًا أحدًا أنْ يَسْجُدَ لِأَحَدٍ، لَأَمَرْتُ المرأةَ أنْ تَسْجُدَ لِزَوْجِها "( سنن الترمذي- حسن غريب) وقال ابن عباس :"الدرجة إشارة إلى حض الرجال على حسن العشرة، والتوسع للنساء في المال والخلق ، أي أن الأفضل ينبغي أن يتحامل على نفسه" . قال ابن عطية: وهذا قول حسن بارع. قال الماورد : يحتمل أنها في حقوق النكاح ، له رفع العقد دونها، ويلزمها إجابته إلى الفراش، ولا يلزمه إجابتها .
قلت : ومن هذا قولهﷺ: " إذا دَعا الرَّجُلُ امْرَأَتَهُ إلى فِراشِهِ، فأبَتْ أنْ تَجِيءَ، لَعَنَتْها المَلائِكَةُ حتَّى تُصْبِحَ." (البخاري) ، وإنما هذا من المضرة التي قد تلحق الزوج ألا تجيبه.
وقوله : (وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ) أي: عزيز في انتقامه ممن عصاه وخالف أمره، أي منيع السلطان لا معترض عليه ، حكيم في أمره وشرعه وقدره ، (حَكِيمٌ) أي عالم مصيب فيما يفعل .
والله أعلم.
No comments:
Post a Comment