شرح حديث: الكفارات
والدرجات والمنجيات والمهلكات- ج 2
عَنْ أنس بن مالك رضي الله عنه قَالَ : قَالَ
رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: "
ثَلاثٌ كَفَّارَاتٌ وَثَلاثٌ دَرَجَاتٌ وَثَلاثٌ مُنْجِيَاتٌ وَثَلاثٌ
مُهْلِكَاتٌ , فَأَمَّا الْكَفَّارَاتُ : فَإِسْبَاغُ الْوُضُوءِ فِي
السَّبَرَاتِ ، وَانْتِظَارُ الصَّلاةِ بَعْدَ الصَّلاةِ ، وَنَقْلُ الأَقْدَامِ
إِلَى الْجُمُعَاتِ ، وَأَمَّا الدَّرَجَاتُ : فَإِطْعَامُ الطَّعَامِ ,
وَإِفْشَاءُ السَّلامِ , وَالصَّلاةُ بِاللَّيْلِ وَالنَّاسُ نِيَامٌ ، وَأَمَّا
الْمُنْجِيَاتُ : فَالْعَدْلُ فِي الْغَضَبِ وَالرِّضَا ، وَالْقَصْدُ فِي
الْغِنَى وَالْفَقْرِ ، وَخَشْيَةُ اللَّهِ فِي السِّرِّ وَالْعَلانِيَةِ ، وَأَمَّا
الْمُهْلِكَاتُ : فَشُحٌّ مُطَاعٌ ، وَهَوًى مُتَّبَعٌ ، وَإِعْجَابُ الْمَرْءِ بِنَفْسِهِ " . ( الترغيب والترهيب – حديث حسن)
ثانيا : الدرجات
وَأَمَّا الدَّرَجَاتُ
:" فَإِطْعَامُ الطَّعَامِ ، وَإِفْشَاءُ السَّلامِ ، وَالصَّلاةُ
بِاللَّيْلِ وَالنَّاسُ نِيَامٌ "
الدرجة الأولى: " فَإِطْعَامُ الطَّعَامِ" :
فقد ورد في فضلها حديث أبي مالك الأشعري أن
النبي ﷺ قال: " إنَّ في الجنة غرفًا يُرى ظاهرها من باطنها وباطنها
من ظاهرها، أعدها الله لمن أطعم الطعام، وأفشى السلام، وصلى بالليل، والناس نيام
"( رواه ابن حبان) .
فإطعام الطعام عمل من
أجلّ القربات، وأعظم الحسنات؛ ففي الحديث المتفق عليه عن عبد الله بن عمر أن
رجلاً سأل رسول الله: أي الإسلام خير؟ قال: "تطعم الطعام، وتقرأ السلام على من عرفت ومن لم تعرف"، وقد قال النبي ﷺ لصهيب: "
خياركم من أطعم الطعام"( ابن حبان – قال الألباني حسن صحيح)
ومهما قل ما يقدمه
الإنسان لغيره من الطعام فإنه -مع النية الخالصة- يعظم عند الله تعالى؛ فعن
عائشة رضي الله عنها عن رسول الله ﷺ قال: "إنَّ الله ليربي لأحدكم التمرة واللقمة كما يربي
أحدكم فلوه أو فصيله -صغار الخيل والإبل- حتى تكون مثل أحد " ( ابن حبان – قال الألباني حسن صحيح)
والدرجة الثانية: "وَإِفْشَاءُ السَّلامِ ":
فالسلام اسم من أسماء الله الحسنى، وإفشاء
السلام وبذله من أعظم خصال الإسلام والإيمان؛ ففي البخاري عن عبد الله بن عمرو
أن رجلاً سأل رسول الله ﷺ أي الإسلام خير؟
قال: "تطعم الطعام،
وتقرأ السلام على من عرفت ومن لم تعرف "
وإفشاء السلام سبب من
أسباب المحبة والألفة؛ أخرج مسلم في صحيحه عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال
رسول الله- ﷺ : " لا تدخلون الجنة حتى تؤمنوا، ولا تؤمنوا حتى تحابوا،
أو لا أدلكم على شيءٍ إذا فعلتموه تحاببتم؟! أفشوا السلام بينكم "
وبإفشاء السلام
والمصافحة تحط الذنوب والخطايا؛ فعن حذيفة أن النبي ﷺ قال: " إن المؤمن إذا لقي المؤمن فسلم عليه وأخذ بيده
فصافحه تناثرت خطاياهما كما يتناثر ورق الشجر" (
الطبراني – حسن لغيره)
ومن أبخل البخل:
البخل بالسلام؛ فعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله ﷺ: " أعجز الناس من
عجز في الدعاء، وأبخل الناس من بخل بالسلام " ( الطبراني – رجاله
رجال الصحيح) ، ولذلك جاءت النصوص
بتحريم الهجران بين المؤمنين، والحث على التصافي والتوادّ؛ فعن أبي أيوب رضي
الله عنه عن النبي ﷺ أنه قال: " لا يحل
لمسلم أن يهجر أخاه فوق ثلاث، يلتقيان فيصدُّ هذا ويصدُّ هذا، وخيرهما الذي يبدأ
بالسلام " ( متفق عليه ).
الدرجة الثالثة : "وَالصَّلاةُ بِاللَّيْلِ وَالنَّاسُ نِيَامٌ
" :
فقد
جاء في الحديث الذي أخرجه مسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله ﷺ قال: "... أفضل
الصلاةِ بَعْد الفريضةِ صلاةُ الليل" ..
وقد أثنى الله على أهل قيام الليل في خمسة عشر موضعًا من القرآن،
منها قوله تعالى: {تَتَجَافَى
جُنُوبُهُمْ عَنْ الْمَضَاجِعِ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفًا وَطَمَعًا} ( سورة السجدة16)، وقال في وصف المتقين: {كَانُوا قَلِيلاً مِنْ اللَّيْلِ مَا يَهْجَعُونَ
وَبِالأَسْحَارِ هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ} ( الذاريات17-18)، قال قتادة: "قلَّ ليلة تأتي عليهم إلا
يصلون فيها لله عز وجل إما من أولها أو من وسطها"، وقال سبحانه في وصف عباد
الرحمن: {وَالَّذِينَ يَبِيتُونَ
لِرَبِّهِمْ سُجَّدًا وَقِيَامًا}
( الفرقان64).
وما أجمل ساعات الليل ودقائقه حين يقف بين يدي الله؛ فقد أخرج
مسلم عن جابر قال: سمعت رسول الله ﷺ يقول: "إن في الليل لساعة لا يوافقها
عبد مسلم يسأل الله خيرًا من أمر الدنيا والآخرة إلا أعطاه إياه، وذلك كل ليلة"
.. قال ثابت البناني -رحمه الله-:
"ما شيء أجده في قلبي ألذّ عندي من قيام الليل". وقال أبو سليمان
الداراني رحمه الله: "لأهل الطاعة بليلهم ألذ من أهل اللهو بلهوهم، ولولا
الليل ما أحببت البقاء في الدنيا".
ومن أعظم ما ورد في شأن أهل قيام الليل قول النبي ﷺ: " ثلاثة يحبهم
الله ويضحك إليهم ويستبشر بهم" ،
وذكر منهم: "والذي له امرأة حسناء وفراش لين حسن، فيقوم الليل فيقول
الله: يذر شهوته ويذكرني، ولو شاء رقد، والذي إذا كان في سفر وكان معه ركب
فسهروا ثم هجعوا فقام من السحر في ضراء وسراء" ( الهيثمي – رجاله ثقات)
وجاء في الأثر: عن أبي أمامة الباهلي رضي الله عنه عن رسول الله ﷺ قال: "عليكم بقيام
الليل فإنه دأب الصالحين قبلكم، وقربةٌ إلى ربكم، ومكفرةٌ للسيئات، ومنهاةٌ عن
الإثم" ( الترمذي – حسن لغيره)
ما قدر ما يكفي ليعد
من قيام الليل؟
من قام من الليل ولو شيء
يسيرًا كتب ممن قام الليل، فعن ابن عباس قال: ذكرت قيام الليل فقال بعضهم: إن
رسول الله ﷺ قال: "نصفه، ربعه، فواق حلب ناقة" ( الترغيب والترهيب – رجاله رجال الصحيح) أي قدر ما بين رفع
اليد عن الضرع وضمها وقت الحلب.
حال رسول الله ﷺ وصحابته مع الليل:
تحدثنا أمُّنا عائشة بأعجب ما رأته من النبي ﷺ ، فتقول: أتاني في
ليلتي حتى مسّ جلده جلدي ثم قال: "ذريني أتعبد لربي عز وجل" ، قالت: فقلت: والله، إني لأحب قربك وأحب أن تعبد ربك، فقام إلى
القربة فتوضأ ولم يكثر صبَّ الماء، ثم قام يصلي فبكى حتى بلَّ لحيته، ثم سجد
فبكى حتى بلَّ الأرض، ثم اضطجع على جنبه فبكى، حتى إذا أتاه بلال يؤذنه بصلاة
الصبح قالت: فقال: يا رسول، ما يبكيك وقد غفر الله لك ذنبك ما تقدم وما تأخر؟!
فقال: "ويحك يا بلال، وما يمنعني أن أبكي وقد أنزل علي في
هذه الليلة: {إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَاخْتِلافِ
اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لآيَاتٍ لأُولِي الأَلْبَابِ} ( آل عمران190)، ثم قال: "ويل لمن قرأها
ولم يتفكر فيها" ( رواه
ابن حبان في صحيحه – وهو حسن).
وقد سار على نهجه في ذلك أصحابه رضي الله عنهم، فهذا عمر بن
الخطاب رضي الله عنه كان في وجهه خطان أسودان مثل الشراك من البكاء، ولما قرأ
رضي الله عنه {إِذَا الشَّمْسُ
كُوِّرَتْ} ( التكوير1)، وانتهى إلى
قوله تعالى: {وَإِذَا الصُّحُفُ
نُشِرَتْ}( التكوير 10). خر مغشيا
عليه..
وقد روي أن قوله تعالى: {أَمَّنْ هُوَ قَانِتٌ آنَاء اللَّيْلِ سَاجِدًا وَقَائِمًا
يَحْذَرُ الْآخِرَةَ وَيَرْجُو رَحْمَةَ رَبِّهِ} ( الزمر9) نزلت في عثمان بن عفانرضي الله عنهما، قال ابن عمر:
"ذلك لكثرة صلاة أمير المؤمنين عثمان رضي الله عنه بالليل وقراءته حتى إنه
ربما قرأ القرآن في ركعة"، وكان أبو هريرة وامرأته وخادمه يقتسمون الليل
ثلاثًا، كما يقول أبو عثمان النهدي: "تضيفت أبا هريرة سبعا، فكان هو
وامرأته وخادمه يتعقبون الليل أثلاثا؛ يصلي هذا ثم يوقظ هذا، ويصلي هذا ثم يوقظ
هذا.
بل كان الأشعريون قوم أبي موسى يعرفون بالليل بالقرآن، يقول
النبي ﷺ كما في صحيح مسلم: "إني لأعرف أصوات رُفْقَةِ
الأشعريين بالقرآن حين يخلون بالليل، وأعرف منازلهم من أصواتهم بالقرآن بالليل" ، هنيئا لهم ، كيف عرفوا عند رسول الله ﷺ ، فبأيّ شيء تعرف
بيوت كثير من المسلمون بالليل في هذه الأيام؟! إلى الله المشتكى، وصلى الله على
خير من صلى وقام، وطاف بالبيت الحرام، وعلى آله وصحبه والتابعين على الدوام.
اللهم أعنا على
الصالحات، واصرف عن الشرور والمهلكات، وارزقنا توبة قبل الموت، ورحمة بعد
الموت.. إنك أنت الغفور الرحيم.
|
المواضيع
- أحاديث في فضائل الصحابة رضوان الله عليهم (4)
- أحاديث نبوية شريف وشرحها (38)
- أدعية عظيمة (20)
- أنبياء الله- تعرف عليه (1)
- أنبياء الله- تعرف عليهم (49)
- الأمثال في القرآن (27)
- الجنة حعلنا الله من أهلها (3)
- الحج والعمرة (7)
- الدعاء في القرآن الكريم (9)
- القرآن الكريم ربط الآيات وبيان المتشابهات (194)
- المعرفة والترفيه (1)
- تدبر القرآن الكريم (80)
- ترحيب - مقدمة (1)
- حديث: شرح أحاديث الأربعين النووية (25)
- سلسلة في الفقه الميسر (44)
- شهر رمضان (24)
- شهر رمضان- رمضان والقرآن (4)
- صحابيات حول رسول الله صلى الله عليه وسلم (29)
- علوم القرآن الكريم (16)
- مناسبات دينية (2)
Friday, 19 February 2016
شرح حديث الكفارات والدرجات والمهلكات والمنجيات - ثانيا - الدرجات -ج 2
Subscribe to:
Post Comments (Atom)
No comments:
Post a Comment