Friday, 26 February 2016

تفسير وربط للآيات وبيان المتشابهات –سورة القمر ج 2

 

 




سورة القمر ج 2  

ويضرب الله تعالى لعباده أمثلة أخرى من الأمم السابقة لعلهم يعتبرون، يقول تعالى مخبرا عن عاد قوم هود:( كَذَّبَتْ عَادٌ فَكَيْفَ كَانَ عَذَابِي وَنُذُرِ ) إنهم كذبوا رسولهم أيضا، كما صنع قوم نوح، وأنه تعالى أرسل ( عَلَيْهِمْ رِيحًا صَرْصَرًا ) ، وهي الريح الباردة الشديدة البرد، ( فِي يَوْمِ نَحْسٍ ) أي:عليهم. ( مُسْتَمِرٍّ ) ؛ لأنه يوم اتصل فيه عذابهم الدنيوي بالأخروي. فهو يوم دائم الشؤم استمر عليهم بنحوسه، واستمر عليهم نحسه ودماره ، فيه العذاب إلى الهلاك. وقيل: استمر بهم إلى نار جهنم.
وقوله: ( تَنـزعُ النَّاسَ كَأَنَّهُمْ أَعْجَازُ نَخْلٍ مُنْقَعِرٍ ) وضع سبحانه الصفة للريح أي تقلعهم من مواضعهم. قال الطبري: في الكلام حذف، والمعنى تنزع الناس فتتركهم كأنهم أعجاز نخل منقعر وقيل: قلعتهم من تحت أقدامهم اقتلاع النخلة من أصلها. وقال مجاهد: كانت تقلعهم من الأرض، فترمي بهم على رؤوسهم فتندق أعناقهم وتبين رؤوسهم عن أجسادهم. وقيل: تنزع الناس من البيوت ؛ ولهذا قال: ( كَأَنَّهُمْ أَعْجَازُ نَخْلٍ مُنْقَعِرٍ * فَكَيْفَ كَانَ عَذَابِي وَنُذُرِ * وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ ) . 

في اللغة :

والأعجاز جمع عجز وهو مؤخر الشيء، وكانت عاد موصوفين بطول القامة، فشبهوا بالنخل لطولها انكبت لوجوهها، وقال: ( أَعْجَازُ نَخْلٍ مُنْقَعِرٍ ) للفظ النخل وهو من الجمع الذي يذكر ويؤنث.
والمنقعر: المنقلع من أصله؛ قعرت الشجرة قعرا قلعتها من أصلها فانقعرت.
قال الكسائي: قعرت البئر أي نزلت حتى أنتهيت إلى قعرها، وكذلك الإناء إذا شربت ما فيه حتى انتهيت إلى قعره. وأقعرت البئر جعلت لها قعرا.
وقوله (كَذَّبَتْ ثَمُودُ بِالنُّذُرِ ) إخبار عن ثمود أنهم كذبوا رسولهم صالحا، ( فَقَالُوا أَبَشَرًا مِنَّا وَاحِدًا نَتَّبِعُهُ إِنَّا إِذًا لَفِي ضَلالٍ وَسُعُرٍ ) ، يقولون:لقد خبنا وخسرنا إن سلمنا كُلّنا قيادتنا لواحد منا!
ثم تعجبوا من إلقاء الوحي عليه خاصة من دونهم، ثم رموه بالكذب فقالوا: ( أَؤُلْقِيَ الذِّكْرُ عَلَيْهِ مِنْ بَيْنِنَا بَلْ هُوَ كَذَّابٌ أَشِرٌ ) أي:متجاوز في حد الكذب. فيتوعدهم الله تعالى فيقول: ( سَيَعْلَمُونَ غَدًا مَنِ الْكَذَّابُ الأشِرُ ) وهذا تهديد لهم شديد ووعيد أكيد.
ولكن الله لا يهلك قوما حتى يقيم عليهم الحجة فقال: ( إِنَّا مُرْسِلُو النَّاقَةِ فِتْنَةً لَهُمْ ) أي:اختبارا لهم؛ أخرج الله لهم ناقة عظيمة عُشراء من صخرة صمَّاء من الهضبة التي سألوها ، فروي أن صالحا صلى ركعتين ودعا فانصدعت الصخرة التي عينوها عن سنامها، فخرجت ناقة عشراء وبراء لتكون احتبارا لهم وحجة الله عليهم في تصديق صالح، عليه السلام، فيما جاءهم به.
وهو سبحانه يعلم ما سيكون منهم، فيصبر عبده ورسوله صالح: ( فَارْتَقِبْهُمْ وَاصْطَبِرْ ) أي:انتظر ما يؤول إليه أمرهم، وما يصنعون، واصبر عليهم، فإن العاقبة لك والنصر لك في الدنيا والآخرة. 

قال القرطبي: وأصل الطاء في اصطبر تاء فتحولت طاء لتكون موافقة للصاد في الإطباق.

ولتقام عليهم الحجة قل لهم: ( وَنَبِّئْهُمْ أَنَّ الْمَاءَ قِسْمَةٌ بَيْنَهُمْ ) أي:يوم لهم ويوم للناقة؛ كقوله تعالى: ( قَالَ هَذِهِ نَاقَةٌ لَهَا شِرْبٌ وَلَكُمْ شِرْبُ يَوْمٍ مَعْلُومٍ ) [ الشعراء:155 ] . قال ابن عباس: كان يوم شربهم لا تشرب الناقة شيئا من الماء وتسقيهم لبنا وكانوا في نعيم، وإذا كان يوم الناقة شربت الماء كله فلم تبق لهم شيئا. وإنما قال: ( بَيْنَهُمْ )لأن العرب إذا أخبروا عن بني ادم مع البهائم غلبوا بني ادم.
وقوله: ( كُلُّ شِرْبٍ مُحْتَضَرٌ ) قال مقاتل: أي يحضره من هو له؛ فالناقة تحضر الماء يوم وردها، وتغيب عنهم يوم وردهم؛ وقال مجاهد: إن ثمود يحضرون الماء يوم غبها فيشربون، ويحضرون اللبن يوم وردها فيحتلبون 


في اللغة :

الشِرْب - بالكسر - الحظ من الماء؛ وفي المثل: " آخرها أقلها شِربا " وأصله في سقي الإبل، لأن آخرها يرد وقد نزف الحوض.
ثم قال تعالى: ( فَنَادَوْا صَاحِبَهُمْ فَتَعَاطَى فَعَقَرَ ) نادوا صاحبهم يحضوه على نحرها، قال المفسرون:عاقر الناقة، واسمه قُدّار بن سالف، وكان أشقى قومه. كقوله: ( إِذِ انْبَعَثَ أَشْقَاهَا ) [ الشمس:12 ] ( فَتَعَاطَى ) أي:فَجَسر يعني بالحض على عقرها ( فَتَعَاطَى فَعَقَرَ) ومعنى تعاطى تناول الفعل؛ من قولهم: عطوت أي تناولت.

قتل الناقة:
 
قال محمد بن إسحاق: في السير: فكمن لها في أصل شجرة على طريقها فرماها بسهم فانتظم به عضلة ساقها، ثم شد عليها بالسيف فكشف عرقوبها، فخرت ورغت رغاءة واحدة ، فأتاهم صالح عليه السلام؛ فلما رأى الناقة قد عقرت بكى وقال: قد انتهكتم حرمة الله فأبشروا بعذاب الله.
( فَكَيْفَ كَانَ عَذَابِي وَنُذُرِ ) أي:فعاقبتهم، فكيف كان عقابي [ لهم ] على كفرهم بي وتكذيبهم رسولي؟ ( إِنَّا أَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ صَيْحَةً وَاحِدَةً فَكَانُوا كَهَشِيمِ الْمُحْتَظِرِ ) أي:فبادوا عن آخرهم لم تبق منهم باقية، وخَمَدوا وهَمَدوا كما يهمد يَبِيس الزرع والنبات. قاله غير واحد من المفسرين. والمحتظر - قال السدي- :هو المرعى بالصحراء حين يبيس وتحرق ونسفته الريح.
وقال ابن زيد:كانت العرب يجعلون حِظَارًا على الإبل والمواشي من يَبِيس الشوك، فهو المراد من قوله: ( كَهَشِيمِ الْمُحْتَظِرِ)، بفتح الظاء هو: الحظيرة، وبالكسر يعني صاحب الحظيرة. وفي الصحاح: والمحتظِر الذي يعمل الحظيرة.
فالمحتظر على هذا الذي يتخذ حظيرة على زرعه، والهشيم فتات السنبلة والتبن. ( وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ )

قصة مرور النبي ﷺ وصحابته معه على ديار قوم صالح( ثمود):

وروى أبو الزبير عن جابر قال: لما نزلنا الحجر في مغزى رسول الله تبوك، قال: "  أيها الناس لا تسألوا في هذه الآيات هؤلاء قوم صالح سألوا نبيهم أن يبعث الله لهم ناقة فبعث الله عز وجل إليهم الناقة فكانت ترد من ذلك الفج فتشرب ماءهم يوم وردها ويحلبون منها مثل الذي كانوا يشربون يوم غبها" ( رواه البوصيري – صحيح الإسناد)

  وورد النهي عن دخول ديار قوم ثمود خصوصًا:

عن ابن عمر رضي الله عنه أن النبي لما مر بالحجر قال: "لا تدخلوا مساكن الذين ظلموا أنفسهم، أن يصيبكم ما أصابهم، إلا أن تكونوا باكين" ثم قنع رأسه وأسرع السير حتى أجاز الوادي. (البخاري،ومسلم ) ومعنى تقنع: أي تستر بردائه.
وعن ابن عمر أيضًا: "أن الناس نزلوا مع رسول الله على الحجر أرض ثمود, فاستقوا من آبارها وعجنوا به العجين, فأمرهم رسول الله أن يهريقوا ما استقوا ويعلفوا الإبل العجين، وأمرهم أن يستقوا من البئر التي كانت تردها الناقة" (البخاري ومسلم).

 

 أحوال زيارة ديار ثمود:

ويمكن القول بأن زيارة ديار ثمود في الحجر لها حالتان:
1- زيارتها لمصلحة راجحة كالتفكر والاعتبار، أو التوثيق والتعلم والتعليم، أو الوعظ والتذكير:
فهذا يجوز بشرط أن يكون السائح أو الزائر لها على حالة من الخشوع والتفكر والاعتبار والبكاء، وليس لمجرد المتعة بمشاهدة المباني والقصور.

 دليل جواز زيارتها للمصلحة أمور:

عموم الأدلة الداعية للسير في الأرض والآمرة به مع التفكر والنظر في مصارع الأقوام السابقة, مثل قوله تعالى: }أَوَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كَانُوا أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَأَثَارُوا الْأَرْضَ وَعَمَرُوهَا أَكْثَرَ مِمَّا عَمَرُوهَا وَجَاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَمَا كَانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُون{ ( الروم 9 ) وقوله: } قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ ثُمَّ انْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِين{ ومعنى السير هو السير الحقيقي والسفر لتلك الأماكن, قال البغوي في تفسير السَّيْر المذكور: "أولم يسافروا في الأرض فينظروا إلى مصارع الأمم قبلهم فيعتبروا" (تفسير البغوي).
وإن كان يدخل فيه السير بالأفهام والتفكر في ما يسمعه من الناس عن أحوال الأمم السابقة وهلاكها.
أن النبي لم ينه عن زيارتها مطلقاً بل أباحه بشرط التفكر والخوف والاعتبار فقال: "لا تدخلوا مساكن الذين ظلموا إلا أن تكونوا باكين" قال ابن الجوزي رحمه الله في معنى البكاء الوارد في الحديث: "إنما ينشأ البكاء عن التفكر, فكأنه أمرهم في التفكر في أحوال توجب البكاء" (كشف المشكل لابن الجوزي).
وهذا هو معنى النظر في عاقبة الظالمين المكذبين كما ورد في الآيات، وأكمل الاعتبار والتفكر يكون بالبكاء من خشية الله.

2-  زيارتها لمجرد التسلية والتعرف وربما تعظيم ما كانوا عليه بدون اعتبار ولا تفكر، مثل ما يقع لكثير من الناس: فلا شك في مخالفته لحديث رسول الله ، ونهيه عن الدخول إلا على حالة الخوف والاعتبار والتفكر في قوله: "لا تدخلوا مساكن الذين ظلموا إلا أن تكونوا باكين أن يصيبكم ما أصابهم" أي حتى لا يصيبكم ما أصابهم.
والراجح أن هذا النهي للتحريم كما عليه جمهور أهل العلم خلافاً لمن قال بالكراهة؛ فقد نهى الصحابة وهم في الجهاد عن الدخول إلا على هذه الصفة، فكيف لمن كان قصده النزهة لا غير، فالأصل في النهي التحريم ولا صارف له عن ذلك, ثم إن مخالفة النهي مخوفة بوقوع العذاب كما في الحديث. (انظر: فتح الباري لابن رجب) 

عودة للتفسير :

يقول تعالى مخبرا عن قوم لوط (كَذَّبَتْ قَوْمُ لُوطٍ بِالنُّذُرِ)  كيف كذبوا رسولهم وخالفوه، وارتكبوا المحرم من إتيان الذكور، وهي الفاحشة التي لم يسبقهم بها أحد من العالمين؛ ولهذا أهلكهم الله هلاكا لم يُهلكه أمةً من الأمم، فإنه تعالى أمر جبريل، عليه السلام، فحمل مدائنهم حتى وصل بها إلى عَنَان السماء، ثم قلبها عليهم وأرسلها، وأتبعت بحجارة من سجيل منضود؛ ولهذا قال هاهنا. ( إِنَّا أَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ حَاصِبًا ) وهي:الحجارة، ( إِلا آلَ لُوطٍ نَجَّيْنَاهُمْ بِسَحَرٍ ) أي: يعني من تبعه على دينه ولم يكن إلا بنتاه ، خرجوا من آخر الليل فنجوا مما أصاب قومهم، ولم يؤمن بلوط من قومه أحد ولا رجل واحد حتى ولا امرأته، أصابها ما أصاب قومها، وخرج نبي الله لوط وابنتاه من بين أظهرهم سالما لم يمسَسْه سوء؛ ولهذا قال تعالى: ( نِعْمَةً مِنْ عِنْدِنَا كَذَلِكَ نَجْزِي مَنْ شَكَرَ ) ثم بين الله تعالى حال نبيه مع قومه  فقال: ( وَلَقَدْ أَنْذَرَهُمْ بَطْشَتَنَا ) أي:ولقد كان قبل حلول العذاب بهم قد أنذرهم بأس الله وعذابه، فما التفتوا إلى ذلك، ولا أصغوا إليه، بل شكوا فيه وتماروا به، ( وَلَقَدْ رَاوَدُوهُ عَنْ ضَيْفِهِ ) وذلك ليلة ورَدَ عليه الملائكة:جبريل، وميكائيل، وإسرافيل في صورة شباب مُرد حِسان محنَةً من الله بهم، فأضافهم لوط عليه السلام،  وبعثت امرأته العجوز السوءُ إلى قومها، فأعلمتهم بأضياف لوط، فأقبلوا يُهْرَعُونَ إليه من كل مكان، فأغلق لوط دونهم الباب، فجعلوا يحاولون كسر الباب، وذلك عشية، ولوط، عليه السلام، يدافعهم ويمانعهم دون أضيافه، ويقول لهم: (هَؤُلاءِ بَنَاتِي إِنْ كُنْتُمْ فَاعِلِينَ )[ الحجر71 ] يعني:نساءهم، ( قَالُوا لَقَدْ عَلِمْتَ مَا لَنَا فِي بَنَاتِكَ مِنْ حَقٍّ وَإِنَّكَ لَتَعْلَمُ مَا نُرِيدُ )[ هود:79 ] أي:ليس لنا فيهن أرَبٌ، وليس هن من نريد ، فلما اشتد الحال على لوط عليه السلام ،وأبوا إلا الدخول، خرج عليهم جبريل، عليه السلام، فضرب أعينهم بطرف جناحه، فانطمست أعينهم. يقال:إنها غارت من وجوههم. وقيل:إنه لم تبق لهم عيون بالكلية، فرجعوا على أدبارهم يتحسسون بالحيطان، ويتوعدون لوطا، عليه السلام، إلى الصباح. قال الضحاك: طمس الله على أبصارهم فلم يروا الرسل؛ فقالوا: لقد رأيناهم حين دخلوا البيت فأين ذهبوا؟ فرجعوا ولم يروهم، ( فَذُوقُوا عَذَابِي وَنُذُرِ ) أي فقلنا لهم ذوقوا، والمراد من هذا الأمر الخبر؛ أي فأذقتهم عذابي الذي أنذرهم به لوط.
قال الله تعالى: ( وَلَقَدْ صَبَّحَهُمْ بُكْرَةً عَذَابٌ مُسْتَقِرٌّ ) أي:لا محيد لهم عنه، ولا انفكاك لهم منه، ( فَذُوقُوا عَذَابِي وَنُذُرِ * وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ ) .
ثم يخبرنا الله تعالى نبذة عن فرعون وقومه إنهم جاءهم رسول الله موسى وأخوه هارون بالبشارة إن آمنوا، والنذارة إن كفروا، وأيدهما بمعجزات عظيمة وآيات متعددة، فكذبوا بها كلها، فأخذهم الله أخذ عزيز مقتدر، أي:فأبادهم الله ولم يُبق منهم مخبرًا ولا عينًا ولا أثرًا.
ثم قال يخاطب قريش: ( أَكُفَّارُكُمْ ) أي:أيها المشركون من كفار قريش ( خَيْرٌ مِنْ أُولَئِكُمْ ) يعني:من الذين تقدم ذكرهم ممن أهلكوا بسبب تكذيبهم الرسل، وكفرهم بالكتب:أأنتم خير أم أولئك؟ ( أَمْ لَكُمْ بَرَاءَةٌ فِي الزُّبُرِ ) أي:أم معكم من الله براءة وأمان ألا ينالكم عذاب ولا نكال؟  
ثم قال مخبرا عنهم: ( أَمْ يَقُولُونَ نَحْنُ جَمِيعٌ مُنْتَصِرٌ) أي:يعتقدون أنهم مناصرون بعضهم بعضا، وأن جمعهم وكثرتهم وقوتهم تغني عنهم من أرادهم بسوء، قال الله تعالى: ( سَيُهْزَمُ الْجَمْعُ وَيُوَلُّونَ الدُّبُرَ ) أي:سيتفرق شملهم ويغلبون.
قال البخاري: عن ابن عباس؛ أن النبي قال وهو في قبة له يوم بدر : « أنشدك عهدك ووعدك، اللهم إن شئت لم تُعبد بعد اليوم أبدا » . فأخذ أبو بكر، رضي الله عنه، بيده وقال:حسبك يا رسول الله! ألححت على ربك. فخرج وهو يثب في الدرع وهو يقول: ( سَيُهْزَمُ الْجَمْعُ وَيُوَلُّونَ الدُّبُرَ * بَلِ السَّاعَةُ مَوْعِدُهُمْ وَالسَّاعَةُ أَدْهَى وَأَمَرُّ ) .
وقال ابن أبي حاتم: عن عكرمة، قال:لما نـزلت ( سَيُهْزَمُ الْجَمْعُ وَيُوَلُّونَ الدُّبُرَ )، قال عمر:أيّ جمَع يهزم؟ أيّ جَمْع يغلب؟ قال عمر:فلما كان يوم بدر رأيت رسول الله يثب في الدرع، وهو يقول: ( سَيُهْزَمُ الْجَمْعُ وَيُوَلُّونَ الدُّبُرَ ) فعرفت تأويلها يومئذ .
ثم يخبر تعالى عن المجرمين يزم القيامة وأنهم  (إِنَّ الْمُجْرِمِينَ فِي ضَلالٍ وَسُعُرٍ) أنهم في ضلال عن الحق، وسُعُر مما هم فيه من الشكوك والاضطراب في الآراء، وهذا يشمل كل من اتصف بذلك من كافر ومبتدع من سائر الفرق.
ثم قال: ( يَوْمَ يُسْحَبُونَ فِي النَّارِ عَلَى وُجُوهِهِمْ ) أي:كما كانوا في سُعُر وشك وتردد أورثهم ذلك النار، وكما كانوا ضلالا سُحبوا فيها على وجوههم، لا يدرون أين يذهبون، ويقال لهم تقريعا وتوبيخا: ( ذُوقُوا مَسَّ سَقَرَ ) .
وقوله: ( إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ ) ، كقوله: (وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ فَقَدَّرَهُ تَقْدِيرًا ) [ الفرقان:2 ] وكقوله: ( سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الأَعْلَى * الَّذِي خَلَقَ فَسَوَّى * وَالَّذِي قَدَّرَ فَهَدَى)  [ الأعلى:1- 3 ] أي:قدر قدرا، وهدى الخلائق إليه؛ ولهذا يستدل بهذه الآية الكريمة أئمةُ السنة على إثبات قَدَر الله السابق لخلقه، وهو علمه الأشياء قبل كونها وكتابته لها قبل برئها، وردّوا بهذه الآية وبما شاكلها من الآيات، وما ورد في معناها من الأحاديث الثابتات على الفرْقة القَدرية الذين نبغوا في أواخر عصر الصحابة. 

ولنذكر هاهنا الأحاديث التي وردت بالقدرية :

قال أحمد: عن أبي هُرَيرَة قال:جاء مشركو قريش إلى النبي يخاصمونه في القدر، فنـزلت: ( يَوْمَ يُسْحَبُونَ فِي النَّارِ عَلَى وُجُوهِهِمْ ذُوقُوا مَسَّ سَقَرَ * إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ ) . وهكذا رواه مسلم والترمذي وابن ماجه.
وقال البزار: عن عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جده قال:ما نـزلت هذه الآيات: ( إِنَّ الْمُجْرِمِينَ فِي ضَلالٍ وَسُعُرٍ * يَوْمَ يُسْحَبُونَ فِي النَّارِ عَلَى وُجُوهِهِمْ ذُوقُوا مَسَّ سَقَرَ * إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ ) ، إلا في أهل القدر .
وقال ابن أبي حاتم: عن ابن زُرَارة، عن أبيه، عن النبي أنه تلا هذه الآية: ( ذُوقُوا مَسَّ سَقَرَ * إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ ) ، قال: « نـزلت في أناس من أمتي يكونون في آخر الزمان يكذبون بقدر الله » .
وقال الإمام أحمد: عن نافع قال:كان لابن عمر صديق من أهل الشام يكاتبه ، فكتب إليه عبد الله بن عمر:إنه بلغني أنك تكلمت في شيء من القدر، فإياك أن تكتب إليّ، فإني سمعت رسول الله يقول: « سيكون في أمتي أقوام يكذبون بالقدر » .
وقال أحمد: عن عبد الله بن عمر؛ أن رسول الله قال: « لكل أمة مجوس، ومجوس أمتي الذين يقولون:لا قدر. إن مرضوا فلا تعودوهم، وإن ماتوا فلا تشهدوهم » .
وقال أحمد:حدثنا قتيبة، حدثنا رِشْدِين، عن أبي صخر حُمَيد بن زياد، عن نافع، عن ابن عمر قال:سمعت رسول الله يقول: « سيكون في هذه الأمة مسخ، ألا وذاك في المكذبين بالقدر والزنديقية » .ورواه الترمذي وقال الترمذي:حسن صحيح غريب.
وقال أحمد: عن طاوس اليماني قال:سمعت ابن عمر قال:قال رسول الله : « كل شيء بقدر حتى العجز والكيس » .ورواه مسلم منفردا به، من حديث مالك .
وفي الحديث الصحيح: « استعن بالله ولا تعجز، فإن أصابك أمر فقل:قَدَّرُ الله وما شاء فعل، ولا تقل:لو أني فعلت لكان كذا، فإن لو تفتح عمل الشيطان » .
وفي حديث ابن عباس في الصحيح:أن رسول الله قال له: « واعلم أن الأمة لو اجتمعوا على أن ينفعوك بشيء، لم يكتبه الله لك، لم ينفعوك، ولو اجتمعوا على أن يضروك بشيء، لم يكتبه الله عليك، لم يضروك. جفّت الأقلام وطويت الصحف » .
وقال الإمام أحمد: حدثني عبادة بن الوليد بن عبادة، حدثني أبي قال:دخلت على عبادة وهو مريض أتخايل فيه الموت، فقلت:يا أبتاه، أوصني واجتهد لي. فقال:أجلسوني. فلما أجلسوه قال:يا بني، إنك لما تطعم طعم الإيمان، ولم تبلغ حق حقيقة العلم بالله، حتى تؤمن بالقدر خيره وشره. قلت:يا أبتاه، وكيف لي أن أعلم ما خير القدر وشره؟ قال:تعلم أن ما أخطأك لم يكن ليصيبك، وما أصابك لم يكن ليخطئك. يا بني، إني سمعت رسول الله يقول: « إن أول ما خلق الله القلم. ثم قال له:اكتب. فجرى في تلك الساعة بما هو كائن إلى يوم القيامة » يا بني، إن متَّ ولستَ على ذلك دخلت النار .  ورواه الترمذي عن يحيى بن موسى البَلْخِي وقال:حسن صحيح غريب .
وقال سفيان الثوري، عن علي بن أبي طالب قال:قال رسول الله : « لا يؤمن عبد حتى يؤمن بأربع:يشهد أن لا إله إلا الله، وأني رسول الله، بعثني بالحق، ويؤمن بالموت، ويؤمن بالبعث بعد الموت، ويؤمن بالقدر خيره وشره » .وكذا رواه الترمذي
وقد ثبت في صحيح مسلم عن عبد الله بن عمرو، قال:قال رسول الله : « إن الله كتب مقادير الخلائق قبل أن يخلق السموات والأرض بخمسين ألف سنة » زاد ابن وهب: وَكَانَ عَرْشُهُ عَلَى الْمَاءِ [ هود:7 ] ورواه الترمذي وقال:حسن صحيح غريب .

عودة للتفسير:

وقوله: ( وَمَا أَمْرُنَا إِلا وَاحِدَةٌ كَلَمْحٍ بِالْبَصَرِ ) . وهو إخبار عن نفوذ مشيئته في خلقه كما أخبر بنفوذ قدره فيهم، فقال: ( وَمَا أَمْرُنَا إِلا وَاحِدَةٌ ) أي:إنما نأمر بالشيء مرة واحدة، لا نحتاج إلى تأكيد بثانية، فيكون ذلك الذي نأمر به حاصلا موجودا كلمح البصر ، لا يتأخر طرفة عين، وما أحسن ما قال بعض الشعراء:
إذَا مــا أرَادَ اللــه أمْــرًا فَإِنَّمـا يقُـــولُ لـــهُ:كُــنْ ، قَوَلــةً فَيَكُونُ
وقوله: ( وَلَقَدْ أَهْلَكْنَا أَشْيَاعَكُمْ ) يعني:أمثالكم وسلفكم من الأمم السابقة المكذبين بالرسل، ( فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ ) أي:فهل من متعظ بما أخزى الله أولئك، وقدر لهم من العذاب.
وقوله: ( وَكُلُّ شَيْءٍ فَعَلُوهُ فِي الزُّبُرِ ) أي:مكتوب عليهم في الكتب التي بأيدي الملائكة عليهم السلام، والزبر : أي الكتاب أو هو اللوح المحفوظ، ( وَكُلُّ صَغِيرٍ وَكَبِيرٍ ) أي:من أعمالهم ( مُسْتَطَرٌ ) أي: مكتوب ومجموع عليهم، ومسطر في صحائفهم، لا يغادر صغيرة ولا كبيرة إلا أحصاها.
وقد قال الإمام أحمد:عن عبد الله بن الزبير، يقول حدثني عوف بن الحارث - وهو ابن أخي عائشة لأمها- عن عائشة أن رسول الله كان يقول: « يا عائشة، إياك ومُحَقِّرات الذنوب، فإن لها من الله طالبا » .
وقوله: ( إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَنَهَرٍ ) أي:بعكس ما الأشقياء فيه من الضلال والسُّعر والسحب في النار على وجوههم، مع التوبيخ والتقريع والتهديد.
وقوله: ( فِي مَقْعَدِ صِدْقٍ ) أي:في دار كرامة الله ورضوانه وفضله، وامتنانه وجوده وإحسانه، ( عِنْدَ مَلِيكٍ مُقْتَدِرٍ ) أي:عند الملك العظيم الخالق للأشياء كلها ومقدرها، وهو مقتدر على ما يشاء مما يطلبون ويريدون؛ وعن عبد الله بن عمرو رضي الله عنه، يَبلُغُ به النبي قال: « المقسطون عند الله يوم القيامة على منابر من نور، عن يمين الرحمن، وكلتا يديه يمين:الذين يعدلون في حكمهم وأهليهم وما ولوا » . انفرد بإخراجه مسلم . 

انتهى تقسير سورة ( اقتربيت ) فلله الحمد والمنة

No comments:

Post a Comment