Friday, 19 February 2016

تفسير و وربط للآيات وبيان المتشايهات سورة الذاريات ج 2

   


(وَالسَّمَاء بَنَيْنَاهَا بِأَيْدٍ وَإِنَّا لَمُوسِعُونَ) 




 سورة الذاريات  ج 2 

يقص سبحانه هنا قصة ضيف سيدنا إبراهيم عليه السلام ، وهذه القصة قد تقدمت في سورة « هود » و « الحجر » أيضا. وقوله: ( هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ ضَيْفِ إِبْرَاهِيمَ الْمُكْرَمِينَ ) أي:الذين أرصد لهم الكرامة. وقد ذهب الإمام أحمد وطائفة من العلماء إلى وجوب الضيافة للنـزيل، وقد وردت السنة بذلك كما هو ظاهر التنـزيل.
وقوله: ( قَالُوا سَلامًا قَالَ سَلامٌ ) :الرفع أقوى وأثبت من النصب، فرده أفضل من التسليم؛ ولهذا قال تعالى: (وَإِذَا حُيِّيتُمْ بِتَحِيَّةٍ فَحَيُّوا بِأَحْسَنَ مِنْهَا أَوْ رُدُّوهَا ) [ النساء:86 ]، فالخليل اختار الأفضل.
وقوله: ( قَوْمٌ مُنْكَرُونَ ):وذلك أن الملائكة وهم:جبريل وإسرافيل وميكائيل قدموا عليه في صور شبان حسان عليهم مهابة عظيمة؛ ولهذا قال: ( قَوْمٌ مُنْكَرُونَ ) .
وقوله: ( فَرَاغَ إِلَى أَهْلِهِ ) أي:انسل خفية في سرعة، ( فَجَاءَ بِعِجْلٍ سَمِينٍ ) أي:من خيار ماله. وفي الآية الأخرى: فَمَا لَبِثَ أَنْ جَاءَ بِعِجْلٍ حَنِيذٍ [ هود:69 ] أي:مشوي على الرَّضف، ( فَقَرَّبَهُ إِلَيْهِمْ ) أي:أدناه منهم، ( قَالَ أَلا تَأْكُلُونَ ) :تلطف في العبارة وعرض حسن.
 
وهذه الآية انتظمت آداب الضيافة

 فإنه جاء بطعامه من حيث لا يشعرون بسرعة، ولم يمتن عليهم أولا فقال: « نأتيكم بطعام؟ » بل جاء به بسرعة وخفاء، وأتى بأفضل ما وجد من ماله، وهو عجل فتي سمين مشوي، فقربه إليهم، لم يضعه، وقال:اقتربوا، بل وضعه بين أيديهم، ولم يأمرهم أمرا يشق على سامعه بصيغة الجزم، بل قال: ( أَلا تَأْكُلُونَ ) على سبيل العرض والتلطف، كما يقول القائل اليوم:إن رأيت أن تتفضل وتحسن وتتصدق، فافعل .

عودة للتفسير:

وقوله: ( فَأَوْجَسَ مِنْهُمْ خِيفَةً ) أي أحس منهم في نفسه خوفا. وقيل: أضمر لما لم يتحرموا بطعامه. ومن أخلاق الناس: أن من تحرم بطعام إنسان أمنه. وقال عمرو بن دينار: قالت الملائكة لا نأكل إلا بالثمن. قال: كلوا وأدوا ثمنه. قالوا: وما ثمنه؟ قال: تسمون الله إذا أكلتم وتحمدونه إذا فرغتم. فنظر بعضهم إلى بعض وقالوا: لهذا اتخذك الله خليلا.
هذا بيانه على ما تقدم في القصة في سورة " هود" ، وهو قوله: ( فَلَمَّا رَأَى أَيْدِيَهُمْ لا تَصِلُ إِلَيْهِ نَكِرَهُمْ وَأَوْجَسَ مِنْهُمْ خِيفَةً قَالُوا لا تَخَفْ إِنَّا أُرْسِلْنَا إِلَى قَوْمِ لُوطٍ * وَامْرَأَتُهُ قَائِمَةٌ فَضَحِكَتْ ) [ هود:70-71 ] أي:استبشرت بهلاكهم؛ لتمردهم وعتوهم على الله، فعند ذلك بشرتها الملائكة ( بِإِسْحَاقَ وَمِنْ وَرَاءِ إِسْحَاقَ يَعْقُوبَ ) ،( قَالَتْ يَا وَيْلَتَى أَأَلِدُ وَأَنَا عَجُوزٌ وَهَذَا بَعْلِي شَيْخًا إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عَجِيبٌ * قَالُوا أَتَعْجَبِينَ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ رَحْمَتُ اللَّهِ وَبَرَكَاتُهُ عَلَيْكُمْ أَهْلَ الْبَيْتِ إِنَّهُ حَمِيدٌ مَجِيدٌ ) [ هود 72- 73 ] ؛ ولهذا قال هاهنا: ( وَبَشَّرُوهُ بِغُلامٍ عَلِيمٍ ) ، فالبشارة له هي بشارة لها؛ لأن الولد منهما، فكل منهما بشر به.
وقوله: ( فَأَقْبَلَتِ امْرَأَتُهُ فِي صَرَّةٍ ) أي:في صرخة عظيمة ورنة، قاله ابن عباس، وغيره وهي قولها: يَا وَيْلَتَى ( فَصَكَّتْ وَجْهَهَا ) أي:ضربت بيدها على جبينها.
وقال ابن عباس:لطمت، أي تعجبا كما تتعجب النساء من الأمر الغريب، ( وَقَالَتْ عَجُوزٌ عَقِيمٌ ) أي:كيف ألد وأنا عجوز [ عقيم ] ، وقد كنتُ في حال الصبا عقيما لا أحبل؟.
( قَالُوا كَذَلِكِ قَالَ رَبُّكِ إِنَّهُ هُوَ الْحَكِيمُ الْعَلِيمُ ) أي:عليم بما تستحقون من الكرامة، حكيم في أقواله وأفعاله.

قال الله مخبرا عن إبراهيم، عليه السلام  في سورة " هود " : ( فَلَمَّا ذَهَبَ عَنْ إِبْرَاهِيمَ الرَّوْعُ وَجَاءَتْهُ الْبُشْرَى يُجَادِلُنَا فِي قَوْمِ لُوطٍ * إِنَّ إِبْرَاهِيمَ لَحَلِيمٌ أَوَّاهٌ مُنِيبٌ * يَا إِبْرَاهِيمُ أَعْرِضْ عَنْ هَذَا إِنَّهُ قَدْ جَاءَ أَمْرُ رَبِّكَ وَإِنَّهُمْ آتِيهِمْ عَذَابٌ غَيْرُ مَرْدُودٍ )[ هود74 - 76] .
وقال هاهنا: ( قَالَ فَمَا خَطْبُكُمْ أَيُّهَا الْمُرْسَلُونَ ) أي:ما شأنكم وفيم جئتم؟.
( قَالُوا إِنَّا أُرْسِلْنَا إِلَى قَوْمٍ مُجْرِمِينَ ) يعنون قوم لوط.
( لِنُرْسِلَ عَلَيْهِمْ حِجَارَةً مِنْ طِينٍ* مُسَوَّمَةً ) أي:معلمة ( عِنْدَ رَبِّكَ لِلْمُسْرِفِينَ ) أي:مكتتبة عنده بأسمائهم، كل حجر عليه اسم صاحبه، فقال في سورة العنكبوت: (قَالَ إِنَّ فِيهَا لُوطًا قَالُوا نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَنْ فِيهَا لَنُنَجِّيَنَّهُ وَأَهْلَهُ إِلا امْرَأَتَهُ كَانَتْ مِنَ الْغَابِرِينَ)[ العنكبوت32 ]، وقال هاهنا: ( فَأَخْرَجْنَا مَنْ كَانَ فِيهَا مِنَ الْمُؤْمِنِينَ )، وهم لوط وأهل بيته إلا امرأته. 

( فَمَا وَجَدْنَا فِيهَا غَيْرَ بَيْتٍ مِنَ الْمُسْلِمِينَ ) احتج بهذه [ الآية ] من ذهب إلى رأي المعتزلة، ممن لا يفرق بين مسمى الإيمان والإسلام؛ لأنه أطلق عليهم المؤمنين والمسلمين. وهذا الاستدلال ضعيف؛ لأن هؤلاء كانوا قوما مؤمنين، وعندنا أن كل مؤمن مسلم لا ينعكس، فاتفق الاسمان هاهنا لخصوصية الحال، ولا يلزم ذلك في كل حال. 

وقوله: ( وَتَرَكْنَا فِيهَا آيَةً لِلَّذِينَ يَخَافُونَ الْعَذَابَ الألِيمَ) أي:جعلناها عبرة، لما أنـزلنا بهم من العذاب والنكال وحجارة السجيل، وجعلنا محلتهم بحيرة منتنة خبيثة، ففي ذلك عبرة للمؤمنين، ( لِلَّذِينَ يَخَافُونَ الْعَذَابَ الألِيمَ )
يقول تعالى: ( وَفِي مُوسَى إِذْ أَرْسَلْنَاهُ إِلَى فِرْعَوْنَ بِسُلْطَانٍ مُبِينٍ ) أي:بدليل باهر وحجة قاطعة، ( فَتَوَلَّى بِرُكْنِهِ ) أي:فأعرض فرعون عما جاءه به موسى من الحق المبين، استكبارا وعنادا. وقال مجاهد:تعزز بأصحابه. وقال قتادة:غلب عدُو الله على قومه. وهو معرض عن الحق مستكبر، ( وَقَالَ سَاحِرٌ أَوْ مَجْنُونٌ ) أي:لا يخلو أمرك فيما جئتني به من أن تكون ساحرا، أو مجنونا. فكان عاقبته: ( فَأَخَذْنَاهُ وَجُنُودَهُ فَنَبَذْنَاهُمْ ) أي:ألقيناهم في اليم، وهو البحر، ( وَهُوَ مُلِيمٌ ) أي:وهو ملوم كافر جاحد فاجر معاند.
ثم قال: ( وَفِي عَادٍ إِذْ أَرْسَلْنَا عَلَيْهِمُ الرِّيحَ الْعَقِيمَ ) أي:المفسدة التي لا تنتج شيئا، ولهذا قال: ( مَا تَذَرُ مِنْ شَيْءٍ أَتَتْ عَلَيْهِ ) أي:مما تفسده الريح ( إِلا جَعَلَتْهُ كَالرَّمِيمِ ) أي:كالشيء الهالك البالي.

وقد قال ابن أبي حاتم: عن عبد الله بن عمرو قال:قال رسول الله : « الريح مسخرة من الثانية - يعني من الأرض الثانية- فلما أراد الله أن يهلك عادًا أمر خازن الريح أن يرسل عليهم ريحا تهلك عادا، قال:أي رَبَ، أرسل عليهم [ من ] الريح قدر منخر الثور؟ قال له الجبار:لا إذًا تكفأ الأرض ومن عليها، ولكن أرسل [ عليهم ] بقدر خاتم. فهي التي يقول الله في كتابه: ( مَا تَذَرُ مِنْ شَيْءٍ أَتَتْ عَلَيْهِ إِلا جَعَلَتْهُ كَالرَّمِيمِ ) » هذا الحديث رفعه منكر ، والأقرب أن يكون موقوفا على عبد الله بن عمرو، من زاملتيه اللتين أصابهما يوم اليرموك، والله أعلم.
قال سعيد بن المسيب وغيره في قوله: ( إِذْ أَرْسَلْنَا عَلَيْهِمُ الرِّيحَ الْعَقِيمَ ) قالوا:هي ريح الجنوب. وقد ثبت في الصحيح من رواية شعبة،عن ابن عباس قال:قال رسول الله : « نصرت بالصّبا، وأهلكت عاد بالدبور » .
( وَفِي ثَمُودَ إِذْ قِيلَ لَهُمْ تَمَتَّعُوا حَتَّى حِينٍ ) قال ابن جرير:يعني إلى وقت فناء آجالكم.
وبيان ذلك في قوله: ( وَأَمَّا ثَمُودُ فَهَدَيْنَاهُمْ فَاسْتَحَبُّوا الْعَمَى عَلَى الْهُدَى فَأَخَذَتْهُمْ صَاعِقَةُ الْعَذَابِ الْهُونِ)  [ فصلت:17 ] .
وهكذا قال هاهنا: (فَعَتَوْا عَنْ أَمْرِ رَبِّهِمْ فَأَخَذَتْهُمُ الصَّاعِقَةُ وَهُمْ يَنْظُرُونَ )، وذلك أنهم انتظروا العذاب ثلاثة أيام وجاءهم في صبيحة اليوم الرابع بُكْرَة النهار ( فَمَا اسْتَطَاعُوا مِنْ قِيَامٍ ) أي:من هَرَبٍ ولا نهوض، ( وَمَا كَانُوا مُنْتَصِرِينَ ) أي:ولا يقدرون على أن ينتصروا مما هم فيه.
وقوله: ( وَقَوْمَ نُوحٍ مِنْ قَبْلُ ) أي:وأهلكنا قوم نوح من قبل هؤلاء ( إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمًا فَاسِقِينَ ) وكل هذه القصص قد تقدمت مبسوطة في أماكن كثيرة، من سور متعددة.
يقول تعالى منبها على خلق العالم العلوي والسفلي: ( وَالسَّمَاءَ بَنَيْنَاهَا ) أي:جعلناها سقفا [ محفوظا ] رفيعا ( بأيد ) أي:بقوة. قاله ابن عباس، ومجاهد، وقتادة، والثوري، وغير واحد، ( وَإِنَّا لَمُوسِعُونَ ) ، أي:قد وسعنا أرجاءها ورفعناها بغير عمد، حتى استقلت كما هي. 

إعجاز علمي:

رأينا كيف تحدثت الآية الكريمة عن حقيقة البناء الكوني في قوله تعالى: (وَالسَّمَاء بَنَيْنَاهَا بِأَيْدٍ وَإِنَّا لَمُوسِعُونَ) [الذاريات47]، وقد ثبُت يقيناً أن البناء الكوني منظم ومعقد ومحكم، وأن في الكون هندسة مبهرة فالكون يحوي أعمدة، ويحوي جسوراً من المجرات، ويحوي كذلك خيوطاً عظمى كل خيط يتألف من آلاف المجرات ويمتد لمئات البلايين من السنوات الضوئية، فسبحان من أحكم هذا البناء وحدثنا عنه قبل أن يكتشفه علماء الغرب بقرون طويلة.
إن هذا البناء لخصه لنا القرآن بكلمة واحدة ( بَنَيْنَاهَا)، وهنالك آيات كثيرة في القرآن تؤكد حقيقة البناء الكوني، منها: ( الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الأَرْضَ فِرَاشاً وَالسَّمَاء بِنَاء)  [البقرة: 22].وقوله تعالى: ( اللَّهُ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ قَرَاراً وَالسَّمَاء بِنَاء) [غافر64].
وقوله تعالى:( أَفَلَمْ يَنظُرُوا إِلَى السَّمَاء فَوْقَهُمْ كَيْفَ بَنَيْنَاهَا وَزَيَّنَّاهَا وَمَا لَهَا مِن فُرُوجٍ) [ ق6].
وهنا يتفوق القرآن على العلم من جديد، فالعلم يتحدث عن (فضاء)، والقرآن يتحدث عن (بناء)، وكلمة (بناء) هي الكلمة الأنسب علمياً لوصف السماء.
وفهمنا من الآية الكريمة أن هذه الكون يتسع باستمرار من بداية خلقه إلى يومنا هذا، فقال تعالى: (وَالسَّمَاء بَنَيْنَاهَا بِأَيْدٍ وَإِنَّا لَمُوسِعُونَ) [الذاريات: 47]، وعبر عن هذا الاتساع باسم الفاعل (مُوسِع)، واسم الفاعل يكون في الأزمنة الثلاثة (الماضي والحال والاستقبال) كما يقرر ذلك علماء اللغة العربية، أي أن هذا الاتساع بدأ في الماضي وهو مستمر في عصر نزول الآية وسيستمر إلى ما شاء الله تعالى، وتوسع الكون حقيقة لم يتمكن الإنسان من إدراكها إلا في الثلث الأول من القرن العشرين، ودار حولها الجدل حتى سلّم بها أهل العلم أخيرا، وقد سبق القرآن الكريم بإقرارها قبل أربعة عشر قرناً أو يزيد، ولا يمكن لعاقل أن يتصور مصدراً لتلك الإشارة القرآنية الباهرة غير الله الخالق تبارك وتعالى، فسبحان خالق الكون الذي أبدعه بعلمه وحكمته وقدرته، والذي أنزل لنا فيه هذه الومضات القرآنية الباهرة مع غيرها من الآيات القرآنية، شهادة صدق بأن القرآن الكريم كلام الله، وأن سيدنا ونبينا محمدا كان موصولاً بالوحي، معلماً من قبل خالق السماوات والأرض، وأن القرآن الكريم هو معجزته الخالدة إلى قيام الساعة.

عودة للتفسير:

( وَالأرْضَ فَرَشْنَاهَا ) أي:جعلناها فراشًا للمخلوقات، ( فَنِعْمَ الْمَاهِدُونَ ) أي:وجعلناها مهدا لأهلها.
( وَمِنْ كُلِّ شَيْءٍ خَلَقْنَا زَوْجَيْنِ ) أي:جميع المخلوقات أزواج:سماء وأرض، وليل ونهار، وشمس وقمر، وبر وبحر، وضياء وظلام، وإيمان وكفر، وموت وحياة، وشقاء وسعادة، وجنة ونار، حتى الحيوانات [ جن وإنس، ذكور وإناث ] والنباتات، ولهذا قال: ( لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ ) أي:لتعلموا أن الخالق واحدٌ لا شريك له.
( فَفِرُّوا إِلَى اللَّهِ ) أي:الجئوا إليه، واعتمدوا في أموركم عليه، ( إِنِّي لَكُمْ مِنْهُ نَذِيرٌ مُبِينٌ )
( وَلا تَجْعَلُوا مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ ) أي: [ و ] لا تشركوا به شيئا، ( إِنِّي لَكُمْ مِنْهُ نَذِيرٌ مُبِينٌ ) .
ثم يقول تعالى مسليا نبيه :وكما قال لك هؤلاء المشركون، قال المكذبون الأولون لرسلهم: ( كَذَلِكَ مَا أَتَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ رَسُولٍ إِلا قَالُوا سَاحِرٌ أَوْ مَجْنُونٌ ) !.
قال الله تعالى: ( أَتَوَاصَوْا بِهِ ) أي:أوصى بعضُهم بعضا بهذه المقالة؟  ( بَلْ هُمْ قَوْمٌ طَاغُونَ ) أي:لكن هم قوم طغاة، تشابهت قلوبهم، فقال متأخرهم كما قال متقدمهم.
قال الله تعالى: ( فَتَوَلَّ عَنْهُمْ ) أي:فأعرض عنهم يا محمد، ( فَمَا أَنْتَ بِمَلُومٍ ) يعني:فما نلومك على ذلك. ( وَذَكِّرْ فَإِنَّ الذِّكْرَى تَنْفَعُ الْمُؤْمِنِينَ ) أي:إنما تنتفع بها القلوب المؤمنة.
ثم قال: ( وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإنْسَ إِلا لِيَعْبُدُونِ ) أي:إنما خلقتهم لآمرهم بعبادتي، لا لاحتياجي إليهم. وعن ابن عباس: ( إِلا لِيَعْبُدُونِ ) أي:إلا ليقروا بعبادتي طوعا أو كرها وهذا اختيار ابن جرير.  وقال ابن جُرَيْج:إلا ليعرفون. وقال الربيع بن أنس:إلا للعبادة. وعن الكلبي أيضا: إلا ليوحدون، فأما المؤمن فيوحده في الشدة والرخاء، وأما الكافر فيوحده في الشدة والبلاء دون النعمة والرخاء؛ يدل عليه قوله تعالى: ( وإذا غشيهم موج كالظلل دعوا الله مخلصين له الدين ) [ لقمان: 32 ] الآية. وقال عكرمة: إلا ليعبدون ويطيعون فأثيب العابد وأعاقب الجاحد. وقيل: المعنى إلا لأستعبدهم. والمعنى متقارب.

في اللغة:

 تقول: عبد بين العبودة والعبودية، وأصل العبودية الخضوع والذل. والتعبيد التذليل؛ يقال: طريق معبد. والتعبيد الاستعباد وهو أن يتخذه عبدا. وكذلك الاعتباد. والعبادة الطاعة، والتعبد التنسك. فمعنى « ليعبدون » ليذلوا ويخضعوا ويعبدوا.

وقوله: ( مَا أُرِيدُ مِنْهُمْ مِنْ رِزْقٍ وَمَا أُرِيدُ أَنْ يُطْعِمُونِ * إِنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ ) ومعنى الآية:أنه تعالى خلق العباد ليعبدوه وحده لا شريك له، فمن أطاعه جازاه أتم الجزاء، ومن عصاه عذبه أشد العذاب، وأخبر أنه غير محتاج إليهم، بل هم الفقراء إليه في جميع أحوالهم، فهو خالقهم ورازقهم.  يقول سبحانه: بل أنا الرزاق والمعطي. وقال ابن عباس: أي ما أريد أن يرزقوا أنفسهم ولا أن يطعموها. وقيل: المعنى ما أريد أن يرزقوا عبادي ولا أن يطعموهم: ( إِنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ )، أي الشديد القوي.
قال الإمام أحمد: عن أبي هريرة قال:قال رسول الله :قال الله: « يا ابن آدم، تَفَرَّغ لعبادتي أملأ صدرك غِنًى، وأسدّ فقرك، وإلا تفعل ملأت صدرك شغلا ولم أسد فقرك » (رواه الترمذي ، وقال:حسن غريب) .
و [ قد ورد ] في بعض الكتب الإلهية: « يقول الله تعالى:ابن آدم، خلقتك لعبادتي فلا تلعب، وتكفلت برزقك فلا تتعب فاطلبني تجدني؛ فإن وجدتني وجدت كل شيء، وإن فُتك فاتك كل شيء، وأنا أحب إليك من كل شيء » .
وقوله: ( فَإِنَّ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا ذَنُوبًا ) أي:نصيبا من العذاب، ( مِثْلَ ذَنُوبِ أَصْحَابِهِمْ فَلا يَسْتَعْجِلُونِ ) أي مثل نصيب الكفار من الأمم السالفة، فلا يستعجلون ذلك، فإنه واقع  بهم لا محالة. لأنهم قالوا: يا محمد ( فأتنا بما تعدنا إن كنت من الصادقين ) (الأعراف 70 )  فنزل بهم يوم بدر ما حقق به وعده وعجل بهم أنتقامه، وقال ابن الأعرابي: يقال يوم ذنوب أي طويل الشر لا ينقضي.

في اللغة:

 وأصل الذنوب في اللغة الدلو العظيمة، وكانوا يستقون الماء فيقسمون ذلك على الأنصباء فقيل للذنوب نصيب من هذا؛ قال الراجز:
لنا ذنوب ولكم ذنوب فإن أبيتم فلنا القليب
وقوله جل وعلا : ( فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ يَوْمِهِمُ الَّذِي يُوعَدُونَ ) يعني:ثم لهم في الآخرة يوم القيامة. العذاب الدائم، والخزي القائم، الذي لا انقطاع له ولا نفاد، ولا غاية ولا آباد. تم  بحمد الله تفسير سورة « الذاريات »
 والحمد لله. الذي بنعمته تتم الصالحات


No comments:

Post a Comment