Sunday 8 April 2018

تفسير وربط للآيات وبين المتشابهات- سورة القلم ج2- قصة أصحاب الجنة

 

 




تفسير سورة القلم ج2- صفات المعاندين المكذبين – قصة أصحاب الجنة


قوله تعالى: ( فَلَا تُطِعِ الْمُكَذِّبِينَ  ) كما أنعمنا عليك وأعطيناك الشرع المستقيم، والخلق العظيم، ( فَلَا تُطِعِ الْمُكَذِّبِينَ *وَدُّوا لَوْ تُدْهِنُ فَيُدْهِنُونَ) قال ابن عباس: لو ترخص لهم فيرخصون، وقال مجاهد: تركن إلى آلهتهم وتترك ما أنت عليه من الحق، نهاه الله تعالى عن ممايلة المشركين؛ وكانوا يدعونه إلى أن يكف عنهم ليكفوا عنه، فبين الله تعالى أن ممايلتهم كفر. وقال تعالى: { وَلَوْلَا أَن ثَبَّتْنَاكَ لَقَدْ كِدتَّ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ شَيْئًا قَلِيلًا } [الإسراء  74]. وقيل : أي فلا تطع المكذبين فيما دعوك إليه من دينهم الخبيث. نزلت في مشركي قريش حين دعوه إلى دين آبائه. ثم قال تعالى: ( وَلَا تُطِعْ كُلَّ حَلَّافٍ مَّهِينٍ ) وذلك أن الكاذب لضعفه ومهانته، يجترئ على أسماء اللّه تعالى، بالحلف بها  في كل وقت وفي غير محلها، قال ابن عباس: المهين الكاذب، ضعيف فيتقوى بالكذب، وقوله تعالى: { هَمَّازٍ } يعني الاغتياب، { مَّشَّاءٍ بِنَمِيمٍ } يعني الذي يمشي بين الناس ويحرش بينهم، وينقل الحديث بينهم لفساد ذات البين وهي الحالقة.

ما ورد في النهي عن النميمة

ثبت في الصحيحين عن ابن عباس قال: مرَّ رسول اللّه بقبرين فقال: نهُما ليعذبانِ، وما يعذبانِ في كبيرٍ، أما أُحُدٍهما فكان لا يستترُ من البولِ، وأما الآخر فكان يمشي بالنميمةِ) (رواه الشيخان وبقية الجماعة)
 وعن همام بن الحارث قال: مر رجل على حذيفة فقيل: إن هذا يرفع الحديث إلى الأمراء، فقال سمعت رسول اللّه يقول: (لا يدخل الجنة قَتَّات) (أخرجه أحمد والترمذي والنسائي وأبو داود) ، والقتات: هو النمام . وعن أبي وائل قال: بلغ حذيفة عن رجل أنه يَنُم الحديث فقال: سمعت رسول اللّه قال: (لا يدخل الجنة نمام) (أخرجه أحمد)،
وروى الإمام أحمد عن أسماء بنت يزيد بن السكن أن النبي قال: (إنَّ خيارَ عبادِ اللهِ من هذه الأُمَّةِ الذين إذا رُؤُوا، ذُكِرَ اللهِ تعالَى ، و إنَّ شرارَ عبادِ اللهِ من هذه الأُمَّةِ المشَّاؤونَ بالنميمةِ ، المُفرِّقون بين الأحبَّةِ الباغونَ للبُرآءِ العنتَ) (أخرجه أحمد وابن ماجة"، صححه الألباني ).  و ( الباغونَ للبُرآءِ العنتَ) وهم الذين يطلبون للبريء السالم المشقة والفساد ، يريدون أن يلطخوا المطهرين السالمين بما عافاهم الله منه من الآثام والعيوب .

عودة للتفسير:

وقوله تعالى: ( مَّنَّاعٍ لِّلْخَيْرِ مُعْتَدٍ أَثِيمٍ ) أي يمنع ما عليه وما لديه من الخير ( مُعْتَدٍ ) في تناول ما أحل اللّه له، يتجاوز فيها الحد المشروع، ( أَثِيمٍ ) أي يتناول المحرمات، وقوله تعالى: ( عُتُلٍّ بَعْدَ ذَٰلِكَ زَنِيمٍ )، أما العتل فهو الفظ الغليظ، الجموع المنوع. روى الإمام أح­­­­مد، عن حارثة بن وهب قال: قال رسول اللّه : ( ألا أخبركم بأهل الجنة ؟ قالوا : بلى . قال : كل ضعيف متضعف . لو أقسم على الله لأبره . ثم قال : ألا أخبركم بأهل النار ؟ قالوا بلى . قال : كل عتل جواظ مستكبر.) وفي رواية: (كل جواظ جعظري مستكبر) (أخرجه الشيخان ) وفي أُخْرى لأحمد: (كل جعظري، جواظ)  

في اللغة:

الجعظري: الفظ الغليظ.
والجواظ: الجموع المنوع ، مستكبر، جمّاع، اي شديد في الجماع.
 العتل: الجافي الشديد في كفره. والعتل هو الشديد القوي في المأكل والمشرب والمنكح وغير ذلك  وقال الكلبي والفراء : هو الشديد الخصومة بالباطل.
وقيل العتل : إنه الذي يعتل الناس فيجرهم إلى حبس أو عذاب، مأخوذ من العتل وهو الجر؛ ومنه قوله تعالى ( خُذُوهُ فَاعْتِلُوهُ إِلَىٰ سَوَاءِ الْجَحِيمِ ) [الدخان  47]. وفي الصحاح : وعتلت الرجل أعتِله وأعتُله إذا جذبته جذبا عنيفا. ورجل مِعْتَل (بالكسر). وقال يصف فرسا : نفرعه فرعا ولسنا نعتله.
والعتل الغليظ الجافي. والعتل أيضا : الرمح الغليظ .
 وأما الزَّنِيمٍ في لغة العرب فهو الدَّعِيُّ في القوم
وقال ابن عباس في قوله ( زَنِيمٍ ) قال الدَّعِيُّ الفاحش اللئيم.
وقال مجاهد عن ابن عباس: ( الزَّنِيمٍ ): الملحق النسب، وهو الملصق بالقوم ليس منهم، وسئل عكرمة عن الزنيم فقال: هو ولد الزنا.
وقال سعيد بن جبير: الزنيم الذي يعرف بالشر، كما تعرف الشاة بزنمتها، والزنيم الملصق، وقال الضحّاك: كانت له زنمة في أصل أذنه، ويقال: هو اللئيم الملصق في النسب، والأقوال في هذا كثيرة، وترجع إلى أن الزنيم هو المشهور بالشر، الذي يعرف به من بين الناس، وغالباً يكون دعيًّا أولد زنا، فإنه في الغالب يتسلط الشيطان عليه ما لا يتسلط على غيره.

 وقوله تعالى: ( أَن كَانَ ذَا مَالٍ وَبَنِينَ * إِذَا تُتْلَىٰ عَلَيْهِ آيَاتُنَا قَالَ أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ ) قال القرطبي في الآيتين: هو استفهام والمراد به التوبيخ، ويحسن له أن يقف على ( زَنِيمٍ ) ، ويبتدئ ( أَن كَانَ ) على معنى:  ألأن كان ذا مال وبنين تطيعه، ويجوز أن يكون التقدير : ألأن كان ذا مال وبنين يقول إذا تتلى عليه آياتنا : أساطير الأولين؟ ويجوز أن يكون التقدير : ألأن كان ذا مال وبنين يكفر ويستكبر. ومن قرأ : ( أَن كَانَ ) بغير استفهام فهو مفعول من أجله، والعامل فيه فعل مضمر، والتقدير : يكفر لأن كان ذا مال وبنين.
والمعنى: انه في مقابلة ما أنعم اللّه عليه من المال والبنين، كفر بآيات اللّه عزَّ وجلَّ وأعرض عنها، وزعم أنها كذب مأخوذ من أساطير الأولين، كقوله تعالى عنه في سورة المدثر: ( ذَرْنِي وَمَنْ خَلَقْتُ وَحِيدًا *  وَجَعَلْتُ لَهُ مَالًا مَّمْدُودًا  *  وَبَنِينَ شُهُودًا * وَمَهَّدتُّ لَهُ تَمْهِيدًا * ثُمَّ يَطْمَعُ أَنْ أَزِيدَ *كَلَّا ۖ إِنَّهُ كَانَ لِآيَاتِنَا عَنِيدًا *  سَأُرْهِقُهُ صَعُودًا).  ( المدثر 15-17)
ثم توعده  تعالى بأن:( سَنَسِمُهُ عَلَى الْخُرْطُومِ) ، قال ابن جرير: سنبين أمره بياناً واضحاً، حتى يعرفوه ولا يخفى عليهم، كما لا نخفي عليهم السمة على الخراطيم، وقال قتادة :( سَنَسِمُهُ عَلَى الْخُرْطُومِ) : شين لا يفارقه آخر ما عليه، وعنه: سيما على أنفه، وقال آخرون: ( سَنَسِمُهُ ) سمة أهل النار، يعني نسود وجهه يوم القيامة، وهذا كقوله تعالى: ( يُعْرَفُ الْمُجْرِمُونَ بِسِيمَاهُمْ) [الرحمن  41]، قاله الكلبي وغيره. وقال أبو العالية ومجاهد :( سَنَسِمُهُ عَلَى الْخُرْطُومِ) أي على أنفه، ونسود وجهه في الآخرة فيعرف بسواد وجهه، والخرطوم : الأنف من الإنسان. وعبر عن الوجه بالخرطوم، ولا مانع من اجتماع الجميع عليه في الدنيا والآخرة وفي الحديث: (ومَن مَاتَ همَّازًا لمَّازًا مُلقِّبًا للنَّاسِ كانَ عَلامتَهُ يومَ القيامةِ أن يَسِمَهُ اللَّهُ علَى الخُرطومِ من كِلا الشَّفَتينِ) (أخرجه ابن أبي حاتم عن عبد اللّه بن عمرو مرفوعاً وهو جزء من حديث ضعيف).قال القرطبي: قال : وهذا كله نزل في الوليد بن المغيرة. ولا نعلم أن الله تعالى بلغ من ذكر عيوب أحد ما بلغه منه؛ فألحقه به عارا لا يفارقه في الدنيا والآخرة؛ كالوسم على الخرطوم.

في اللغة:

الخرطوم هو الأنف من الإنسان. ومن السباع : موضع الشفة.
وخراطيم القوم : ساداتهم.
 قال الفراء : وإن كان الخرطوم قد خص بالسمة فإنه في معنى الوجه؛ لأن بعض الشيء يعبر به عن الكل.
وقيل : المعنى سنلحق به عاراً  وسبة حتى يكون كمن وسم على أنفه.
قال القتبي : تقول العرب للرجل يُسب سبة سوء قبيحة باقية : قد وُسم ميسم سوء؛ أي ألصق به عار لا يفارقه؛ كما أن السمة لا يمحى أثرها.


قصة أصحاب الجنة:

وكانت الجنة لرجل صالح يؤدي حق الله تعالى منها؛ فلما مات صارت إلى ولده، فمنعوا الناس خيرها وبخلوا بحق الله فيها؛ فأهلكها الله من حيث لم يمكنهم دفع ما حل بها.
وقال ابن عباس : كانت تلك الجنة دون صنعاء بفرسخين، غرسها رجل من أهل الصلاح وكان له ثلاثة بنين، وكان للمساكين كل ما تعداه المنجل يوم الحصاد فلم يجذه من الكرم،  حتى يأخذ منه المساكين ، فإذا طرح على البساط فكل شيء سقط عن البساط فهو أيضا للمساكين، فإذا درسوا ، أو طحنوا  كان للمساكين كل شيء انتثر؛ فكان أبوهم يتصدق منها على المساكين، وكان يعيش في ذلك في حياة أبيهم اليتامى والأرامل والمساكين، فلما مات أبوهم فعلوا ما ذكر الله عنهم. وكان حجتهم عند أنفسهم أن قالوا : قل المال وكثر العيال؛ فتحالفوا بينهم ليغدون غدوة قبل خروج الناس ثم ليصرمنها ولا يعرفوا  المساكين بموعد خرجهم حتى لا يتبعوهم.

تفسير الآيات:

قوله تعالى : ( إِنَّا بَلَوْنَاهُمْ كَمَا بَلَوْنَا أَصْحَابَ الْجَنَّةِ إِذْ أَقْسَمُوا لَيَصْرِمُنَّهَا مُصْبِحِينَ): والإبتلاء هنا يريد به أهل مكة. والابتلاء الاختبار. والمعنى أعطيناهم أموالا ليشكروا لا ليبطروا؛ فلما بطروا وعادوا محمدا ابتليناهم بالجوع والقحط كما بلونا أهل الجنة المعروف خبرها عندهم. وذلك أنها كانت بأرض اليمن بالقرب منهم على فراسخ من صنعاء - ويقال بفرسخين –
قال الكلبي : كان بينهم وبين صنعاء فرسخان؛ ابتلاهم الله بأن أحرق جنتهم.

قوله تعالى: { إِذْ أَقْسَمُوا لَيَصْرِمُنَّهَا مُصْبِحِينَ} ، { إِذْ أَقْسَمُوا } يعني حلفوا فيما بينهم { لَيَصْرِمُنَّهَا مُصْبِحِينَ}  يعني لنجذنها وقت الصبح قبل أن تخرج المساكين.
والصرم القطع. يقال : صرم العذق عن النخلة. وأصرم النخل أي حان وقت صرامه. مثل أركب المهر وأحصد الزرع، أي حان ركوبه وحصاده.
{ وَلَا يَسْتَثْنُونَ }؛ يعني لم يقولوا إن شاء الله، أو قيل : إنهم عزموا على أن يجذونها، أي ليقطعن ثمر نخيلها إذا أصبحوا بسدفة من الليل،  لئلا ينتبه المساكين لهم.، ويقسموا ثمارها بينهم ، ويقولون: علام نعطي أموالنا هؤلاء المساكين! تعالوا فلندلج فنصرمنها قبل أن يعلم المساكين؛ ولم يستثنوا؛  قال مجاهد : كان حرثهم عنبا ولم يقولوا إن شاء الله. وقال أبو صالح : كان استثناؤهم قولهم سبحان الله ربنا.
وقيل : معنى { وَلَا يَسْتَثْنُونَ } أي لا يستثنون حق المساكين؛ قاله عكرمة، وظاهر الآيات أنه أولى.
قوله تعالى: { فَطَافَ عَلَيْهَا طَائِفٌ مِّن رَّبِّكَ وَهُمْ نَائِمُونَ } أي أصابتها آفة سماوية، { فَأَصْبَحَتْ كَالصَّرِيمِ } ، قال ابن عباس: أي كالليل الأسود،  اي مثل الزرع إذا حصد أي هشيماً يبساً يظهر منه التربة السوداء ، أخذهم الله تعالى بسوء نواياهم،  عن ابن مسعود قال: قال رسول اللّه : (إياكم والمعاصي، إن العبد ليذنب الذنب فيحرم به رزقاً قد كان هيء له) ثم تلا رسول اللّه : { فَطَافَ عَلَيْهَا طَائِفٌ مِّن رَّبِّكَ وَهُمْ نَائِمُونَ  فَأَصْبَحَتْ كَالصَّرِيمِ } ( أخرجه ابن أبي حاتم ) قد حرموا خير جنتهم بذنبهم

فجاءوها ليلا فرأوا الجنة مسودة قد طاف عليها طائف ، قال ابن عباس : أمر من ربك. قيل : الطائف جبريل عليه السلام؛ اقتلعها، وقال قتادة : عذاب من ربك.. والطائف لا يكون إلا بالليل.

فوائد:

الأولى: قال بعض العلماء : على من حصد زرعا أو جد ثمرة أن يواسي منها من حضره؛ وذلك معنى قوله { وآتوا حقه يوم حصاده} [الأنعام : 141] وأن الحق المذكور هنا هو غير الزكاة ،  وهو بشبه قوله تعالى في المواريث: { وَإِذَا حَضَرَ الْقِسْمَةَ أُولُو الْقُرْبَىٰ وَالْيَتَامَىٰ وَالْمَسَاكِينُ فَارْزُقُوهُم مِّنْهُ وَقُولُوا لَهُمْ قَوْلًا مَّعْرُوفًا } ( النساء 8 )، فهنا قد فرض الله تعالى لمن حضر  قسمة الميراث رزقا منه ، وإن لم يكونوا وارثين، فليس هذا من باب  الواجب ، ولكنة سماه لله هنا حق المال، أو حق لمواساة المساكين.
وقال الفقهاء: وعليه :أي على صاحب البستان ترك ما أخطأه الحاصدون،  وكان بعض العباد يتحرون أقواتهم من هذا. وروي أنه نهي عن الحصاد بالليل. فقيل : إنه لما ينقطع عن المساكين في ذلك من الرفق. لأن العقوبة كانت بسبب، ما أرادوه من منع المساكين كما ذكر الله تعالى.
قال مجاهد : إذا حصدت فحضرك المساكين فاطرح لهم من السنبل، وإذا جذذت فألق لهم من الشماريخ، وإذا درسته ودسته وذريته فاطرح لهم منه، وإذا عرفت كيله فأخرج منه زكاته.
الثانية: قال القرطبي : في هذه الآية دليل على أن العزم مما يؤاخذ به ويعاقب عليه الإنسان؛ لأنهم عزموا على أن يفعلوا فعوقبوا قبل فعلهم. ونظير هذه الآية قوله تعالى { ومن يرد فيه بإلحاد بظلم نذقه من عذاب أليم} [الحج : 25]. وفي الصحيح عن النبي قال : (إذا التقى المسلمان بسيفيهما فالقاتل والمقتول في النار) قيل : يا رسول الله، هذا القاتل فما بال المقتول؟ قال : (إنه كان حريصا على قتل صاحبه).
-وكذلك فقد قال الفقهاء أن من نوى بقطع صلاته ، فقد بطلت، ما لم يشترط، لأن استدامة النية شرط من شروط الصلاة وقطعها مناف لهذه الاستدامة، فالنية عزم جازم، فإذا عزم على قطعها بطلت، لأنه لم يبق جزم في النية، وقال ابن قدامة في المغني: وإن تلبس بها بنية صحيحة ثم نوى قطعها والخروج منها بطلت وبهذا قال الشافعي.
-ومثله من كان صائما ونوى الفطر، وبحث عن طعام أو شراب فلم يجد، فقد أفطر ، وإن لم يأكل ، لأنه عزم على الفطر فلا صيام له.

عودة للتفسير:

قوله تعالى: { فَتَنَادَوْا مُصْبِحِينَ * أَنِ اغْدُوا عَلَىٰ حَرْثِكُمْ إِن كُنتُمْ صَارِمِينَ} ، أي وقت الصبح نادى بعضهم بعضاً ليذهبوا إلى الجذاذ أي القطع، أي بكروا بالذهاب إلى حرثكم ( زرعكم ) وقيل كان عنباً ، إن كنتم جادين تريدون الجذاذ.
{ فانطلقوا وهم يتخافتون} أي يتسارُّون؛ أي يخفون كلامهم ويسرونه لئلا يعلم بهم أحد؛ وهو من خفت يخفت إذا سكن ولم يبين. فانطلقوا وبعضهم يقول لبعض خفتا : لا يدخلنها اليوم عليكم مسكين.
وقيل : يخفون أنفسهم من الناس حتى لا يروهم. وكان أبوهم يخبر الفقراء والمساكين  انه خارج للحصاد، فيحضروا معه وقت الحصاد والصرام.
وقوله تعالى: { وَغَدَوْا عَلَىٰ حَرْدٍ قَادِرِينَ } أي على قصد وقدرة في أنفسهم ويظنون أنهم تمكنوا من مرادهم. قال معناه ابن عباس وغيره. والحرد القصد. حرَد يحرِد بالكسر حردا قصد. تقول : حردْتُ حردَك؛ أي قصدت قصدك.

في اللغة :

حَرْدٍ : - قوة وشدة وغيظ ، وفي قصة أصحاب الجنة ، كنت هذه حالهم؛  قوة ومقدرة ، وغيظ على أموالهم أن يأخذ منها المساكين.   
- على انفراد عن المساكين ؛ يقال : حرد يحرد حرودا؛ أي تنحى عن قومه ونزل منفردا ولم يخالطهم. وقال أبو زيد : رجل حريد من قوم حرداء. وقد حرد يحرد حرودا؛ إذا ترك قومه وتحول عنهم. وكوكب حريد؛ أي معتزل عن الكواكب. 
قال الأصمعي : رجل حريد؛ أي فريد وحيد. قال والمنحرد المنفرد في لغة هذيل.
- حرد: قصد، وهو العزم لمقدور عليه ، أو على جد
حرد : غضب و حقد،  أو منع، وفي هذا المعنى قولهم: حاردت الإبل حرادا ؛ أي قلت ألبانها. والحرود من النوق القليلة الدر ، وحاردت السنة قل مطرها وخيرها.
وقال ابن السكيت : وقد يحرك؛ تقول منه : حرِد بالكسر حردا، فهو حارد وحردان. ومنه قيل : أسد حارد، وليوث حوارد..
وفيه لغتان : حرْد وحرَد. وقرأها العامة بإسكان الراء، وقُرأت بالفتح.

عودة للتفسير:

وقوله: { قَادِرِينَ } قد قدروا أمرهم وبنوا عليه؛ قاله الفراء، قادرين على جنتهم – كما يظنون- أن يحصدوها منفردين،  وقال الشعبي { قادرين} يعني على المساكين.
وقيل { قَادِرِينَ }: معناه من الجدة – اي الغنى ، والقدرة المادية؛ أي منعوا وهم واجدون موسرون.
قوله تعالى: { فَلَمَّا رَأَوْهَا قَالُوا إِنَّا لَضَالُّونَ } قال بعضهم لبعض قد ضللنا الطريق إلى جنتنا، وقيل : أي إنا لضالون عن الصواب في غدونا وعلى نية منع المساكين؛  فلذلك عوقبنا. { بَلْ نَحْنُ مَحْرُومُونَ } أي حرمنا جنتنا بما صنعنا.
قوله تعالى {  قَالَ أَوْسَطُهُمْ أَلَمْ أَقُل لَّكُمْ لَوْلَا تُسَبِّحُونَ }  أوسطهم ؛ أي أمثلهم وأعدلهم وأعقلهم. { أَلَمْ أَقُل لَّكُمْ لَوْلَا تُسَبِّحُونَ } أي هلا تستثنون. وكان استثناؤهم تسبيحا؛ قال مجاهد وغيره. وهذا يدل على أن هذا الأوسط كان أمرهم بالاستثناء فلم يطيعوه. قيل : هلا تسبحون الله؛ أي تقولون سبحان الله وتشكرونه على ما أعطاكم. قال النحاس : أصل التسبيح التنزيه لله عز وجل؛ فجعل مجاهد التسبيح في موضع إن شاء الله؛ لأن المعنى تنزيه الله عز وجل أن يكون شيء إلا بمشيئته. وقيل : هلا تستغفرونه من فعلكم وتتوبون إليه من خبث نيتكم؛
{ قَالُوا سُبْحَانَ رَبِّنَا إِنَّا كُنَّا ظَالِمِينَ } اعترفوا بالمعصية ،ونزهوا الله عن أن يكون ظالما فيما فعل بهم، وردوا الظلم إلى أنفسهم بما نووا.
 قال ابن عباس في قولهم { سُبْحَانَ رَبِّنَا }  أي نستغفر الله من ذنبنا. { إِنَّا كُنَّا ظَالِمِينَ } لأنفسنا في منعنا المساكين،  { فَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلَىٰ بَعْضٍ يَتَلَاوَمُونَ } أي يلوم هذا هذا في القسم ومنع المساكين، ويقول : بل أنت أشرت علينا بهذا. { قَالُوا يَا وَيْلَنَا إِنَّا كُنَّا طَاغِينَ } أي : اعتدينا وبغينا وجاوزنا الحد حتى أصابنا ما أصابنا ، وقيل: كناعاصين بمنع حق الفقراء وترك الاستثناء.
وقال ابن كيسان : طغينا نعم الله فلم نشكرها كما شكرها آباؤنا من قبل، وشكر النعم ببذلها لمحتاجها.

في اللغة:

والطغيان: هو تجازو الحد، أو التعدي على حق الغير. طَغَى يَطْغى طَغْياً : جاوَزَ القَدْرَ وارتفع وغَلا في الكُفْرِ ‏
فائدة:
في حديث وَهْبٍ بن المنبه : ( إِنَّ لِلْعِلْم طُغْياناً كطُغْيانِ المَالِ )؛ أَي أنه قد يَحْمِل صاحِبَه على التَّرَخُّص بما اشْتَبَه منه إِلى ما لا يَحِلُّ له ، ويَتَرَفَّع به على مَنْ دُونَه ، ولا يُعْطي حَقَّه بالعَمَلِ به كما يَفْعَلُ رَبُّ المالِ ‏ .
‏ وكلُّ مجاوز حدَّه  فهو طاغ .

قوله تعالى: { عَسَىٰ رَبُّنَا أَن يُبْدِلَنَا خَيْرًا مِّنْهَا إِنَّا إِلَىٰ رَبِّنَا رَاغِبُونَ } تعاقدوا وقالوا : إن أبدلنا الله خيرا منها لنصنعن كما صنعت آباؤنا.

فائدة لغوية:

قراءة العامة { يُبْدِلَنَا } بالتخفيف. وقرأ أهل المدينة وأبو عمرو بالتشديد ( يُبَدِّلنا )، وهما لغتان.
وقيل : التبديل تغيير الشيء أو تغيير حاله وعين الشيء قائم. والإبدال رفع الشيء ووضع آخر مكانه.

مآل حال أصحاب الجنة:

قال القرطبي :  فدعوا الله وتضرعوا فأبدلهم الله من ليلتهم ما هو خير منها، وأمر جبريل أن يقتلع تلك الجنة المحترقة فيجعلها بزغر من أرض الشام، ويأخذ من الشام جنة فيجعلها مكانها. وهذا القول ليس عليه دليل، بل يضعفه قول الله تعالى بعدها : { كَذَٰلِكَ الْعَذَابُ  ۖ وَلَعَذَابُ الْآخِرَةِ أَكْبَرُ ۚ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ } ، قد يكون فيه إشارة إلى عذابهم في الآخرة.
وقال الحسن : قول أهل الجنة { إِنَّا إِلَىٰ رَبِّنَا رَاغِبُونَ } لا أدري إيمانا كان ذلك منهم أو على حد ما يكون من المشركين إذا أصابتهم الشدة؛ فيتوقف في كونهم مؤمنين.
 وسئل قتادة عن أصحاب الجنة : أهم من أهل الجنة أم من أهل النار؟ فقال : لقد كلفتني تعبا. والمعظم يقولون : إنهم تابوا وأخلصوا؛ حكاه القشيري. والله أعلم.

قوله تعالى { كَذَٰلِكَ الْعَذَابُ ۖ } أي عذاب الدنيا وهلاك الأموال؛ عوقبوا بنقيض قصدهم، فأذهب اللّه ما بأيديهم بالكلية رأس المال والربح والصدقة فلم يبق لهم شيء، فهكذا عذاب من خالف أمر اللّه، وبخل بما آتاه اللّه وأنعم به عليه، ومنع حق المسكين والفقير، وبدّل نعمة اللّه كفراً، { وَلَعَذَابُ الْآخِرَةِ أَكْبَرُ ۚ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ } أي وعذاب الآخرة أشق.
عن ابن زيد. وقيل : إن هذا وعظ لأهل مكة بالرجوع إلى الله لما ابتلاهم بالجدب لدعاء النبي صلى الله عليه وسلم، أي كفعلنا بهم نفعل بمن تعدى حدودنا في الدنيا .
واختلف في الحق الذي منعه أهل الجنة المساكين
 فقيل: أنه كان واجبا عليهم، ويحتمل أنه كان تطوعا؛  والأول أظهر،  لما كان أن استحقوا عليه هذا العذاب، ولكن يفنده أن الآية مكية ، ولم يكن قد فرضت الزكاة.

اللهم لَا تَجْعَلِ الدنيا أكبرَ هَمِّنَا ، ولَا مَبْلَغَ عِلْمِنا، ولا إلى النَّار مَصيرَنا


No comments:

Post a Comment