Saturday, 5 April 2014

تدبر آية من القرآن العظيم - الحزب الرابع عشر ج 3 - لا تدركه سبحانه وتعالى الأبصار



تدبر آية من القرآن العظيم – الحزب الخامس عشر – لا تدركه الأبصار سبحانه وتعالى 

قال تعالى :
 ( ذَٰلِكُمُ الله رَ‌بُّكُمْ ۖ لَا إِلَـٰهَ إِلَّا هُوَ ۖ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ فَاعْبُدُوهُ ۚ وَهُوَ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ *  لَّا تُدْرِ‌كُهُ الْأَبْصَارُ‌ وَهُوَ يُدْرِ‌كُ الْأَبْصَارَ‌ ۖ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ‌ ( الأنعام 103)
التفسير :
يقول تعالى: (ذَٰلِكُمُ الله رَ‌بُّكُمْ )  أي الذي خلق كل شيء ولا ولد له ولا صاحبة، (  لَا إِلَـٰهَ إِلَّا هُوَ ۖ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ فَاعْبُدُوهُ )  أي فاعبدوه وحده لا شريك له، وأقروا له بالوحدانية، وأنه لا إله إلا هو، وأنه لا ولد له ولا والد ولا صاحبة له، ولا نظير ولا عديل (  وَهُوَ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ )  أي حفيظ ورقيب يدبر كل ما سواه ويرزقهم ويكلأهم بالليل والنهار.
 فسبحانه ربنا وتعالى الواحد لا إله غيره، هو الخالق لكل شيء لا خالق غيره، ولا يماثله أحد بالخلق من لا شيء، ولا على مثيل فهو المبدع لخلقه، وهو القائم على كل شيء خلقه بالحفظ والرعاية والعناية والرزق ، وهو تعالى رقيب على الخلق لا يخفى عليه خافية منهم، فهو المستحق وحده للعبادة.  

 وقوله: (  لَّا تُدْرِ‌كُهُ الْأَبْصَارُ‌)  فيه أقوال للأئمة من السلف أحدها : لا تدركه في الدنيا وإن كانت تراه في الآخرة، وقد دل على رؤية المؤمنون لربهم من كتاب الله وسنّة رسوله،وسيأتي .
والإدراك : هو الإحاطة، ولذلك قال بعض المفسرون: لا منافاة بين إثبات الرؤية ونفي الإدراك، فإن الإدراك أخص من الرؤية، ولا يلزم من نفي الأخص انتفاء الأعم.

ثم اختلف هؤلاء في الإدراك المنفي ما هو؟ فقيل معرفة الحقيقة، فإن هذا لا يعلمه إلا هو وإن رآه المؤمنون، كما أن من رأى القمر، فإنه لا يدرك حقيقته وكنهه وماهيته، فالعظيم أولى بذلك وله المثل الأعلى، و الإدراك هو الإحاطة والمعرفة، قالوا: ولا يلزم من عدم الإحاطة عدم الرؤية، كما لا يلزم من عدم إحاطة العلم عدم العلم، قال تعالى: (  ولا يحيطون به علماً)،  وفي صحيح مسلم من دعائه : (لا أحصي ثناء عليك أنت كما أثنيت على نفسك)، ولا يلزم منه عدم الثناء، فكذلك هذا. قال ابن عباس (  لا تدركه الأبصار وهو يدرك الأبصار)  قال: لا يحيط بصر أحد بالملك، وعن عكرمة أنه قيل له: (  لا تدركه الأبصار) قال: ألست ترى السماء؟ قال: بلى، قال: فكلها ترى؟ وقال قتادة: هو أعظم من أن تدركه الأبصار، وقال ابن جرير عن عطية العوفي في قوله تعالى: ( وجوه يومئذ ناضرة إلى ربها ناظرة)  قال: هم ينظرون إلى الله لا تحيط أبصارهم به من عظمته وبصره محيط بهم، فذلك قوله: ( لا تدركه الأبصار وهو يدرك الأبصار).

انه سبحانه في هذه الدنيا لم يأذن لأحد من خلقه أن يراه ، أو يدركه ، او يدرك حقيقته وكنهه، وليس خلقهم مما يحتمل ذلك ، أو يقوى عليه.
وقوله: ( وهو يدرك الأبصار)  أي يحيط بها ويعلمها على ما هي عليه لأنه خلقها، كما قال تعالى: ( ألا يعلم من خلق وهو اللطيف الخبير)، وقد يكون عبر بالأبصار عن المبصرين كما قال السدي في قوله: ( لا تدركه الأبصار وهو يدرك الأبصار) لا يراه شيء وهو يرى الخلائق، وقال أبو العالية ( وهو اللطيف الخبير) قال أبو العالية : المعنى لطيف باستخراج الأشياء خبير بمكانها.
واللطيف أي الرفيق بعباده؛ يقال : لطف فلان بفلان يلطف، أي رفق به. واللطف في الفعل الرفق فيه. واللطف من الله تعالى التوفيق والعصمة. وألطفه بكذا، أي بره به. والاسم اللطف بالتحريك. يقال : جاءتنا من فلان لطفة؛ أي هدية. والملاطفة المبارَّة.

هل رآى رسول الله ربه ؟ 

ورد عن ابن عباس إثبات رؤية النبي لربه، فعن عكرمة قال، سمعت ابن عباس يقول: رأى محمد ربه تبارك وتعالى، فقلت: أليس الله يقول: ( لا تدركه الأبصار وهو يدرك الأبصار)  الآية، فقال لي: لا أمَّ لك، ذلك نوره الذي هو نوره، إذا تجلى بنوره لا يدركه شيء. وفي رواية: لا يقوم له شيء "رواه الترمذي وابن مردويه والحاكم في المستدرك وقال: صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه".
ولكن ثبت خلاف هذا القول عن بعض الصحابة،  ففي الصحيحين من حديث أبي موسى الأشعري رضي اللّه عنه مرفوعاً: ( إن الله لا ينام ولا ينبغي له أن ينام، يخفض القسط ويرفعه، يرفع إليه عمل النهار قبل الليل، وعمل الليل قبل النهار، حجابه النور - أو النار - لو كشفه لأحرقت سبحات وجهه ما انتهى إليه بصره من خلقه)، وفي الكتب المتقدمة: إن الله تعالى قال لموسى لما سأل الرؤية: يا موسى إنه لا يراني حي إلا مات، ولا يابس إلا تدهده: أي تدعثر، وقال تعالى: ( فلما تجلى ربه للجبل جعله دكاً وخر موسى صعقاً فلما أفاق قال سبحانك تبت إليك وأنا أول المؤمنين)  
كما أن أم المؤمينن عائشة رضي الله عنها تثبت رؤية النبي لله في الدار الآخرة، وتنفيها في الدنيا، ففي صحيح مسلم عن مسروق قال : كنت متكئا عند عائشة، فقالت : يا أبا عائشة، ثلاث من تكلم بواحدة منهن فقد أعظم على الله الفرية. قلت : ما هن؟ قالت من زعم أن محمدا رأى ربه فقد أعظم على الله الفرية. قال : وكنت متكئا فجلست فقلت : يا أم المؤمنين، أنظريني ولا تعجليني، ألم يقل الله عز وجل: ( ولقد رآه بالأفق المبين) [ التكوير23]. ( ولقد رآه نزلة أخرى) [النجم 13] ؟ فقالت : أنا أول هذه الأمة من سأل عن ذلك رسول الله فقال : (إنما هو جبريل لم أره على صورته التي خلق عليها غير هاتين المرتين رأيته منهبطا من السماء سادا عظم خلقه ما بين السماء والأرض). فقالت : أو لم تسمع أن الله عز وجل يقول: (  لا تدركه الأبصار وهو يدرك الأبصار وهو اللطيف الخبير)  ؟ أو لم تسمع أن الله عز وجل يقول:  ( وما كان لبشر أن يكلمه الله إلا وحيا أو من وراء حجاب أو يرسل رسولا - إلى قول - علي حكيم)   [الشورى51] ؟ قالت : ومن زعم أن رسول الله كتم شيئا من كتاب الله فقد أعظم على الله الفرية، والله تعالى يقول (  يا أيها الرسول بلغ ما أنزل إليك من ربك وإن لم تفعل فما بلغت رسالته) [ المائدة67] قالت : ومن زعم أنه يخبر بما يكون في غد فقد أعظم على الله الفرية، والله تعالى يقول (  قل لا يعلم من في السماوات والأرض الغيب إلا الله) [النمل  65].
وقد قال بقول عائشة رضي الله عنها من عدم الرؤية، وأنه إنما رأى جبريل – في قوله تعالى: ( ولقد رآه نزلة أخرى ) ( النجم  )-  ابن مسعود، ومثله عن أبي هريرة رضي الله عنه، وعن أبي ذر في صحيح مسلم، أنه قال: سألت رسول الله هل رأيت ربك؟ فقال: (نورٌ أنّى أراه)؟ وفي رواية: (رأيت نوراً) ، وعن مالك بن أنس قال : لم ير في الدنيا؛ لأنه باق ولا يرى الباقي بالفاني، فإذا كان في الآخرة ورزقوا أبصارا باقية رأوا الباقي بالباقي.

رؤية المؤمنون ربهم يوم القيامة وفي الجنة :

 أما في الآخرة فقد ثبت أن المؤمنين يرون اللّه في الدار الآخرة في العرصات، وروضات الجنات، جعلنا اللّه تعالى منهم بمنه وكرمه آمين.
فإن نعم الله على عباده لا تحصى وسيخصهم في الجنة بأعظم نعمة أنعم عليهم بها ؛ ألا وهي تشريفهم وإكرامهم بالنظر إلى وجهه الكريم في جنة عدن ، كما قال تعالى في سورة القيامة : (وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَّاضِرَ‌ةٌ * إِلَىٰ رَ‌بِّهَا نَاظِرَ‌ةٌ ) القيامة 22-23، فهذه وجوه أهل السعادة في الآخرة ،مشرقة حسنة ناعمة  تنظر إلى خالقها ومالك أمرها  ، فتتمتع بذلك . كما قال الحسن رحمه الله : " نظرت إلى ربها فنضرت بنوره "ـ
وقال جل شأنه : ( لهم ما يشاءون فيها ولدينا مزيد ) ق 35
فالمزيد هنا هو:" النظر إلى وجه الله عز وجل،  كما فسره بذلك عليّ و أنس بن مالك رضي الله عنهما.
وقال سبحانه : ( للذين أحسنوا الحسنى وزيادة ) يونس 26
فالحسنى الجنة ، والزيادة هي النظر إلى وجه الله الكريم ، كما فسرها بذلك رسول الله ، فيما رواه مسلم في صحيحه عَنْ صُهَيْبٍ رضي الله عنه عَنْ النَّبِيِّ قَالَ : ( إِذَا دَخَلَ أَهْلُ الْجَنَّةِ الْجَنَّةَ قَالَ: يَقُولُ اللَّهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى: تُرِيدُونَ شَيْئًا أَزِيدُكُمْ فَيَقُولُونَ أَلَمْ تُبَيِّضْ وُجُوهَنَا أَلَمْ تُدْخِلْنَا الْجَنَّةَ وَتُنَجِّنَا مِنْ النَّارِ قَالَ فَيَكْشِفُ الْحِجَابَ فَمَا أُعْطُوا شَيْئًا أَحَبَّ إِلَيْهِمْ مِنْ النَّظَرِ إِلَى رَبِّهِمْ عَزَّ وَجَلَّ وهي الزيادة ثُمَّ تَلَا هَذِهِ الْآيَةَ ( لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ )ـ
فإذا علمت أن أهل الجنة لا يعطون شيئاً فيها أحب إليهم من النظر إلى وجه ربهم جل وعلا تبين لك مدى الحرمان ، وعظيم الخسران ، الذي ينتظر المجرمين الذين توعدهم الله بقوله : ( كلا إنهم عن ربهم يومئذ لمحجوبون ) المطففين 15
نسأل الله السلامة والعافية  

ومن جميل ما يروى عن الشافعي ما ذكره عنه الربيع بن سليمان ـ وهو أحد تلاميذه ـ : قال : حضرت محمد بن  إدريس الشافعي وقد جاءته رقعة من الصعيد فيها : ما تقول في قول الله عز وجل : ( كلا إنهم عن ربهم يومئذ لمحجوبون ) ؟ فقال الشافعي : " لما أن حجب هؤلاء في السخط ، كان في هذا دليلٌ على أن أولياءه يرونه في الرضى " ـ
فهذه بعض الأدلة من القرآن على ثبوت رؤية المؤمنين لربهم في الجنة .

وأما أدلة السنة فهي كثيرة جداً ، فمنها: ما سبق من لحديث عن عائشة رضي الله عنها .

1- ما رواه البخاري ومسلم  من حديث أبي هريرة رضي الله عنه أن ناسا قالوا : يا رسول الله هل نرى ربنا يوم القيامة ؟ فقال رسول الله : ( هل تضارون في رؤية القمر ليلة البدر ؟ " قالوا : لا يا رسول الله . قال : " هل تضارون في الشمس ليس دونها سحاب ؟ "   قالوا : لا . قال : " فإنكم ترونه كذلك ...الحديث )  

2- وفي الصحيحين أيضا من حديث جرير بن عبد الله البجلي قال:  كنا جلوسا مع النبي فنظر إلى القمر ليلة أربع عشرة فقال :(إنكم سترون ربكم عيانا كما ترون هذا لا تضامون في رؤيته )  .
والتشبيه الذي في الأحاديث هو تشبيه للرؤية بالرؤية، أي أننا كما نرى الشمس في اليوم الصحو في غاية الوضوح ، ولا يحجب أحد رؤيتها عن أحد رغم كثرة الناظرين إليها ، وكما نرى القمر مكتملا ليلة البدر وهو في غاية الوضوح ، لا يؤثر كثرة الناظرين إليه على وضوح رؤيته  فكذلك يرى المؤمنون ربهم يوم القيامة بهذا الوضوح والجلاء ، وليس المقصود من الأحاديث تشبيه المرئي بالمرئي، تعالى الله ـ فإن الله ليس كمثله شيء وهو السميع البصير  

نسأل الله تعالى العفو والعافية ، ونسأله أن يرزقنا لذة النظر إلى وجهه الكريم .. آمين

No comments:

Post a Comment