Friday 5 August 2016

الأمثال في القرآن 10- المثل الثامن - من سورة البقرة- أجر الإنفاق ابتغاء مرضات الله وتثبيتا للنفس على التقوى

   




أجر الإنفاق ابتغاء مرضاه الله ولتثبيت النفس على التقوى:

ومثل اليوم تابع للأمثال السابقة في النفقة في سبيل الله ، وهنا يضرب لنا المثل ليبين لنا عامل آخر من عوامل مضاعقة الأجر للعمل ، وهذا العامل الذي قل ما يذكر هو اطمئنان النفس به ، وعدم التردد والشك فيه ، فهذا  هو النافع له ، المحقق للثواب الجزيل، وإليكم المثل :ـ 
قال تعالى :(وَمَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاتِ اللَّهِ وَتَثْبِيتاً مِنْ أَنْفُسِهِمْ كَمَثَلِ جَنَّةٍ بِرَبْوَةٍ أَصَابَهَا وَابِلٌ فَآتَتْ أُكُلَهَا ضِعْفَيْنِ فَإِنْ لَمْ يُصِبْهَا وَابِلٌ فَطَلٌّ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ) (البقرة:265)

تفسير الآية:ـ

قوله تعالى: ( وَمَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاتِ اللَّهِ وَتَثْبِيتاً مِنْ أَنْفُسِهِمْ ) صرّح سبحانه وتعالى أنه يضرب لنا مثلا في الآية، وقوله:ــ( يُنْفِقُونَ ) أي يبذلون أموالهم فيتصدقون بها فيحملون عليها في سبيل الله ويقوون بها أهل الحاجة من الغزاة والمجاهدين في سبيل الله وفي غير ذلك من طاعات الله ؛( ابْتِغَاءَ مَرْضَاتِ اللَّهِ ) أي طلب رضوان الله. و( وَتَثْبِيتاً ) يعني: تثبيتاً لأنفسهم كائناً في أنفسهم لم يحملهم عليه أحد؛ ومعنى يثبتونها: يجعلونها تثبت، وتطمئن؛ أي لا تتردد في الإنفاق، ولا تشك في الثواب؛ وهذا يدل على أنهم ينفقون طيبة نفوسهم بالنفقة، موقنة مصدقة بوعد الله إياها فيما أنفقت في طاعته بغير منِّ ولا أذى ، فثبتهم في إنفاق أموالهم ابتغاء مرضاة الله، وصحح عزمهم وآراهم يقينا منها بذلك، وتصديقا بوعد الله إياها ما وعدها .
قوله تعالى: ( كَمَثَلِ جَنَّةٍ بِرَبْوَةٍ)؛ ( جَنَّةٍ) البستان الكثير الأشجار، وسميت بذلك؛ لأنها تجن من فيها؛ أي تخفيه ( وسُمي الجنين كذلك لأنه مخفي لا يرى، وكذلك الجنُّ لأنهم لا يروون ) وفي قوله تعالى: { بربوة } الربوة هي المكان المرتفع؛ من ربا الشيء إذا زاد، وارتفع، كما في قوله تعالى: {فإذا أنزلنا عليها الماء اهتزت وربت} [الحج: 5] .
قوله تعالى: ( أَصَابَهَا وَابِلٌ )  فَآتَتْ أُكُلَهَا ضِعْفَيْنِ فَإِنْ لَمْ يُصِبْهَا وَابِلٌ فَطَلٌّ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ) أي نزل عليها وابل؛ و ( وَابِلٌ) المطر الشديد.
وهنا سؤال :ـلماذا حدد موقع هذه الجنّة أنها بروة ؟ والجواب :ـ كونها بربوة فهي مرتفعة للهواء بائنة ظاهرة للشمس؛ أصابها وابل؛ ماذا تكون هذه الجنة! ستثمر ثمراً عظيماً؛ ولهذا قال تعالى: ( فَآتَتْ أُكُلَهَا ضِعْفَيْنِ )؛ (الأُكُل) بمعنى الثمر الذي يُؤكل: قال الله تعالى: ( أُكُلُها دائِمٌ وظِلُها ) (الرعد: 35) يعني ثمرها الذي يُؤكل، و( ضِعْفَيْنِ) أي مضاعفاً وزائداً.
قوله تعالى: ( فَإِنْ لَمْ يُصِبْهَا وَابِلٌ فَطَلٌّ ): والمعنى: فإن لم يصبها المطر الشديد أصابها فَطَلٌّ - وهو المطر الخفيف، ويكفيها عن المطر الكثير؛ لأنها في أرض خصبة مرتفعة بينة للشمس، والهواء، فحتى لو أتاها مطر خفيف فهذه الجنّة ستؤتي أكلها ضعفين، ( فثمر هذه الجنّة كثير ضعف ما تُؤتي غيرها، لموقعها بربوة، وكذلك ثواب صدقة من تصدق طبية نفسه بالصدقة مطمئنة بها ، ولم يلحقها منّا ولا أذي، ثوابها مضاعف )

المثل :

والمثل منطبق: ( أي وجد ركناه المشبة والمشبة به ووجه الشبه ) فقد شبه هذا الذي ينفق ماله ابتغاء مرضات الله، وتثبيتاً من نفسه بهذه الجنة.
وهل المشَبَه نفس الرجل أو النفقة؟ الجواب: المشبه هو النفقة؛ ولهذا قال بعضهم: إن التقدير: مَثَل إنفاق الذين ينفقون أموالهم كمثل جنة؛ ويحتمل أن التقدير: كمثل صاحب جنة؛ فيكون المشبَّه  الشخص المنفِق لا الإنفاق؛ وقال بعضهم: لا حاجة إلى التقدير للعلم به من السياق – فسياق الآيات وما قبلها في الأنفاق ، فالأولى أن يكون هذا المثل في الإنفاق ، وأن هذا من بلاغة القرآن، حيث طوى ذكر الشيء لدلالة السياق عليه.
والجميل في هذه الآية أن المشبه هنا هو إنفاق من ينفقون  أموالَهم راضية بها أنفسهم،  في وجوه البِرِّ والخير دون منٍّ أو أذًى، وإنَّما مقصدهم غايتين: أولهما : مرضاة الله ، وثانيهما: وهو ناتج عن الهدف الأول ، وهو تثبيت نفسه على هدى الله ، فهو يبتغى مرضاة الله عنه بالإنفاق من ماله ومما تشح النفس به، ولأنه يبتغي مرضاة الله لا غير، لاحظ للنفس في هذا الإنفاق غير رضى الله عنه، ومن ثم يثبت نفسه على دين الله، ففي الإنفاق برهان كما قال نبينا الكريم " الصدقة برهان... " ( صحيح الترغيب والترهيب ) أي برهان على الإيمان.
فمن كان هذا حاله في الإنفاق فنفقته كبستان كثير الشجر والظلال بمكان مرافع من الأرض، وهو شديد الصخوبة، تسقيه السماء ، ولمطكانه وخصوبته ، فإذا سقته السماء ماءً كثيراً تضاعف ما يتنتجه من الثمار، ولو أصابه مطر خفيف فكذلك يؤتي ثماراً مضاعفة وما ذلك إلا لكرم المكان وطيبه وخصوبته، فهذا حال نفقة المؤمن المخلص الثابتة نفسه عليها يضاعفها له الله تعالى كثيرةً كانت أو قليلة.

قوله تعالى: ( وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ )، قدم الجار والمجرور - وهو متعلق بـ ( بَصِيرٌ ) - لإفادة الحصر، ومراعاة الفواصل؛ والحصر هنا إضافي للترهيب؛ لأن الله بصير بما نعمل، وبغيره.
وهل ( بَصِيرٌ ) هنا من البصر بالعين؛ أو من العلم؟ الجواب: كونه من العلم أحسن ليشمل ما نعمله من الأقوال؛فهي تُسمع ولا تُرى، وليشمل ما في قلوبنا؛ فإن ما في قلوبنا لا يُسمع، ولا يُرى؛ وإنما يعلم عند الله عز وجل، كما قال تعالى: ( ولقد خلقنا الإنسان ونعلم ما توسوس به نفسه ) [ ق 16]
الفوائد:

1 - من فوائد الآية: أنه لا إنفاق مُتقبل إلا ما كان مملوكاً للإنسان؛ لقوله تعالى: ( أموالهم )؛ فلو أنفق مال غيره لم يقبل منه إلا أن يكون بإذن من الشارع، أو المالك.
فإن قال قائل: عندي مال محرم لطريقة كسبه ( فوائد ربوية مثلا ، أو رشوة ، أومال مغتصب)، وأريد أن أتصدق به فهل ينفعني ذلك؟
فالجواب: إن أنفقه للتقرب إلى الله به: لم ينفعه، ولم يسلم من وزر الكسب الخبيث؛ والدليل قوله : " إن الله طيب لا يقبل إلا طيباً " ( صحيح مسلم) ؛ وإن أراد بالصدقة به التخلص منه، والبراءة من إثمه: نفعه بالسلامة من إثمه، وصار له أجر التوبة منه - لا أجر الصدقة-.
ولو قال قائل: عندي مال اكتسبته من ربا فهل يصح أن أبني به مسجداً، وتصح الصلاة فيه؟
فالجواب: بالنسبة لصحة الصلاة في هذا المسجد هي صحيحة بكل حال؛ وبالنسبة لثواب بناء المسجد: إن قصد التقرب إلى الله بذلك لم يقبل منه، ولم يسلم من إثمه؛ وإن قصد التخلص سلم من الإثم، وأثيب - لا ثواب باني المسجد - ولكن ثواب التائب. ( ابن عثيمين )
2 - ومن فوائد الآية: بيان ما للنية من تأثير في قبول الأعمال؛ لقوله تعالى: ( ابْتِغَاءَ مَرْضَاتِ اللَّهِ )
3 - ومنها: أن الإنفاق لا يفيد إلا إذا كان على وفق الشريعة؛ لقوله تعالى: ( ابْتِغَاءَ مَرْضَاتِ اللَّهِ ) ولاسبيل يوصل إلى مرضات الله إلا ما كان على وفق شريعته في الكم، والنوع، والصفة؛ كما قال تعالى في الكم: ( والذين إذا أنفقوا لم يسرفوا ولم يقتروا وكان بين ذلك قواماً ) [الفرقان: 67]
وقال تعالى في النوع: ( ولكل أمة جعلنا منسكاً ليذكروا اسم الله على ما رزقهم من بهيمة الأنعام ) [الحج: 34] ، وقال النبي : ( لا يقبل الله إلا الطيب) ؛
وفي الصدفة قال الله تعالى: { كالذي ينفق ماله رئاء الناس ولا يؤمن بالله واليوم الآخر... } إلخ [البقرة: 264] .
4 - ومنها: بيان أن الصدقة الخالصة لله تعالى، يبتغي بها العبد مرضاة ربه عنه يحصل له من أثرها تثبيت لنفسه على طريق الإيمان.
5-        ويؤخذ من الآية أيضاً؛ أن من أنفق  ابتغاء مرضاة الله ، وثابته نفسه بهذا الإنفاق غير مترددة مطمئنة محبة له ، فهذا من أسباب قبول النفقة، لقوله تعالى: ( وَتَثْبِيتاً مِنْ أَنْفُسِهِمْ ) ؛ لأن الإنسان الذي لا يعمل إلا كارهاً فيه خصلة من خصال المنافقين؛ كما قال تعالى: ( ولا ينفقون إلا وهم كارهون ) [التوبة: 54] .

خاتمة أمثال النفقة في سورة البقرة:

وبهذا المثل تنتهي أمثال الإنفاق في سورة البقرة، وقد وجدنا أن الله تعالى مثل لمضاعفة أجر من أنفق في سبيل الله إلى سبعمئة ضعف بمن زرع حبة قمح، وحتى يرشِّد الله تعالى طريق المنفق ليحوز هذا الأجر نهاه عن الرياء والأذي ، فمثل للمرائي يحبط عمله ولا تتقبل صدقته بالحجر الأملس الذي ظاهره عليه تراب يخدع من يراه أنه أرض خصبة يمكن زراعتها، وإذا هي مع المطر تتكشف عن حجر أملس أصم، والمثل الثالث يضربه الله تعالى للمخلص في صدقته عموماً يبتغي بها مرضاة الله ، ثابتة نفسه بها- ويثبت نفسه بالصدقة- بمن رزع في أرض خصبة فإن نفقتهم يضاعفها الله لهم صغيرة كانت أو كبيرة .


اللهم إنا نعوذ بك من الكفر والنفاق وسوء الأخلاق ، اللهم أنا نعوذ بك من البخل والجبن


No comments:

Post a Comment