Wednesday 3 August 2016

تدبر آيات من القرآن العظيم – الحزب 36 – سورة النور- حديث الإفك




 


سورة النور- حديث الإفك

إن الذين جاءوا بالإفك عصبة منكم لا تحسبوه شراً لكم بل هو خيرٌ لكم 

وفي هذا الحزب سورة النور ، وهي سورة عظيمة، ككل القرآن العظيم،  فيها ذكر مثل نور الله في قلب المؤمن، وأن الله تعالى منور السموات والأرض، ومثَّل الله تعالى لنوره الذي يلقيه في صدر وليه في آية النور بمثل جميل سيأتي الكلام عنه في سلسلة الأمثال في القرآن الكريم إن شاء الله تعالى.
وبداية هذه السورة عجيب أمره ، إذ انها تبدأ ببيان أن هذه السورة أنزلها الله وفرضها ، وفي هذا تنبيه على ضرورة الإعتناء بها، ولكنه لا ينفي الإعتناء بغيرها، ولكن لها عناية خاصة لما ورد فيها من الأحكام اليومية، والتعاملات الأسرية، وبين أفراد المجتمع، ومن تربية الأبناء، صغارا وشبابا، وتعليمهم حدودهم مع أهليهم بشئونهم الخاصة، والحث على تزويج الراغب منهم، وإعانته على صيانة نفسه، وغير ذلك مما قال فيه مجاهد وقتادة : بين الله فيها الحلال والحرام والأمر والنهي والحدود، وقد بدأها الحكيم سبحانه بذكر حد الزنا والقذف تعظيما لفحش هذين الذنبين عند الله  .

وفي هذه السورة نزلت براءة أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها مما رميت به من الإفك ، وفي هذا شرفا لها وتكريما ايما تكريم في وقته وإلى يوم الدين، ولأهمية هذه الآيات نزيدها فيما يلي توضيحا ونبين فوائدها وأحكامها، وبالله التوفيق. 

تفسير للآيات:
 
قوله تعالى: ( إِنَّ الَّذِينَ جَاءُوا بِالإِفْكِ عُصْبَةٌ مِنْكُمْ لا تَحْسَبُوهُ شَرًّا لَكُمْ بَلْ هُوَ خَيْرٌ لَكُمْ )
 يبدأ الله تعالى الآيات مباشرة بالتصريح بذم وتقريع من وقع بالقول بالإفك، وسماه الله تعالى باسمه الصريح إفكا، مبينا من مبتدئ القول بأن القول كذب ، حتى يكفي المستمع للآيات بأول كلمتين فيعرف حكم الله فيما قالوا، فلا يحتاج إلى تأويل ، فالآية محكمة لا تشابه فيها، ( بِالإِفْكِ ) الإفك الكذب، والمقصود به الكذب والبهتان الذي رميت به أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها، حين رماها أهل الإفك والبهتان من المنافقين بما قالوه من الكذب البحت والفرية التي غار الله تعالى لها ولنبيه، صلوات الله وسلامه عليه،  والعصبة ثلاثة رجال إلى العشرة.، وأصلها في اللغة وكلام العرب الجماعة الذين يتعصب بعضهم لبعض.

الخير والشر مقاييس نسبية: 

 وقوله تعالى : ( لا تَحْسَبُوهُ شَرًّا لَكُمْ بَلْ هُوَ خَيْرٌ لَكُمْ )،  والخير حقيقته ما زاد نفعه على ضره،  والشر ما زاد ضره على نفعه.
وإن خيرا لا شر فيه هو الجنة. وشرا لا خير فيه هو جهنم.
فأما البلاء النازل على الأولياء فهو خير؛ لأن ضرره من الألم قليل في الدنيا، وخيره هو الثواب الكثير في الأخرى.
فنبه الله تعالى عائشة وأهلها وصفوان، إذ الخطاب لهم في قوله ( لا تَحْسَبُوهُ شَرًّا لَكُمْ بَلْ هُوَ خَيْرٌ لَكُمْ )؛ لرجحان النفع والخير على جانب الشر. 

قصة الإفك؛ غزوة المريسع: 

لما خرج رسول الله بعائشة معه في غزوة بني المصطلق وهي غزوة المريسيع، وقفل- أي رجع منها- ودنا من المدينة آذن ليلة بالرحيل قامت عائشة رضي الله عنها حين آذنوا بالرحيل فمشت لقضاء حاجتها، حتى جاوزت الجيش، فلما فرغت من شأنها أقبلت إلى الرحل فلمست صدرها فإذا عقد من جزع ظفار قد انقطع، فرجعت فالتمسته فحبسها ابتغاؤه، فوجدته وانصرفت فلما لم تجد أحدا، وكانت شابة قليلة اللحم، فرفع الرجال هودجها ولم يشعروا بزوالها منه؛ فلما لم تجد أحدا اضطجعت في مكانها رجاء أن تُفتقد فيرجع القوم إليها، فنامت في الموضع ولم يوقظها إلا قول صفوان بن المعطل: إنا لله وإنا إليه راجعون؛ وذلك أنه كان تخلف وراء الجيش لحفظ الساقة. وقيل: إنها استيقظت لاسترجاعه، ونزل عن ناقته وتنحى عنها حتى ركبت عائشة، وأخذ يقودها حتى بلغ بها الجيش في نحر الظهيرة؛ فوقع أهل الإفك في مقالتهم، وكان الذي يجتمع إليه فيه ويستوشيه ويشعله ( تولى كبره )، عبدالله بن أبي بن سلول المنافق، وهو الذي رأى صفوان آخذا بزمام ناقة عائشة فقال: والله ما نجت منه ولا نجا منها، وقال: امرأة نبيكم باتت مع رجل. وكان من قاله حسان بن ثابت ومسطح بن أثاثة وحمنة بنت جحش. هذا اختصار الحديث، وهو بكماله وإتقانه في البخاري ومسلم، وهو في مسلم أكمل. ولما بلغ صفوان قول حسان في الإفك جاء فضربه بالسيف ضربة على رأسه وقال:
تلق ذباب السيف عني فإنني غلام إذا هوجيت ليس بشاعر
وصاح حسَّانُ واستغاث النَّاسَ على صفوانَ، فلمَّا جاء النَّاسُ فرَّ صفوانُ وجاء حسَّانُ إلى النَّبيِّ فاستَعداهُ على صَفوانَ في ضربتِهِ إيَّاهُ فسألَهُ النَّبيُّ أن يهَب له ضربَةَ صفوانَ إياه فوهبَها للنَّبيِّ فعاضَه ( عوضه )منها حائطًا من نخلً عظيم وجاريةٍ روميَّةٍ يقالُ أو قبطيَّةٍ تُدعى سيرينَ فوُلدَ لحسَّانَ ابنُهُ عبدُ الرَّحمنِ الشَّاعرُ.
 - وهذا يدل على أن حسان ممن تولى الكبر؛ والله أعلم.
وكان صفوان هذا صاحبَ ساقة رسول الله ﷺ في غزواته لشجاعته، وكان من خيار الصحابة. وكان له ابنان؛وقال فيهما النبي ﷺ: " لهما أشبه به من الغراب بالغراب " . وويؤثر عن صفوان قوله: والله ما كشف كنف أنثى قط؛ يريد بزنى. وقتل شهيدا رضي الله عنه في غزوة أرمينية سنة تسع عشرة في زمان عمر.

قوله تعالى: ( لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ مَا اكْتَسَبَ مِنَ الإِثْمِ ) يعني لكل ممن تكلم بالإفك جزاء ما فعله من الإثم بالقول،  ولم يسم من أهل الإفك إلا حسان بن ثابت ومسطح بن أثاثة،  وحمنة بنت جحش ( أخت أم المؤمنين زينب بنت جحش) وعبدالله بن أبي بن سلول رأس المنافقين في المدينة؛ وجُهل الغير.
قوله تعالى: ( وَالَّذِي تَوَلَّى كِبْرَهُ مِنْهُمْ لَهُ عَذَابٌ عَظِيمٌ )؛ أي أكبر الحديث ( وزاد في المسألة). روي عن عائشة أنه حسان، وأنها قالت حين عمي: لعل العذاب العظيم الذي أوعده الله به ذهاب بصره. وروي عنها أنه عبدالله بن أبي؛ وهو الصحيح، وقال ابن عباس. وحكى أبو عمر بن عبدالبر أن عائشة برأت حسان من الفرية، وقالت: إنه لم يقل شيئا. وهذا تعارض، ويمكن الجمع بأن يقال: إن حسانا لم يقل ذلك نصا وتصريحا، ويكون عرض بذلك وأومأ إليه فنسب ذلك إليه؛ والله أعلم.
روى أبو داود عن عائشة رضي الله عنها قالت: لما نزل عذري قام النبي ﷺ فذكر ذلك، وتلا القرآن؛ فلما نزل من المنبر أمر بالرجلين والمرأة فضربوا حدهم، وسماهم: حسان بن ثابت ومسطح بن أثاثة وحمنة بنت جحش. وفي كتاب الطحاوي « ثمانين ثمانين » . قال العلماء: وإنما لم يحد عبدالله بن أبي لأن الله تعالى قد أعد له في الآخرة عذابا عظيما؛ فلو حد في الدنيا لكان ذلك نقصا من عذابه في الآخرة وتخفيفا عنه مع أن الله تعالى قد شهد ببراءة عائشة رضي الله عنها وبكذب كل من رماها؛ فقد حصلت فائدة الحد، إذ مقصوده إظهار كذب القاذف وبراءة المقذوف، وإنما حد هؤلاء المسلمون ليكفر عنهم إثم ما صدر عنهم من القذف حتى لا يبقى عليهم تبعة من ذلك في الآخرة، وقد قال ﷺ في الحدود في الحديث الذي رواه عبادة بن الصامت. ( إنها كفارة لمن أقيمت عليه ) ؛ كما ويحتمل أن يقال: إنما ترك حد ابن أبي استئلافا لقومه واحتراما لابنه، وإطفاء لثائرة الفتنة المتوقعة من ذلك، وقد كان ظهر مبادئها من سعد بن عبادة ومن قومه؛ كما في صحيح مسلم. والله أعلم.

قوله تعالى: ( لَوْلا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ ظَنَّ الْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بِأَنْفُسِهِمْ خَيْرًا وَقَالُوا هَذَا إِفْكٌ مُبِينٌ )، المعنى أنه كان ينبغي أن يقيس فضلاء المؤمنين والمؤمنات الأمر على أنفسهم؛ فإن كان ذلك يبعد فيهم فذلك في عائشة وصفوان أبعد. وروي أن هذا النظر السديد وقع من أبي أيوب الأنصاري وامرأته؛ وذلك أنه دخل عليها فقالت له: يا أبا أيوب أسمعت ما قيل فقال نعم وذلك الكذب أكنت أنت يا أم أيوب تفعلين ذلك قالت: لا والله قال: فعائشة والله أفضل منك؛ قالت أم أيوب نعم. فهذا الفعل ونحوه هو الذي عاتب الله تعالى عليه المؤمنين إذ لم يفعله جميعهم.
 
وقوله: ( ظَنَّ الْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بِأَنْفُسِهِمْ خَيْرًا ) أي:هَلا ظنوا الخير، فإن أم المؤمنين أهله وأولى به، هذا ما يتعلق بالباطن، ( وَقَالُوا ) أي:بألسنتهم ( هَذَا إِفْكٌ مُبِينٌ ) أي:كذب ظاهر على أم المؤمنين، فإن الذي وقع وشاهده المسلمون لم يكن فيه ريبة، وذلك أن مجيء أم المؤمنين راكبة جَهْرَة على راحلة صفوان بن المعطل في وقت الظهيرة، والجيش بكماله يشاهدون ذلك، ورسول الله ﷺ بين أظهرهم، لو كان هذا الأمر فيه ريبة لم يكن هكذا جَهْرَة، ولا كانا يُقدمان على مثل ذلك على رؤوس الأشهاد، بل كان يكون هذا - لو قُدر - خفية مستورا، فتعيَّن أن ما جاء به أهل الإفك مما رَمَوا به أم المؤمنين هو الكذب البحت، والقول الزور، والرّعُونة الفاحشة [ الفاجرة ] والصفقة الخاسرة 
.
فائدة:
-    ولأجل هذا قال العلماء: إن الآية أصل في أن درجة الإيمان التي حازها الإنسان؛ ومنزلة الصلاح التي حلها المؤمن، ولبسة العفاف التي يستتر بها المسلم لا يزيلها عنه خبر محتمل وإن شاع إذا كان أصله فاسدا أو مجهولا، بل يجب أن يظن به الخير الذي هو عليه ، حتى يتيقن من خلافه.
-    ويستفاد أيضا من هذه الآية أن على المسلم إذا ورده خبر عن غيره ممن يعرف بصلاح حاله أن يقيس الخبر على نفسه ، فلا يتعجل القول فيرمي أخاه بما يترفع هو عنه. قال النحاس: معنى « بأنفسهم » بإخوانهم. فأوجب الله على المسلمين إذا سمعوا رجلا يقذف أحدا ويذكره بقبيح لا يعرفونه به أن ينكروا عليه ويكذبوه وتواعد من ترك ذلك ومن نقله.

قوله تعالى: ( لَوْلا ) أي:هلا ( جَاءُوا عَلَيْهِ ) أي:على ما قالوه ( بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ ) يشهدون على صحة ما جاءوا به ( فَإِذْ لَمْ يَأْتُوا بِالشُّهَدَاءِ فَأُولَئِكَ عِنْدَ اللَّهِ هُمُ الْكَاذِبُونَ ) أي:في حكم الله كَذَبَةٌ فاجرون 
 .
فائدة:
وقد يعجز الرجل عن إقامة البينة وهو صادق في قذفه، ولكنه في حكم الشرع وظاهر الأمر كاذب لا في علم الله تعالى؛ وهو سبحانه إنما رتب الحدود على حكمه الذي شرعه في الدنيا لا على مقتضى علمه الذي تعلق بالإنسان على ما هو عليه، فإنما يبني على ذلك حكم الآخرة.
ومما يقوي هذا المعنى ويعضده ما خرجه البخاري عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أنه قال: أيها الناس إن الوحي قد انقطع وإنما نأخذكم الآن بما ظهر لنا من أعمالكم، فمن أظهر لنا خيرا أمناه وقربناه؛ وليس لنا من سريرته شيء الله يحاسبه في سريرته، ومن أظهر لنا سوءا لم نؤمنه ولم نصدقه، وإن قال إن سريرته حسنة. وأجمع العلماء أن أحكام الدنيا على الظاهر، وأن السرائر إلى الله عز وجل.

قوله عز وجل ( وَلَوْلا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ لَمَسَّكُمْ فِي مَا أَفَضْتُمْ فِيهِ عَذَابٌ عَظِيمٌ ) أي بسبب ما قلتم في عائشة عذاب عظيم في الدنيا والآخرة. وهذا عتاب من الله تعالى بليغ، ولكنه برحمته ستر عليكم في الدنيا ويرحم في الآخرة من أتاه تائبا.
و( الإفاضة ): الأخذ في الحديث؛ وهو الذي وقع عليه العتاب؛ يقال: أفاض القوم في الحديث أي أخذوا فيه.

قوله تعالى: ( إِذْ تَلَقَّوْنَهُ   بِأَلْسِنَتِكُمْ )  قراءة محمد بن السميقع بضم التاء وسكون اللام وضم القاف؛ من الإلقاء، وهذه قراءة بينة. وقرأ أبي وابن مسعود « إذ تتلقونه » من التلقي، بتاءين.
قوله تعالى: ( وَتَقُولُونَ بِأَفْوَاهِكُمْ مَا لَيْسَ لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ) مبالغة وإلزام وتأكيد. والضمير في ( وَتَحْسَبُونَهُ ) عائد على الحديث والخوض فيه والإذاعة له. و ( هَيِّنًا ) أي شيئا يسيرا لا يلحقكم فيه إثم. ( وَهُوَ عِنْدَ اللَّهِ)  في الوزر ( عَظِيمٌ )،  وهذا مثل قوله ﷺ في حديث القبرين: ( إنهما ليعذبان وما يعذبان في كبير ) أي بالنسبة إليكم .

فائدة:

وعتاب الله تعالى للمؤمنين وقوله ( وَتَحْسَبُونَهُ هَيِّنًا وَهُوَ عِنْدَ اللَّهِ عَظِيمٌ) توبيخ شديد لمن تكلم بهذا القول ، ومن سمع ولم ينكر، فما قلتم ليس بهين ، بل هو عند الله عظيم ، فإن من رميتم بهذا لقول لو لم تكن زوجة النبي ﷺ لما كان هَيِّنا، فكيف وهي زوجة النبي الأمي، خاتم الأنبياء وسيد المرسلين، فعظيم عند الله أن يقال في زوجة رسوله ما قيل! الله يغار لهذا، وهو سبحانه وتعالى، لا يُقَدِّر على زوجة نبي من أنبيائه ذلك، حاشا وكَلا ولما [ لم يكن ذلك ] فكيف يكون هذا في سيدة نساء الأنبياء، وزوجة سيد ولد آدم على الإطلاق في الدنيا والآخرة؟! ولهذا قال تعالى ( وَتَحْسَبُونَهُ هَيِّنًا وَهُوَ عِنْدَ اللَّهِ عَظِيمٌ ) ، وفي الصحيحين قوله ﷺ: " إن الرجل ليتكلم بالكلمة من سَخَط الله، لا يدري ما تَبْلُغ، يهوي بها في النار أبْعَد ما بين السماء والأرض " وفي رواية: "  لا يلقي لها بالا "
فائدة:

وإن هذا التوبيخ الشديد جاء لمن شهد الموقعة وتكلم وهو لم يعلم مدي غضب الله تعالى وغيرته على نبيه، ولم يسمه قوله بعظم هذا القول ، فكيف بمن لا يزال يتفكه بل ويدين الله بهذا القول ، وخصوصا بعد أن قال له ربه العالمين سبحانه ( يَعِظُكُمُ اللَّهُ أَنْ تَعُودُوا لِمِثْلِهِ أَبَدًا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ ) يعني أن تقولوا في عائشة؛ لأن مثله لا يكون إلا نظير القول المقول عنه بعينه، أو فيمن كان في مرتبته من أزواج النبي ﷺ ؛ لما في ذلك من إذية رسول الله ﷺ في عرضه وأهله؛ وذلك كفر من فاعله، بل شرط العود بهذا القول بالإيمان؛ أي إن كنتم مؤمنين فلا تعودوا لمثله، ويعني بالمقابل أن من عاد لهذا القول وأصر عليه فليس بمؤمن.

قوله تعالى: « ولولا إذ سمعتموه قلتم ما يكون لنا أن نتكلم بهذا سبحانك هذا بهتان عظيم، يعظكم الله أن تعودوا لمثله أبدا إن كنتم مؤمنين، ويبين الله لكم الآيات والله عليم حكيم » عتاب لجميع المؤمنين أي كان ينبغي عليكم أن تنكروه ولا يتعاطاه بعضكم من بعض على جهة الحكاية والنقل، وأن تنزهوا الله تعالى عن أن يقع هذا من زوج نبيه ﷺ. وأن تحكموا على هذه المقالة بأنها بهتان.
 وحقيقة البهتان أن يقال في الإنسان ما ليس فيه، والغيبة أن يقال في الإنسان ما فيه. وهذا المعنى قد جاء في صحيح الحديث عن النبي ﷺ ، ثم وعظهم تعالى في العودة إلى مثل هذه الحالة. و « أن » مفعول من أجله، بتقدير: كراهية أن ونحوه. « إن كنتم مؤمنين » توقيف وتوكيد؛ كما تقول: ينبغي لك أن تفعل كذا وكذا إن كنت رجلا.

الحكم فيمن سب وقذف عائشة رضي الله عنها بعد نزولأن برأها الله تعالى:

قال هشام بن عمار سمعت مالكا يقول: من سب أبا بكر وعمر أدب، ومن سب عائشة قتل لأن الله تعالى يقول: ( يعظكم الله أن تعودوا لمثله أبدا إن كنتم مؤمنين ) فمن سب عائشة فقد خالف القرآن، ومن خالف القرآن قتل. ذلك  لأن أهل الإفك رموا عائشة المطهرة بالفاحشة فبرأها الله تعالى فكل من سبها بما برأها الله منه مكذب لله، ومن كذب الله فهو كافر؛ فهذا طريق قول مالك، وهي سبيل واضحة لأهل البصائر.


قوله تعالى: (إِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَنْ تَشِيعَ الْفَاحِشَةُ فِي الَّذِينَ آمَنُوا) وهذا تأديب ثالث لمن سمع شيئا من الكلام السيئ، فقام بذهنه منه شيء،وتكلم به، فلا يكثر منه ويشيعه ويذيعه، فقد قال تعالى : ( إِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَنْ تَشِيعَ الْفَاحِشَةُ فِي الَّذِينَ آمَنُوا ) أي:يختارون ظهور الكلام عنهم بالقبيح،( تَشِيعَ )؛ أي تفشو؛ يقال: شاع الشيء شيوعا وشيعا وشيعانا وشيوعه؛ أي ظهر وتفرق، ( فِي الَّذِينَ آمَنُوا) ، أي في المحصنين والمحصنات. والمراد بهذا اللفظ العام عائشة وصفوان رضي الله عنهما. والفاحشة: الفعل القبيح المفرط القبح. وقيل: الفاحشة في هذه الآية القول السيء، ( لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ فِي الدُّنْيَا ) أي:بالحد في الدنيا،  وفي الآخرة عذاب النار؛ أي للمنافقين، فهو مخصوص. وقد بينا أن الحد للمؤمنين كفارة لهم،  وقال الطبري: معناه – للمؤمن- إن مات مصرا غير تائب. ، ( وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ ) أي:فردوا الأمور إليه تَرْشُدُوا.

وقال الإمام أحمد: عن ثَوْبَان، عن النبي ﷺ قال: " لا تُؤذوا عِبادَ الله ولا تُعيِّروهم، ولا تطلبوا عوراتهم، فإنه من طلب عورة أخيه المسلم، طلب الله عورته، حتى يفضحه في بيته " .( صحيح )



No comments:

Post a Comment