Tuesday 16 August 2016

الأمثال في القرآن11- المثل التاسع - من سورة البقرة- أم حسبتم أن تدخلوا الجنة ولما يأتكم مثل الذين خلو من قبلكم




   




الأمثال في القرآن 11
المثل التاسع– من سورة البقرة – أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُمْ مَثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ

مثل اليوم هو نوع من أنواع الأمثال سقط سهوا ذكره في أول السلسلة عند تعداد أنواع الأمثال ، وهذا النوع هو النوع الرابع :ـ
1-        والمثل قد يراد به القصة والحال :

ويطلق المثل على الحال والقصة العجيبة الشأن، وبهذا المعنى فسر لفظ المثل في كثير من الآيات كقوله تعالى: (مثل الجنة التي وعد المتقون فيها أنهار من ماء غير أسن) محمد:15 ،  أي قصتها وصفتها التي يتعجب منها، وأشار الزمخشري إلى هذه المعاني الثلاثة في (كشافه) فقال: (والمثل في أصل كلامهم بمعنى المثل والنظير، ثم قيل للقول السائر الممثل مضربه بمورده مثل) ثم قال: وقد استعير المثل للحال أو القصة أو الصفة إذا كان لها شأن وفيها غرابة

وإليكم مثل اليوم من هذا النوع الذي يحكي قصة :

قوله تعالى :ـ ( أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُمْ مَثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ مَسَّتْهُمُ الْبَأْسَاءُ وَالضَّرَّاءُ وَزُلْزِلُوا حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ مَتَى نَصْرُ اللَّهِ أَلا إِنَّ نَصْرَ اللَّهِ قَرِيبٌ) (البقرة:214)

المعاني وتفسير المثل:

قوله تعالى: ( أَمْ حَسِبْتُمْ )؛ ( أَمْ ) من حروف العطف؛ وهي هنا بمعنى «بل»؛ أي: بل أحسبتم؛ وهي للإضراب الانتقالي؛ وهو الانتقال من كلام إلى آخر، وهنا ينقلنا ربنا من الحديث في الآية التي قبلها عن الأمم السابقة، وأنهم كانوا أمة واحدة ثم تفرقوا ( كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً فَبَعَثَ اللَّـهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ) ( البقرة 213)،حتى قال فوفَّق الله المؤمنين بفضله إلى تمييز الحق من الباطل، ومعرفة ما اختلفوا فيه، والله يوفِّق من يشاء من عباده إلى طريق مستقيم، وهم من يواسيهم الله في الآيات التي بعدها ويصبرهم ، ويبين لهم سننه في الكون ، وأنه لا بد للمؤمن أن يبتلى حتى يمحص الله عباده ( وهو أعلم بهم )،  ويعلم المخلص ممن هو دونه ،  فاستدعى الله تعالى هؤلاء إلى الصبر، ووعدهم على ذلك بالنصر فقال: ( أَلا إِنَّ نَصْرَ اللَّهِ قَرِيبٌ)

 و( حَسِبْتُمْ ) بمعنى ظننتم؛ والتقدير: أم حسبتم دخولكم الجنة حاصلاً...
والخطاب في الآية يعود على كل من يتوجه إليه الخطاب: إلى النبي ، وإلى الصحابة، وإلى من بعدهم إلى يوم القيامة.
قوله تعالى: ) أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ (؛ )الجنة(  في اللغة: سُترَة ، ومنها يطلق لفظ الجنَة على البستان كثير الأشجار حتى أنها تجن أو تخفي ما بينها، و ( الجنّة ) أيضا : كُلّ ما ستر أو وقي من سلاح وغيره؛ ومنها قوله ( الصَّوْمُ جُنَّةٌ ): أي وقاية من الشَّهوات.
و( جِنّ )، طائفة من الجِنّ :قال تعالى: ( لأَمْلأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ ) .
وفي الشرع: هي الدار التي أعدها الله للمتقين فيها ما لا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر.
قوله تعالى: ( وَلَمَّا يَأْتِكُمْ )؛ ( وَلَمَّا ) حرف نفي مع توقع وقوع المنفي، مثالها قوله تعالى: ( بل لما يذوقوا عذاب ) [ص8] .
وقوله تعالى: ( مَثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ ) أي صفة ما وقع لهم؛ و«المثل» يكون بمعنى الصفة، كما اسلفنا هنا،  أو الشبه، أي: ولم تمتحنوا بمثل ما امتحن به من كان قبلكم فتصبروا كما صبروا.
ونظير هذه الآية ( الم* أحَسِبَ النَّاسُ أَن يُتْرَكُوا أَن يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لَا يُفْتَنُونَ) ( العنكبوت: 1-2)
و( خَلَوْا ) بمعنى مضوا أو سبقوا ، وأكدتها كلمة ( مِنْ قَبْلِكُمْ )
ولما كان مثلهم مبهما، او أن حالهم لم يسبق وصفه لهم، فقد بيَّنه الله تعالى بقوله تعالى: ( مَسَّتْهُمُ الْبَأْسَاءُ وَالضَّرَّاءُ وَزُلْزِلُوا)
 و«المس» هو مباشرة الشيء؛ تقول: مسسته بيدي، ومس ثوبه الأرض؛ فــ( مَسَّتْهُمُ ) يعني أصابتهم إصابة مباشرة؛ وهذه الجملة استئنافية لبيان المثل الذي ذكر في قوله تعالى: ( مَثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ )
وقد عدد الله تعالى ثلاثة صور للعذاب الذي مسهم فقال :
( الْبَأْسَاء): قالوا: إنها شدة الفقر مأخوذة من البؤس؛ وهو الفقر الشديد.
و( الضراء): قالوا: إنها المرض، والمصائب البدنية، وقد تكون هنا الإصابات والجروح أصابتهم في الحروب.
و( زلزلوا ): «الزلزلة» هنا ليست زلزلة الأرض؛ لكنها زلزلة القلوب بالمخاوف، والقلق، والفتن العظيمة، والشبهات، والشهوات؛ فتكون الإصابات هنا في ثلاثة مواضع: في المال؛ والبدن؛ والنفس.
في سبب نزول هذه الآية:

قيل :نزلت هذه الآية في غزوة الخندق حين أصاب المسلمين ما أصابهم من الجهد والشدة، والحر والبرد، وسوء العيش، وأنواع الشدائد، وكان كما قال الله تعالى: ( وَإِذْ زَاغَتِ الْأَبْصَارُ وَبَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَنَاجِرَ) (الأحزاب 10 ) .
وقيل: نزلت في غزوة أُحد، ومثلها الآية في سورة آل عمران:( أَمْ حَسِبْتُمْ أَن تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَعْلَمِ اللَّـهُ الَّذِينَ جَاهَدُوا مِنكُمْ وَيَعْلَمَ الصَّابِرِينَ ) (آل عمران 142 )
قوله تعالى: ( حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ مَتَى نَصْرُ اللَّهِ  )
و( الرَّسُولُ ): المراد به الجنس أي رسول من الرسل - أي حتى يقول الرسول من هؤلاء الذين زلزلوا، ومستهم البأساء، والضراء -؛ و( وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ )  ومعه هنا هي المصاحبة في القول، والإيمان - أي يقولون معه وهم مؤمنون به -؛  ( مَتَى نَصْرُ اللَّهِ ): وهو القول المقول ، والاستفهام فيها للاستعجال - أي استعجال النصر -؛ وليس للشك فيه.
قوله تعالى: ( أَلا إِنَّ نَصْرَ اللَّهِ قَرِيبٌ)،  يحتمل أن يكون هذا جواباً مباشرا لقول الرسول  والذين آمنوا معه: متى نصر الله.
ويحتمل أن يكون جملة استئنافية يخبر الله بها خبراً عاما ومؤكداً بمؤكدين: ( أَلا)؛ و( إِنَّ )؛ فقيل لهم ذلك إجابة لهم إلى طلبهم من عاجل النصر، وكلاهما صحيح.

الفوائد:

1 - من فوائد الآية: عناية الله عزّ وجلّ بهذه الأمة، حيث يسليها بما وقع بغيرها؛ ومثل هذه الآية جاء في السنة؛ فالرسول لما جاءه أصحابه يشكون إليه بمكة فأخبرهم بخبر من كان قبلهم تثبيتا لهم فقال: " قد كان من قبلكم يؤخذ الرجل، فيحفر له في الأرض، فيجعل فيها، ثم يؤتى بالمنشار فيوضع على رأسه، فيجعل نصفين، ويمشط بأمشاط الحديد ما دون لحمه، وعظمه؛ ما يصده ذلك عن دينه" ثم قال " والله ليتمن الله هذا الأمر حتى يسير الراكب من صنعاء إلى حضرموت لا يخاف إلا الله والذئب على غنمه ولكنكم قوم تستعجلون " (البخاري )
2 - ومنها: أن الإيمان ليس بالتمني، ولا بالتحلي؛ بل لا بد من نية صالحة، وصبر على ما يناله المؤمن من أذًى في الله عزّ وجلّ.
3- ومنها: حكمة الله عزّ وجلّ، حيث يبتلي المؤمنين بمثل هذه المصائب العظيمة امتحاناً حتى يتبين الصادق من غيره، كما قال تعالى: ( وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ حَتَّىٰ نَعْلَمَ الْمُجَاهِدِينَ مِنكُمْ وَالصَّابِرِينَ وَنَبْلُوَ أَخْبَارَكُمْ ) (محمد 31)؛ فلا يُعرف زيف الذهب إلا إذا أُذيب بالنار؛ ولا يُعرف طيب العود إلا إذا أحرق بالنار؛ كذلك لا يعرف المؤمن إلا بالابتلاء والامتحان؛ فعلى المسلم أن يصبر على كل أنواع الإيذاء والإبتلاءات بالآلام في الجسد والمرض، وفي المال والفقر، وفي الأولاد وغيره، فعليه أن يعتبر بما أصاب أولي العزم من الرسل؛ ومنهم رسولنا كم أوذي وكم استهزيء به ، حتى جاء نصر الله له ، فاصبر، واحتسب؛ وليعلم أنه مهما كان الأمر من الإيذاء فإن غاية ذلك الموت؛ وإذا مات على الصبر لله عزّ وجلّ انتقل من دار إلى خير منها.

4 - ومنها: أن الصبر على كل أنواع البلاء في ذات الله عزّ وجلّ من أسباب دخول الجنة؛ كما قال رسول الله : " عجبا لأمر المؤمن إن أمره كله خير ، وليس ذاك لأحد إلا للمؤمن ؛ إن أصابته سرّاء شكر ؛ فكان خيراً له ، وإن أصابته ضرّاء صبر ؛ فكان خيراً له " ( رواه مسلم). أنه تعالى يمنع النصر( أو كشف البلاء أيا كان) لفترة معينة من الزمن  لحكمة منه - مع أنه قريب –( ففي تأخيره مع صبر المؤمن عليه زيادة له في الخير في الآخرة ، ورفع لدرجاته وتثقيل لميزان حسناته ، ورفع لدرجاته، وفي الآية تبشير للمؤمنين بالنصر إذا ثبتوا على الحق ، بالنصر ولو طال الزمن .

5- ومنها:تأكيد ما جاء في الحديث الصحيح: " حفت الجنة بالمكاره " مسلم ؛ لأن هذه مكاره؛ ولكنها هي الطريق إلى الجنة.

اللهم إنا نسألك الجنة وما قرّب إليها من قول و عمل ، ونعوذ بك من النّار وما قرّب إليها من قول أو عمل


No comments:

Post a Comment