Friday 3 January 2014

سورة غافر - تفسير وربط الآيات وبيان المتشابهات لتثبيت الحفظ ج 2



تفسيروربط الآيات وبيان المتشابهات لتثبيت حفظ سورة غافر- الجزء الثاني 

انتهينا في الجزء الأول إلى تنبيه رب العالمين عباده في كل زمان إلى السير والنظر نظرة اعتبار وتدبر لأحوال الأمم السابقة ، وما أنعم الله عليهم من قوة الأبدان ووفرة في الأموال والثمار ، وما كان مآلهم لما كفروا بانعم الله تعالى  لهم ، وان هذا هو مصير كل من يسير مسارهم ، ويقتدي بهم ، ثم يقص ربنا جل وعلا مثالا عليهم واضح بين، وهو فرعون وقومه ، يخص بالذكر قصة مؤمن من قوم فرعون لم تذكر في موضع آخر من الكتاب العزيز،   للإعتبار منها، ( لَقَدْ أَرْ‌سَلْنَا مُوسَىٰ بِآيَاتِنَا وَسُلْطَانٍ مُّبِينٍ ( 23 ) إِلَىٰ فِرْ‌عَوْنَ وَهَامَانَ وَقَارُ‌ونَ فَقَالُوا سَاحِرٌ‌ كَذَّابٌ ( 24 )فَلَمَّا جَاءَهُم بِالْحَقِّ مِنْ عِندِنَا قَالُوا اقْتُلُوا أَبْنَاءَ الَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ وَاسْتَحْيُوا نِسَاءَهُمْ ۚ وَمَا كَيْدُ الْكَافِرِ‌ينَ ( 25 )   إلى آخر القصة.
 ( وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مُوسَى )أي أرسل الله نبية موسى عليه السلام ، إلى جنس هؤلاء المكذبين، وأيده ( بِآيَاتِنَا وَسُلْطَانٍ مُبِينٍ)  بالدلائل العظيمة، الدالة دلالة قطعية، على حقية ما أرسل به، ومعه حجج بينة، تتسلط على القلوب فتذعن لها، كالحية والعصا ونحوهما من الآيات البينات، التي أيد الله بها موسى.
وقد بعثه الله تعالى إلى  ( فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ ) وملك مصر يسمى فرعون ، وكان هامان وزيره ( وَقَارُونَ ) الذي كان من قوم موسى، من أبناء عمومته، فبغى عليهم بما أنعم الله عليه من وفرة المال ،فكان من الملأ المحسوبين على فرعون ، وكلهم ردوا عليه أشد الرد ( فَقَالُوا سَاحِرٌ كَذَّابٌوقد قص الله تعالى  ردهم مقترنا بـ ( الفاءفـقالوا ) وهو حرف عطف يفيد الترتيب والتعقيب السريع ،فبيّن لك سرعة ردهم عليه  بدون أي تفكير أو وعي للدلائل.

متشابهات : لم يذكر قارون مع فرعون وهامان سوى هنا في هذه السورة ، وفي سورة العنكبوت ، حيث قال سبحانه : (وَقَارُ‌ونَ وَفِرْ‌عَوْنَ وَهَامَانَ ۖ وَلَقَدْ جَاءَهُم مُّوسَىٰ بِالْبَيِّنَاتِ فَاسْتَكْبَرُ‌وا فِي الْأَرْ‌ضِ وَمَا كَانُوا سَابِقِينَ ) ( العنكبوت 39 ) ، وهنا في العنكبوت بدأ بذكر قارون قبل فرعون وهامان .
( فَلَمَّا جَاءَهُمْ بِالْحَقِّ مِنْ عِنْدِنَا ) وأيده الله بالمعجزات الباهرة، الموجبة لتمام الإذعان، لم يقابلوها بذلك، بل لم يكفهم مجرد إنكارها، أو معارضتها بباطلهم، بل وصلت بهم الحال إلى أن ( قَالُوا اقْتُلُوا أَبْنَاءَ الَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ وَاسْتَحْيُوا نِسَاءَهُمْ وَمَا كَيْدُ الْكَافِرِينَ إِلَّا فِي ضَلَالٍ ) حيث كادوا هذه المكيدة، وزعموا أنهم إذا قتلوا أبناءهم، سيضعفوا عن نصرة نبيهم، ويبقوا في رقهم وتحت عبوديتهم.، ولكن كيدهم هذا ضل عنهم ، ولم ينجز لهم مبتغاهم .
وهذه هي المرة الثانية التي يأمر بها فرعون بقتل أبناء بني إسرائيل ، وكانت المرة الأولى قبل مولد موسى عليه السلام ، كان لرؤيا رآها ،  ذكر السدي عن أبي صالح وأبي مالك عن ابن عباس وعن مرة عن ابن مسعود وعن أناس من الصحابة: أن فرعون رأى في منامه كأن ناراً قد أقبلت من نحو بيت المقدس، فأحرقت دور مصر وجميع القبط ولم تضر بني إسرائيل، فلما استيقظ هاله ذلك، فجمع الكهنة والحزأة والسحرة وسألهم عن ذلك، فقالوا: هذا غلام يولد من هؤلاء يكون سبب هلاك أهل مصر على يديه، فلهذا أمر بقتل الغلمان وترك النساء. أو قيل أنها بشارة بمجيء موسي عليه السلام منهم توارثوها من زمن وجود إبراهيم عليه السلام في مصر، علم بها فرعون زمن موسى ، فأمر بقتل الأبناء واستحياء النساء , والله أعلم
 وتدبر هذه النكتة أو القاعدة المهمة وهي عامة تجدها في كتاب الله تعالى : إذا كان السياق في قصة معينة ، وأراد الله أن يحكم على ذلك المعين بحكم، لا يخصص الحكم بهذا السياق فقط ، بل يعممه على الوصف العام ، ويشمل به من دخل في نفس الوصف ليكون أعم، ويدخل فيه كل من عمل بنفس العمل ، فينطبق عليه نفس الحكم ، ففي هذه الآية  أن الله تعالى لم يقل في آخر الآية - وما كيدهم إلا في ضلال  – بل عمم الحكم على كل كيد كافر وليس كيد فرعون وقومه خاصة ، فقال تعالى في نهاية الآية (وَمَا كَيْدُ الْكَافِرِينَ إِلَّا فِي ضَلَالٍ ) كل الكافرين هذا مصير كيدهم .
ثم يبدأ جدل بين الباطل والحق ، فترى ضعف حجة الباطل وأهله ومع ذلك مهو مقنع لمن اتبعه من السفهاء،  يبدأ هذا الجدل  فرعون ( وقَالَ فِرْعَوْنُ ) متكبرًا متجبرًا مغررًا بقومه السفهاء: ( ذَرُونِي أَقْتُلْ مُوسَى وَلْيَدْعُ رَبَّهُ ) أي: إنه يستأذنهم بأن يقتل موسى ، كان لإذنهم عنده حساب ، وأنه لا يخافه إن دعا ربه، ثم يموه علهم سبب إرادته قتل موسى عليه السلام  بأنه يخاف عليهم أن يفسد عليهم يدنهم الذي هم عليه وهو عبادته هو وحده من دون الله  – وليس هو من يخاف على نفسه وحكمه أن يضيع – فهو ناصح لهم ، ويريد إزالة الشر من الأرض قبل أن يقع ..، فقال: ( إِنِّي أَخَافُ أَنْ يُبَدِّلَ دِينَكُمْ أَوْ أَنْ يُظْهِرَ فِي الْأَرْضِ الْفَسَادَ ) وهذا من أعجب ما يكون، أن يكون شر الخلق ينصح الناس عن اتباع خير الخلق هذا من التمويه والترويج الذي لا يدخل إلا عقل من قال الله فيهم: ( فَاسْتَخَفَّ قَوْمَهُ فَأَطَاعُوهُ إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمًا فَاسِقِينَ ) الزخرف 54
( وَقَالَ مُوسَى إِنِّي عُذْتُ بِرَبِّي وَرَبِّكُمْ مِنْ كُلِّ مُتَكَبِّرٍ لَا يُؤْمِنُ بِيَوْمِ الْحِسَابِ ) حينها قال موسى عليه السلام أي: التجأت وامتنعت بربوبية ربي الواحد وربكم أنتم أيضا الذي دبر جميع الأمور من شر كل متكبر يمنعه تكبره واستعظامه لنفسه أن يؤمن بيوم يحاسب فيه ، فينشر الشر والفساد في الأرض ، يدخل في القول فرعون وغيره، كما تقدم قريبًا في القاعدة، فمنعه الله تعالى بلطفه من فرعون وملئه، وقيض له من الأسباب ما اندفع به عنه شرهم.
مؤمن آل فرعون :ـ
ومن جملة الأسباب، هذا الرجل المؤمن، الذي هو من آل فرعون، من بيت الحكم، لا بد أن يكون له كلمة مسموعة، وخصوصًا إذا كان يظهر موافقتهم ويكتم إيمانه، فإنهم يراعونه في الغالب ما لا يراعونه لو خالفهم في الظاهر، كما منع الله رسوله محمدًا بعمه أبي طالب من قريش، حيث كان أبو طالب كبيرًا عندهم، موافقًا لهم على دينهم، ولو كان مسلمًا لم يحصل منه ذلك المنع.
وحوار الرجل المؤمن مع قومه يظهر فيه حكمته في الحوار ، وكياسته ، وإليك التفصيل:
-      أولها : يأتيهم بالحجج الواضحة التي تعارض حكمهم على نبي الله موسى عليه السلام بالقتل ؛ فقال ذلك الرجل المؤمن الموفق العاقل الحازم، مقبحًا فعل قومه: ( أَتَقْتُلُونَ رَجُلًا أَنْ يَقُولَ رَبِّيَ اللَّهُ ) أي: كيف تستحلون قتله، وهذا ذنبه وجرمه، أنه يقول ربي الله، ولم يكن أيضا قولاً مجردًا عن البينات، ولهذا قال: ( وَقَدْ جَاءَكُمْ بِالْبَيِّنَاتِ مِنْ رَبِّكُمْ ) لأن بينته اشتهرت عندهم اشتهارًا علم به الصغير والكبير، فهل يقتل بعد وضوح بينته ؟.
-      وثانيها : ومن  حكمته في محاورتهم : قال لهم مقالة عقلية تقنع كل عاقل، قال: لم تقتلونه فإنه :( وَإِنْ يَكُ كَاذِبًا فَعَلَيْهِ كَذِبُهُ وَإِنْ يَكُ صَادِقًا يُصِبْكُمْ بَعْضُ الَّذِي يَعِدُكُمْ )
أي: إن موسى بين أمرين، إما كاذب في دعواه أو صادق فيها، فبدأ باحتمال كونه كاذبا ، وفي هذا مجارات لقومه على رأيهم ليتقرب إليهم ، فهو منهم ويقول بقولهم ، ويحاورهم بما يقولون فإن كان كاذبًا فكذبه عليه، وضرره مختص به، وليس عليكم في ذلك ضرر حيث امتنعتم من إجابته وتصديقه، ولا تقتلوه ،  وإن كان صادقًا وقد جاءكم بالبينات، فإنه لا بد أن يصيبكم بعض الذي يعدكم، وهو عذاب الدنيا إن كفرتم بما جاء به ، والنعيم إن آمنتم.
وهذا من حسن عقله، فجعل أمر موسى عليه السلام دائراً بين  دائرًا حالتين، وعلى كل تقدير فقتله سفه وجهل منكم.
-      وثالثها : أنه  انتقل غفر له - إلى أمر أعلى من ذلك، وبيان قرب موسى من الحق فقال: ( إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ ) مسرف  أي: متجاوز الحد بترك الحق والإقبال على الباطل. ( كَذَّابٌ ) أي بنسب ما أسرف فيه إلى الله، فهذا لا يهديه الله إلى طريق الصواب، ولا يوفق للصراط المستقيم، فقد رأيتم ما جاء به من الأدلة والحجج التي لم تقدروا عليها دحضها ، فكيف وفق إليها إن كان كاذباً؟  فالذي اهتدى هذا الهدى لا يمكن أن يكون مسرفًا ولا كاذبًا. وهذه حجة أخرى لمؤمن آل فرعون بينة واضحه لمن اراد الحق  وسعى له .- الآن عرفت مناسبة وصف موسى بهاتين الصفتين في نهاية هذه الآية –
-      ورابعها : في حكمته في محاورته قومه : يذكرهم بما هم عليه من النعم ربهم عليهم ، يخوفهم من زوالها ، وبيّن لهم أنه شفيق عليهم ناصح ،فقال  ( يَا قَوْمِ لَكُمُ الْمُلْكُ الْيَوْمَ  ظَاهِرِينَ فِي الْأَرْضِ) أي: ملكتم في الدنيا على رعيتكم، وأنفذتم فيهم ما شئتم من التدبيرفبالرغم من كل هذا الملك والقدرة لنا في الدنيا ( فَمَنْ يَنْصُرُنَا مِنْ بَأْسِ اللَّهِ إِنْ جَاءَنَا) أي: عذابه ؟ وهذا أيضا من حسن دعوته، حيث جعل الأمر مشتركًا بينه وبينهم بقوله: { فَمَنْ يَنْصُرُنَا )وقوله: ( إِنْ جَاءَنَا ) لييين لهم أنه ينصح لهم كما ينصح لنفسه، ويرضى لهم ما يرضى لنفسه.
-      ضعف حجة الكافر :
فـ { قَالَ فِرْعَوْنُ } ردا على كل ما سمع من الأدلة، ومغررًا لقومه وكأنه مخلصا في إرادته لهم ما يريده لنفسه ( مَا أُرِيكُمْ إِلَّا مَا أَرَى وَمَا أَهْدِيكُمْ إِلَّا سَبِيلَ الرَّشَادِ ) وهو قد كذب في قوله هذا ، فقد فضحه الله تعالى عالم الغيب والشهادة ، ويعلم ما تكنُّ الأنفس وما تخفي الصدور ، قال عنه (وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنفُسُهُمْ ظُلْمًا وَعُلُوًّا ...﴿النمل: 14﴾ فهو
لم ير  الحق مع نفسه ، بل رأى الحق مع موسى، وجحد به وهو مستيقنٌ له.
وكذب في قوله: ( وَمَا أَهْدِيكُمْ إِلَّا سَبِيلَ الرَّشَادِ ) وليس كل من يدعي ذلك يصدق إن لم يأت ببراهين تؤيده .
-      وخامس مظاهر حكمة مؤمن آل فرعون في الدعوة : أنه يظهر الشفقة عليهم، ويذكرهم بالأقوام السابقة: وخوفه عليهم أن يصيبهم ما أصاب الأمم السابقة حيث كذبت رسلها، ( وَقَالَ الَّذِي آمَنَ ) مكررًا دعوة قومه غير آيس من هدايتهم، ( يَا قَوْمِ إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ مِثْلَ يَوْمِ الْأَحْزَابِ ) يعني الأمم المكذبين، الذين تحزبوا على أنبيائهم، واجتمعوا على معارضتهم، ثم بينهم ( مِثْلَ دَأْبِ قَوْمِ نُوحٍ وَعَادٍ وَثَمُودَ وَالَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ ) أي: مثل عادتهم في الكفر والتكذيب وعادة الله فيهم بالعقوبة العاجلة في الدنيا قبل الآخرة، ( وَمَا اللَّهُ يُرِيدُ ظُلْمًا لِلْعِبَادِ ) فيعذبهم بغير ذنب أذنبوه، ولا جرم أسلفوه. وهنا يظهر أن أهل مصر أيضا كانوا تأتيهم أخبار الأمم من حولهم والرسل قبل موسى عليه السلام.
-      ولما خوفهم العقوبات الدنيوية، خوفهم العقوبات الأخروية، فقال: ( وَيَا قَوْمِ إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ يَوْمِ التَّنَادِ ) أي: يوم القيامة، حين ينادي أهل الجنة أهل النار: ( أَنْ قَدْ وَجَدْنَا مَا وَعَدَنَا رَبُّنَا حَقًّا ) وأهل الجنة أهل النار ، وأهل الأعراف كلاهما ،  إلى آخر الآيات.
وحين ينادي أهل النار مالكًا ( ليقض علينا ربك ) فيقول:(  إِنَّكُمْ مَاكِثُونَ ) وحين ينادون ربهم: ( رَبَّنَا أَخْرِجْنَا مِنْهَا فَإِنْ عُدْنَا فَإِنَّا ظَالِمُونَ ) فيجيبهم: ( اخْسؤُوا فِيهَا وَلَا تُكَلِّمُونِ )
فخوفهم من  هذا اليوم المهول إن أقاموا على شركهم ، وقال: ( يَوْمَ تُوَلُّونَ مُدْبِرِين ) أي: قد ذهب بكم إلى النار ( مَا لَكُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ عَاصِمٍ ) لا من أنفسكم قوة تدفعون بها عذاب الله، ولا ينصركم من دونه من أحد.
( وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ ) لأن الهدى بيد الله تعالى، يهدي به من طلب الهدى وعمل له ومن ليس كذلك، لخبث نفسه فلا سبيل إلى هدايته.
-      وخامسها : أن يذكرهم بما كان من نبي الله يوسف ، وقد كان بين أظهرهم ، وهم أعلم وأدرى الخلق به ، وذلك من ذكائه وحكمته ، وفموسى عليه السلام من نسل يوسف وبني إسرائيل عموما ، وهو نبي قد بشرهم من قبل ببعثه نبي الله موسى عليه السلام :ـ ( وَلَقَدْ جَاءَكُمْ يُوسُفُ مِنْ قَبْلُ ) بن يعقوب عليهما السلام جاءهم بالبينات الدالة على صدقه من قبل إتيان موسى بها، وأمركم بعبادة ربكم وحده لا شريك له، ( فَمَا زِلْتُمْ فِي شَكٍّ مِمَّا جَاءَكُمْ بِهِ ) في حياته ( حَتَّى إِذَا هَلَكَ )ازداد شككم وشرككم، و ( قُلْتُمْ لَنْ يَبْعَثَ اللَّهُ مِنْ بَعْدِهِ رَسُولًا ) هذا ظنكم الباطل، فإنه تعالى لا يترك خلقه سدى، لا يأمرهم وينهاهم، ويرسل إليهم رسله، ولهذا قال: ( كَذَلِكَ يُضِلُّ اللَّهُ مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ مُرْتَابٌ ) وهذا هو وصفهم الحقيقي الذي وصفوا به موسى ظلمًا، فهم المسرفون بتجاوزهم الحق وعدولهم عنه إلى الضلال،المرتابون إذ ظنوا هذا الظن بربهم – تذكر : هم قالوا عن موسى في الآية (... مسرف كذاب ) ، ورد عليهم مؤمن آل فرعون بأنهم هم من يستحق أن يقال عنه أنه ( مسرف مرتاب ) وجاء بلفظ ( مرتاب .. ) بدل كذاب ، لأنهم ظنوا أن الله لن يبعث رسولا بعد يوسف عليه السلام.  ثم ذكر وصف المسرف المرتاب فقال: ( الَّذِينَ يُجَادِلُونَ فِي آيَاتِ اللَّهِ بِغَيْرِ سُلْطَانٍ أَتَاهُمْ ) أي: بغير حجة وبرهان، وهذا وصف لازم لكل من جادل في آيات الله، فإنه من المحال أن يكون عنده برهان، لأن الحق لا يعارضه معارض، فلا يمكن أن يعارض بدليل شرعي أو عقلي أصلا، ( كَبُرَ مَقْتًا عِنْدَ اللَّهِ وَعِنْدَ الَّذِينَ آمَنُوا ) كبر مقت الله لهؤلاء المجادلون بغير دليل عندهم ، لأنه تضمن التكذيب بالحق والتصديق بالباطل ونسبته إليه، وهذه أمور يشتد بغض الله لها ولمن اتصف بها، وكذلك عباده المؤمنون يمقتون على ذلك أشد المقت موافقة لربهم، وهؤلاء خواص خلق الله تعالى،( كَذَلِكَ يَطْبَعُ اللَّهُ عَلَى كُلِّ قَلْبِ مُتَكَبِّرٍ جَبَّارٍ) أي: كما طبع على قلوب آل فرعون،يطبع على قلب كل متكبر في نفسه على الحق برده ، وعلى الخلق باحتقارهم، جبار بكثرة ظلمه وعدوانه.لاحظ كيف لا يمكن نسيان ختام هذه الآية فأي وصف هو الزم لفرعون وملئه من هذا : متكبر غمط الحق وأنكره ، وتجبر على العباد.....!!
( وَقَالَ فِرْعَوْنُ  يَا هَامَانُ ابْنِ لِي صَرْحًا ) أي: بناء عظيمًا مرتفعًا، والقصد منه لعلي أطلع { إلى إله موسى وإني لأظنه كاذبًا ) في دعواه أن لنا ربًا، وأنه فوق السماوات.وهنا يعود فرعون ليؤكد أنه ( يظن ) وليس بمستيقن أبداً .
وهكذا رأى فرعون عمله السيء حسنا ، زينه الشيطان في عينه وهو من أعظم المفسدين،  ( وَكَذَلِكَ زُيِّنَ لِفِرْعَوْنَ سُوءُ عَمَلِهِ ) وصدت أبواب الخير بوجهه: ( وَصُدَّ عَنِ السَّبِيلِ ) سبيل الحق، بسبب الباطل الذي زين له. ( وَمَا كَيْدُ فِرْعَوْنَ إِلَّا فِي تَبَابٍ) الذي أراد أن يكيد به الحق، ويثبت به وأن موسى على باطل ،كيده هذا لا يفيده إلا الشقاء في الدنيا والآخرة.
-      ومن حكمة مؤمن آل فرعون أنه تحدث إليهم بلغتهم والفاظهم (  وَقَالَ الَّذِي آمَنَ ) معيدًا نصيحته لقومه: ( يَا قَوْمِ اتَّبِعُونِ أَهْدِكُمْ سَبِيلَ الرَّشَادِ ) فهذا هو سبيل الرشاد ، وليس سبيل فرعون فإنه لا يهديكم إلا طريق الغي والفساد.
-      توجيه أخير من مؤمن آل فرعون لقومه ، في بيان حقيقة الحياة الدنيا بالنسبة للآخرة فهي متاع قليل فاني ( يَا قَوْمِ إِنَّمَا هَذِهِ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا مَتَاعٌ ) يتمتع بها قليلاً، ثم تزول ،فلا تغرنكم عما خلقتم له ( وَإِنَّ الْآخِرَةَ هِيَ دَارُ الْقَرَارِ ) التي هي محل الإقامة، ومنزل السكون والاستقرار، فينبغي أن تعملوا لها أعمالا تسعدكم فيها.
فإنه من البديهي والعدل أن ( مَنْ عَمِلَ سَيِّئَةً ) من شرك أو فسوق أو عصيان في هذه الحياة ( فَلَا يُجْزَى إِلَّا مِثْلَهَا ) لا يجازى إلا بما يسوؤه ويحزنه في الحياة الباقية، لأن جزاء السيئة السوء.
وبالمقابل (  وَمَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى ) من أعمال القلوب والجوارح، وأقوال اللسان ( فَأُولَئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ يُرْزَقُونَ فِيهَا بِغَيْرِ حِسَابٍ ) يعطون أجرهم بلا حد ولا عد، بل يعطيهم الله ما لا تبلغه أعمالهم.
وإن كان الأمر كذلك فيا عجبا لكم يا قوم ( وَيَا قَوْمِ مَا لِي أَدْعُوكُمْ إِلَى النَّجَاةِ  وَتَدْعُونَنِي إِلَى النَّارِ ) بترك اتباع نبي الله موسى عليه السلام.
ثم فسر طريق النار بأنه بسبب أنكم: ( تَدْعُونَنِي لِأَكْفُرَ بِاللَّهِ وَأُشْرِكَ بِهِ مَا لَيْسَ لِي بِهِ عِلْمٌ ) أنه يستحق أن يعبد من دون الله، والقول على الله بلا علم من أكبر الذنوب وأقبحها،بينما ( وَأَنَا أَدْعُوكُمْ إِلَى الْعَزِيزِ ) الذي له القوة والمنعة كلها، ( الْغَفَّارُ ) ومع عزته ومنعته وعدم حاجته لغيره ، مع كون الجميع محتاج إليه ، فهو كثير الغفران لعباده الذي أسرفوا على أنفسهم باتباع أهواءهم ، وانغمسوا بالمعاصي ثم تابوا وأنابوا إليه .فكفر عنهم السيئات والذنوب.
( لَا جَرَمَ ) أي: حقًا يقينًا ، ولا شك ( أَنَّمَا تَدْعُونَنِي إِلَيْهِ لَيْسَ لَهُ دَعْوَةٌ فِي الدُّنْيَا وَلَا فِي الْآخِرَةِ ) أي: لا يستحق من الدعوة إليه  في الدنيا ولا في الآخرة، لوضوح بطلانه ، وأنه لا يملك نفعًا ولا ضرًا ولا موتًا ولا حياة، ولا نشورًا.
ولا شك ( وَأَنَّ مَرَدَّنَا إِلَى اللَّهِ ) تعالى فسيجازي كل عامل بعمله. ( وَأَنَّ الْمُسْرِفِينَ هُمْ أَصْحَابُ النَّارِ ) وهم الذين أسرفوا على أنفسهم بمعصيه ربهم وخالقهم والكفر به، دون غيرهم.
فلما نصحهم وحذرهم وأنذرهم ولم يطيعوه ولا وافقوه قال لهم:
( فَسَتَذْكُرُونَ مَا أَقُولُ لَكُمْ ) من هذه النصيحة، وسترون مغبة عدم قبولها حين يحل بكم العقاب، وتحرمون جزيل الثواب.
( وَأُفَوِّضُ أَمْرِي إِلَى اللَّهِ ) أي: ألجأ إليه وأعتصم، وألقي أموري كلها لديه، وأتوكل عليه في مصالحي ودفع الضرر الذي يصيبني منكم أو من غيركم. ( إِنَّ اللَّهَ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ ) يعلم أحوالهم وما يستحقون، يعلم حالي وضعفي فيمنعني منكم ويكفيني شركم.
وكنتيجة لتوكله على العزيز القوي  أن (  فَوَقَاهُ اللَّهُ سَيِّئَاتِ مَا مَكَرُوا ) أي: وقى الله القويّ، ذلك الرجل المؤمن الموفق، من سوء ما مكروا به ، فهم أرادوا به كيدًا فحفظه الله من كيدهم ومكرهم ، وانقلب كيدهم ومكرهم على أنفسهم، ( وَحَاقَ بِآلِ فِرْعَوْنَ سُوءُ الْعَذَابِ ) أن أغرقهم الله تعالى عن آخرهم في اليم.
ثم وفي البرزخ يذوقون طعم العذاب المؤجل لهم ( النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا غُدُوًّا وَعَشِيًّا وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذَابِ) وعرضها عليهم ، وعلمهم أنها لا شك ستحيق بهم ، هو بحد ذاته  أشد من العذاب ، وانتظار العذاب عذاب أشد منه .  


وهذه أبيّن الآيات وأوضحها على وجود عذاب القبر أعذنا الله منه  ، فقد جاء في أول الآية (النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا غُدُوّاً وَعَشِيّاً ) [غافر:46]، فالنار يعرضون عليها وهم في القبور، وذلك أنه يفتح له روزنة -أو نافذة وهو في قبره- فيرى مقعده في النار إذا كان من أهل النار، ويفتح له نافذة على الجنَّة فيقال له هذا مقعدك في الجنة لو كنت من أهل الجنة، فيزداد بؤساً وندامة، ويفتح له لهيب ونار وحرقة إلى النار حتى يبعث؛ ولذلك المجرم يقول: اللهم لا تقم الساعة، فيستمر في ندم وحسرة حتى يقيم الله الساعة فهذا عذاب القبر، ثم يقول ربنا تبارك وتعالى : ( وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذَابِ )[غافر:46] ، فهذا في عذاب النار يوم القيامة .  
اللهم أعذنا من عذاب القبر ، ومن عذاب النار ، وأدخلنا الجنة مع الأبرار بدون سابقة حساب ولا عذاب

نهاية قصة مؤمن آل فرعون مع قومه ، وهي نهاية الجزء الثاني من سورة غافر
يتبع من الجزء الثالث والأخير من سورة غافر إن شاء الله تعالى .
اللهم أعذنا من عذاب القبر ، ومن عذاب النار ، وأدخلنا الجنة مع الأبرار بدون سابقة حساب ولا عذاب
نهاية قصة مؤمن آل فرعون مع قومه ، وهي نهاية الجزء الثاني من سورة غافر
يتبع من الجزء الثالث والأخير من سورة غافر إن شاء الله تعالى .

فائدة في : الهكسوس والفراعنه  
ننبه هنا أن الله تعالى ذكر اسم ملك مصر في كل مواضعه في القرآن على أنه فرعون ، إلا في سورة يوسف فقال عنه أنه ( ملك مصر ) ، وكل المفسرين السابقين والمحدثين على أن  فترة وجود يوسف عليه السلام في مصر ، حكم قبائل الهكسوس من بلاد الشام مصر ، وقد وجدت تفسير أدق لهذا : ( منقول من موقع أهل التفسير )
لم يحل الهكسوس محل الفراعنه في مصر ، ولكن ما حدث عبر التاريخ أن
الهكسوس وهم قبائل من بلاد الشام احتلوا  شمال مصر لما يقارب الـقرنين من الزمن. أما الجنوب فاستمر فيه حكم الملوك الفراعنة.وحكموا الجزء الشمالي منها فقط ،وكان  رعايا الهكسوس في الشمال المصري هم رعايا الفراعنة ، وهم أهل بلاد مصر في ذلك الزمن ، بالإضافة إلى الهكسوس الذين وفدوا فاتحين للشمال.
إذن لم يحل الهكسوس محل الفراعنة، بل محل سلطة ملوك الفراعنة. وهكذا كان الأمر في كل الشعوب القديمة يتغير رأس السلطة ويكون الولاء للحاكم.
من هنا كانت دعوة يوسف هي  للهكسوس وللفراعنة في مصر، بل إن مجيء أهله من البدو في فلسطين إلى مصر لأخذ الميرة يشعرك بوحدة الحال، حيث كان الهكسوس قبائل بدوية قادمة من بلاد الشام.
 



No comments:

Post a Comment