Wednesday 22 January 2014

سورة غافر - تفسير وربط الآيات وبيان المتشابهات لتثبيت الحفظ ج 3




 


الجزء الثالث والأخير من...
 التفسير المبسط وربط المتشابهات وتثبيت الحفظ لسورة غافر 

انتهى كلام مؤمن آل فرعن بأن حذرهم بان المسرفين الذين أسرفوا على أنفسهم بالكفر بالله وارتكاب المعاصي هم أصحاب النار ، وهنا يبدأ فصل جديد في التنفير من هذا المصير  فخبر الله  تعالى عن تخاصم أهل النار، وعتاب بعضهم بعضًا واستغاثتهم بخزنة النار فقال سبحانه : ( وَإِذْ يَتَحَاجُّونَ فِي النَّارِ فَيَقُولُ الضُّعَفَاءُ لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا) يحتج التابعون بإغواء المتبوعين لهم ،فقالوا: ( إِنَّا كُنَّا لَكُمْ تَبَعًا )  تابعين لكم بما ـامروننا به ، فزينتم لنا الشرك والشر ( فَهَلْ أَنْتُمْ مُغْنُونَ عَنَّا نَصِيبًا مِنَ النَّارِ )أي:تأخذون عنا ولو جزءً قليلاً.
( قَالَ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا إِنَّا كُلٌّ فِيهَا إِنَّ اللَّهَ قَدْ حَكَمَ بَيْنَ الْعِبَادِ )  فهم هنا قد بينوا عجزهم عن انقاذ حتى أنفسهم فضلا عن نفع غيرهم، فقد حكم الحاكم المطلق الخالق العظيم أن جميع المسرفين فيها ، فهي مثواهملكل منهم قسطه لا يزيد ولا ينقص. ثم يتوجه هؤلاء المستكبرين إلى خزنة جهنم ( وَقَالَ الَّذِينَ فِي النَّارِ ) من المستكبرين والضعفاء ( لِخَزَنَةِ جَهَنَّمَ ادْعُوا رَبَّكُمْ يُخَفِّفْ عَنَّا يَوْمًا مِنَ الْعَذَابِ ) لعله تحصل بعض الراحة. سأل المستكبرين خزنة جهنم أن يدعوا لهم ربهم ، فقالوا لهم
فـكان جواب الخزنة ( قَالُوا أَوَ لَمْ تَكُ تَأْتِيكُمْ رُسُلُكُمْ بِالْبَيِّنَاتِ ) لهم موبخين سائلينهم ؛ أولم تأتيكم رسل معهم البينات التي تبينتم بها الحق والصراط المستقيم، وما يقرب من الله وما يبعد منه، فان لابد أن يعترفوا ( قَالُوا بَلَى ) ، فكان جواب الخزنة عند ذلك أنم لا تستحقون أن ندعوا لكم ما دمتم كذبتم بما جاء به الرسل ،بل  ( قَالُوا فَادْعُوا وَمَا دُعَاءُ الْكَافِرِينَ إِلَّا فِي ضَلَالٍ )بل ادعوا أنتم ولكن هذا الدعاء لن يغنيكم شيئا ،فدعاءكم باطل ضائع ، لأن الكفر محبط لجميع الأعمال صادّ لإجابة الدعاء.

ثم يبين ربنا أنه لن يستجيب لهؤلاء الكفرة ولا ينصرهم ، ولكنه ينصر من آمن به ، فقال: (  إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ) ونصره سبحانه لأوليائه يكون بتثبيتهم بالحجة والبرهان على أعدائهم في الحياة الدنيا، في الآخرة بالحكم لهم ولأتباعهم بالثواب، ولمن حاربهم بشدة العقاب، وذلك اليوم هو  ( يَوْمَ لَا يَنْفَعُ الظَّالِمِينَ مَعْذِرَتُهُمْ ) حين يعتذرون ( وَلَهُمُ اللَّعْنَةُ وَلَهُمْ سُوءُ الدَّارِ ) لهم دار السوء التي تسوء نازليها.
وختاما لقصة موسى مع فرعون يجملها بالتأكيد على أن موسى عليه السلام قد جاء بـ الهدى الذي جعله الله ميراثا لبني إسرائيل فقال سبحانه ( وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْهُدَى وَأَوْرَثْنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ الْكِتَابَ ) أي جعلناه متوارثًا بينهم، من قرن إلى آخر، وهو التوراة، وذلك الكتاب مشتمل على الهدى يذكر بالخير للترغيب فيه، ويبعد عن الشر بالترهيب عنه، وليس بنافع كل أحد، وإنما هو ( لِأُولِي الْأَلْبَابِ)
والعبرة من ذكر ما حدث مع الرسل  هي التسلية لنبينا ، وحثه على الصبر  فإن وعد الله ( فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ ) فوعده تعالى ليس مشكوكًا فيه، وإنما هو الحق المحض، والهدى الصرف، الذي يصبر عليه الصابرون، ويجتهد في التمسك به أهل البصائر.
( وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ ) فأمره بالصبر الذي فيه يحصل المحبوب، وبالاستغفار الذي فيه دفع المحذور، وبالتسبيح بحمد الله تعالى خصوصًا في أوقات ( بِالْعَشِيِّ وَالْإِبْكَارِ ) اللذين هما أفضل الأوقات، وفيهما مما علمنا إياه رسولنا الكريم من الأوراد و الواجبة والمستحبة ما فيهما، لأن في ذلك عونًا على جميع الأمور.

( إِنَّ الَّذِينَ يُجَادِلُونَ فِي آيَاتِ اللَّهِ بِغَيْرِ سُلْطَانٍ أَتَاهُمْ إِنْ فِي صُدُورِهِمْ إِلَّا كِبْرٌ مَا هُمْ بِبَالِغِيهِ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ )
وآيات الله تعالى واضحة بينة ، ومن جادل في آياته ، بغير بينة من أمره ولا حجة، إن جداله هذا إنما هو صادر من كبر في صدورهم على الحق وعلى من جاء به، يريدون الاستعلاء عليه بما معهم من الباطل، فهذا قصدهم ومرادهم.
ولكن هذا لن يتم لهم وليسوا ببالغيه. فهذا نص صريح، وبشارة، بأن كل من جادل الحق أنه مغلوب.
( فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ ) فاستعذ بالله من الكبر الذي يوجب التكبر على الحق، واستعذ بالله من شياطين الإنس والجن، واستعذ بالله من جميع الشرور.
( إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ) فهو سبحانه سميع لجميع الأصوات على اختلافها، ومبصر بجميع المرئيات، بأي محل وموضع وزمان كانت.
ثم ياتي الله عز وجل بدليل على الإعادة للبشر من الخلق ، فقال سبحانه :
( لَخَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ أَكْبَرُ مِنْ خَلْقِ النَّاسِ )
يخبر تعالى بما تقرر في العقول، أن خلق السماوات والأرض -على عظمهما وسعتهما- أعظم وأكبر، من خلق الناس، فإن الناس بالنسبة إلى خلق السماوات والأرض من أصغر ما يكون فالذي خلق الأجرام العظيمة وأتقنها، قادر على إعادة الناس بعد موتهم من باب أولى وأحرى.
وليس كل أحد ويقبل بتدبره، ولهذا قال: ( وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ ) ولذلك لا يعتبرون بذلك.
ولذلك قال تعالى بعدها  ( وَمَا يَسْتَوِي الْأَعْمَى وَالْبَصِيرُ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَلَا الْمُسِيءُ )  أي: كما لا يستوي الأعمى والبصير، كذلك لا يستوي من آمن بالله وعمل الصالحات، ومن كان مستكبرًا على عبادة ربه، فامناسبة ذكر الأعمى والبصير هو تشبيه من لم يتعظ بخلق السموات والأرض ، وبالخلق عموما ويستدل منها على البعث فهو كالأعمى ، فلا يستوى هذا مع المبصر ، ومثلها لا يستوى المؤمن بالمستكبر الكافر (  قَلِيلًا مَا تَتَذَكَّرُونَ )
( إِنَّ السَّاعَةَ لَآتِيَةٌ لَا رَيْبَ فِيهَا وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يُؤْمِنُونَ )  قد أخبرت بالساعة الرسل الذين هم أصدق الخلق ونطقت بها الكتب السماوية، ولكن مع ذلك فكثير من الناس لا يؤمنون بها .
( وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ )
هذا من لطفه بعباده، ونعمته العظيمة، حيث دعاهم إلى ما فيه صلاح دينهم ودنياهم، وأمرهم بدعائه، دعاء العبادة، ودعاء المسألة، ووعدهم أن يستجيب لهم، وتوعد من استكبر عنها فقال: ( إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ ) أي: ذليلين حقيرين، يجتمع عليهم العذاب والإهانة، جزاء على استكبارهم.
فائدة :
دعا ربنا في بداية هذه الآية عباده إلى(  دعائه)  وسؤاله ، وفي نهايتها توعد الذين يستكبرون عن ( عبادته ) ، فانظر إلى ربطه بين الدعاء  والعبادة ، والتبديل بين الفظين مما يوحي أنهما شيء واحد ، فهو كما جاء في سنن الترمذي عن النعمان بن البشير قال رسول الله  (الدُّعاءُ هوَ العبادةُ ثمَّ قال ( وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ) حسن صحيح  .

وبعد أن أمر الله تعالى بدعائه وعبادته ، بين لهم انه المستحق لذلك ، فهو الخالق وبعد الخلق جعل في الأرض ما ينفع خلقه ويصلحهم ، جعل الليل والنهار ، فهو صاحب الفضل على عباده والمستحق للشكر والحمد على نعمه وآلائه ، ولكن أكثر الناس لا يشكرون ، ثم يؤكد على أنه ( ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ)فكيف تنصرف عقولكم عن عبادته ، ولكن لا ينصرف إلا الجاحدين لآيات الله (  كَذَلِكَ يُؤْفَكُ الَّذِينَ كَانُوا بِآيَاتِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ ) ، ثم بيّن أن بعد الخلق يكون الجعل ، فقال: ( اللَّهُ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ قَرَارًا ) أي: قارة ساكنة، مهيأة لكل مصالحكم، تتمكنون من حرثها وغرسها، والبناء عليها، والسفر، والإقامة فيها. (وَالسَّمَاءَ بِنَاءً ) سقفًا للأرض،( وَصَوَّرَكُمْ فَأَحْسَنَ صُوَرَكُمْ )  فليس في جنس الحيوانات، أحسن صورة من بني آدم، ( وَرَزَقَكُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ ) وهذا شامل لكل طيب، من مأكل، ومشرب، ومنكح، وملبس، ومنظر، ومسمع، وغير ذلك، من الطيبات التي يسرها الله لعباده، ومنعهم من الخبائث، التي تضادها، وتضر أبدانهم، وقلوبهم، وأديانهم، ( ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ) الذي دبر الأمور، وأنعم عليكم بهذه النعم  ( فَتَبَارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ) أي: تعاظم، وكثر خيره وإحسانه، المربي جميع العالمين بنعمه.
( هُوَ الْحَيُّ ) الذي له الحياة الكاملة التامة، وصف نفسه بما يستلزم هذه الحياة من الصفات الذاتية، التي لا تتم حياته إلا بها، كالسمع، والبصر، والقدرة، والعلم، والكلام، وغير ذلك، من صفات كماله، ونعوت جلاله.
( لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ ) أي: لا معبود بحق، إلا وجهه الكريم. ( فَادْعُوهُ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ ) أي: اقصدوا بكل عبادة ودعاء وعمل، وجه الله تعالى، ( الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ ) فجميع المحامد والمدائح والثناء، بالقول كنطق الخلق بذكره، والفعل، كعبادتهم له، كل ذلك للّه تعالى وحده لا شريك له، لكماله في أوصافه وأفعاله، وتمام نعمه.
ثم  صرح بالنهي عن عبادة ما سواه فقال: ( قُلْ إِنِّي نُهِيتُ أَنْ أَعْبُدَ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ ) قل يا أيها النبي إني نهيت أن أعبد ما تدعون أنتم من الأوثان والأصنام، وكل ما عبد من دون الله.وذلك  ( لَمَّا جَاءَنِيَ الْبَيِّنَاتُ مِنْ رَبِّي وَأُمِرْتُ أَنْ أُسْلِمَ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ )  بقلبي ولساني، وجوارحي، بحيث تكون منقادة لطاعته، مستسلمة لأمره، وهذا أعظم مأمور به، على الإطلاق، كما أن النهي عن عبادة ما سواه، أعظم مَنْهِيٍّ عنه، على الإطلاق.
واستحقاقه سبحانه بالتفرد بالعبادة ،لأنه هو المتفرد بالخلق ، فهو الخالق لكم والمطور لخلقتكم، فكما خلقكم وحده، فاعبدوه وحده فقال: ( هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ تُرَابٍ ) وذلك بخلقه لأصلكم وأبيكم آدم عليه السلام. ( ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ) وهذا ابتداء خلق سائر النوع الإنساني، ما دام في بطن أمه، فنبه بالابتداء، على بقية الأطوار، من العلقة، ويلاحظ أنه في هذه الآية ذكر فقط طورين من أطوار تخلق الجنين في بطن أمه وهما ؛ النطفة والعلقة ، ثم قال (  ثُمَّ يُخْرِجُكُمْ طِفْلًا ثُمَّ لِتَبْلُغُوا أَشُدَّكُمْ ثم هكذا تنتقلون في الخلق حتى تبلغوا أشدكم من قوة العقل والبدن، ( ثُمَّ لِتَكُونُوا شُيُوخًا وَمِنْكُمْ مَنْ يُتَوَفَّى مِنْ قَبْلُ )ومعنى قوله ( يتوفى من قبل ) أي يتوفى قبل بلوغ الأشد ( وَلِتَبْلُغُوا ) بهذه الأطوار المقدرة ( أَجَلًا مُسَمًّى وَلَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ ) إلى انتهاء آجالكم لعلكم تعلمون أن المطور لكم في هذه الأطوار كامل الاقتدار.
( هُوَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ ) فهو المنفرد بالإحياء والإماتة، فلا تموت نفس بسبب أو بغير سبب، إلا بإذنه. ( فَإِذَا قَضَى أَمْرًا فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ ) لا رد في ذلك، ولا مثنوية، ولا تمنع.
 ( أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يُجَادِلُونَ فِي آيَاتِ اللَّهِ ) الواضحة البينة ( أَنَّى يُصْرَفُونَ ) كيف ينعدلون عنها؟ وتنصرف عقولكم عن هذه الآيات البيِّنة ؟  بل هؤلاء (الَّذِينَ كَذَّبُوا بِالْكِتَابِ وَبِمَا أَرْسَلْنَا بِهِ رُسُلَنَا ) الذين يكذبون بالكتاب، الذي جاءهم من الله، وبما أرسل الله به رسله، ولهذا توعدهم الله بعذابها فقال:(  فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ )
 
فائدة :
1-          أخبر الله تعالى في هذه السورة عن الذين يجادلون في آيات الله ثلاث مواضع ، في الموضع الأول بصيغة الخبر فقال تعالى (الَّذِينَ يُجَادِلُونَ فِي آيَاتِ اللَّـهِ بِغَيْرِ‌ سُلْطَانٍ أَتَاهُمْ ۖ كَبُرَ‌ مَقْتًا عِندَ اللَّـهِ..) آية 35 ، وفي الآية الثانية بصيغة التأكيد بإن فقال تعالى (إِنَّ الَّذِينَ يُجَادِلُونَ فِي آيَاتِ اللَّـهِ بِغَيْرِ‌ سُلْطَانٍ أَتَاهُمْ ۙ إِن فِي صُدُورِ‌هِمْ إِلَّا كِبْرٌ‌ مَّا هُم بِبَالِغِيهِ  ۚ فَاسْتَعِذْ بِاللَّـهِ ۖ ) آية 56 ، وفي الموضع الثالث جاءت بصيغة استفهام  موجه للنبي   أرأيت إلى الذين يجادلون .. أين ذهبت عقولهم ؟ ، قال تعالى (أَلَمْ تَرَ‌ إِلَى الَّذِينَ يُجَادِلُونَ فِي آيَاتِ اللَّـهِ أَنَّىٰ يُصْرَ‌فُونَ )
2-          وإذا ربطت المعاني في المواضع الثلاثة ببعضها ، تجد أن الذين يجادلون بآيات الله بغير علم يبغضهم الله والمؤمنون كذلك لجدالهم ، وما جدالهم هذا إلا لكبر في أنفسهم عن اتباع الحق وهو بيّن لهم ، فأين ذهبت عقولهم عن اتباع الحق ؟ 

وهؤلاء المجادلون أين هم عن يوم تكون ( إِذِ الْأَغْلَالُ فِي أَعْنَاقِهِمْ ) التي لا يستطيعون معها حركة.(  وَالسَّلَاسِلُ يُسْحَبُونَ في الحميم ) يقرنون بالسلاسل ، هم وشياطينهم ويساقون إلى الحميم وهو الماء الذي اشتد غليانه وحره.( ثُمَّ فِي النَّارِ يُسْجَرُونَ ) يوقد عليهم اللهب العظيم، فيصلون بها، ثم يوبخون على شركهم وكذبهم. ويقال ( لَهُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ تُشْرِكُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ ) هل نفعوكم، أو دفعوا عنكم بعض العذاب؟. ( قَالُوا ضَلُّوا عَنَّا )   غابوا ولم يحضروا، ولو حضروا، لم ينفعوا، ثم إنهم أنكروا فقالوا: ( بَلْ لَمْ نَكُنْ نَدْعُو مِنْ قَبْلُ شَيْئًا ) يحتمل أن مرادهم بذلك، الإنكار، وظنوا أنه ينفعهم ويفيدهم، ويحتمل -وهو الأظهر- أن مرادهم بذلك، الإقرار على بطلان إلهية ما كانوا يعبدون، وأنه ليس للّه شريك في الحقيقة، وإنما هم ضالون مخطئون، بعبادة معدوم الإلهية، ويدل على هذا قوله تعالى: ( كَذَلِكَ يُضِلُّ اللَّهُ الْكَافِرِينَ ) أي: كذلك الضلال الذي كانوا عليه في الدنيا، الضلال الواضح لكل أحد، حتى إنهم بأنفسهم، يقرون ببطلانه يوم القيامة، ويتبين لهم معنى قوله تعالى: { وَمَا يَتَّبِعُ الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ شُرَكَاءَ إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ ) ويدل عليه قوله تعالى: ( وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكْفُرُونَ بِشِرْكِكُمْ )
ويقال لأهل النار ( ذَلِكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَفْرَحُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَبِمَا كُنْتُمْ تَمْرَحُونَ ) أي:إنكم استحققتم لهذا العذاب لأنكم كنتم تفرحون بالباطل الذي أنتم عليه، وتمرحون على عباد الله، بغيًا وعدوانًا، وظلمًا، وعصيانًا، كما قال تعالى في آخر هذه السورة: ( فَلَمَّا جَاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَرِحُوا بِمَا عِنْدَهُمْ مِنَ الْعِلْمِ )
وهذا هو الفرح المذموم الموجب للعقاب، بخلاف الفرح الممدوح الذي قال الله فيه: ( قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُوا ) وهو الفرح بالعلم النافع، والعمل الصالح.فيقال لهم  عند ذلك ( ادْخُلُوا أَبْوَابَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا) لا يخرجون منها أبدًا ( فَبِئْسَ مَثْوَى الْمُتَكَبِّرِينَ ) مثوى يخزون فيه، ويهانون، ويعذبون، ويترددون بين حرها وزمهريرها.
أي ( فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ ) يا أيها الرسول، على دعوة قومك، وعلى ما ينالك منهم، من أذى، فإن الله سينصر دينه، ويُعْلِي كلمته، وينصر رسله في الدنيا والآخرة، وتوقع للكافرين العقوبة في الدنيا والآخرة، وليؤؤكد له وقوعها عليهم بأن يطلب منه الصبر حتى يراها: ( فَإِمَّا نُرِيَنَّكَ بَعْضَ الَّذِي نَعِدُهُمْ ) في الدنيا فذاك ( أَوْ نَتَوَفَّيَنَّكَ فَإِلَيْنَا يُرْجَعُونَ) قبل عقوبتهم فمرجعهم إلينا فنجازيهم بأعمالهم،  ثم سلَّاه وصبَّره، بذكر إخوانه المرسلين فقال:
( وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلًا مِنْ قَبْلِكَ مِنْهُمْ مَنْ قَصَصْنَا عَلَيْكَ وَمِنْهُمْ مَنْ لَمْ نَقْصُصْ عَلَيْكَ ) أرسلنا قبلك رسلا كثيرين إلى قومهم، يدعونهم ويصبرون على أذاهم.منهم من قصصنا عليك خبرهم ، ومنهم لم نقصه عليك ، وما كان لأحد منهم ( أَنْ يَأْتِيَ بِآيَةٍ ) من الآيات السمعية والعقلية ( إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ ) أي: بمشيئته وأمره، فاقتراح المقترحين على الرسل الإتيان بالآيات، ظلم منهم، وتعنت، وتكذيب، بعد أن أيدهم اللّه بالآيات الدالة على صدقهم وصحة ما جاءوا به. ( فَإِذَا جَاءَ أَمْرُ اللَّهِ ) بالفصل بين الرسل وأعدائهم، والفتح. ( قُضِىَ بِالْحَقِّ وَخَسِرَ هُنَالِكَ الْمُبْطِلُونَ) قضى الله بينهم بما يوافقك الحق والصواب بإنجاء الرسل وأتباعهم، وإهلاك المكذبين، المبطلون ، فعملهم باطل ، ونهايتهم على قدر أعمالهم .
ثم يذكر الله عباده ببعض نعمه عليهم ، ويذكِّر بتسخير الأنعام لهم ، وفيها منافع كثيره ، عدد منها هنا ؛ استخدامها للركوب ، والإنتفاع منها بأكلها ، وأنها تسهل عليهم السفر فيبلغوا عليها أماكن ما هم بالغيها بدون ذلك إلا بشق الأنفس ، فقال تعالى :
( اللَّهُ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَنْعَامَ لِتَرْكَبُوا مِنْهَا وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ * وَلَكُمْ فِيهَا مَنَافِعُ وَلِتَبْلُغُوا عَلَيْهَا حَاجَةً فِي صُدُورِكُمْ وَعَلَيْهَا وَعَلَى الْفُلْكِ تُحْمَلُونَ * وَيُرِيكُمْ آيَاتِهِ فَأَيَّ آيَاتِ اللَّهِ تُنْكِرُونَ)
( وَلِتَبْلُغُوا عَلَيْهَا حَاجَةً فِي صُدُورِكُمْ ) من الوصول إلى الأوطان البعيدة، وحصول السرور بها، والفرح عند أهلها. ( وَعَلَيْهَا وَعَلَى الْفُلْكِ تُحْمَلُونَ ) أي: على الرواحل البرية، والفلك البحرية، يحملكم الله الذي سخرها.
( وَيُرِيكُمْ آيَاتِهِ ) الدالة على وحدانيته، ( فَأَيَّ آيَاتِ اللَّهِ تُنْكِرُونَ ) أي: أي آية من آياته لا تعترفون بها؟ فإنكم، قد تقرر عندكم، أن جميع الآيات والنعم، منه تعالى، فلم يبق للإنكار محل.
( أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كَانُوا أَكْثَرَ مِنْهُمْ وَأَشَدَّ قُوَّةً وَآثَارًا فِي الْأَرْضِ فَمَا أَغْنَى عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ ) وكالعادة فالله تعالى ينبه ذوي العقول أن يسيروا في مناحي الأرض سير تفكر وتعقل ، فينظروا كيف عوقبت الأمم البائدة من قبلهم بسبب كفرهم بأنعم الله ، وما كان مآلهم وندمهم حيث لا ينفع الندم ، ولا الإقرار بالحق ، والتوبة .

وهذه الآية قد وردت آية مشابهة لها في موضع سابق في السورة وهي الآية 21 حيث يقول ربنا فيها : (أَوَلَمْ يَسِيرُ‌وا فِي الْأَرْ‌ضِ فَيَنظُرُ‌وا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ كَانُوا مِن قَبْلِهِمْ ۚ كَانُوا هُمْ أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَآثَارً‌ا فِي الْأَرْ‌ضِ فَأَخَذَهُمُ اللَّـهُ بِذُنُوبِهِمْ وَمَا كَانَ لَهُم مِّنَ اللَّـهِ مِن وَاقٍ )
والفروق بين الآيتين :
1-             الآية السابقة في السورة وهي الآية 21 تبدأ بـ ( أولم  ) ، بينما الآية التالية فيها تبدأ بـ( أفلم )
2-             الآية 21 فيها قوله تعالى (عَاقِبَةُ الَّذِينَ كَانُوا مِن قَبْلِهِمْ ) بينما الآية 82 فيها قوله تعالى (عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كَانُوا ..) بتأخير كلمة كانوا عن ( من قبلهم )  .
3-             الآية 21 فيها قوله تعالى (هُمْ أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَآثَارً‌ا فِي الْأَرْ‌ضِ.. )  بينما في الآية  82 قوله تعالى (أَكْثَرَ مِنْهُمْ وَأَشَدَّ قُوَّةً وَآثَارًا فِي الْأَرْضِ..) بزيادة صفة أخرى للسابقين ، وهي أنهم  (أَكْثَرَ مِنْهُمْ )
4-             ختمت الآية 21  بقوله تعالى (فَأَخَذَهُمُ اللَّـهُ بِذُنُوبِهِمْ وَمَا كَانَ لَهُم مِّنَ اللَّـهِ مِن وَاقٍ ) بينما الآية  التالية في الموضع وهي 82 ختمت بقوله تعالى:  ( فَمَا أَغْنَى عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ )، وهو مناسب للصفة الزائدة التي وصفوا بها أنه أكثر منهم ، فبالرغم من كثرتهم ، ما أغني عنهم ما كانوا يكسبون .   والله أعلم 

ثم تختم السورة بحال هؤلاء السابقين عندما جاءتهم رسلهم وردهم عليهم ، وذلك تثبيتا للنبي وردا لحجة كل من اعتمد على قوته وعلمة واستغني بهما عما أنزل الله ، فحكَّم علمه وقوته وعقله على التنزيل ، فأخذ منه ما وافق ، ورد منه ما لم يعقله عقله ، فقال تعالى
( فَلَمَّا جَاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَرِحُوا بِمَا عِنْدَهُمْ مِنَ الْعِلْمِ وَحَاقَ بِهِمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ ) ، ولكنهم مع ذلك لما ينزل عليهم بأس الله والعذاب، أقروا حيث لا ينفعهم الإقرار، وآمنوا حين لا ينفع الإيمان، وكفروا بما كانوا به من قبل مشركين ، فكان الرد عليهم  ( فَلَمْ يَكُ يَنْفَعُهُمْ إِيمَانُهُمْ لَمَّا رَأَوْا بَأْسَنَا سُنَّةَ اللَّهِ الَّتِي قَدْ خَلَتْ فِي عِبَادِهِ وَخَسِرَ هُنَالِكَ الْكَافِرُونَ ) وخسرانهم هو وقت الإهلاك، وإذاقة البأس ، وليست مجرد خسارة، في تلك الدار، بل هو شقاوة في العذاب الشديد، والخلود فيه، دائما أبدًا. 

تم تفسير سورة المؤمن بحمد الله وعونه وفضله، لا بحولنا وقوتنا، فالحمد لله الذي بنعمته تتم الصالحات .

الخريطة الذهنية لسورة غافر

 


1 comment:

  1. جزيل الشكر على الجهود المبذولة
    وفقك الله

    ReplyDelete