ما زلنا في الحزب الثالث - سورة البقرة - نتدبر آية عظيمة ، بشرى من رب العباد ، أنّي
قريب منكم معكم أسمع وأجيب حاجاتكم فادعوني ، ربنا يحب من يسأله ، ويسخط على
من لا يسأله..... فكيف بين لنا حبه لعبده يدعوه ، وسرعة إجابته ؟ لفتات بيانية رائعة
في هذه الآية يعرفها وينبهنا عليها أهل اللغة والبيان ، تعالوا معي نقرأ هذا البيان ونستمتع
ببشارات ربنا ، نعرف كرمه وفضله ، فنزداد له حبا وطاعة
.
من روائع البيان في قوله تعالى
(( و إذا
سألك عبادي عني فإني قريب أجيب دعوة الداع إذا دعان ))
ذكر علماء اللغة والبيان عنها ما يلي:
1- أنها الآية الوحيدة التي خالفت بقية
الآيات التي تبدأ بسؤال الناس للنبي الكريم ، حيث كلها تأتي بصيغة ((يسألونك)) مثل ((يسألونك
عن الشهر الحرام قتال فيه قل .. ) ( يسألونك
عن الخمر و الميسر قل ...) ( يسألونك عن الأنفال قل ... ) (و يسألونك عن اليتامى
قل ... ) ( يسألونك ماذا أحل لهم قل ... )
و (يسألونك ماذا ينفقون قل ... ) ( يسألونك عن
الساعة أيان مرساها قل ... ) (و يسألونك عن الروح قل ... ) و (يسألونك
عن الجبال فقل ... )) إلا هذه
الآية ! فمن عظمة الله أن ه سبق المؤمنين بالسؤال و هم لم يسألوا بعد! و كأنه سؤال
افتراضي ، فإن الله هو الذي وضع السؤال و بادر بالإجابة من قبل أن يُسأل حباً منه بالدعاء و بسرعة الإجابة ! فانظر إلى
واسع رحمته!
2- على غرار ((
و يسألونك عن الجبال فقل ينسفها ربي نسفا )) كان
القياس أن يقول (و إذا سألك عبادي عني فقل
ربي قريب يجيب دعوة الداع ) لكنه تبارك و تعالى تكفل
بالإجابة بنفسه وقال (( فإني قريب أجيب دعوة الداع )) فابتدأ جوابه بأنه قريب للدلالة على عدم حاجته للوسطاء و
الأولياء أولاً ، وللدلالة على حفاوته بالدعاء و بالسائلين ثانياً. فلم يتحدث
بضمير الغائب عن ذاته فلم يقل ((يجيب دعوة الداع)) لأنه يدل على البعد و العلو ، بل نسبها لنفسه
للدلالة على دنوه و قربه من السائلين
!
3- أنه تعالى لم يعلق الإجابة
بالمشيئة كأن يقول (أجيبه إن أشاء) ، بل قطع و أكد بأنه يجيب دعوة الداع.
4- أنه قدم جواب الشرط على
فعل الشرط ، فلم يقل (إذا دعان أستجب له) و ذلك للدلالة على قوة الإجابة و سرعتها.
5- أنه قال ((أجيب دعوة الداع إذا
دعان)) ولم يقل (أجيب دعوة الداع إن دعان)
و في هذا معانٍ بلاغية غاية في الدقة، منها أنه استخدم أداة الشرط ((إذا)) و لم
يستخدم أداة الشرط ((إن)) ، فما الفرق بينهما؟
-
السبب أن (إن) تستخدم للأحداث المتباعدة والمحتملة
الوقوع و المشكوك فيها و النادرة و المستحيلة ، كقوله ((قل إن كان للرحمن ولد فأنا أول العابدين)) و قوله
((و إن طائفتان من المؤمنين اقتتلوا)) لأن الأصل عدم اقتتال المؤمنين ، و قوله ((ولكن انظر إلى الجبل فإن استقر مكانه
فسوف تراني)) ، و لم يقل (إذا) استقر مكانه و قد علمنا أن الجبل دك
دكاً! و كقوله ((قل أرأيتم إن جعل الله عليكم الليل
سرمدا)). بينما (إذا) تعني المضمون حصوله
أو كثير الوقوع ، مثل قوله ((كتب عليكم إذا
حضر أحدكم الموت)) لأن الموت واقع لا محالة ! و قوله ((و ترى الشمس إذا طلعت تزاور عن كهفهم)) و
قوله ((فإذا
انسلخ الأشهر الحرم)) و قوله ((فإذا قضيت الصلاة)) ، و لذلك نرى أن كل أحداث يوم القيامة تأتي ب (إذا) و لم
تأت بـ (إن) ، مثال ذلك قوله ((إذا زلزلت الأرض زلزالها)) و قوله ((إذا الشمس
كورت و إذا النجوم انكدرت و إذا الجبال سيرت ...)) و
قوله ((إذا وقعت
الواقعة)) و غيرها من أحدث يوم القيامة حيث لم تأت أي منها بأداة الشرط
(إن) لأنها تحتمل الندرة وعدم الوقوع.
-
ومن روعة هذا البيان هو حينما
تأتيان معاً في موضع واحد فيستخدم (إذا) للكثرة و
(إن للندرة) مثل قوله تعالى ((إذا قمتم إلى
الصلاة فاغسلوا وجوهكم .. و إن كنتم جنبا )) فجاء
بـ (إذا) للوضوء لأنه كثير الوقوع و (إن)
للجنب لأنه قليل الحصول ، و مثل قوله ((فإذا أحصن فإن أتين بفاحشةٍ)) فالإحصان متكرر والفاحشة من النوادر!
-
فمن هذا نفهم أن المعنى من قوله تعالى ((إذا
دعانِ)) أنه يشير إلى كثرة الدعاء و بأنه دعاء
متكرر مستمر كثير و ليس نادراً قليلاً ! لأن الله يغضب إن لم يدعَ ، و القلب الذي
لا يدعو قلبٌ قاسٍ ، ألم تر إلى قوله تعالى ((فأخذناهم بالبأساء و الضراء لعلهم يضرعون ،
فلولا إذ جاءهم باسنا تضرعوا ولكن قست قلوبهم)) و
قوله ((و لقد أخذناهم بالعذاب فما استكانوا
لربهم و ما يتضرعون)).
6- ثم لاحظ أنه قال ((أجيب دعوة
الداع)) و لم يقل ((أجيب الداع)) ! لأن الدعوة هي
المستجابة و ليس شخص الداع ، و في هذا إشارة دقيقة جداً إلى مكانة الدعوة بغض
النظر عن شخصية الداع!
7- قال ((عبادي /بالياء و لم يقل ((عبادِ)) فما الفرق؟
((عبادي)) تشير إلى عدد أكبر من ((عباد)) فالياء تعني أن مجموعة العباد أكثر ، أي يجيبهم كلهم على اختلاف ايمانهم و
تقواهم ، كقوله تعالى للدلالة على الكثرة ((قل يا عبادي الذين أسرفوا على أنفسهم)) و المسرفون كثر ، و كقوله ((قل لعبادي يقولوا التي هي أحسن)) لأن أكثرهم يجادل ، أما للقلة فيقول ((فبشر عباد الذين يستمعون القول فيتبعون أحسنه)) و هؤلاء قلة ، و قوله ((وقل
يا عباد الذين آمنوا اتقوا ربكم)) والمتقون
قلة !
8- لاحظ أنه قال : ((أجيب دعوة الداع)) و كان القياس أن يقول (أجيب دعوتهم)! و
ذلك للدلالة على أنه يجيب دعوة كل داع و ليس فقط دعوة السائلين ، فوسع دائرة
الدعوة و لم يقصرها على السائلين.
9- قال ((فإني
قريب)) ولم يقل (أنا قريب) و هذا توكيد بـ (إن) المشددة للتوكيد ، لأن أنا غير مؤكدة.
10 - أن الآية توسطت آيات الصوم ،
وهذا يعني أن الدعاء ديدن الصائم و أن للصائم دعوة لا ترد كما ورد في الأثر ( ما لم تكن بقطيعة رحم).
ومن عظمة الدعاء و منزلته عند الله أن
الله أحاطه بآيات الصوم الذي قال عنه في الحديث القدسي ((الصوم لي و أنا أجزي به) لأن ا لصوم من شعائر الإخلاص لله لأنه شَعيرة غير ظاهرة
الأثر على صاحبها ما لم يرائي ، فكذا الدعاء أراده الله أن يكون خالصاً له و
هو الذي يجزي به من دون شرك فيه لأحد ، من دون واسطة نبي أو ولي أو شرطي أو موظف.
! ( منقول )
وصلِّ اللهم وسلّم على الحبيب المصطفى و آله وأصحابه وأزواجه أجمعين
No comments:
Post a Comment