Wednesday 15 January 2014

تدبر آية من القرآن العظيم - الحزب الثالث - تحويل القبلة







وبعد.. فهذا بعض قليل من العبر ، والفوائد أوردها من كل حزب ، المقصود منها التشجيع على التدبر في آيات الله ، وتقريبها إلى الأفئدة المُحبَّة ، والتشجيع والإعانة على تلاوتها وحفظها بإذن الله تعالى

 


 تحويل القبلة 



ما الحكمة من تحويل القبلة من بيت المقدس ، إلى الكعبة في مكة بيت الله الحرام ؟ وما الحكمة من تعينها في البداية إلى بيت المقدس ، ونبي الإسلام نشأ في مكة وترعرع فيها ؟ ومتى كان تحويل القبله ؟ وما أسبابه؟ وما قصة التحويل؟

 لنستمع لأمر الله تعالى



( قَدْ نَرَ‌ىٰ تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّمَاءِ ۖ فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْ‌ضَاهَا ۚ فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ‌ الْمَسْجِدِ الْحَرَ‌امِ ۚ وَحَيْثُ مَا كُنتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَ‌هُ ۗ وَإِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ لَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِن رَّ‌بِّهِمْ ۗ وَمَا اللَّـهُ بِغَافِلٍ عَمَّا يَعْمَلُونَ ) ( البقرة 146)

 
لحكمة أرادها الله تعالى ، جعل قبلة الإسلام في بداية الدعوة إلى المسجد الأقصى ، ومحمد نبي الإسلام عليه أفضل الصلاة والتسليم في بلده مكة الحرام ، الحبيبة إلى قلبه ، نشأ وترعرع وعاش في كنف بيت الله الحرام ، الذي بناه بأمر الله أباه أبراهيم وإسماعيل ، يعظمها ، ويجلها ، كما يعظمها كل أهلها ، وإن كانوا أشركوا بالله آلهة لا تضر ولا تنفع إلا أن تعظيم الكعبة توارثوه بقية من دين إبراهيم عليه السلام ، ويؤمر أن يتوجه في صلاته إلى المسجد الأقصى ، وكان يحب قبلة أبيه إبراهيم عليه السلام ، ولكنه ما كان ليعصي لله أمرا ،فكان  يصلي وهو بمكة بين الركنين العراقي واليماني – أي إلى الملتزم - فتكون الكعبة بين يديه ، وهو مستقبل بيت المقدس قبلته التي أمره الله أن يستقبلها .

 

ولكنه لما هاجر إلى المدينة ، وهي في شمال مكة تعذر له أن يجمع بين بيت المقدس ، ومكة في صلاته ، واستمر الأمر على ذلك بضع شهور في المدينة ، وهو صلى الله عليه وسلم يكثر النظر ، ويقلب وجهه في السماء ،يبتهل بالدعاء أن يحوله إلى قبلة لأبيه إبراهيم عليه السلام ، واستمر ذلك ستة عشر أو سبعة عشر شهرا
حتى كان في يوم 15 شعبان من العام الثاني للهجرة ،وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يزور أم بشر من بني سلمة معزّياً فصنعت له طعاماً وعند صلاة الظهر نهض رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي بأصحابة  في مسجدهم مستقبلاً بيت المقدس وبعد أن أتم ركعتين نزل عليه الوحي بالتحوّل إلى الكعبة المشرفة في الآية الكريمة ( قد نرى تقلّب وجهك في السماء فلنولينك قبلة ترضاها فولّ وجهك شطر المسجد الحرام وحيث ما كنتم فولّوا وجوهكم شطره) فقد أُمر أن يتوجّه إلى الكعبة فاستدار إلى الكعبة واستقبل الميزاب ومنذ ذلك التاريخ عرف المسجد باسم مسجد القبلتين ، لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم صلى فيه شطر صلاته متجها إلى المسجد الأقصى ، والشطر الآخر متجها قبل المسجد الحرام ، وفي قول أنها كانت صلاة العصر .
 فقد أورد البخاري من حديث البراء رضي الله عنه ، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم صلى إلى بيت المقدس ستة عشر ، أو سبعة عشر شهرا ، وكان يعجبه أن تكون قبلته قِبَلَ البيت ، وأنه صلى أول صلاة صلاها صلاة العصر ، وصلى معه قوم ، فخرج رجل ممن كان معه ، فمر على أهل المسجد وهو راكعون ، قال : أشهد بالله لقد صليت مع النبي صلى الله عليه وسلم قِبَل مكة ، فداروا كما هم قبل البيت ، وكان الذي مات على القبلة قبل أن تحوَّل قبل البيت رجالا قتلوا لم ندر ما نقول فيهم ، فأنزل الله :( وما كان الله ليضيع إيمانكم إنّ الله بالنّاس لرؤوف رحيم ) ( البقرة 143 ) 

 الحكمة من تحويل القبلة:


سؤال أثار كثير من الجدل بين أهل العلم ، ما الحكمة من تحويل القبلة؟ إلا أن إجابته أراها واضحة جلية في القرآن، ولنتأمل في خطاب القرآن في بيان سبب التحويل القبلة، فقد ذكر فيها سببين؛ يقول ربنا جل وعلا :  (سَيَقُولُ السُّفَهَاءُ مِنْ النَّاسِ مَا وَلاَّهُمْ عَنْ قِبْلَتِهِمْ الَّتِي كَانُوا عَلَيْهَا قُلْ لِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ) البقرة 142، ثم يبين الله الحكمة من تحويل القبلة فيقول: (وَمَا جَعَلْنَا الْقِبْلَةَ الَّتِي كُنتَ عَلَيْهَا إِلاَّ لِنَعْلَمَ مَنْ يَتَّبِعُ الرَّسُولَ مِمَّنْ يَنقَلِبُ عَلَى عَقِبَيْهِ وَإِنْ كَانَتْ لَكَبِيرَةً إِلاَّ عَلَى الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ إِنَّ اللَّهَ بِالنَّاسِ لَرَءُوفٌ رَحِيمٌ) البقرة143
إن خطاب القرآن في الحكمة عن تحويل القبلة ينقسم إلى قسمين: الأول فيه حدة وشدة على أولئك اليهود الذين يسألون عن تحويل القبلة، والجواب: (قل لله المشرق والمغرب) فالله وحده لا يسأل عما يفعل.
والثاني فيه لين وحميمة للرسول بذكر العلة من تحويل القبلة؛ وهو تنفيذا لرغبته ، فأنت يا محمد تحب أن تكون قبلتك الكعبة بيت الله الحرام الذي بناه جدك إبراهيم عليه السلام ، فلك ما تحب –وإن كان هذا أمرا مقضيا منذ الأزل -  وهذا الخطاب تنوع لأن النبي سمع الوحي وأطاع، وطبق العبودية حق التطبيق بطاعته لربه المطلقة؛ ليصفه الله بأنه (عبده) فقال: (سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ) الإسراء1، وحق لمن كان مطيعا لله غير سائل عن سبب أمر الله أن ينعم الله عليه بهذا الخطاب الودود الذي يبين له الحكمة من تحويل القبلة أنه تلبية لرغبتك، أما اليهود الذين كذبوا وكان لهم تاريخ أسود في عدم التصديق فإنهم لا يستحقون إلا هذا الخطاب القاسي الذي كان متنوعا في قسوته حسب المقام، فهم في مناسبة تحويل القبلة يقول الله عنهم: (سيقول السفهاء) ويجيبهم بأنه الواحد المتصرف في كل شيء، وإليه يتجه العباد في المشرق والمغرب، وهو الله، والناس يعبدونه بما يريده سبحانه.


 وفي الآيات فوائد عظيمة نذكر منها:

1-  طاعة الصحابة المطلقة لأمر الله بدون تردد ولا توان؛ رجل يبلغهم بتحويل القبلة فيمتثلوا للأمر مباشرة ، ولا يتعنتون ولا يسألون ، طاعة وعمل ، ثم سؤال عن الحكمة والسبب ـ، فإن علمت بها ، وإلاّ فله سبحانه الأمر والنهي ، فعبادة الله في امتثال أمره ، فنحن عبيده وتحت حكمه وتصرفه، وحيث وجهنا توجهنا
 

2- امتثال الصحابة الذين كانوا يصلون في المسجد لقول رجل واحد منهم ، قال : ( أشهد بالله لقد صليت مع النبي قِبَل مكة ) فاستداروا وهم في صلاتهم ، وهذا الحديث حجة على من يردون حديث الآحاد يقولون لا نأخذ به ، وهو من الثقة يؤخذ بقول الجمهور ( ومثاله المشهور الحديث الأول في الأربعين النووية : إنما الأعمال بالنيات ) فهو مروي عن عمر بن الخطاب ، ولم يرويه غيره ، وتقبلته الأمة بأسرها وعملت به ، ومن قال نأخذ بحديث الآحاد في الأعمال ، ولا نأخذ به في العقائد ، فهل يكون العمل إلا نتيجة اعتقاد !!!

3- تمثلت رأفة ورحمة المؤمنين بعضهم ببعض ، فقد همهم بعد تغيير القبلة حال إخوان لهم ماتوا وهم يصلون على القبلة الأولى ، ما حال عملهم ، هل يقبل منهم ، والله تعالى أرأف ، وارحم بعباده منهم ، فقال: ( وما كان الله ليضيع إيمانكم ) أي صلاتكم ، فهو يتقبلها منهم يجزيهم عليها أجر أدائها ، وأجر الإمتثال لأمره سبحانه 

4- تأمل اشارته تعالى للصلاة في الآية السابقة بـ( الإيمان ) وفيه دلالة على أن الأعمال داخلة في مسمى الإيمان ، ولا حجة لمن يقول : يكفيني الإيمان في قلبى ، وأني محب لله ،لأدخل الجنة بغير حساب ولا سابقة عذاب ،ولو آمن بالله لأطاعه فكما قال الشافعي رحمه الله :
تعصي الإله وتدعي حبة ***** هذا محال في القياس بديع
لو كان حبك صادقا لأطعته ****** إن المحب لمن يحب مطيع

وهؤلاء هم المرجئة ، يرجون الرحمة ولا يعملون لها ، بالرغم من أن الرد عليهم من القرآن دامغ ؛ فهو لم يذكر ثواب الجنة في آية قط إلا قال هي للذين آمنوا وعملوا الصالحات، قال : ( إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات كانت لهم جنات الفردوس نزلا ) ( الكهف 107 ) وهكذا في كل القرآن ، وأي العمل الصالح أحسن مما أمر به الله تعالى ، كما جاء في الحديث القدسي قول الله تعالى : (ما تقرب إليّ عبدي بشيء أحب إليّ مما افترضته عليه ..) فالله تعالى يحب منك أن تؤدي ما فرضه عليك قبل كل شيء 

5- لا يقوتنا هنا أن ننوه إلى حسن تعامل نبينا الكريم مع أمته ، وأصحابه فقد نزل عليه تغيير القبلة وهو صلى الله عليه وسلم يصلي في مسجد بني سلمة ، وقد كان يزور واحدة منهم أم بشر يعزيها في مصاب لها ، وجلس عندها حتى صنعت له طعام ، ومن تمام حسن خلقه صلى الله عليه وسلم أن يجلس عندها يسايرها ويقبل منها ما توددت إليه به ، أن يجيب دعوتها له إلى الطعام .

اللهم اجعلنا ممن يتبعون سنته ويتقتدون بهدية ، ويتخلقون بخلقه
اللهم واجعل القرآن العظيم ربيع قلوبنا ، وجلاء همومنا ، وأحزاننا

وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين

No comments:

Post a Comment