Monday 13 January 2014

تدبر آية من القرآن العظيم - الحزب الثاني - سورة البقرة



 من الحزب الثاني-  سورة البقرة
نقرأ آية فيها ذكر السحر، وأصل تعليمه في الأرض، فهل السحر حقيقة يقع وقد يضر وينفع ؟  وما علاقة نبي الله سليمان عليه السلام بالسحر وأهله ؟ وما هو السحر الذي عمل به سحرة فرعون ؟ وهل هو من جنس معجزة نبي الله موسى عليه السلام ؟ وما حكم تعلم السحر والعمل به ؟  أسئلة كثيرة تدور في العقول عند قراءة هذه الآية ،
مسائل فيها جدل ،وآراء كثيرة، ، فتعالوا معي نلتمس الحقيقة ، ومنهجنا الذي نتبعه ولا نتزحزح عنه هو ؛ الأخذ مما جاء في كتاب الله ، ومما صح من حديث رسول الله ، وأقوال الصحابة الكرام ، ومما يوافق شروط التأويل لكيليهما .
سنقرأ الأيات ، ثم نورد ما قاله المفسرون فيها ، ثم العلماء والفقهاء في المسألة ، ونسأل الله تعالى التوفيق أولا وأخيرا.


 قال تعالى :
( وَاتَّبَعُوا مَا تَتْلُو الشَّيَاطِينُ عَلَىٰ مُلْكِ سُلَيْمَانَ ۖ وَمَا كَفَرَ‌ سُلَيْمَانُ وَلَـٰكِنَّ الشَّيَاطِينَ كَفَرُ‌وا يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ‌ وَمَا أُنزِلَ عَلَى الْمَلَكَيْنِ بِبَابِلَ هَارُ‌وتَ وَمَارُ‌وتَ ۚ وَمَا يُعَلِّمَانِ مِنْ أَحَدٍ حَتَّىٰ يَقُولَا إِنَّمَا نَحْنُ فِتْنَةٌ فَلَا تَكْفُرْ‌ ۖ فَيَتَعَلَّمُونَ مِنْهُمَا مَا يُفَرِّ‌قُونَ بِهِ بَيْنَ الْمَرْ‌ءِ وَزَوْجِهِ ۚ وَمَا هُم بِضَارِّ‌ينَ بِهِ مِنْ أَحَدٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّـهِ ۚ وَيَتَعَلَّمُونَ مَا يَضُرُّ‌هُمْ وَلَا يَنفَعُهُمْ ۚ وَلَقَدْ عَلِمُوا لَمَنِ اشْتَرَ‌اهُ مَا لَهُ فِي الْآخِرَ‌ةِ مِنْ خَلَاقٍ ۚ وَلَبِئْسَ مَا شَرَ‌وْا بِهِ أَنفُسَهُمْ ۚ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ(  102 )
وقد جاءت هذه الآية بعد قوله تعالى : (وَلَمَّا جَاءَهُمْ رَ‌سُولٌ مِّنْ عِندِ اللَّـهِ مُصَدِّقٌ لِّمَا مَعَهُمْ نَبَذَ فَرِ‌يقٌ مِّنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ كِتَابَ اللَّـهِ وَرَ‌اءَ ظُهُورِ‌هِمْ كَأَنَّهُمْ لَا يَعْلَمُونَ)  فالحديث في اليهود بعد بعثة النبي محمد ، فقد طرح طائفة منهم كتاب اللّه الذي بأيديهم مما فيه البشارة بمحمد وراء ظهورهم، أي تركوها كأنهم لا يعلمون ما فيها من البشارة ببعثته ،  وأقبلوا على تعلم السحر واتّباعه، ولهذا أرادوا كيداً برسول اللّه وسحروه ، كما ثبت ذلك مبسوطاً في الصحيحين كما سيأتي بيانه ، قال قتادة في قوله: ( كأنهم لا يعلمون) قال: إن القوم كانوا يعلمون ببعثة محمد ولكنهم نبذوا علمهم وكتموه وجحدوا به.  وقال ابن عباس قال: كان آصف كاتب سليمان وكان يعلم الاسم الأعظم، وكان يكتب كل شيء بأمر سليمان ويدفنه تحت كرسيه، فلما مات سليمان أخرجته الشياطين فكتبوا بين كل سطرين سحراً وكفراً، وقالوا هذا الذي كان سليمان يعمل بها. قال: فأكفره جهال الناس وسبُّوه،( أي أن الجهلة من الناس قالوا بكفر سليمان عليه لسلام ، وقالوا عنه أنه ساحر ) وتوقف علماء الناس عن الحيث عنه ، فلم يزل جهال الناس يسبّونه حتى أنزل اللّه على محمد : ( واتبعوا ما تتلو الشياطين على ملك سليمان وما كفر سليمان ولكن الشياطين كفروا) ، وقوله تعالى: (على ملك سليمان) أي على عهد سليمان، قال: كانت الشياطين تصعد إلى السماء فتقعد منها مقاعد للسمع، فيستمعون من كلام الملائكة ما يكون في الأرض من موت أو غيب أو أمر، فيأتون الكهنة فيخبرونهم فتحدث الكهنة الناس فيجدونه كما قالوا، فلما أمنتهم الكهنة كذبوا لهم وأدخلوا فيه غيره، فزادوا مع كل كلمة سبعين كلمة فاكتتب الناس ذلك الحديث في الكتب، وفشا ذلك في بني إسرائيل أن الجن تعلم الغيب. فبعث سليمان في الناس فجمع تلك الكتب فجعلها في صندوق ثم دفنها تحت كرسيه، ولم يكن أحد من الشياطين يستطيع أن يدنوا من الكرسي إلا احترق، وقال: لا أسمع أحداً يذكر أن الشياطين يعلمون الغيب إلا ضربت عنقه. فلما مات سليمان وذهبت العلماء الذين كانوا يعرفون أمر سليمان، وخلف من بعد ذلك خلف، تمثل الشيطان في صورة إنسان، ثم أتى نفراً من بني إسرائيل فقال لهم: هل أدلكم على كنز لا تأكلونه أبداً ""أي لا ينفد بالأكل منه"" قالوا: نعم، قال: فاحفروا تحت الكرسي، فذهب معهم وأراهم المكان وقام ناحيته، فحفروا فوجدوا تلك الكتب، فلما أخرجوهها قال الشيطان: إن سليمان إنما كان يضبط الإنس والشياطين والطير بهذا السحر ثم ذهب، وفشا في الناس أن سليمان كان ساحراً، واتخذت بنو إسرائيل تلك الكتب، فلما جاء محمد خاصموه بها فذلك حين يقول اللّه تعالى: ( وما كفر سليمان ولكن الشياطين كفروا)
وقال سعيد بن الجبير : لما ذكر رسول اللّه فيما نزل عليه من اللّه سليمان بن داود وعدّه فيمن عد من المرسلين، قال مَن كان بالمدينة من اليهود: ألا تعجبون من محمد؟ يزعم أن ابن داود كان نبياً واللّه ما كان إلا ساحراً، وأنزل اللّه: ( وما كفر سليمان ولكن الشياطين كفروا) الآية.

 وقوله تعالى: ( واتبعوا ما تتلوا الشياطين على ملك سليمان)  أي واتبعت اليهود الذين أوتوا الكتاب من بعد إعراضهم عن كتاب اللّه الذي بأيديهم ومخالفتهم لرسول اللّه محمد ما تتلوه الشياطين أي ما ترويه وتخبر به وتحدثه الشياطين على ملك سليمان، وعدّاه بـ ( على ) لأنه تضمن معنى  (تتلو) تتلو و تكذب ( أي أن كلمة تتلو تصبح تحتمل المعنيين التلاوة والكذب على عهد سليمان )
ما جاء في السحر واختلاف الناس فيه :
 قال الحسن البصري رحمه اللّه: - وكان السحر قبل زمن سليمان - صحيحٌ لا شك فيه، لأن السحرة كانوا في زمان موسى عليه السلام وسليمان بن داود بعده كما قال تعالى: ( ألم تر إلى الملأ من بني إسرائيل من بعد موسى) الآية ثم ذكر القصة بعدها، وفيها: ( وقتل داود جالوت وآتاه اللّه الملك والحكمة) ، وقوله تعالى: ( وما أنزل على الملكين ببابل هاروت وماروت وما يعلمان من أحد حتى يقولا إنما نحن فتنة فلا تكفر فيتعلمون منهما ما يفرقون به بين المرء وزوجه) اختلف الناس في هذا المقام، فذهب بعضهم إلى أن ما في قوله: ( وما أنزل على الملكين)  نافية ،  قال القرطبي: ما نافية ومعطوف على قوله ( وما كفر سليمان) – أي ما كفر سليمان ، وما أنزل على الملكين السحر -  وذلك أن اليهود كانوا يزعمون أنه نزل بالسحر جبريل وميكائيل،  فأكذبهم اللّه ، وجعل قوله ( هاروت وماروت)  بدلاً من الشياطين أو أسماء شياطين .
وروى ابن جرير بإسناده من طريق العوفي عن ابن عباس في قوله: ( وما أنزل على الملكين ببابل)  الآية. يقول: لم ينزل اللّه السحر. قال ابن جرير. فتأويل الآية على هذا واتبعوا ما تتلوا الشياطين على ملك سليمان من السحر وما كفر سليمان ولا أنزل اللّه السحر على الملكين ولكن الشياطين كفروا يعلمون الناس السحر ببابل هاروت وماروت. فيكون قوله ( ببابل هاروت وماروت)  من المؤخر الذي معناه المقدم
 وقال ابن جرير إن( ما ) بمعنى الذي، وأن هاروت وماروت ملكان أنزلهما اللّه إلى الأرض وأذن لهما في تعليم السحر اختباراً لعباده وامتحاناً بعد أن بيَّن لعباده أن ذلك مما ينهى عنه على ألسنة الرسل، وقال أن هاروت وماروت مطيعان في تعليم ذلك لأنهما امتثلا ما أمرا به، وهذا الذي سلكه غريب جداً
وقد روي في قصة هاروت و ماروت عن جماعة من التابعين كمجاهد والسدي، والحسن البصري، وقتادة، وغيرهم وقصَّها خلق من المفسِّرين من المتقدمين والمتأخرين، وحاصلها راجع في تفصيلها إلى أخبار بني إسرائيل إذ ليس فيها حديث مرفوع صحيح متصل الإسناد إلى الصادق المصدوق المعصوم الذي لا ينطق عن الهوى، وظاهر سياق القرآن إجمال القصة من غير بسط ولا إطناب، فنحن نؤمن بما ورد في القرآن على ما أراده اللّه تعالى، فظاهر السياق على أن ( هاروت وماروت ) ملكين يعلمان الناس السحر بإذن الله . وقوله تعالى: ( وما يعلمان من أحد حتى يقولا إنما نحن فتنة فلا تكفر) ، عن الحسن البصري أنه قال في تفسير هذه الآية: نعم أنزل الملكان بالسحر ليعلما الناس البلاء الذي أراد اللّه أن يبتلي به الناس، فأخذ عليهم الميثاق أن لا يعلما أحداً حتى يقولا إنما نحن فتنة فلا تكفر. وقال قتادة: كان أخذ عليهما أن لا يعلما أحداً حتى يقولا إنما نحن فتنة: أي بلاء ابتلينا به فلا تكفر.
 وأما الفتنة فهي المحنة والاختبار، وقد استدل بعضهم بهذه الآية على تكفير من تعلم السحر واستشهد له بالحديث الصحيح: (من أتى كاهناً أو ساحراً فصدقه بما يقول فقد كفر بما أنزل على محمد ) "" رواه البزار بسند صحيح"" وقوله تعالى: ( فيتعلمون منهما ما يفرقون به بين المرء وزوجه) أي فيتعلم الناس من هاروت وماروت من علم السحر، فيما يتصرفون من الأفاعيل المذمومة، ما إنهم ليفرقون به بين الزوجين مع ما بينهما من الخلطة والائتلاف، وهذا من صنيع الشياطين كما رواه مسلم في صحيحه عن النبي قال: (إن الشيطان ليضع عرشه على الماء ثم يبعث سراياه في الناس فأقربهم عنده منزلة أعظمهم عنده فتنة، يجيء أحدهم فيقول: ما زلت بفلان حتى تركته وهو يقول كذا وكذا، فيقول إبليس: لا واللّه ما صنعت شيئاً! ويجيء أحدهم فيقول: ما تركته حتى فرّقت بينه وبين أهله، قال: فيقربه ويدنيه ويلتزمه ويقول: نعم أنت ) "رواه مسلم عن جابر بن عبد اللّه"  وسبب التفريق بين الزوجين بالسحر ما يخيل إلى الرجل أو المرأة من الآخر من سوء منظر أو خلق أو نحو ذلك من الأسباب المقتضية للفرقة. وقوله تعالى: ( وما هم بضارين به من أحد إلا بإذن الله)  قال سفيان الثوري: إلا بقضاء اللّه، وقال الحسن البصري: من شاء اللّه سلطهم عليه ومن لم يشأ اللّه لم يسلط، ولا يستطيعون من أحد إلا بإذن اللّه وقوله تعالى: ( ويتعلمون ما يضرهم ولا ينفعهم) أي يضرهم في دينهم وليس له نفع يوازي ضرره (ولقد علموا لمن اشتراه ما له في الآخرة من خلاق)  أي ولقد علم اليهود الذين استبدلوا بالسحر عن متابعة الرسول لمن فعل فعلهم ذلك، أنه ما له في الآخرة من خلاق،أي  من نصيب، ( ولبئس ما شروا به أنفسهم لو كانوا يعلمون)  أي ( ولبئس) البديل ما استبدلوا به من السحر عوضاً عن الإيمان ومتابعة الرسول، لو كان لهم علم بما وعظوا به ( ولو أنهم آمنوا واتقوا لمثوبة من عند الله خير) أي ولو أنهم آمنوا باللّه ورسله واتقوا المحارم، لكان مثوبة اللّه على ذلك خيراً لهم مما اختاروا لأنفسهم ورضوا به .
موقف الإسلام من وجود السحر وحقيقته:
حكى الرازي في تفسيره عن المعتزلة أنهم أنكروا وجود السحر، قال: وربما كفَّروا من اعتقد وجوده. . وعن أبي إسحاق الإسفرايني من الشافعية أنه قال: إنه تمويه وتخيل.
 وأما أهل السنّة ، قال القرطبي: وعندنا أن السحر حق، وله حقيقة، يخلق اللّه عنده ما يشاء، وقد جوّزوا أن يقدر الساحر أن يطير في الهواء، ويقلب الإنسان حماراً والحمار إنساناً، إلا أنهم قالوا: إن اللّه يخلق الأشياء عندما يقول الساحر تلك الرقى والكلمات المعينة، فأما القول بأن المؤثر في ذلك هو الفلك والنجوم فلا، خلافاً للفلاسفة والمنجمين والصابئة، ثم استُدل على وقوع السحر، وأنه بخلق اللّه تعالى به ما يشاء بقوله تعالى: ( وما هم بضارين به من أحد إلا بإذن الله) . ومن الإخبار بأن رسول اللّه وأن السحر عمل فيه.
هل سحر النبي حقيقة ، وما قصة ذلك :
-      فإنه قد ثبت في صحيح البخاري و مسلم عن عائشة أن النبي سحر حتى إنه ليخيل إليه أنه فعل الشيء وما يفعله، وأنه قال لها ذات يوم: (أشعرت أن الله أفتاني فيما استفتيته؟ إنه أتاني ملكان، فجلس أحدهما عند راسي والآخر عند رجلي، فقال: ما وجع الرجل؟ قال: مطبوب(مسحور)، قال: من طبه؟ قال: لبيد بن الأعصم في مشط ومشاطة في جف طلع نخلة ذكر في بئر ذي أروان )  وأما شفاؤه فقد كان برقية جبريل له فقد روى مسلم عن أبي سعيد الخدري أن جبريل أتى النبي فقال: ( يا محمد أشتكيت؟ قال: "نعم" قال: بسم الله أرقيك، من كل شيء يؤذيك، ومن شر كل نفس، أو عين، أو حاسد، الله يشفيك بسم الله أرقيك. )
- فلما شفي النبي ذهب إلى البئر ثم رجع فقال لـ عائشة: (والله لكأن ماءها نقاعة الحناء، ولكأن نخلها رؤوس الشياطين" قالت: يا رسول الله أفأخرجته؟ قال: "لا. أما أنا فقد عافاني الله، وخشيت أن أثور بها على الناس منه شراً. وأمر بها فدفنت) رواه البخاري و مسلم
إنكار أهل الأهواء والبدع لحادثة سحر النبي صلى الله عليه وسلم والرد عليهم


فهذا الحدث ثابت في البخاري ومسلم أصح الكتب بعد كتاب الله ، ومع ذلك فقد أنكره بعض المبتدعة من يحكمون على أحاديث رسول الله وسنته من خلال عقولهم، ما عقلتها عقولهم قبلوها ، وما لم تعقلها رفضوها ، فهم يقدمون العقل على النقل، وهذا شأن المعتزلة  منذ الزمن،  وفي وقتنا الحاضر يعتبرون أنفسهم أهل الإسلام المتسنير ، وحجتهم ؛ كيف يسحر النبي وهو معصوم؟
ويقولون إن إثبات هذه الحادثة إنما هو قدح في نبوته وفي رسالته وفي تبليغه، وهذه العلة التي يتمسكون بها أوهى من بيت العنكبوت.


ويرد على المنكرين لحادثة سحر النبي من جوه:
-      الوجه الأول وهو الأهم في الطاعة والإستسلام ؛ ونحن متعبدون ومربوبون لله، فما أثبته الله فهو ثابت، وما أثبته رسوله فهو ثابت، لا يغيره شيء بحال من الأحوال.
وقد ثبت بالدليل الصريح الصحيح وبالشرع الذي يقبله العقل، وهو من النقل الصحيح: أن النبي
سحر، فإذا ثبت ذلك فليس لأحد رده.
     فأول واجب على المسلم أن يتمسك بالشرع، فالله جل وعلا أثبت أن للسحر تأثيراً، حيث قال جل وعلا: ( وَمَا هُمْ بِضَارِّينَ بِهِ مِنْ أَحَدٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ ) [البقرة:102]، ومفهوم هذه الآية ومعناها: أن السحر له تأثير بإذن الله جل وعلا، وقد أذن الله أن يتأثر رسوله لحكم بليغة ..كما أن هذا النص الصريح الصحيح لا مدخل للطعن في إسناده فأسانيده كالشمس وقد اتفق عليها الشيخان ، فأثبتت الأحاديث الصحيحة أن النبي قد سحر وقد تأثر بالسحر .



ثانيا: أن وقوع السحر على النبي وعمله فيه لا ينفي عصمته الدينية ، او عصمة التبليغ .
ذلك أن العصمة عصمتان: عصمة في التبليغ، وعصمة في الأمور الدنيوية -يعني: عصمة أخروية وعصمة دنيوية- والعصمة الأخروية أو العصمة الدينية هي المقصودة بقول الله تعالى: ( وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ ) [المائدة:67]، وليست العصمة الدنيوية، فالنبي ضرب وكسرت رباعيته، وكاد يقتل في أحد، والنبي وقع عن بعيره ودحست وركه، والنبي مرض، فالعصمة المقصودة في الآية ليست الدنيوية .
فالمقصود من الحكم الإلهي ؛ إنما يعصمه في التبليغ،وأول دليل على ذلك من الآية نفسها ، فالآية تقول من أولها (يَا أَيُّهَا الرَّ‌سُولُ بَلِّغْ مَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّ‌بِّكَ ۖ وَإِن لَّمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِ‌سَالَتَهُ ۚ وَاللَّـهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ ۗ إِنَّ اللَّـهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِ‌ينَ  ) ( المائدة 67 )  فالأمر له بالتبليغ ،ثم تطمينه بانك يا محمد مُعان على التبليغ بأن يعصمك الله من الناس فلا يمنعوك منه .
 وقد ثبت في الحديث: ( أن أعرابيا قام على رأس النبي والسيف في يده صلتا ، وهو يقول : من يعصمك مني ؟ قال : الله ، فوقع السيف من يد الرجل ، فأخذه النبي وقال : من يعصمك مني ؟ قال : كن خير آخذ )
فهو معصوم حتى يبلغ رسالة ربه للناس،  فهذا الرجل لن يقتله؛ حتى يستوفي أجله وعمره الذي قدره الله له لتبلغ الرسالة البلاغ التام حتى يتم هذا الدين.فمفاده العصمة في مسألة التبليغ.
 أما الأمور الدنيوية فإن الله يبتلي بها نبيه ، ولا غرو أن نقول: إن النبي اشتد عليه المرض، حتى إن بعض العلماء قال: إن النبي مات بتأثير السم الذي كان في كتف الشاة التي أهدته المرأة اليهودية، فلما نهش منها نهشة أخبرته أنها مسمومة،
فيكون المقصود بالعصمة  العصمة الأخروية وإن كانت عصمة دنيوية فإنما هي من أجل التبليغ، وأدلة ذلك متوافرة متضافرة كثيرة جداً لا تحصر في كتاب الله، قال الله تعالى: (وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى * إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى ) [النجم:3-4].
وفي الصحيحين عن عائشة رضي الله عنها وأرضاها قالت: ثلاثة من حدث بهن فقد كذب، وفي رواية: فقد أعظم على الله الفرية، من قال: إن محمداً قد رأى ربه فقد أعظم على الله الفرية، أو فقد كذب .... ) وقالت في الثانية وهو محل الشاهد: (ومن قال لكم: إنه لم يبلغ، فقد أعظم على الله الفرية أو فقد كذب؛ لأن رسول الله
أمر بالبلاغ، وقد بلغ تمام البلاغ، وقال في حجة الوداع:( ألا هل بلغت ؟ فقالوا : نعم ، قال : اللهم فاشهد ، اللهم فاشهد )


الوجه الثالث : استدلوا بقول عائشة رضي الله عنها : ( وكان يأني أهله ، وما يأتي أهله )

فقالوا : في هذا الدليل أن الرسول يأتي أهله وما يأتي أهله ، تعارض في القول. فنقول لهم: الرد على هذه الشبهة من وجهين:الوجه الأول: تفسير: (كان يأتي أهله وما يأتي أهله)، فيه إثبات وفيه نفي، ومعناه: أن الرسول كان يهم ويعزم ويشتهي أهله فيذهب ليجامع أهله فيربط عن ذلك وتخور العزائم وتفتر الهمم عن الجماع.
وهذا واقع مشاهد عند كثير من الناس فإنهم إذا أرادوا الجماع يربطون عن أهليهم.الوجه الثاني: أن هذا من باب التخيل، حيث يجلس المرء يفكر في شيء فيسرح مع هذا الشيء وهو لم يكن قد وقع، والنبي
يحصل له مثل هذا فهو لم يجامع أهله واقعاً، لكن يتخيل ذلك من أثر السحر.
 وهذا رد عليهم على هذه الشبهة.والصحيح الراجح كما بينا: أن النبي قد سحر، وهذا السحر وقع عليه، والله جل وعلا له في ذلك حكم.أما بالنسبة لحديث عائشة رضي الله عنها : (كان يأتي أهله وما يأتي أهله)، معناه: إذا أراد أن يأتي فلا يأتي، ودليل ذلك من اللغة قال الله تعالى: ( فَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ ) [النحل:98]، ومعناه: إذا أردت أن تقرأ القرآن..
عن شرح أصول اعتقاد أهل السنة والجماعة – الرد على أهل البدع في مسائل السحر ؛ للشيخ محمد حسن عبد الغفار  بتصرف_ موقع ( إسلام ويب )
السحر في اللغة :
-      السحر في اللغة عبارة عما لطف وخفي سببه، ولهذا جاء في الحديث: (إن من البيان لسحراً)، وسمي السحور لكونه يقع خفياً آخر الليل، والسَّحْرُ: الرئة، وسميت بذلك لخفائها ولطف مجاريها إلى أجزاء البدن كما قال أبو جهل يوم بدر لعتبة: انتفخ سَحْره، أي انتفخت رئته من الخوف وقالت عائشة رضي اللّه عنها: توفي رسول اللّه بين سَحْري ونحري
-      قال القرطبي : :السحر أصله التمويه بالحيل والتخاييل ، وهو أن يفعل الساحر أشياء ومعاني ، فيُخيّل للمسحور أنها بخلاف ما هي به، كالذي يرى السراب من بعيد فيُخيّل إليه أنه ماء ( يقولون كالسراب غر من رآه وأخلف من رجاه ) ، وكراكب السفينة السائرة سيراً حثيثاً يُخيّل إليه أن ما يرى من الأشجار والجبال سائرة معه. وقيل: هو مشتقّ من سَحرتُ الصبيّ إذا خدعته ، وقيل: أصله الصّرف ، يقال: ما سَحَرك عن كذا ، أي ما صرفك عنه . وقيل: أصله الاستمالة ، وكلّ مَن استمالك فقد سحرك.
أنواع السحر ثمانية :ـ ذكرها أبو عبد اللّه الرازي
-      الأول: سحر الكذابين والكشدانيين الذين كانوا يعبدون الكواكب السبعة المتحيرة وهي السيارة وكانوا يعتقدون أنها مدبرة العالم وأنها تأتي بالخير والشر وهم الذين بعث اللّه إليهم ابراهيم الخليل مبطلاً لمقالتهم وراداً لمذهبهم.
-       والنوع الثاني: سحر أصحاب الأوهام والنفوس القوية تسيطر على غيرها، والوهم له تأثير بأن الإنسان يمكنه أن يمشي على الجسر الموضوع على وجه الأرض، ولا يمكنه المشي عليه إذا كان ممدوداً على نهر أو نار خوفا أن يقع فيه، وما ذاك إلا لأن النفوس خلقت مطيعة للأوهام.
-       والنوع الثالث من السحر: الاستعانة بالأرواح الأرضية وهم الجن ؛ خلافاً للفلاسفة والمعتزلة  فهم لا يعتقدون بهذا.
والجنّ على قسمين: مؤمنون، وكفار وهم الشياطين، قال: واتصال النفوس الناطقة بها أسهل من اتصالها بالأرواح السماوية لما بينهما من المناسبة والقرب، ثم إن أصحاب الصنعة وأرباب التجربة شاهدوا أن الاتصال بهذه الأرواح الأرضيه يحصل بأعمال سهلة قليلة من الرقى والدخن والتجريد، وهذا النوع هو المسمى بالعزائم وعمل التسخير.
-      النوع الرابع من السحر: التخيلات والأخذ بالعيون، والشعبذة، ومبناه على أن البصر قد يخطئ ويشتغل بالشيء المعين دون غيره، ألا ترى ذا الشعبذة الحاذق يظهر عمل شيء يذهل أذهان الناظرين به ويأخذ عيونهم إليه، حتى إذا استفرغهم الشغل بذلك الشيء بالتحديق ونحوه، عمل شيئاً آخر عملاً بسرعة شديدة، وحينئذ يظهر لهم شيء آخر غير ما انتظروه، فيتعجبون منه جداً، ولو أنه سكت ولم يتكلم بما يصرف الخواطر إلى ضد ما يريد أن يعمله، ولم تتحرك النفوس والأوهام إلى غير ما يريد إخراجه، لفطن الناظرون لكل ما يفعله. قلت وقد قال بعض المفسِّرين: إن سحر السحرة بين يدي فرعون إنما كان من باب بالشعبذة ولهذا قال تعالى: ( فلما ألقوا سحروا أعين الناس واسترهبوهم وجاءوا بسحر عظيم) وقال تعالى: ( يخَيَّل إليه من سحرهم أنها تسعى)  قالوا: ولم تكن تسعى في نفس الأمر، واللّه أعلم.
-      النوع الخامس من السحر: الأعمال العجيبة التي تظهر من تركيب آلات مركبة على النسب الهندسية، والحقائق العلمية الأخري: ومنها الصور التي تصورها الروم والهند حتى لا يفرق الناظر بينها وبين الإنسان حتى يصورنها ضاحكة ؟؟ إلى أن قال: فهذه الوجوه من لطيف أمور التخاييل، قال: وكان سحر سحرة فرعون من هذا القبيل، على ما قاله بعض المفسرين: إنهم عمدوا إلى تلك الحبال والعصي فحشوها زئبقاً فصارت تتلوى بسبب ما فيها من ذلك الزئبق فيخيل إلى الرائي أنها تسعى باختيارها.
-       النوع السادس من السحر: الاستعانة بخواص الأدوية في الأطعمة والدهانات،  قال: واعلم أنه لا سبيل إلى إنكار الخواص، فإن تأثير المغناطيس مشاهد. قلت يدخل في هذا القبيل كثير ممن يدعي الفقر ويتحيل على جهلة الناس بهذه الخواص، مدعياً أنها أحوال له من مخالطة النيران ومسك الحيات إلى غير ذلك من المحالات.
-      النوع السابع من السحر: التعليق للقلب، وهو أن يدعي الساحر أنه عرف الاسم الأعظم، وأن الجن يطيعونه وينقادون له في أكثر الأمور، فإذا اتفق أن يكون السامع لذلك ضعيف العقل قليل التمييز اعتقد أنه حق وتعلق قلبه بذلك، وحصل في نفسه نوع من الرعب والمخالفة، فإذا حصل الخوف ضعفت القوى الحساسة، فحينئذ يتمكن الساحر أن يفعل ما يشاء.
-      النوع الثامن من السحر: السعي بالنميمة من وجوه خفيفة لطيفة وذلك حاصل في الناس. والنميمة على قسمين: تارةً تكون على وجه التحريش بين الناس وتفريق قلوب المؤمنين فهذا حرام متفق عليه، فأما إن كانت على وجه الإصلاح بين الناس وائتلاف كلمة المسلمين، أو على وجه التخذيل والتفريق بين جموع الكفرة؛ فهذا أمر مطلوب كما جاء في الحديث: (الحرب خدعة).
-      والحاصل : أن من السحر ما يكون بخفة اليد كالشعوذة، وقد يكون من عهود الشياطين، ويكون أدوية وأدخنة وغير ذلك، قال: وقوله عليه السلام: (إن من البيان لسحراً)  يحتمل أن يكون ذماً للبلاغة، لأنها تصوّب الباطل حتى توهم السامع أنه حق، كما قال : (فلعل بعضكم أن يكون ألحن بحجته من بعض فأقضي له) الحديث.
حكم من تعلم السحر :
اختلف الفقهاء فيمن يتعلم السحر ويستعمله، فقال أبو حنيفة ومالك وأحمد: يكفَّر بذلك، ومن أصحاب أبي حنيفة من ميّز بين من تعلمه ليتقيه أو ليجتنبه ، ومن تعلمه معتقداً جوازه أو أنه ينفعه  فهذا هو الذي يكفر، وكذا من اعتقد أن الشياطين تفعل له ما يشاء فهو كافر.
 وقال الشافعي رحمه اللّه: إذا تعلم السحر فإن كان ما تعلم واعتقد يوجب الكفر مثل ما اعتقده أهل بابل من التقرب إلى الكواكب السبعة وأنها تفعل ما يلتمس منها فهو كافر، وإن كان لا يوجب الكفر فإن اعتقد إباحته فهو كافر.
عقوبة الساحر :
إذا أتى الساحر في سحره بمكفر قتل لردته حداً، وإن ثبت أنه قتل بسحره نفساً معصومة قتل قصاصاً، وإن لم يأت في سحره بمكفر ولم يقتل نفساً ففي قتله بسحره خلاف، والصحيح: أنه يقتل حداً لردته، وهذا هو قول أبي حنيفة ومالك وأحمد رحمهم الله؛ لكفره بسحره مطلقاً لدلالة آية: (واتبعوا ما تتلوا الشياطين على ملك سليمان وما كفر سليمان ولكن الشياطين كفروا يعلمون الناس السحر) البقرة 102
هل الساحر كافر؟
على قولين:  الساحر كافر
-      من قال بكفر الساحر قد استدل بقوله: ( ولو أنهم آمنوا واتقوا) بعد ذكر من تعلم السحر ، فقال ( لو أنهم آمنوا واتقوا ) أي لم يكونوا مؤمنين ، كما ورد ذلك رواية عن الإمام أحمد ابن حنبل وطائفة من السلف.
والآية : (وما كفر سليمان ولكن الشياطين كفروا يعلمون الناس السحر) البقرة 102 تدل على كفر الساحر مطلقاً، ولما ثبت في صحيح البخاري عن بجالة بن عبدة أنه قال: "كتب عمر بن الخطاب رضي الله عنه أن اقتلوا كل ساحر وساحرة. فقتلنا ثلاث سواحر"، ولما صح عن حفصة أم المؤمنين رضي الله عنها: " أنها أمرت بقتل جارية لها سحرتها. فقتلت " (رواه مالك في الموطأ)، ولما ثبت عن جندب أنه قال: "حد الساحر ضربة بالسيف" (رواه الترمذي وقال: الصحيح أنه موقوف).
والذي يتولى إثبات السحر وتلك العقوبة هو الحاكم المتولي شئون المسلمين؛ درءاً للمفسدة وسداً لباب الفوضى.
-      وقيل: بل لا يكفر ولكن يحد، وحده ضرب عنقه، فيدفن في مدافن المسلمين .
-      وروى الترمذي عن جندب الأزدي أنه قال: قال رسول اللّه : (حد الساحر ضربه بالسيف) ""رواه الترمذي مرفوعاً وقال: لا نعرفه مرفوعاً إلا من هذا الوجه""
قصة ساحر الوليد بن عقبة :
روي من طرق متعددة أن الوليد بن عُقبة كان عنده ساحر يلعب بين يديه، فكان يضرب رأس الرجل ثم يصيح به فيرد إليه رأسه، فقال الناس: سبحان اللّه يحيي الموتى!! ورآه رجل من صالحي المهاجرين، فلما كان الغد جاء مشتملاً على سيفه، وذهب يلعب لعبه ذلك فاخترط الرجلالصالح  سيفه فضرب عنق الساحر، وقال: إنْ كان صادقاً فليحي نفسه، وتلا قوله تعالى: ( أتاتون السحر وأنتم تبصرون)  فغضب الوليد إذ لم يستأذنه في ذلك فسجنه ثم أطلقه، واللّه أعلم.

No comments:

Post a Comment