Monday 28 November 2016

تفسيروربط للآيات وبيان المتشابهات - سورة الحشر ج 1



 




تفسير وربط للآيات- وبيان المتشابهات -سورة الحشر ج1 

سبب التسمية

‎ ‎‏ ‏سُميت ‏بهذا ‏الاسم ‏لأن ‏الله ‏الذي ‏حشر ‏اليهود ‏وجمعهم ‏خارج ‏المدينة ‏هو ‏الذي ‏يحشر ‏الناس ‏ويجمعهم ‏يوم ‏القيامة ‏للحساب ‏‏، ‏وتسمى ‏أيضا ‏‏" ‏بني ‏النضير"‏ ‏ .
التعريف بالسورة
    
1- سورة مدنية .
2- من المفصل .
3- آياتها 24 .
4- ترتيبها التاسعة والخمسون .
5-نزلت بعد البينة .
6- من المسبحات " بدأت بفعل ماضي " سَبَّحَ " وهو أحد أساليب الثناء على الله تعالى والتسبيح،  ذُكِرَ لفظ الجلالة في الآية الأولى واسم الله العزيز الحكيم، اسم السورة هو أحد أسماء يوم القيامة .
محور مواضيع السورة


تعني السورة بجانب التشريع شأن سائر السور المدنية والمحور الرئيسي الذي تدور عليه السورة الكريمة هو الحديث عن " غزوة بني النضير " وهم اليهود الذين نقضوا العهد مع الرسول فأجلاهم عن المدينة المنورة .
أنزل الله تعالى سورة الحشر بأكملها في غزوة بني النضير، وصف فيها طرد اليهود من المدينة، وفضح مسلك المنافقين، وبين أحكام الفيء، وأثني على المهاجرين والأنصار، وبين جواز القطع والحرق في أرض العدو للمصالح الحربية، وأن ذلك ليس من الفساد في الأرض، وأوصي المؤمنين بالتزام التقوي والاستعداد للآخرة، ثم ختمها بالثناء على نفسه وبيان أسمائه وصفاته‏.‏
وكان ابن عباس يقول عن سورة الحشر ‏:‏ قل ‏:‏ سورة النضير ‏.
سبب نزول السورة

1- قال المفسرون نزلت هذه الآية في بني النضير ، وذلك أن النبي لما قدم المدينة صالحه بنو النضير على أن لا يقاتلوه ، ولا يقاتلوا معه ، وقبل ذلك منهم فلما غزا رسول الله بدرا وظهر على المشركين قالت : بنو النضير، والله إنه النبي الذي وجدنا نعته في التوراة لا ترد له راية ، فلما غزا أحدا، وهزم المسلمون نقضوا العهد، وأظهروا العداوة لرسول الله والمؤمنين ، فحاصرهم رسول الله ثم صالحهم على الجلاء من المدينة .
3-وسبب نزول الآية ( ما قطعتم من لينة...) أن رسول الله لما نزل ببني النضير وتحصنوا في حصونهم أمر بقطع نخيلهم وإحراقها ، فجزع أعداء الله عند ذلك وقالوا زعمت يا محمد أنك تريد الصلاح أفمن الصلاح عقر الشجر المثمر، وقطع النخيل، وهل وجدت فيما زعمت أنه أنزل عليك الفساد في الأرض؟ فشق ذلك على النبي فوجد المسلمون في أنفسهم من قولهم وخشوا أن يكون ذلك فسادا واختلفوا في ذلك ، فقال بعضهم : لا تقطعوا فإنه مما أفاء الله علينا . وقال بعضهم : بل اقطعوا فأنزل الله تبارك وتعالى ( ما قطعتم من لينة...) الآية تصديقا لمن نهى عن قطعه، وتحليلا لمن قطعه، وأخبر أن قطعه وتركه بإذن الله تعالى .
وقد روي عن نافع عن ابن عمر: أن رسول الله حرق نخل النضير ، وقطع وهى البويرة ، فأنزل الله تعالى "ما قطعتم من لينة أو تركتموها قائمة على أصولها فبإذن الله وليخزي الفاسقين"  رواه البخاري ومسلم عن قتيبة .

4- عن ابن عباس قال : جاء يهودي إلى النبي قال : أنا أقوم فأصلي . قال : قدر الله لك ذلك أن تصلى . قال : أنا أقعد . قال : قدر الله لك أن تقعد . قال أنا أقوم إلى هذه الشجرة فأقطعها قال قدر الله لك أن تقطعها،  قال : فجاء جبريل فقال يا محمد لقنت حجتك كما لقنها إبراهيم على قومه، وأنزل الله تعالى "ما قطعتم من لينة أو تركتموها قائمة على أصولها فبإذن الله وليخزي الفاسقين"   الفاسقين يعنى اليهود .

أحاديث لا تصح في السورة:

-حديث من قرا الثلاث آيات الاخيرة من سورة الحشر صلى عليه 70 ملك
أخرجه أحمد و(التِّرمِذي) والدَّارِمِي.والطبراني في ( الكبير ) والبيهقي في (الشعب)
وقال الترمذي عقبه : هذا حديثٌ غريبٌ ، لا نعرفُه إلاَّ من هذا الوجه. واسناده ضعيف وضعفه الألباني وشعيب الأرنؤوط.
- وما روى الدارمي بسنده عن الحسن قال: من قرأ ثلاث آيات من آخر سورة الحشر إذا أصبح فمات من يومه ذلك طبع بطابع الشهداء، وإن قرأ إذا أمسى فمات من ليلته طبع بطابع الشهداء. كذا في الدر المنثور. ومن المعلوم أن الحسن تابعي فالموقوف عليه يعتبر مقطوعا وهو من أقسام الضعيف.
-وما ورد عن أبي هريرة قال: سألت خليلي أبا القاسم رسول الله عن اسم الله الأعظم فقال: يا أبا هريرة عليك بآخر سورة الحشر فأكثر قراءتها. فأعدت عليه فأعاد علي، فأعدت عليه فأعاد علي.....
-وكذلك عن أنس بن مالك: أن رسول الله قال: من قرأ سورة الحشر غفر الله له ما تقدم من ذنبه وما تأخر.
-وعن أبي أمامة قال: قال النبي : من قرأ خواتيم سورة الحشر في ليل أو نهار فقبضه الله في تلك الليلة أو ذلك اليوم فقد أوجب الله له الجنة.
وقد ذكر القرطبي في تفسيره هذه الأحاديث الثلاثة الأخيرة ولم يذكر درجتها ولا سندها فهي ضعيفة لجهالة أسانيدها.
-وقال الألوسي في تفسيره: وأخرج الديلمي عن ابن عباس مرفوعاً: اسم الله الأعظم في ست آيات من آخر سورة الحشر.
-وأخرج الديلمي عن علي كرم الله تعالى وجهه. وابن مسعود رضي الله تعالى عنه مرفوعاً إلى رسول الله أنه قال في قوله تعالى: لَوْ أَنزَلْنَا {الحشر: 21} إلى آخر السورة هي رقية الصداع.
التفسير: 

يستفتح الله تعالى هذه السورة بإخباره أن جميع ما في السموات وما في الأرض من شيء يسبح له ويمجده ويقدسه، ويصلي له ويوحده كقوله: ( تُسَبِّحُ لَهُ السَّمَاوَاتُ السَّبْعُ وَالأَرْضُ وَمَنْ فِيهِنَّ وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ  وَلَكِنْ لا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ ) ( الإسراء:44 ) . وقوله: ( وَهُوَ الْعَزِيزُ ) أي:منيع الجناب ( الْحَكِيمُ ) في قدره وشرعه.

معنى اسمي الله العزيز الحكيم وحكمة اقترانهما:

اسمه سبحانه العزيز: المعنى الأول: العزيز الذي لا مثيل له، ولا مشابه له، ولا نظير له، ولا ند له ، مِن فِعلِ عز يعز : أي ندر يندر. يقال : عز الشيء : إذا ندر وجوده، وتعني أيضا لا مشابه له ولا نظير له، اسم العزيز بهذا المعنى من أسماء التنزيه.
أسماء الله الحسنى تصنف إلى : أسماء ذات ، وأسماء صفات، وأسماء أفعال. فأسماء الله الحسنى إما أن تكون أسماء لذاته وإما أن تكون أسماء لصفاته وإما أن تكون أسماء لأفعاله.
المعنى الثاني: العزيز هو القوي المنيع، الغالب الذي لا يُغلب، والعرب تقول من أمثلتها: من عز بز، ( مَنْ عز : أي  مَنْ انتصر، بزَّ:  أخذ ما راق له.)  وقول أحد الخصمين اللذين تسوروا المحراب على داود عليه السلام : (عزني في الخطاب ) أي غلبني في الخطاب، فالقاهر الذي انتصر وغلب يسمى عزيزا ، فكيف بالقاهر الذي لا يمكن أن يغلب، من باب أولى فالله سبحانه عزيز بالمعنى الثاني، والدليل:
﴿وَاللَّهُ غَالِبٌ عَلَى أَمْرِهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ ( يوسف 21)، كما أنه ينطبق عليه وصف العزيز بالمعنى الأول إذ لا مثل له ولا شبيه له تعالى وجل عن ذلك.
ومعنى الحكيم: العالم المدبر للأمور المتقن لها، المتصف بالحكمة،  أي الذي يضع الشيء في موضعه،  وهو الذي بهرت حكمته الألباب،  وهو الحكيم؛ الذي لا يدخل تدبيره خلل ولا زلل،  وأيضا من معاني الحكيم: الذي له الحكم، فالله تعالى عز وغلب فحكم.
في اقتران اسم الله العزيز بالحكيم :

وفي اقتران هذين الاسمين الأحسنين: العزيز والحكيم كمال زائد على الكمال الذي يقتضيه كل واحد منهما حال إفراده.
قال الشيخ ابن عثيمين: والحسن في أسماء الله يكون باعتبار كل اسم على انفراد، ويكون باعتبار جمعه إلى غيره، فيحصل بجمع الاسم إلى الآخر كمال فوق كمال.. مثال ذلك "العزيز الحكيم" فإن الله يجمع بينهما في القرآن كثيراً، فيكون كل منهما دالاً على الكمال الخاص الذي يقتضيه، وهو العزة في العزيز والحكمة في الحكيم والجمع بينهما دال على كمال آخر وهو أن عزته تعالى مقرونة بالحكمة، فعزته لا تقتضي ظلماً وجوراً وسوء فعل كما يكون من أعزاء المخلوقين، فإن العزيز منهم قد تأخذه العزة بالإثم فيظلم ويجور ويسيء التصرف، وكذلك حكمه تعالى وحكمته مقرونان بالعز الكامل بخلاف حكم المخلوق وحكمته فإنهما يعتريهما الذل. اهـ.
عودة للتفسير:

قوله تعالى: ( هُوَ الَّذِي أَخْرَجَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مِنْ دِيَارِهِمْ ) قال سعيد بن جبير: قلت لابن عباس: سورة الحشر؟ قال: قل سورة النضير؛ وهم رهط من اليهود من ذرية هارون عليه السلام، نزلوا المدينة في فتن بني إسرائيل انتظارا لمحمد ، وكان رسول الله لما قدم المدينة هادنهم وأعطاهم عهدًا وذمة، على ألا يقاتلهم ولا يقاتلوه، فنقضوا العهد الذي كان بينهم وبينه، فأحل الله بهم بأسه الذي لا مَرَدَّ له، وأنـزل عليهم قضاءه الذي لا يُصَدّ، فأجلاهم النبي ، وأخرجهم من حصونهم الحصينة التي ما طمع فيها المسلمون ( أي ما كانوا يظنون أن تفتح لهم)، لأنها محكمة التحصين منيعة،  وظن اليهود أن حصونهم مانعتهم من بأس الله، فما أغنت عنهم من الله شيئًا، وجاءهم ما لم يكن ببالهم، وسيّرهم رسول الله وأجلاهم من المدينة، فكان منهم طائفة ذهبوا إلى أذرعات من أعالي الشام، وهي أرض المحشر والمنشر، ومنهم طائفة ذهبوا إلى خيبر.
وكان رسول الله قد صالحهم على الخروج من المدينة على أن لهم ما حملت إبلهم، فكانوا يخربون ما في بيوتهم من المنقولات التي يمكن أن تحمل معهم؛ ولهذا قال: (  يُخْرِبُونَ بُيُوتَهُمْ بِأَيْدِيهِمْ وَأَيْدِي الْمُؤْمِنِينَ فَاعْتَبِرُوا يَا أُولِي الأبْصَارِ ) أي:تفكروا في عاقبة من خالف أمر الله وخالف رسوله، وكذب كتابه، كيف يحل به من بأسه المخزي له في الدنيا، مع ما يدخره له في الآخرة من العذاب الأليم.
وقوله تعالى:( لأَوَّلِ الْحَشْرِ) قال القرطبي: الحشر الجمع؛ وهو على أربعة أوجه: حشران في الدنيا وحشران في الآخرة؛ أما الذي في الدنيا فقوله تعالى: ( هُوَ الَّذِي أَخْرَجَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مِنْ دِيَارِهِمْ لأَوَّلِ الْحَشْرِ ) قال الزهري: كانوا من سبط لم يصبهم جلاء، وكان الله عز وجل قد كتب عليهم الجلاء؛ فلولا ذلك لعذبهم في الدنيا وكان أول حشر حشروا في الدنيا إلى الشام. قال ابن عباس وعكرمة: من شك أن الحشر في الشام فليقرأ هذه الآية، وأن النبي قال لهم: " اخرجوا " قالوا إلى أين؟ قال: " إلى أرض المحشر" ،  قال قتادة: هذا أول المحشر. قال ابن عباس: هم أول من حشر من أهل الكتاب وأخرج من دياره. وقيل: إنهم أخرجوا إلى خيبر، وأن معنى ( لأَوَّلِ الْحَشْرِ) إخراجهم من حصونهم إلى خيبر، وآخره إخراج عمر رضي الله عنه إياهم من خيبر إلى نجد وأذرعات. وقيل تيماء وأريحاء، وذلك بكفرهم ونقض عهدهم.
وأما الحشر الثاني: فهو حشرهم وحشر الناس جميعا قرب القيامة،  وهي النار التي  تخرج من أرض اليمن تحشر النّاس إلى أرض الشام ، كما جاء في الحديث الذي يرويه حذيفة بن أسيد الغفاري قال اطلع النبي علينا ونحن نتذاكر فقال: " ما تذاكرون؟ " قالوا: نذكر الساعة. قال: " إنها لن تقوم حتى ترون قبلها عشر آيات، فذكر الدخان والدجال والدابة وطلوع الشمس من مغربها ونزول عيسى ابن مريم عليه الصلاة والسلام ويأجوج ومأجوج، وثلاثة خسوف: خسف بالمشرق، وخسف بالمغرب، وخسف بجزيرة العرب، وآخر ذلك نار تخرج من اليمن تطرد الناس إلى محشرهم. " ( مسلم)   وفي رواية له عن حذيفة أيضًا : " ونارٌ تخرج من قعرة عدن ترحِّل الناس"( مسلم)
أما عن كيفية حشرهم قرب يوم القيامة فقد روى الشيخان عن أبي هريرة رضى الله عنه عن النبي قال : " يحشر الناس على ثلاث طواف راغبين وراهبين، وأثنان على بعير، وثلاثة على  بعير، وأربعة على بعير، وعشرة على بعير، ويَحشُر بقيتَهم النار؛ تقيل معهم حيث قالوا، وتبيت معهم حيث بانوا، وتصبح معهم حيث أصبحوا، وتمسي معهم حيث أمسوا"  ( البخاري ومسلم )
قال ابن العربي: للحشر أول ووسط وآخر؛ فالأول إجلاء بني النضير، والأوسط إجلاء خيبر، والآخر حشر يوم القيامة.

قوله تعالى: ( مَا ظَنَنْتُمْ أَنْ يَخْرُجُوا ) يريد لعظم أمر اليهود ومنعتهم وقوتهم في صدور المسلمين، وكذلك في مدة حصاركم لهم وقصَرها، وكانت ستة أيام، مع شدة حصونهم ومنعتها، فلم يكن المسلمون يظنون أنهم يقدروا عليهم في هذه الفترة القصيرة.؛ وكذلك فإن اليهود ( وَظَنُّوا أَنَّهُمْ مَانِعَتُهُمْ حُصُونُهُمْ مِنَ اللَّهِ فَأَتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ حَيْثُ لَمْ يَحْتَسِبُوا ) لم يتوقعوا أنهم يغلبوا بهذه الفترة الوجيزة، لاغترارهم بقوتهم واجتماع كلمتهم، فجاءهم من أمر الله ما لم يكن لهم في بال، كما قال في الآية الأخرى: "(قَدْ مَكَرَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَأَتَى اللَّهُ بُنْيَانَهُمْ مِنَ الْقَوَاعِدِ فَخَرَّ عَلَيْهِمُ السَّقْفُ مِنْ فَوْقِهِمْ وَأَتَاهُمُ الْعَذَابُ مِن حَيْثُ لا يَشْعُرُونَ) [ النحل:26 ] .
( وَظَنُّوا أَنَّهُمْ مَانِعَتُهُمْ حُصُونُهُمْ ) قيل: حصونهم هي الوطيح والنطاة والسلالم والكتيبة، ظنوا أنها ستمنعهم ( مِنَ اللَّه ) أي من أمره. وكانوا أهل حلقة - أي سلاح كثير - وحصون منيعة؛ فلم يمنعهم شيء منها، بل ( فَأَتَاهُمُ اللَّهُ ) أي أمره وعذابه. ( مِنْ حَيْثُ لَمْ يَحْتَسِبُوا ) أي من حيث لم يظنوا. وقيل: من حيث لم يعلموا. قال ابن جريج والسدي ( وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ ) لما قتل سيدهم كعب بن الأشرف؛ وكان الذي قتله هو محمد بن مسلمة وأبو نائلة سلكان بن سلامة بن وقش - وكان أخا كعب بن الأشرف من الرضاعة - وعباد بن بشر بن وقش، والحارث بن أوس بن معاذ، وأبو عبس بن جبر. وخبره مشهور في السيرة. وفي الصحيح أن النبي قال: " نصرت بالرعب بين يدي مسيرة شهر"، فكيف لا ينصر به مسيرة ميل من المدينة إلى محلة بني النضير. وهذه خصيصى لمحمد دون غيره.
وقوله: ( وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ ) أي:الخوف والهَلَع والجَزَع، وكيف لا يحصل لهم ذلك وقد حاصرهم الذي نُصر بالرعب مسيرةَ شهر، صلوات الله وسلامه عليه.

 في اللغة:
في قوله تعالى: ( يُخْرِبُونَ بُيُوتَهُمْ بِأَيْدِيهِمْ وَأَيْدِي الْمُؤْمِنِينَ) قراءة العامة بتخفيف الخاء من أخرب؛ أي هَدَمَ. وقرأ السلمي والحسن ونصر بن عاصم وأبو عمرو ( يُخَرِّبون ) بالتشديد من التخريب. قال أبو عمرو: إنما اخترت التشديد لأن الإخراب ترك الشيء خرابا بغير ساكن، وبنو النضر لم يتركوها خرابا وإنما خرَّبوها بالهدم؛ يؤيده قوله تعالى: ( بِأَيْدِيهِمْ وَأَيْدِي الْمُؤْمِنِينَ) - وقراءة حفص عن عاصم بالتخفيف-وقال آخرون: التخريب والإخراب بمعنى واحد، والتشديد بمعنى التكثير.

عودة للتفسير:

قال قتادة والضحاك: كان المؤمنون يخربون من خارج ليدخلوا، واليهود يخربون من داخل ليبنوا به ما خرب من حصنهم. فروي أنهم صالحوا رسول الله على ألا يكونوا عليه ولا له؛ فلما ظهر يوم بدر قالوا: هو النبي الذي نعت في التوراة، فلا ترد له راية. فلما هزم المسلمون يوم أحد ارتابوا ونكثوا، فخرج كعب بن الأشرف في أربعين راكبا إلى مكة، فخالفوا عليه قريشا عند الكعبة، فأمر عليه السلام محمد بن مسلمة الأنصاري فقتل كعبا غيلة ثم صبحهم بالكتاب؛ فقال لهم. اخرجوا من المدينة. فقالوا: الموت أحب إلينا من ذلك؛ فتنادوا بالحرب. وقيل: استمهلوا رسول الله عشرة أيام ليتجهزوا للخروج، فدس إليهم عبدالله بن أبي المنافق وأصحابه لا تخرجوا من الحصن، فإن قاتلوكم فنحن معكم لا نخذلكم، ولئن أخرجتم لنخرجن معكم. فدربوا على الأزقة وحصنوها إحدى وعشرين ليلة، فلما قذف الله في قلوبهم الرعب وأيسوا من نصر المنافقين طلبوا الصلح؛ فأبى عليهم إلا الجلاء.
وقال الزهري وابن زيد وعروة بن الزبير: لما صالحهم النبي على أن لهم ما أقلت الإبل؛ كانوا يستحسنون الخشبة والعمود فيهدمون بيوتهم ويحملون ذلك على إبلهم ويخرب المؤمنون باقيها، وعن ابن زيد أيضا: كانوا يخربونها لئلا يسكنها المسلمون بعدهم. وقال ابن عباس: كانوا كلما ظهر المسلمون على دار من دورهم هدموها ليتسع موضع القتال، وهم ينقبون دورهم من أدبارها إلى التي بعدها ليتحصنوا فيها، ويرموا بالتي أخرجوا منها المسلمين. وقيل: ليسدوا بها أزقتهم. وقال عكرمة ( بِأَيْدِيهِمْ ) في إخراب دواخلها وما فيها لئلا يأخذه المسلمون، و( وَأَيْدِي الْمُؤْمِنِينَ ) في إخراب ظاهرها ليصلوا بذلك إليهم. قال عكرمة: كانت منازلهم مزخرفة فحسدوا المسلمين أن يسكنوها فخربوها من داخل وخربها المسلمون من خارج.
قوله تعالى: ( فَاعْتَبِرُوا يَا أُولِي الأَبْصَارِ )
أي اتعظوا يا أصحاب العقول والألباب. وقيل: يا من عاين ذلك ببصره؛ فهو جمع للبصر
ومن جملة الاعتبار المقصود التفكر به هنا :
- أنهم اعتصموا بالحصون وظنوا أنها تمنعهم من غضب الله، فأنزلهم الله منها.
-ومن وجوه التفكر: أن الله سلط عليهم من كان ينصرهم، من قبائل الخزرج الذين كان بينهم وبين بني النضير حلف أن ينصر بعضهم بعضا.
-ومن وجوهه أيضا: أنهم هدموا أموالهم بأيديهم.
ومن لم يعتبر بغيره اعتبر في نفسه. وفي الأمثال الصحيحة: « السعيد من وعظ بغيره»

وقوله: ( وَلَوْلا أَنْ كَتَبَ اللَّهُ عَلَيْهِمُ الْجَلاءَ لَعَذَّبَهُمْ فِي الدُّنْيَا ) أي لولا أنه قضى أنه سيجليهم عن دارهم وأنهم يبقون مدة فيؤمن بعضهم ويولد لهم من يؤمن، والجلاء، وهو النفي من ديارهم وأموالهم، لكان لهم عند الله عذاب آخر من القتل والسبي، ونحو ذلك، قاله الزهري، عن عُرْوَة، لأن الله قد كتب عليهم أنه سيعذبهم في الدار الدنيا مع ما أعد لهم في الآخرة من العذاب في نار جهنم.
قال ابن أبي حاتم:أخبرني عروة بن الزبير قال:ثم كانت وقعة بني النضير، وهم طائفة من اليهود، على رأس ستة أشهر من وقعة بدر،  وكان منـزلهم بناحية من المدينة، فحاصرهم رسول الله حتى نـزلوا من الجلاء، وأن لهم ما أقَلَّت الإبل من الأموال والأمتعة إلا الحلقة، وهي السلاح، فأجلاهم رسول الله قبل الشام. قال:والجلاء أنه كُتب عليهم في آي من التوراة، وكانوا من سبط لم يصبهم الجلاء قبل ما سلط عليه رسول الله ، وأنـزل الله فيهم: ( سَبَّحَ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأرْضِ ) إلى قوله ( وَلِيُخْزِيَ الْفَاسِقِينَ)

الفرق بين الجلاء والإخراج:

 والجلاء مفارقة الوطن يقال: جلا بنفسه جلاء، وأجلاه غيره إجلاء.
 والفرق بين الجلاء والإخراج وإن كان معناهما في الإبعاد واحدا من وجهين: أحدهما: أن الجلاء ما كان مع الأهل والولد، والإخراج قد يكون مع بقاء الأهل والولد.
 الثاني: أن الجلاء لا يكون إلا لجماعة، والإخراج يكون لواحد ولجماعة؛ قاله الماوردي.
عودة للتفسير:
وقوله: ( ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ شَاقُّوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ ) أي:إنما فَعلَ الله بهم ذلك وسَلَّط عليهم رسوله وعباده المؤمنين؛ لأنهم خالفوا الله ورسوله، وكذبوا بما أنـزل الله على رسله المتقدمين في البشارة بمحمد ، وهم يعرفون ذلك كما يعرفون أبناءهم، ثم قال: ( وَمَنْ يُشَاقِّ اللَّهَ فَإِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ ) .

No comments:

Post a Comment