Wednesday 9 November 2016

تفسير وربط للآيات وبيان المتشابهات - سورة الممتحنة ج4 الأخير - بيعة النساء

  

 



تفسير وربط للآيات وبيان للمتشابهات – سورة الممتحَنة ج4  الأخير : بيعة النساء

قال تعالى: ( يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا جَاءَكَ الْمُؤْمِنَاتُ يُبَايِعْنَكَ )
تسمى هذه الآية آية بيعة النساء، ولم تذكر في القرآن إلا مرة واحدة، ولا تكاد تجدها مشروحة شرحا وافيا مفصلة في كتب البحث والتفسير  بالرغم مما فيها من آداب وتربية وبيان للحقوق أسرية ومجتمعية.
والبيعة: المبايَعة والطاعة، وقد تبايَعوا على الأمر؛ كقولك: أصفقوا عليه، وبايعه عليه مبايعة: عاهَدَهُ.
والبَيْعَةُ - بفتح الباء - مِن باع وبايع: صفقة البيع، ومنه الحديث:  نهى رسولُ الله عن بيعتين في بيعة"( البخاري) وهي: المعاقَدة والمعاهَدة والتولية، وبذْل العهد على الطاعة والنُّصرة، ومنه قوله تعالى: ( إِنَّ الَّذِينَ يُبَايِعُونَكَ إِنَّمَا يُبَايِعُونَ اللهَ )( الفتح 10)
البيعة هي: تطلق هذه الكلمة على الصفقة على إيجاب البيع.
كما تطلق على المبايَعة  للإمام، أو الحاكم على الطاعة.
قال الإمام الشافعي في "الأم": "وإنما يبايع النساء على الإسلام، فأما على الطاعة فهن لا جهاد عليهن، من أجل هذا؛ كان نص بيعة النساء مختلفًا عن غيره من أنواع البيعات، وذلك بتربيتهنَّ على عظائم الأمور، وزجرهن عن كبائر الفواحش الواردة في الآية الكريمة.
فقد شملت آية  البيعة بعد النهي عن الشرك، على الحث على التخلِّي عن خصال في الجاهليَّة، وخصصت هذه الخصال الخمسة المذكورة بالآية لأنها تكون فيهن، وأما السرقةُ فيشترك فيها الرجال والنساء ، ولكنها كانت فيهنَّ أكثر منها في الرجال، وقد تكون أخفى- أولا تتحرج لها بعض النساء مما يعتقدن أنه حقهن ( وسيأتي توضيحه، ومقداره)
 ويلاحظ أن الآية كلها منهيات ، ليس فيها أي من الأوامر.- سيأتي توضيح-.
وقد ورد في السيرة ومن الحديث أن رسول الله قد بايع النساء عدة مرات، نذكر منها:

بايع رسول الله نساء الأنصار يوم بيعة العقبة الكبري بهذه البيعة:
 قالت: "أتيتُ رسول الله في نساء لنبايعه، فأخذ علينا ما في القرآن: ( أَنْ لا يُشْرِكْنَ بِاللَّهِ شَيْئًا ) الآية، وقال: " فيما استطعتن وأطَقْتُنَّ" ، قلنا: الله ورسوله أرحم بنا من أنفسنا، قلنا: يا رسول الله: ألا تصافحنا؟ قال: " إني لا أصافح النساء، إنما قولي لامرأةٍ واحدةٍ كقولي لمائة امرأة " ( أخرجة الإمام أحمد والترمذي والنسائي ، وإسناده صحيح)
كما بايع رسول الله النساء المهاجرات للمدينة بعد معاهدة الحديبية بهذه البيعة: روى البخاري:عن عروة أن عائشة زوج النبي أخبرته:أن رسول الله كان يمتحن من هاجر إليه من المؤمنات بهذه الآية: ( يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا جَاءَكَ الْمُؤْمِنَاتُ يُبَايِعْنَكَ ) إلى قوله: ( غَفُورٌ رَحِيمٌ ) قال عروة: قالت عائشة: فمن أقر بهذا الشرط من المؤمنات، قال لها رسول الله : « قد بايعتك »، كلامًا، ولا والله ما مست يده يد امرأة قَطّ في المبايعة، ما يبايعهن إلا بقوله: « قد بايعتك على ذلك »
وكان بايع النساء أيضا بعد فتح مكة بهذه البيعة:
وسيأتي حديث هند بنت عتبة زوج أبا سفيان وكانت ممن بايعهن هناك، كما كان يتعاهد بهذه البيعة النساء في العيدين، وكذلك بايع بها الرجال ... كما سيأتي.
تفسير الآية:

في قوله تعالى : ( أَنْ لا يُشْرِكْنَ بِاللَّهِ شَيْئًا )

فبدأ تعالى بالنَّهْي عنِ الشِّرْك؛ لأنه مقابل للإيمان، الذي تقوم عليه قاعدةُ الحياة السليمة لكل بشر، فالشِّرك نزعة تساوي بين من لا يملك ، ومن يملك ، وبين من لا يقدر ويقدر ، وبين من لا يخلق ومن يخلق...، فهذا انحدار في العقول إلى الهاوية، وبالنفس البشرية تغليب للمحتوي المادي لها عن المحتوي الروحي، وغياب للوعي، وعمى في البصيرة عن الحقيقة.
لذا كان من أولويات البيعة في الإسلام عمومًا، وبيعة النساء خصوصًا ، إعلانُ المفارَقة بين الشِّرك والتوحيد، فهو أصْل الميثاق، وأساس الحياة.
وقال الإمام أحمد: عن أميمة بنت رُقَيقة قالت:أتيت رسول الله في نساء لنبايعه، فأخذ علينا ما في القرآن: ( أَنْ لا يُشْرِكْنَ بِاللَّهِ شَيْئًا ) الآية، وقال: « فيما استطعتن وأطقتن »،  قلنا:الله ورسوله أرحم بنا من أنفسنا، قلنا:يا رسول الله، ألا تصافحنا؟ قال " إني لا أصافح النساء، إنما قولي لامرأة واحدة كقولي لمائة امرأة " .(  إسناده صحيح، وقد رواه الترمذي والنسائي وابن ماجة، وقال الترمذي:حسن صحيح) في الحديث أن النساء أشفقن من هذا النهي ( لا يُشْرِكْنَ ) فخشين أن لا يوفين دقائقه، فمن الشرك ما هو أخفى  من دبيب النمل، كما جاء في حديث رسول الله  
كما هو عند ابن حبان في صحيحه ، وفي صحيح أبي حاتم وغيره عن النبي أنه قال :" الشرك في هذه الأمة أخفى من دبيب النمل"  ، ولكن رسول الله  جاء ببما يذهبه ، ففي الحديث أن أبا بكر قال: يا رسول الله كيف ننجو منه وهو أخفى من دبيب النمل ؟ فقال : " ألا أعلمك كلمة إذا قلتها نجوت من دقه وجله ؟ قل : اللهم إني أعوذ بك أن أشرك بك وأنا أعلم وأستغفرك لما لا أعلم " .
وللفائدة
من الشرك الخفي:  الرياء في أعمال العبادات، وقد يعظم هذا النوع من الشرك بحسب النية عند الدخول في العمل . والتعلق القلبي بالأسباب دون المسبب سبحانه، ومنه أيضاً: عطف مشيئة العبد على مشيئة الله بحرف الواو، كقول الشخص: ما شاء الله وشئت، لما رواه أحمد وابن ماجه والنسائي وصححه عن قتيلة بنت صيفي أن يهودياً أتى النبي فقال: إنكم تنددون! وإنكم تشركون! تقولون: ما شاء وشئت، وتقولون: والكعبة، فأمرهم النبي إذا أرادوا أن يحلفوا أن يقولوا: ورب الكعبة، ويقول أحدهم: ما شاء الله، ثم شئت، والفرق بينهما أن العطف بالواو يقتضي المشاركة والعطف بثم يقتضي التبعية، ومشيئة العبد تابعة لمشيئة الله لا مشاركة لها، كما قال تعالى: (وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ) [الإنسان30] ، وفي الحديث أيضا أن الحلف بغير الله من الشرك.

قوله تعالى : ( وَلا يَسْرِقْنَ)

فقد شملت آية  البيعة بعد النهي عن الشرك، على الحث على التخلِّي عن خصال في الجاهليَّة، وخصصت هذه الخصال الخمسة المذكورة بالآية لأنها تكون فيهن، وأما السرقةُ فيهي كانت فيهنَّ أكثر منها في الرجال.
بعد أن نهى الله تعالى المرأة عن الشرك، أتبعها بالنهي عن السرقة، وتحديدا من زوجها_ أو أقاربها بعذر الحاجة ) وهذا ما فهمته هند بنت عتبة إذ لما قال النبي في البيعة: ( وَلا يَسْرِقْنَ) قالت هند: يا رسول الله إن أبا سفيان رجل مسيك فهل علي حرج أن آخذ ما يكفيني وولدي؟ قال ( لا إلا بالمعروف ) فخشيت هند أن تقتصر على ما يعطيها فتضيع أو تأخذ أكثر من ذلك فتكون سارقة ناكثة للبيعة المذكورة فقال لها النبي : ( لا ) أي لا حرج عليك فيما أخذت بالمعروف، يعني من غير استطالة إلى أكثر من الحاجة.
وفي رواية للزيلعي في الكشاف: فقال النبي : ( ولا يسرقن ) فقالت هند: إن أبا سفيان رجل شحيح وإني أصيب من ماله قوتنا. فقال أبو سفيان: هو لك حلال. فضحك النبي وعرفها وقال: " أنت هند " ؟ ( وكانت متنقبة تختفي من النبي لما فعلته بحمزة يوم أحد ) فقالت: عفا الله عما سلف. .( الكشاف للزيلعي- وهو حديث غريب ) وفي هذه الرواية  أقرها أبو سفيان على ما أخذت منه بدون علمه.
فأباح النبي للمرأة  إذا كان الرجل مقصرًا في نفقتها، فلها أن تأخذَ من ماله بالمعروف، ما جرتْ به عادة أمثالها، وإن كان بغير علمه.

فائدة:
قال ابن العربي وهذا إنما إباحت الأخذ هو فيما لا يخزِّنه عنها في حجاب،  ولا يضبط عليه بقفل،  فإنه إذا هتكته الزوجة وأخذت منه كانت سارقة تعصي به وتُقطع يدها بذلك. ولا يعد سرقة إلا إذا كانت من أموال الأجانب، ومما هو محرز- أي وضع مخبأً في حرز -.
وقد ترجم له البخاري رحمه الله لهذا الحديث : ما ورد من جواز القضاء على الغائب في حقوق الآدميين دون حقوق الله. فقد كان كلام هندٍ كافيًا في تَحْليل ما أخذتْه من مال زوجها بدون علمه، فلم تحتجْ إلى إثبات لقدْر نفقة أبي سفيان من البيِّنات أو الأدلة، فقضى لها النبيُّ بتحليل ما أخذتْه من مال زوجها بالمعروف بقولها فقط بدون بينة، لكنه قيد محدد ما تأخذه من مال زوجها- بالمعروف- أي ما تعارف عليه، بدون إفراط ولا تفريط.

ثم قال: ( وَلا يَزْنِينَ )

قال الإمام الرازي: "يحتمل أن يكون المقصود حقيقة الزنا، أو دواعيه أيضًا" ، وهو ما قاله الرسول : " اليدانِ تزنيان، والعينان تزنيان، والفرْجُ يُصدِّقُ ذلك أو يُكذِّبُهُ" ( أبو داوود والهيثمي – إسناده جيد)، وتفسير النهي عن الزنا بالنهي عن دواعي الزنا، لأن المخاطب هنا النساء، وفيهن ومن أعمالهن ما يكون من دواعي الزنا ، أكثر من مبادرتهن به، ويؤكد هذا أن الله تعالى بدأ في آية بيان الحد الزنا في سورة النور بالنساء، قال تعالى: ( الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِّنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ ) ( النور2) ، والزنا كان فيهن مستقبح تعف الحرة العفيفة عنه، فعن عائشة  رضي الله عنها  قالتْ: جاءتْ فاطمة بنت عتبة - أخت هند - تبايع النبيّ  فأخذ عليها: ( أَنْ لا يُشْرِكْنَ بِاللَّهِ شَيْئًا وَلا يَسْرِقْنَ وَلا يَزْنِينَ ) الآية، فوضعتْ يدها على رأسها حياءً، فأعجبه ما رأى منها، فقالت عائشة: أقرِّي أيتها المرأة، فوالله ما بايعنا إلا على هذا، قالت: فنعم إذًا، فبايعها بالآية( أخرجه الإمام أحمد – صحيح). وفي رواية قالت هند: أو تزني الحرة!
فهذه الرواية تدل على كراهة الزِّنا عند النساء الحرائر، وبشاعته في الجاهلية، وإن كان مشهورًا في بعض النساء، كالبغايا، والإماء؛ لذا جاءتْ أحكام الإسلام السامية؛ تدعو إلى الترفُّع عن الرذيلة، وأن تطيب النفس بالمباح منَ النكاح، وعلى سد أبواب الفتنة، المؤدية إلى الزنا بالمنع من الاختلاط المحرَّم بين الرجال والنساء؛ لسد أبواب الغواية، وحبائل الشيطان؛ قال - تعالى -: ( وَلَا تَقْرَبُوا الزِّنَا إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَسَاءَ سَبِيلًا ﴾)( الإسراء 32)

ثم قال: ( وَلا يَقْتُلْنَ أَوْلادَهُنَّ) :

أي وقتل الأولاد يدخل فيه ما كان يفعله بعض العرب من وَأْدِ البنات أي دفنهن حيات اتقاء لعارهن أن يُسبين أو يَفجرن، وقتْلِ الصغار لأجل الفقر أو خوف الفقر إذا كبِروا، وقال بعض المفسرين: إن منه تعمُّدَ المرأة إسقاطَ الجنين لأي سبب من الأسباب، وأسند القتْل سواء الأطفال أو الأجنة إلى النساء، وإن كان بعضه يفعله الرجال أو يأمروا به؛ لأن النساء كن يرضين به، ويسكتن عنه.
وخص الله القتل بالأولاد؛ لأنه مذمتان: قتل للنفس،  وقطيعة رحم، فالعناية بالنهي عنه آكد، ولأنه كان شائعًا فيهم، وهو وأدُ البنات، وقتل البنين؛ خشية الإملاق، أو خصهم بالذِّكر؛ لأنهم لا يستطيعوا أن يدافعوا عن أنفسهم.
في حديث بيعة النبي للنساء بعد فتح مكة ، فيه:فقالت هند: ربيناهم صغارا وقتلتهم كبارا يوم بدر، فأنتم وهم أبصر.( الكشاف للزيلعي- وهو حديث غريب )
وروى مقاتل أنها قالت: ربيناهم صغارا وقتلتموهم كبارا، وأنتم وهم اعلم. فضحك عمر بن الخطاب حتى استلقى. وكان حنظلة بن أبي سفيان وهو بكرها قتل يوم بدر.
والحديث بكامله كما رواه ابن جرير من طريق العوفي، عن ابن عباس:أن رسول الله ﷺ أمر عمر بن الخطاب فقال: « قل لهن:إن رسول الله يبايعكن على ألا تشركن بالله شيئًا » - وكانت هند بنت عتبة بن ربيعة التي شقت بطن حمزة مُنَكرة في النساء- فقالت: « إني إن أتكلم يعرفني، وإن عرفني قتلني » . وإنما تنكرت فرقًا- خوفا - من رسول ﷺ ، فسكت النسوة اللاتي مع هند، وأبين أن يتكلمن. فقالت هند وهي مُنَكَّرة: كيف تقبل من النساء شيئًا لم تقبله من الرجال؟ ففطن إليها رسول الله وقال لعمر: « قل لهن:ولا تسرقن » . قالت هند:والله إني لأصيب من أبي سفيان الهَنَات، ما أدري أيحلهن لي أم لا؟ قال أبو سفيان:ما أصبت من شيء مضى أو قد بقي، فهو لك حلال. فضحك رسول الله ﷺ وعرفها، فدعاها فأخذت بيده، فعاذت به، فقال: « أنت هند؟ » ، قالت:عفا الله عما سلف. فصرف عنها رسول الله ﷺ فقال: « ولا يزنين » ، فقالت:يا رسول الله، وهل تزني الحرة؟ قال: « لا والله ما تزني الحرة » . فقال: « ولا يقتلن أولادهن » . قالت هند:أنت قتلتهم يوم بدر، فأنت وهم أبصر. قال: ( وَلا يَأْتِينَ بِبُهْتَانٍ يَفْتَرِينَهُ بَيْنَ أَيْدِيهِنَّ وَأَرْجُلِهِنَّ ) قال ( وَلا يَعْصِينَكَ فِي مَعْرُوفٍ ) قال:منعهن أن ينحن، وكان أهل الجاهلية يمزقن الثياب ويخدشن الوجوه، ويقطعن الشعور، ويدعون بالثبور. والثبور:الويل .
(وقال ابن كثير فيه : هذا أثر غريب، وفي بعضه نكارة، والله أعلم؛ فإن أبا سفيان وامرأته لما أسلما لم يكن رسول الله ﷺ يخيفهما، بل أظهر الصفاء والود له، وكذلك كان الأمر من جانبه، عليه السلام لهما.)

ثم قال: ( وَلا يَأْتِينَ بِبُهْتَانٍ يَفْتَرِينَهُ بَيْنَ أَيْدِيهِنَّ وَأَرْجُلِهِنَّ )

"البُهتان: الكذب الفاحش الذي يبهت سامعه، وخص الأيدي والأرجل بالافتراء؛ لأنَّ معظم الأفعال تقع بهما؛ إذ أن الأيدي والأرجل هي العوامل والحوامل للمباشرة والسَّعي، وكذا يسمون الصنائع الأيادي، وقد يُعاقَب الرجل بجناية قوليَّة، فيقال: هذا بما كسبتْ يداك...، ثم قال: وأصل هذا كان في بيعة النِّساء، ويعني: نسبة المرأة الولد الذي تزني به أو تلتقطه إلى زَوْجِها، ثم لما استعمل هذا اللَّفظ في بيعة الرجال، احتيج إلى حمله على غير ما ورد أولاً، فيحتمل أن يكون المراد بين الأيدي والأرجل (القلب)؛ لأنه هو الذي يترجم اللسان عنه؛ فلذلك نسب إليه الافتراء، كأن المعنى: لا ترموا أحدًا بكذب تُزوِّرُونه في أنفسكم، ثم تبهتون صاحبه بألسنتكم" ( فتح الباري في شرح أحاديث البخاري- لابن حجر العسقلاني)
قيل في معنى « بين أيديهن » ألسنتهن بالنميمة. ومعنى بين « أرجلهن » فروجهن. وقيل: ما كان بين أيديهن من قبلة أو جسة، وبين أرجلهن الجماع .
وقيل: المعنى لا يلحقن برجالهن ولدا من غيرهم. وهذا قول الجمهور.
وكانت المرأة تلتقط ولدا فتلحقه بزوجها وتقول: هذا ولدي منك. فكان هذا من البهتان والافتراء. وقيل: ما بين يديها ورجليها كناية عن الولد؛ لأن بطنها الذي تحمل فيه الولد بين يديها، وفرجها الذي تلد منه بين رجليها. وهذا عام في الإتيان بولد وإلحاقه بالزوج وإن سبق النهي عن الزنى، ولكن هنا المعنى فيه تخصيص للحال، وهي أن تزني المتزوجة ، وتحمل من الزنا ، ثم تنسب ولد الزني لزوجها ، فهذا هو البهتان. ويؤيد هذا الحديث الذي رواه أبو داود عن أبي هريرة أنه سمع رسول الله يقول حين نـزلت آية الملاعنة: " أيما امرأة أدخَلت على قوم من ليس منهم، فليست من الله في شيء، ولن يدخلها الله جَنّته، وأيما رجل جَحَد ولده وهو ينظر إليه، احتجب الله منه، وفضحه على رءوس الأولين والآخرين "
وروي أن هندا لما سمعت ذلك قالت: والله إن البهتان لأمر قبيح؛ ما تأمر إلا بالأرشد ومكارم الأخلاق!.

وقوله تعالى( وَلا يَعْصِينَكَ فِي مَعْرُوفٍ)

وفي صحيح مسلم عن أم عطية لما نزلت هذه الآية: ( يُبَايِعْنَكَ عَلَى أَنْ لا يُشْرِكْنَ بِاللَّهِ شَيْئًا - إلى قوله - وَلا يَعْصِينَكَ فِي مَعْرُوفٍ) ، قال: ( كان منه النياحة ) قالت: فقلت يا رسول الله، إلا آل فلان فإنهم كانوا أسعدوني في الجاهلية؛ فلا بد لي من أن أسعدهم. فقال، رسول الله : ( إلا آل فلان ).
وعنها قالت: أخذ علينا رسول الله مع البيعة إلا ننوح؛ فما وفت منا امرأة إلا خمس: أم سليم، وأم العلاء، وابنه أبي سيرة امرأة معاذ أو ابنة أبي سبرة، وامرأة معاذ. وقيل: إن المعروف ها هنا الطاعة لله ولرسوله؛ أي في كل أمر فيه رشدهن. وهذا هو الأصح: أنه عام في كل معروف أمر الله عز وجل ورسول به، فروي أن هندا قالت عند ذلك: ما جلسنا في مجلسنا هذا وفي أنفسنا أن نعصيك في شيء.
النياحة وهي كنتف الشعور، وشق الجيوب، ولطم الخدود، وخمش الوجوه، ودعاء الويل والثبور.  
والإسعاد، وهو - حسبما قال ابن الأثير في "النهاية" - الإعانة في المناحات، تقوم المرأة فتقوم معها أخرى من جاراتها فتساعدها على النياحة.
وقد كان نساء الجاهلية يسعد بعضهن بعضًا على النياحة، حتى إن النبي لما أخذ البيعة على النساء أن لا يَنُحْن، قلن: يا رسول الله، إن نساءً أسعدتنا في الجاهلية أفَنُسْعِدُهُنَّ؟ فقال : "لَا إِسْعَادَ فِي الْإِسْلَامِ".
فائدة: لم يرخص في الإسعاد إلا لأم عطية رضي الله عنها خاصة وفي حق قوم بأعيانهم كان فيهم مأتم وكانوا قد أسعدوها في الجاهلية، وذلك قبل أن تبايع، والخبر في ذلك مروي من طرق عند مسلم ، والنسائي
وفي البخاري: عن أم عطية قالت:بَايَعْنَا رسول الله ، فقرأ علينا: ( أَنْ لا يُشْرِكْنَ بِاللَّهِ شَيْئًا ) ونهانا عن النياحة، فقبضت امرأة يدها، قالت:أسعدتني فلانة أريد أن أجزيها( اي أنها ناحت معي في مصاب، وعلي أن أقابلها بالمثل، وأنوح معها لو حصل لها مكروه)  فما قال لها رسول الله شيئا، فانطلقت ورجعت فبايعها.
ورواه مسلم، وفي رواية: " فما وفى منهن امرأة غيرها، وغير أم سليم ابنة ملحان " .
وللبخاري عن أم عطية قالت:أخذ علينا رسول الله عند البيعة ألا ننوح، فما وَفّت منا امرأة غير خمس نسوة:أم سليم، وأم العلاء، وابنة أبي سبرة امرأة معاذ، وامرأتان - أو:ابنة أبي سَبرة، وامرأة معاذ، وامرأة أخرى .
ورواه الترمذي في التفسير، عن عبد بن حُمَيد، عن أبي نُعَيم - وابن ماجه، عن أبي بكر بن أبي شيبة، عن وكيع- كلاهما عن يزيد بن عبد الله الشيباني مولي الصهباء، به وقال الترمذي:حسن غريب.
وفي الصحيحين من طريق الأعمش، عن عبد الله بن مُرة، عن مسروق، عن عبد الله بن مسعود قال:قال رسول الله : " ليس منا من ضَرَب الخدود، وشَقَّ الجيوب، ودعا بدعوى الجاهلية " .
وفي الصحيحين أيضًا عن أبي موسى:( أن رسول الله برئ من الصالقة والحالقة والشاقة ) .
وقال الحافظ أبو يعلى، بسنده عن أبي مالك الأشعري حدثه:أن رسول الله قال: " أربع في أمتي من أمر الجاهلية لا يتركونهن:الفخر في الأحساب، والطعن في الأنساب، والاستسقاء بالنجوم، والنياحة. وقال:النائحة إذا لم تتب قبل موتها تقام يوم القيامة وعليها سربال من قَطران ودرع من جَرَب " .(ورواه مسلم في صحيحه منفردًا به، من حديث أبان بن يزيد العطار).
وعن أبي سعيد:أن رسول الله لعن النائحة والمستمعة. رواه أبو داود،
وقال تعالى فإن أقررن بهذا: (  فَبَايِعْهُنَّ وَاسْتَغْفِرْ لَهُنَّ اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ )

وقد كان رسول الله يتعاهدُ النساءَ بهذه البيعة يوم العيد:

عن ابن عباس قال:شهدت الصلاة يوم الفطر مع رسول الله وأبي بكر وعمر وعثمان، فكلهم يصليها قبل الخطبة ثم يخطب بَعدُ، فنـزل نبي الله ، فكأني أنظر إليه حين يُجَلَّس الرجالَ بيده، ثم أقبل يَشقّهم حتى أتى النساء مع بلال فقال: ( يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا جَاءَكَ الْمُؤْمِنَاتُ يُبَايِعْنَكَ عَلَى أَنْ لا يُشْرِكْنَ بِاللَّهِ شَيْئًا وَلا يَسْرِقْنَ وَلا يَزْنِينَ وَلا يَقْتُلْنَ أَوْلادَهُنَّ وَلا يَأْتِينَ بِبُهْتَانٍ يَفْتَرِينَهُ بَيْنَ أَيْدِيهِنَّ وَأَرْجُلِهِنَّ ) حتى فرغ من الآية كلها. ثم قال حين فرغ: « أنتن على ذلك؟ » . فقالت امرأة واحدة، ولم يجبه غيرها:نعم يا رسول الله - لا يدري الحسن من هي- قال: « فتصدقن » ، قال:وبسط بلال ثوبه فجعلن يلقين الفَتَخَ والخواتيم في ثوب بلال .( البخاري)

الحدود في هذه المنهيات كفارات لها:

عند الإمام أحمد: عن عبادة بن الصامت قال:كنا عند رسول الله في مجلس فقال: « تبايعوني على ألا تشركوا بالله شيئًا، ولا تسرقوا، ولا تزنوا، ولا تقتلوا أولادكم - قرأ الآية التي أخذت على النساء ( إِذَا جَاءَكَ الْمُؤْمِنَاتُ ) فمن وفى منكم فأجره على الله، ومن أصاب من ذلك شيئًا فعوقب به، فهو كفارة له، ومن أصاب من ذلك شيئًا فستره الله عليه، فهو إلى الله، إن شاء غفر له، وإن شاء عذبه » ( أخرجاه في الصحيحين ).
وعن عبادة بن الصامت قال:كنت فيمن حضر العقبة الأولى، وكنا اثني عشر رجلا فبايعنا رسول الله على بيعة النساء، وذلك قبل أن يفرض الحرب، على ألا نشرك بالله شيئًا، ولا نسرق، ولا نـزني، ولا نقتل أولادنا، ولا نأتي ببهتان نفتريه بين أيدينا وأرجلنا، ولا نعصيه في معروف، وقال: « فإن وَفَيتم فلكم الجنة » رواه ابن أبي حاتم.

فائدة: البيعة فيها كلها من المنهيات، وليس من المأمورات

ذكر الله عز وجل ورسوله في صفة البيعة خصالا شتى؛ صرح فيهن بأركان النهي في الدين ولم يذكر أركان الأمر. وهي ستة أيضا: الشهادة، والصلاة، والزكاة، والصيام، والحج، والاغتسال من الجنابة. وذلك لأن النهي دائم في كل الأزمان وكل الأحوال؛ فكان التنبيه على اشتراط الدائم أكد.
وقيل: إن هذه المناهي كان في النساء كثير من يرتكبها ولا يحجزهن عنها شرف النسب، فخصت بالذكر لهذا، ونحو منه قول عليه لوفد عبد القيس: " وأنهاكم عن الدباء والحنتم والنقير والمزفت "- كلها أنواع من الخمور- فنبههم على ترك المعصية في شرب الخمر دون سائر المعاصي، لأنها كانت شهوتهم وعادتهم، وإذا ترك المرء شهوته من المعاصي هان عليه ترك سائرها مما لا شهوة له فيها.

قال تعالى : ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَوَلَّوْا قَوْمًا غَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ قَدْ يَئِسُوا مِنَ الآخِرَةِ كَمَا يَئِسَ الْكُفَّارُ مِنْ أَصْحَابِ الْقُبُورِ (

ينهى تبارك وتعالى عن موالاة الكافرين في آخر « هذه السورة » كما نهى عنها في أولها فقال: ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَوَلَّوْا قَوْمًا غَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ ) يعني:اليهود والنصارى وسائر الكفار، ممن غضب الله عليه ولعنه واستحق من الله الطرد والإبعاد، فكيف توالونهم وتتخذونهم أصدقاء وأخلاء وقد يئسوا من الآخرة، أي:من ثواب الآخرة ونعيمها في حكم الله عز وجل. وقوله: ( كَمَا يَئِسَ الْكُفَّارُ مِنْ أَصْحَابِ الْقُبُورِ ) فيه قولان:
أحدهما:كما يئس الكفار الأحياء من قراباتهم الذين في القبور أن يجتمعوا بهم بعد ذلك؛ لأنهم لا يعتقدون بعثا ولا نشورا، فقد انقطع رجاؤهم منهم فيما يعتقدونه.
قال العوفي، عن ابن عباس: ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَوَلَّوْا قَوْمًا غَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ ) إلى آخر السورة، يعني من مات من الذين كفروا فقد يئس الأحياء من الذين كفروا أن يرجعوا إليهم أو يبعثهم الله عز وجل.
وقال الحسن البصري: ( كَمَا يَئِسَ الْكُفَّارُ مِنْ أَصْحَابِ الْقُبُورِ ) قال:الكفار الأحياء قد يئسوا من الأموات.
وقال قتادة:كما يئس الكفار أن يرجع إليهم أصحاب القبور الذين ماتوا. وكذا قال الضحاك. رواهن ابن جرير.
والقول الثاني: معناه:كما يئس الكفار الذين هم في القبور من كل خير.
قال الأعمش، عن أبي الضُّحَى، عن مسروق، عن ابن مسعود: ( كَمَا يَئِسَ الْكُفَّارُ مِنْ أَصْحَابِ الْقُبُورِ ) قال:كما يئس هذا الكافر إذا مات وعاين ثوابه واطلع عليه. وهذا اختيار ابن جرير.

تم .. والحمد لله الذي تتم بنعمته الصالحات - ربنا تقبل منا ومن كل من قرأ فوعى وعمل ما ترضى

No comments:

Post a Comment