Wednesday 9 November 2016

تفسير وربط للآيات وبيان للمتشابهات - سورة الممتحنة ج3 الإمتحان والتحريم.





 



تفسير وربط للآيات وبيان للمتشابهات – سورة الممتحَنة ج3 : الإمتحان والتحريم

هذا الجزء من السورة وردت آيات الإمتحان الذي أمر به الله تعالى أن  يمتحن الرسول  والمسلمون معه المهاجرات اللآتي يأتين المدينة تاركات أهلهن وديارهن، وآيات تحرم الكافرة على المسلم، وأن يُبقي على عصمتها إن كفرت بعد إسلامها....
قال تعالى:( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا جَاءَكُمُ الْمُؤْمِنَاتُ مُهَاجِرَاتٍ فَامْتَحِنُوهُنَّ  )
تقدم في سورة « الفتح » ذكر صلح الحديبية الذي وقع بين رسول الله وبين كفار قريش، فكان فيه: « على ألا يأتيك منا رجل - وإن كان على دينك- إلا رددته إلينا » . وفي رواية: « على أنه لا يأتيك منا أحد - وإن كان على دينك- إلا رددته إلينا » على الرواية الأولى لا يدخل النساء في العهد ، وعلى الرواية الثانية فقد دخلوا ، وهذه الآية نقض للعهد مع النساء فقط، باعتبار دخولهم في العهد،  وهذا قول عروة، وغيره، فعلى هذه الرواية تكون هذه الآية مخصصة للسنة، وهذا من أحسن أمثلة على تخصيص القرآن للسنة.
 ففي الآية يأمر الله عز وجل عباده المؤمنين إذا جاءهم النساء مهاجرات أن يمتحنوهن، فإن عَلِموا أنهنَّ مؤمنات فلا يرجعوهن إلى الكفار، لا هن حل لهم ولا هم يحلون لهن، هذا يدل على أن للنبي أن يجتهد رأيه في الأحكام، ولكن لا يقره الله على خطأ،  وقالت طائفة من أهل العلم: لم يشترط ردهن في العقد لفظا، وإنما أطلق العقد في رد من أسلم؛ فكان ظاهر العموم اشتماله عليهن مع الرجال. فبين الله تعالى خروجهن عن عموم القول،  وفرق بينهن وبين الرجال لأمرين: أحدهما: أنهن ذوات فروج يحرمن عليهم، الثاني: أنهن أرق قلوبا وأسرع تقلبا منهم، فأما المقيمة منهن على شركها فمردودة عليهم.

سبب نزول الآية:

وقد ورد في التراجم عن عبد الله بن أبي أحمد قال:هاجرت أم كلثوم بنت عقبة بن أبي مُعَيط في الهجرة، فخرج أخواها عمارة والوليد حتى قدما على رسول الله ، فكلماه فيها أن يردها إليهما، فنقض الله العهد بينه وبين المشركين في النساء خاصة، ومنعهن أن يُرْدَدْنَ إلى المشركين، وأنـزل الله آية الامتحان  : ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا جَاءَكُمُ الْمُؤْمِنَاتُ مُهَاجِرَاتٍ فَامْتَحِنُوهُنَّ  ) .
 وقد ذُكر غير أم كلثوم بنت عقبة أنها هاجرت منهن: سعيدة بنت الحارث الأسلمية قيل بعد الفراغ من الكتاب، والنبي ما زال بالحديبية بعد؛ فأقبل زوجها وكان كافرا - وهو صيفي بن الراهب،  فقال: يا محمد، اردد علي امرأتي فإنك شرطت ذلك! وهذه طينة الكتاب لم تجف بعد، فأنزل الله تعالى هذه الآية.
وقيل: إن التي جاءت أميمة بنت بشر، كانت عند ثابت بن الشمراخ ففرت منه وهو يومئذ كافر، فتزوجها سهل بن حنيف فولدت له عبدالله. والمشهور أنها أم كلثوم بنت عقبة ، الله أعلم

كيف كان امتحان النبي للنساء؟

قال ابن جرير: سُئِل ابنُ عباس:كيف كان امتحانُ رسول الله النساءَ؟ قال:كان يمتحنهن: بالله ما خَرجت من بُغض زوج؟ وبالله ما خَرجت رَغبةً عن أرض إلى أرض؟ وبالله ما خرجت التماس دنيا؟ وبالله ما خرجت إلا حبًا لله ولرسوله؟ .
ثم رواه من وجه آخر، أن الذي كان يحلفهن عمر بن الخطاب عن أمر رسول الله له.
وقال العوفي، عن ابن عباس في قوله: ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا جَاءَكُمُ الْمُؤْمِنَاتُ مُهَاجِرَاتٍ فَامْتَحِنُوهُنَّ ) كان امتحانهن أن يَشهدْن أن لا إله إلا الله، وأن محمدًا عبد الله ورسوله.
وقال مجاهد: ( فَامْتَحِنُوهُنّ ) فاسألوهن:عما جاء بهن؟ فإن كان بهن غضبٌ على أزواجهن أو سَخْطة أو غيره، ولم يؤمنّ فارجعوهن إلى أزواجهن.

وقوله: ( فَإِنْ عَلِمْتُمُوهُنَّ مُؤْمِنَاتٍ) فيه دلالة على أن الإيمان يمكن الاطلاع عليه يقينًا، أي هذا الامتحان لكم، والله اعلم بإيمانهن، لأنه متولي السرائر( فَإِنْ عَلِمْتُمُوهُنَّ مُؤْمِنَاتٍ)  أي بما يظهر من الإيمان، وقيل: إن علمتموهن كنَّ مؤمنات قبل الامتحان: ( فَلا تَرْجِعُوهُنَّ إِلَى الْكُفَّارِ لا هُنَّ حِلٌّ لَهُمْ وَلا هُمْ يَحِلُّونَ لَهُنَّ ) هذه الآية هي التي حَرّمَت المسلمات على المشركين، وقد كان جائزًا في ابتداء الإسلام أن يتزوج المشرك المؤمنة.

قصة زينب بنت رسول الله مع زوجها أبو العاص:

كان أبو العاص بن الربيع زوج ابنة النبي زينب رضي الله عنها، تزوجها قبل بعثة النبي ، فلما بعث أسلمت، وظل زوجها على كفره ، قال لها لما دعته إلى الإسلام : أما أنا فلا أحب الناس أن يقولوا خذّل قومه.وكفر بآبائه إرضاءً لزوجته. وما أباك بمتهم.  وبقيت معه في مكة بعد أن هاجر أبوها رسول الله إلى المدينة وجميع أهلها وبقيت هي مع زوجها المشرك بإذن من النبي ،حيث لم يكن الله قد أنزل التفريق بين المسلمة وزوجها الكافر.
وفي السنة الثانية للهجرة قاتل أبو العاص مع جيش مكة ضد حماه في غزوة بدر، وكان أن  وقع في الأسارى،  فبعثت امرأته زينب بنت رسول الله من مكة مع شقيقه في فدائه بقلادة لها كانت لأمها خديجة، لم تجد عندها شيء ثمين تفديه به غيرها، فلما رآها رسول الله رَقّ لها رقَّةً شَديدَةً، وقال للمسلمين: « إن رأيتم أن تطلقوا لها أسيرها فافعلوا »  ففعلوا، فأطلقه رسول الله على أن يبعث ابنته إليه، فوفى له بذلك وصدقه فيما وعده، وبعثها إلى رسول الله مع زيد بن حارثة، رضي الله عنه، فأقامت بالمدينة من بعد وقعة بدر،  إلى أن أسلم زوجها العاص بن الربيع سنة ثمان فردها عليه بالنكاح الأول، ولم يحدث لها صداقًا،  كما قال الإمام أحمد:
عن ابن عباس: " أن رسول الله رد ابنته زينب على أبي العاص ابن الربيع، وكانت هجرتها قبل إسلامه بست سنين على النكاح الأول، ولم يحدث شهادة ولا صَدَاقًا."
وروي الترمذي وابن ماجة عن عمرو بن شعيب : " أن رسول الله رد ابنته على أبي العاص بن الربيع بمهر جديد ونكاح جديد" ( قال الترمذي: ليس بإسناده بأس )
فقال يزيد بن هارون:حديث ابن عباس- الأول - أجودُ إسنادًا والعمل على حديث عمرو بن شعيب " .
وعليه العمل عند الجمهور أنها متى انقضت العدة ولم يسلم انفسخَ نِكاحُها منه.

عودة للتفسير:

وقوله: ( وَآتُوهُمْ مَا أَنْفَقُوا ) يعني:أزواج المهاجرات من المشركين، ادفعوا إليهم الذي غرموه عليهن من صداق نسائهنَّ. قاله ابن عباس، وغير واحد.
ولا غُرم إلا إذا طالب الزوج الكافر، فإذا حضر وطالب منعناها هي منه، وغرمنا: أي دفعنا إليه ما أنفق،  فإن كانت ماتت قبل حضور الزوج لم نغرم المهر إذ لم يتحقق المنع. وإن كان المسمى خمرا أو خنزيرا لم نغرم شيئا، لأنه لا قيمة له. ويرد إليه المهر من بيت المال، وإن كانت تزوجت يرده عليه من تزوجها بعد انقضاء عدتها.
وقوله: ( وَلا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ أَنْ تَنْكِحُوهُنَّ إِذَا آتَيْتُمُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ ) يعني:إذا أعطيتموهن أصدقتهن فانكحوهن، أي:تزوجوهن بشرطه من انقضاء العدة والولي وغير ذلك.
وقوله: ( وَلا تُمْسِكُوا بِعِصَمِ الْكَوَافِرِ ) تحريم من الله عز وجل، على عباده المؤمنين نكاح المشركات، والاستمرار معهن.

في اللغة:
والعصم جمع العصمة: وهو ما اعتصم به. والمراد بالعصمة هنا النكاح. والمراد بالكوافر هنا عبدة الأوثان من لا يجوز ابتداء نكاحها، فهي خاصة بالكوافر من غير أهل الكتاب، وقيل: هي عامة، نسخ منها نساء أهل الكتاب. ولو كان إلى ظاهر الآية لم تحل كافرة بوجه لا من أهل الكتاب ولا غيرهم من أهل الكفر.
وفي الصحيح، عن الزهري أنه لما نزلت هذه الآية طلق عمر بن الخطاب يومئذ امرأتين، تزوج إحداهما معاوية بن أبي سفيان، والأخرى صفوان بن أمية .
وطلق طلحةُ بن عبيد الله أروى بنتَ ربيعة بن الحارث بن عبد المطلب، فتزوجها بعده خالد بن سعيد بن العاص .

الزوجين الكافرين إن يسلم أحدهما قبل الآخر:

وقد ورد في السيرة بأن أبا سفيان بن حرب أسلم قبل هند بنت عتبة امرأته، وكان إسلامه بمر الظهران في طريقة إلى المدينة، ثم رجع إلى مكة وهند بها كافرة مقيمة على كفرها، فأخذت بلحيته وقالت: اقتلوا الشيخ الضال، ثم أسلمت بعده بأيام، فاستقرا على نكاحهما لأن عدتها لم تكن انقضت، قالوا: ومثله حكيم بن حزام أسلم قبل امرأته، ثم أسلمت بعده فكانا على نكاحهما.
وكذلك الكافر إن تسلم زوجته قبله، فإذا أسلم في عدتها فهو أحق بها؛ كما كان صفوان بن أمية وعكرمة بن أبي جهل أحق بزوجتيهما لما أسلما في عدتيهما؛ ذكره مالك في الموطأ. قال ابن شهاب: كان بين إسلام صفوان وبين إسلام زوجته نحو من شهر.
 قال ابن شهاب: ولم يبلغنا أن امرأة هاجرت إلى رسول الله وزوجها كافر مقيم بدار الحرب إلا فرقت هجرتها بينه وبينها؛ إلا أن يقدم زوجها مهاجرا قبل أن تنقضي عدتها.

وقوله: ( وَاسْأَلُوا مَا أَنْفَقْتُمْ وَلْيَسْأَلُوا مَا أَنْفَقُوا ) أي:وطالبوا بما أنفقتم على أزواجكم اللاتي يذهبن إلى الكفار، إن ذهبن، وليطالبوا بما أنفقوا على أزواجهم اللاتي هاجرن إلى المسلمين.

وقوله: ( ذَلِكُمْ حُكْمُ اللَّهِ يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ ) أي:في الصلح واستثناء النساء منه، والأمر بهذا كله هو حكم الله يحكم به بين خلقه: ( وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ ) أي عليم بما يصلح عباده ، عليم بهم إن امتثلوا لحكم الله ، حكيم في ذلك.

ثم قال: ( وَإِنْ فَاتَكُمْ شَيْءٌ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ إِلَى الْكُفَّارِ فَعَاقَبْتُمْ فَآتُوا الَّذِينَ ذَهَبَتْ أَزْوَاجُهُمْ مِثْلَ مَا أَنْفَقُوا ) قال مجاهد، وقتادة:هذا في الكفار الذين ليس لهم عهد، إذا فرت إليهم امرأة ولم يدفعوا إلى زوجها شيئًا، فإذا جاءت منهم امرأة لا يدفع إلى زوجها شيء، حتى يدفع إلى زوج الذاهبة إليهم مثل نفقته عليها.

وقال ابن جرير: عن الزهري قال:أقر المؤمنون بحكم الله، فأدوا ما أمروا به من نفقات المشركين التي أنفقوا على نسائهم، وأبى المشركون أن يقروا بحكم الله فيما فرض عليهم من أداء نفقات المسلمين، فقال الله للمؤمنين به: ( وَإِنْ فَاتَكُمْ شَيْءٌ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ إِلَى الْكُفَّارِ فَعَاقَبْتُمْ فَآتُوا الَّذِينَ ذَهَبَتْ أَزْوَاجُهُمْ مِثْلَ مَا أَنْفَقُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي أَنْتُمْ بِهِ مُؤْمِنُونَ ) فلو أنها ذهبت بعد هذه الآية امرأةٌ من أزواج المؤمنين إلى المشركين، رَدّ المؤمنون إلى زوجها المسلم النفقة التي أنفق عليها من العَقب الذي بأيديهم ( الباقي في أيديهم والذي كانوا قد أمروا أن يردوه على المشركين من نفقاتهم التي أنفقوا على أزواجهم اللاتي آمن وهاجرنَ) ثم ردوا إلى المشركين فضلا إن كان بقي لهم،  والعقب:ما كان [ بأيدي المؤمنين ] من صداق نساء الكفار حين آمنّ وهاجرن .
وقيل يعطى لزوجها المسلم من الغنائم إذا ذهبت زوجته، عن ابن عباس في هذه الآية: يعني إن لحقت امرأة رجل من المهاجرين بالكفار، أمر له رسول الله أنه يعطى من الغنيمة مثل ما أنفق.
وهكذا قال مجاهد: ( فَعَاقَبْتُم ) أصبتم غنيمة من قريش أو غيرهم ( فَآتُوا الَّذِينَ ذَهَبَتْ أَزْوَاجُهُمْ مِثْلَ مَا أَنْفَقُوا ) يعني: أعطوهم مثل ما دفع لها من المهر، أو يعطوا مثل مهر من تماثلها من النساء. وهذا لا ينافي الأول؛ لأنه إن أمكن الأول فهو أولى، وإلا فمن الغنائم اللاتي تؤخذ من أيدي الكفار. وهذا أوسع، وهو اختيار ابن جرير، ولله الحمد والمنة
والآية نزلت في أم الحكم بنت أبي سفيان، ارتدت وتركت زوجها عياض بن غنم القرشي، ولم ترتد امرأة من قريش غيرها، ثم عادت إلى الإسلام.

معنى زائد وفائدة في قوله تعالى ( مِثْلَ مَا أَنْفَقُوا ) آية 11:

ففي هذه الآية زيادة في المعنى عن قوله في الآية 10 السالفة قوله تعالى: ( وَآتُوهُمْ مَا أَنْفَقُوا ) فهذه الآية في إعادة ما أنفق الكافر من صداق على زوجته التي أسلمت، فقال( وَآتُوهُمْ مَا أَنْفَقُوا ) اي مقدار ما أنفقوا، ولكن  الآية 11 في المسلم تذهب زوجته، وكانت عنده مسلمة تزوجته على الإسلام، أو أقرهم الإسلام على زواجهما،  فلها عليه المهر، وإن لم يكن سماه عند العقد وقبل الدخول حتى مات أو انفصلا بالطلاق فيعطيها مهر مثيلاتها في زمانها، فهذه الآية تعطي لها نفس الحق وإن ذهبت عنه تاركة لدينها عائدة إلى الكفار، فعطى مهر مثيلاتها في زمانها، وهو عدل من المسلم حتى للمخالف له.
وقوله تعالى : ( وَاتَّقُوا اللَّـهَ الَّذِي أَنتُم بِهِ مُؤْمِنُونَ ) فإيمانكم بالله يقتضي منكم أن تكونوا ملازمين للتقوى على الدوام، فاحذروا أن تتعدوا ما أمرتم به، وهذا الأمر يأتي في نهاية هذه الآيات التي أمر فيها بإعادة الحقوق إلى أصحابها، دلالة على لزوم امتثال المسلم بما أمره الله تعالى به ، حتى وإن لم يلتزم الكافر بإعطائه حقه .


اللهم إنا نسألك البر والتقوى ومن العمل ما ترضى. اللهم أعنا على ذكرك وشكرك وحسن عبادتك. اللهم اختم بالصالحات أعمالنا واقرن بالسعادة غدونا وآصالنا واجعل إلى جنتك مصيرنا ومآلنا.

No comments:

Post a Comment