Tuesday 29 November 2016

تفسير وربط للآيات وبين المتشابهات - سورة الحشر ج 4

 


 



    

تفسير وربط للآيات- وبيان المتشابهات -سورة الحشر ج 4 –وإخلاف المنافقين لوعودهم – وفضح الله تعالى لهم ومثلهم  في هذا كمثل الشيطان

في هذا الجزء من السورة يفضح الله تعالى منافقين المدينة، الذين آزروا كفار اليهود من بني النضير، ووعدوهم بنصرتهم إن هم حاربوا نبي الإسلام ، ويكشف لنا حقدهم الدفين في قلوبهم، وإظارهم خلاف ما قلوبهم، يعدون أولياءهم من اليهود بالنصرة والمؤازة ، لكن الله تعالى الخبير بما في القلوب يكشف نفاقهم، فهم كما بين رسول الله عن حال المنافق " إذا وعد أخلف .."  ، وهذا ما كان منهم ...  إلى تفسير الآيات..

التفسير:

قوله عز وجل: ( أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ نَافَقُوا ) تعجَّب يا محمد من اغترار اليهود بما وعدهم المنافقون من النصر مع علمهم بأنهم لا يعتقدون دينا ولا كتابا، ومن جملة المنافقين عبدالله بن أبي بن سلول، وعبدالله بن نبتل، ورفاعة بن زيد. وقيل: رافعة بن تابوت، وأوس بن قيظي، كانوا من الأنصار ولكنهم نافقوا: أي أظهروا خلاف ما أضمروا ، وقالوا ( لإخْوَانِهِمُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ ) اليهود من بني قريظة والنضير، جعل المنافقين إخوانهم في الدين لأنهم كفار مثلهم. ( لَئِنْ أُخْرِجْتُمْ ) أخرجوكم من المدينة ( لَنَخْرُجَنَّ مَعَكُمْ وَلا نُطِيعُ فِيكُمْ أَحَدًا ) يعنون لا نطيع محمدا صلى الله عليه وسلم؛ لا نطيعه في قتالكم. وخذلانكم وخلافكم ( أَبَدًا وَإِنْ قُوتِلْتُمْ لَنَنْصُرَنَّكُمْ ) بل إننا سنقاتل معكم ، وننصركم عليه، ولكن العليم الخبير : ( وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّهُمْ ) يعني المنافقين ( لَكَاذِبُونَ ) في ادعائهم.
( لَئِنْ أُخْرِجُوا لا يَخْرُجُونَ مَعَهُمْ وَلَئِنْ قُوتِلُوا لا يَنْصُرُونَهُمْ ) وكان الأمر كذلك، فإنهم أخرجوا من ديارهم فلم يخرج المنافقون معهم، وقُوتلوا فلم ينصروهم: قوله تعالى: ( وَلَئِنْ نَصَرُوهُمْ لَيُوَلُّنَّ الأدْبَارَ ) أي لو قدر وجود نصرهم، قال الزجَّاج: معناه لو قصدوا نصر اليهود لولوا الأدبار منهزمين، فأخبر عما قد أخبر عن ما لا يكون، كيف كان يكون لو كان؟ وهو كقوله تعالى: ( ولو ردوا لعادوا لما نهوا عنه ) [ الأنعام: 28 ] ،( ثُمَّ لا يُنْصَرُونَ ) يعني بني النضير لا يصيرون منصورين إذا انهزم ناصرهم.

إعجاز تاريخي إخباري:

 أخبر الله تعالى نبيه والمؤمنين أن المنافقين كاذبون،  وأنهم سيخلفون وعودهم لليهود بأن ينصرونهم إذا قاتلوا، وإن أُخرجوا ليخرجون معهم، وشهد تعالى نفسه على كذبهم، وثبت ما الله عالم به منذ الأزل، فلم يقاتل المنافقون مع اليهود، ولم ينصروهم، ولما أخرجوا من ديارهم لم يخرجوا معهم، وعلم الله منهم ذلك مسبقاً سبحانه، ففي هذه الآية دليل على صحة نبوة محمد من جهة إخباره بالغيب من عند ربه تبارك وتعالى.
يقول تعالى:( لأنْتُمْ أَشَدُّ رَهْبَةً فِي صُدُورِهِمْ مِنَ اللَّهِ) يا معشر المسلمين هم يرهبونكم أشد من رهبتهم من الله ( ذَلِكَ ) أي ذلك الخوف منكم ( بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَفْقَهُونَ )عظمة الله ولا علمه، ولا قدرته على قذف الخوف في قلوبهم بالرغم من استعدادهم وحصونهم وعتادهم، ومن رهبتهم من المؤمنين ( لا يُقَاتِلُونَكُمْ ) يعني اليهود ( جَمِيعًا إِلا فِي قُرًى مُحَصَّنَةٍ ) أي لا يبرزون لقتالكم إنما يقاتلونكم متحصنين بالقرى والجدران، وهو قوله: ( أَوْ مِنْ وَرَاءِ جُدُرٍ ) بضم الجيم والدال على الجمع. ( بَأْسُهُمْ بَيْنَهُمْ شَدِيدٌ ) أي: بعضهم فظّ على بعض، وعداوة بعضهم بعضًا شديدة، وقيل: بأسهم فيما بينهم من وراء الحيطان والحصون شديد، فإذا خرجوا لكم فهم أجبن خلق الله ( تَحْسَبُهُمْ جَمِيعًا وَقُلُوبُهُمْ شَتَّى ) متفرقة مختلفة، قال قتادة: أهل الباطل مختلفة أهواؤهم، مختلفة شهادتهم، مختلفة أعمالهم، وهم مجتمعون في عداوة أهل الحق. وقال مجاهد: أراد أن دين المنافقين يخالف دين اليهود، أي أن الإختلاف المقصود هنا بين اليهود والمشركين، والأول أولى لأن اليهود هم الذين جبنوا عن المواجهة، وهم الذين طلبوا المصالحة مع النبي، ( ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَعْقِلُونَ )

( كَمَثَلِ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ قَرِيبًا) يعني: مثل هؤلاء اليهود كمثل الذين من قبلهم من قريب  ، يعني مشركي مكة ( ذَاقُوا وَبَالَ أَمْرِهِمْ ) يعني ذاقوا وبال وإثم قتالهم للنبي والمؤمنين، فقتل 70 رجلا منهم في بدر- في رمضان العام الثاني للهجرة-، وكان ذلك قبل غزوة بني النضير- في ربيع الأول العام الرابع للهجرة-، قاله مجاهد. وقال ابن عباس: كمثل الذين من قبلهم يعني بني قينقاع. وقيل: مثل قريظة كمثل بني النضير وكان بينهما سنتان،( وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ )
ثم ضرب مثلا للمنافقين واليهود جميعا في [ تخاذلهم ] فقال: أي مثل المنافقين في غرورهم بني النضير وخذلانهم كمثل الشيطان ( إِذْ قَالَ لِلإنْسَانِ اكْفُرْ فَلَمَّا كَفَرَ قَالَ إِنِّي بَرِيءٌ مِنْكَ )

قصة الراهب برصيصا:

قال ابن عباس قال: كان راهب في الفترة – أي بين رفع عيسى عليه السلام وبعثة محمد - يقال له « برصيصا » تعبد في صومعة له سبعين سنة، لم يعص الله فيها طرفة عين وإن إبليس أعياه في أمره الحيل، فجمع ذات يوم مردة الشياطين فقال: ألا أجد أحدًا منكم يكفيني أمر برصيصا؟ فقال الأبيض - وهو صاحب الأنبياء وهو الذي تصدى للنبي ،وجاءه في صورة جبرائيل ليوسوس إليه على وجه الوحي فدفعه جبرائيل إلى أقصى أرض الهند فذلك قول الله تعالى في جبريل عليه السلام: ( ذي قوة عند ذي العرش مكين ) [التكوير 20 ] - فقال الأبيض لإبليس: أنا أكفيك أمره، فانطلق فتزين بزينة الرهبان وحلق وسط رأسه وأتى صومعة برصيصا فناداه فلم يجبه، وكان لا ينفتل عن صلاته إلا في كل عشرة أيام ولا يفطر إلا في عشرة أيام مرة.
فلما رأى الأبيض أنه لا يجيبه أقبل هو نفسه على العبادة في أصل صومعته، فلما انفتل برصيصا اطلع من صومعته فرأى الأبيض قائما يصلي في هيئة حسنة من هيئة الرهبان، فلما رأى ذلك من حاله ندم في نفسه حين لم يجبه، فقال له: إنك ناديتني وكنت مشتغلا عنك، فما حاجتك؟ قال: حاجتي أني أحببت أن أكون معك، فأتأدب بك وأقتبس من عملك وعلمك، ونجتمع على العبادة فتدعو لي وأدعو لك، فقال برصيصا: إني لفي شغل عنك فإن كنت مؤمنًا فإن الله سيجعل لك فيما أدعو للمؤمنين نصيبًا إن استجاب لي،  ثم أقبل على صلاته وترك الأبيض، وأقبل الأبيض يصلي فلم يلتفت إليه برصيصا أربعين يومًا بعدها، فلما انفتل رآه قائمًا يصلي فلما رأى برصيصا شدة اجتهاده، قال له: ما حاجتك؟ قال: حاجتي أن تأذن لي فأرتفع إليك،  فأذن له فارتفع إليه في صومعته، فأقام معه حولا يتعبد لا يفطر، إلا في كل أربعين يومًا ولا ينفتل عن صلاته إلا في كل أربعين يومًا مرة، وربما مدَّ إلى الثمانين فلما رأى برصيصا اجتهاده تقاصرت إليه نفسه وأعجبه شأن الأبيض.
فلما حال الحول قال الأبيض لبرصيصا: إني منطلق فإن لي صاحبًا غيرك ظننت أنك أشد اجتهادًا مما أرى، وكان يبلغنا عنك غير الذي رأيت، فدخل من ذلك على برصيصا أمر شديد وكره مفارقته للذي رأى من شدة اجتهاده، فلما ودعه قال له الأبيض: إن عندي دعوات أعلمكها تدعو بهن فهن خير مما أنت فيه،  يشفي الله بها السقيم ويعافي بها المبتلى والمجنون، قال برصيصا: إني أكره هذه المنـزلة لأن لي في نفسي شغلا وإني أخاف إن علم به الناس شغلوني عن العبادة، فلم يزل به الأبيض حتى علمه، ثم انطلق حتى أتى إبليس فقال: قد والله أهلكت الرجل.
قال: فانطلق الأبيض فتعرض لرجل فخنقه، ثم جاء في صورة رجل متطبب فقال لأهله: إن بصاحبكم جنونًا أفأعالجه؟ قالوا: نعم، فقال لهم: إني لا أقوى على جنته ولكن سأرشدكم إلى من يدعو الله فيعافيه، انطلقوا إلى برصيصا فإن عنده الاسم الذي إذا دعا به أجيب، فانطلقوا إليه فسألوه ذلك فدعا بتلك الكلمات فذهب عنه الشيطان، فكان الأبيض يفعل مثل ذلك بالناس ويرشدهم إلى برصيصا، فيدعو فيعافون، فانطلق الأبيض فتعرض لجارية من بنات ملوك بني إسرائيل بين ثلاثة إخوة وكان أبوهم ملكهم، فمات واستخلف أخاه فكان عمها ملك بني إسرائيل، فعذبها الأبيض وخنقها ثم جاء إليهم في صورة متطبب، فقال لهم: أتريدون أن أعالجها؟ قالوا: نعم، قال: إن الذي عرض لها مارد لا يطاق، ولكن سأرشدكم إلى رجل تثقون به تَدَعونها عنده إذا جاء شيطانها دعا لها حتى تعلموا أنها قد عوفيت وتردونها صحيحة، قالوا: ومن هو؟ قال برصيصا، قالوا: وكيف لنا أن يجيبنا إلى هذا وهو أعظم شأنًا من ذلك؟ قال: فانطلقوا فابنوا صومعة إلى جانب صومعته حتى تشرفوا عليه، فإن قبلها وإلا فضعوها في صومعتها، ثم قولوا له هي أمانة عندك، فاحتسب فيها.
قال: فانطلقوا إليه فسألوه فأبى عليهم، فبنوا صومعة على ما أمرهم الأبيض ووضعوا الجارية في صومعته، وقالوا: هذه أختنا أمانة فاحتسب فيها، ثم انصرفوا فلما انفتل برصيصا عن صلاته عاين الجارية وما بها من الحسن والجمال، فوقعت في قلبه ودخل عليه أمر عظيم، ثم أقبل في صلاته فجاءها الشيطان فخنقها فدعا برصيصا بتلك الدعوات فذهب عنها الشيطان، ثم أقبل على صلاته فجاءها الشيطان فخنقها فدعا برصيصا بتلك الدعوات، ثم أقبل على صلاته فجاءها الشيطان فخنقها، وكانت تكشف عن نفسها، فجاءه الشيطان وقال واقعها فستتوب بعد فتدرك ما تريد من الأمر، فلم يزل به حتى واقعها فلم يزل على ذلك يأتيها حتى حملت وظهر حملها، فقال له الشيطان: ويحك يا برصيصا قد افتضحت فهل لك أن تقتلها وتتوب؟ فإن سألوك فقل: ذهب بها شيطانها، فلم أقدر عليه. فدخل فقتلها، ثم انطلق بها فدفنها إلى جانب الجبل، فجاء الشيطان وهو يدفنها ليلا فأخذ بطرف إزارها، فبقي طرف خارجًا من التراب، ثم رجع برصيصا إلى صومعته فأقبل على صلاته إذ جاء إخوتها يتعاهدون أختهم، وكانوا يجيئون في طرف الأيام يسألون عنها ويوصونه بها، فقالوا: يا برصيصا ما فعلت أختنا؟ قال: قد جاء شيطانها فذهب بها ولم أطقه، فصدَّقوه وانصرفوا فلما أمسوا وهم مكروبون جاء الشيطان إلى أكبرهم في منامه فقال: ويحك إن برصيصا فعل بأختك كذا وكذا وإنه ودفنها في موضع كذا وكذا، فقال الأخ في نفسه: هذا حلم وهو من عمل الشيطان، فإن برصيصا خير من ذلك، قال: فتتابع عليه ثلاث ليال فلم يكترث، فانطلق إلى الأوسط بمثل ذلك فقال الأوسط مثل ما قاله الأكبر، فلم يخبر أحدًا، فانطلق إلى أصغرهم بمثل ذلك، فقال أصغرهم لأخويه: والله لقد رأيت كذا وكذا، وقال الأوسط: وأنا والله قد رأيت مثله وقال الأكبر: وأنا رأيت مثله، فانطلقوا إلى برصيصا وقالوا: يا برصيصا ما فعلت أختنا؟ قال: أليس قد أعلمتكم بحالها؟ فكأنكم اتهمتموني؟ فقالوا: والله لا نتهمك، واستحيوا منه فانصرفوا، فجاءهم الشيطان فقال: ويحكم إنها لمدفونة في موضع كذا، وإن طرف إزارها خارج من التراب، فانطلقوا فرأوا أختهم على ما رأوا في النوم، فمشوا في مواليهم وغلمانهم ومعهم الفئوس والمساحي فهدموا صومعته وأنـزلوه، ثم كتفوه فانطلقوا به إلى الملك فأقر على نفسه، وذلك أن الشيطان أتاه فقال: تقتلها ثم تكابر يجتمع عليك أمران: قتل ومكابرة اعترف، فلما اعترف أمر الملك بقتله وصلبه على خشبة، فلما صلب أتاه الأبيض فقال: يا برصيصا أتعرفني؟ قال: لا قال: أنا صاحبك الذي علمتك الدعوات فاستجيب لك، ويحك ما اتقيت الله في أمانتك ! خنت أهلها وإنك زعمت أنك أعبد بني إسرائيل، أما استحييت؟ فلم يزل يعيِّره، ثم قال في آخر ذلك: ألم يكفك ما صنعتَ حتى أقررت على نفسك وفضحت نفسك وفضحت أشباهك من الناس؟ فإن مت على هذه الحالة لم يفلح أحد من نظرائك، قال: فكيف أصنع قال: تطيعني في خصلة واحدة حتى أنجيك مما أنت فيه فآخذ بأعينهم فأخرجك من مكانك ! قال: وما هي؟ قال تسجد لي ؟ قال: ما أستطيع. قال: افعلْ ، فسجد له فقال: يا برصيصا هذا الذي كنت أردت منك، صارت عاقبة أمرك إلى أن كفرت بربك، إني بريء منك ( إني أخاف الله رب العالمين يقول الله تعالى ( فَكَانَ عَاقِبَتَهُمَا ) يعني الشيطان وذلك الإنسان ( أَنَّهُمَا فِي النَّارِ خَالِدَيْنِ فِيهَا وَذَلِكَ جَزَاءُ الظَّالِمِينَ )

ما المثل والشبه بين برصيصا الراهب ، وبني النضير والمنافقين؟

قال ابن عباس: ضرب الله هذا المثل ليهود بني النضير والمنافقين من أهل المدينة، وذلك أن الله عز وجل أمر نبيه بإجلاء بني النضير عن المدينة فدسَّ المنافقون إليهم، وقالوا: لا تجيبوا محمدًا إلى ما دعاكم ولا تخرجوا من دياركم، فإن قاتلكم فإنا معكم وإن أخرجكم خرجنا معكم، فأجابوهم فدربوا على حصونهم وتحصنوا في ديارهم رجاء نصر المنافقين، حتى جاءهم النبي فناصبوه الحرب يرجون نصر المنافقين، فخذلوهم وتبرءوا منهم كما تبرأ الشيطان من برصيصا وخذله، فكان عاقبة الفريقين النار.

قال ابن عباس رضي الله عنه: فكان الرهبان بعد ذلك في بني إسرائيل لا يمشون إلا بالتَّقِيَّة والكتمان، وطمع أهل الفسوق والفجور في الأحبار، ورموهم بالبهتان والقبيح حتى كان أمر جريج الراهب، فلما برأه الله مما رموه به انبسطت بعده الرهبان وظهروا للناس.
قصة صاحب جريج الراهب- الطفل الذي تكلم في المهد-:
 وكانت قصة جريج كما روى مسلم عن أبي هريرة عن النبي قال: « لم يتكلم في المهد إلا ثلاثة: عيسى بن مريم عليه السلام، وصاحب جريج، وكان جريج رجلا عابدًا فاتخذ صومعته فكان فيها فأتته أمه وهو يصلي فقالت: يا جريج، فقال: يا رب أمي وصلاتي؟ فأقبل على صلاته، فانصرفت فلما كان من الغد أتته وهو يصلي، فقالت: يا جريج، فقال: أيْ رب أمي وصلاتي؟ فأقبل على صلاته فقالت: اللهم لا تمته حتى ينظر إلى وجوه المومسات. "

فتذاكر بنو إسرائيل جريجًا وعبادته، وكانت امرأة بغي يتمثل بحسنها، فقالت: إن شئتم لأفتننَّه لكم قال: فتعرضت له فلم يلتفت إليها، فأتت راعيًا كان يأوي إلى صومعته فأمكنته من نفسها فوقع عليها فحملت فلما ولدت قالت: هو من جريج، فأتوه فاستنـزلوه من صومعته وهدموا صومعته وجعلوا يضربونه، فقال: ما شأنكم؟ قالوا: زنيت بهذه البغية فولدت منك، فقال: أين الصبي؟ فجاءوا به فقال دعوني حتى أصلي فصلى فلما انصرف أتى الصبي وطعن في بطنه وقال: يا غلام من أبوك؟ قال: فلان الراعي، قال: فأقبلوا على جريج يقبلونه ويتمسحون به، وقالوا نبني لك صومعتك من ذهب، قال: لا أعيدوها من طين كما كانت ففعلوا، وبينا صبي يرضع من أمه، فمرَّ رجل راكب على دابة فارهة وشارة حسنة، فقالت أمه: اللهم اجعل ابني مثل هذا، فترك الثدي وأقبل عليه ونظر إليه، فقال: اللهم لا تجعلني مثله. ثم أقبل على ثديه فجعل يرضع. قال: فكأني أنظر إلى رسول الله وهو يحكي ارتضاعه بأصبعه السبابة في فمه، فجعل يمصها.
قال: ومروا بجارية وهم يضربونها ويقولون: زنيتِ وسرقتِ، وهي تقول: حسبي الله ونعم الوكيل فقالت أمه: اللهم لا تجعل ابني مثلها، فترك الرضاع ونظر إليها فقال: اللهم اجعلني مثلها، فهناك تراجعا الحديث، فقالت: مرّ رجل حسن الهيئة فقلتُ: اللهم اجعل ابني مثله، فقلتَ: اللهم لا تجعلني مثله، ومروا بهذه الأمة وهم يضربونها ويقولون زنيت وسرقت، فقلتُ: اللهم لا تجعل ابني مثلها فقلتَ: اللهم اجعلني مثلها، قال: إن ذاك الرجل كان جبارًا فقلت اللهم لا تجعلني مثله، وإن هذه يقولون لها: زنيتِ، ولم تزنِ، وسرقتِ، ولم تسرقْ، فقلت: اللهم اجعلني مثلها " ( رواه مسلم)

قوله عز وجل ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ لِغَدٍ ) يعني ليوم القيامة، أي: لينظر أحدكم أي شيء قدم لنفسه،  في أوامره ونواهيه، وأداء فرائضه واجتناب معاصيه، أعمل صالحًا ينجيه،  أم سيئًا يوبقه؟ ( وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ )، وقال الحسن وقتادة: قرَّب الساعة حتى جعلها كغد. ولا شك أن كل آت قريب؛ والموت لا محالة آت.

تكرار الأمر بتقوى الله تأكيدا للأهمية:

في هذه الآية أكد الله تعالى على عبادة المؤمنين على وجوب تقواه، والعمل للآخرة، وهي الوحيدة في القرآن التي فيها الأمر بالتقوى مكرر مرتين للتأكيد، قال القرطبي في تفسيره : ( اتَّقُوا اللَّهَ )، أعاد هذا تكريرا، كقولك: اعجل اعجل، ارم ارم. وقيل التقوى الأولى التوبة فيما مضى من الذنوب، والثانية اتقاء المعاصي في المستقبل. " أهـ

ثم يقول تعالى: ( وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ نَسُوا اللَّهَ ) تركوا أمر الله ( فَأَنْسَاهُمْ أَنْفُسَهُمْ ) [ أي حظوظ أنفسهم ] حتى لم يقدموا لها خيرا ( أُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ )

( لا يَستَوِي أَصحَابُ النَّارِ وَأَصحَابُ الجَنَّةِ أَصحَابُ الجَنَّةِ هُمُ الفَائِزُونَ) ، قال أي لا يستوون في الفضل والرتبة ( أَصحَابُ الجَنَّةِ هُمُ الفَائِزُونَ) أي المقربون المكرمون. وقيل: الناجون من النار.
قوله عز وجل: ( لَوْ أَنـزلْنَا هَذَا الْقُرْآنَ عَلَى جَبَلٍ لَرَأَيْتَهُ خَاشِعًا مُتَصَدِّعًا مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ ) قيل: لو جعل في الجبل تمييز،  وأنـزل عليه القرآن لخشع وتشقق وتصدع من خشية الله مع صلابته ورزانته، والخاشع: الذليل،  والمتصدع: المتشقق. وقيل: هو على وجه المثل للكفار، فقد قال بعدها ( وَتِلْكَ الأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ (  أي أنه لو أنزل هذا القرآن على جبل لخشع لوعده وتصدع لوعيده،  وأنتم أيها الناس المقهورون بإعجازه لا ترغبون في وعده، ولا ترهبون من وعيده.
وقيل: الخطاب في هذه الآية  للنبي ؛ أي لو أنزلنا هذا القرآن يا محمد على جبل لما ثبت، وتصدع من نزوله عليه؛ وقد أنزلناه عليك وثبتناك له؛ فيكون ذلك امتنانا عليه أن ثبته لما لا تثبت له الجبال. وقيل: إنه خطاب للأمة، وأن الله تعالى لو أنذر بهذا القرآن الجبال لتصدعت من خشية الله. والإنسان أقل قوة وأكثر ثباتا؛ فهو يقوم بحقه إن أطاع، ويقدر على رده إن عصى؛ لأنه موعود بالثواب، ومزجور بالعقاب. والكافر يعرض عما فيه من العبر كأن لم يسمعها يصفه بقساوة القلب ( وَتِلْكَ الأمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ ).


اللهم اجعلنا ممن يتسمعون القول فيتبعون أحسنه ، اللهم اجعلنا لك من الذاكرين ، لك شاكرين من خشيتك مشفقين ، وامنن علينا من فضلك وأدخلنا برحمتك في عبادك الصالحين

No comments:

Post a Comment