Tuesday 15 July 2014

مختصر شامل في أحكام الصيام - الدرس السادس عشر ؛ الصيام تهذيب وأخلاق



 
 
 
 

الصيام وتهذيب الأخلاق

شهر رمضان  شهر تتنزّل فيه البركات وتتضاعف فيه الحسنات، تفتح فيه أبواب الجنان وتغلق فيه أبواب النيران، شهر يوقظ النفوس من غفلتها، ويزيل الأغطية من على قلوبها، ويغيّر من عاداتها ومألوفها، يفرح به المؤمن لأنه يستبشر بكرم ربه :"كلّ عمل ابن آدم له إلاّ الصوم فإنّه لي وأنا أجزي به" رواه البخاري، ويستبشرون بوعده سبحانه الذي وعده على لسان نبيِّه قال:"  من صام رمضان إيمانا واحتسابا غفر له ما تقدّم من ذنبه" رواه الشيخان، بل إن لهم بابا خاصا بهم في الجنّة كما قالﷺ:" في الجنّة ثمانية أبواب منها باب يسمّى الريّان لا يدخله إلاّ الصّائمون " الشيخان.
كل هذا بالإضافة لشفاعة صيامهم وقرآنهم لهم عند ربهم،قال:"الصيام والقرآن يشفعان للعبد، يقول الصيام:أي ربّ إنّي منعته الطعام و الشهوات بالنهار فشفعني فيه، و يقول القرآن منعته النوم بالليل فشفعني فيه فيشفعان " رواه أحمد.
وفي هذا الشهر المبارك يفتح الله تبارك وتعالى أبوابا ويغلق أخر، يفتح أبواب الجنّة ويغلق أبواب جهنّم، يفتح أبواب الرحمة، ويغلق أبواب العذاب، قال رسول الله ﷺ: "إذا دخل شهر رمضان فتحت أبواب السماء " وفي رواية:"  فتحت أبواب الجنّة وغلّقت أبواب جهنّم وسلسلت الشياطين " وفي رواية:"  فتحت أبواب الرحمة " البخاري ومسلم.
إنّها الرحمة بعمومها، الرحمة بالغفران للذنوب، الرحمة باستجابة الدعاء، الرحمة بفيض عطاء الجود العاجل والآجل، الرحمة بمنحة النعيم المقيم في الجنّة دار الثواب الأكبر ، وذلك كما أخبر نبي الهدى حين قال:" إذا كان أوّل ليلة من شهر رمضان صفّدت الشياطين ومردة الجنّ و غلّقت أبواب النار فلم يفتح منها باب، و فتحت أبواب الجنّة فلم يغلق منها باب، و ينادي مناد: يا باغي الخير أقبل و يا باغي الشرّ أقصر...ولله عتقاء من النار وذلك كلّ ليلة "  أخرجه الترمذي وابن ماجه.

إنّ هذا الشهر، نفحة من نفحات الرحمن علينا، ومن أفضل ما يتقرّب العبد به إلى ربّه تعالى هو حسن الخلق.
ومكارم الأخلاق قوام بعثة النبيّ محمدﷺ ، ومقصدها فقد قال:"إنّما بعثت لأتمّم مكارم الأخلاق " أخرجه الإمام مالك في الموطأ.
فاهم مقاصد هذه الشريعة السمحة هو تدعيم فضائل الأخلاق، وإنارة آفاق الكمال أمام أعين الناس حتّى يسعوا على بصيرة.
قل هذه سبيلي أدعو إلى الله على بصيرة أنا ومن اتّبعني" (يوسف 108)
والعبادات بشتّى صورها، الصلاة والصيام والحج وغيرها هي مدارج الكمال المنشود، وروافد التطهّر الذي يصون الحياة ويعلِي شأنها، فهي تلتقي عند الغاية التي رسمها من قال ربه فيه" وإنّك لعلى خلق عظيم" (القلم 3)
الرسول في قوله:" إنّما بعثت لأتمّم مكارم الأخلاق.
و سئل رسول الله عن أكثر ما يدخل الناس الجنّة قال:" تقوى الله وحسن الخلق " أخرجه الترمذي في سننه.
و قال رسول الله ﷺ: "أكمل المؤمنين إيمانا أحسنهم خُلُقًا وخياركم خياركم لنسائهم " أخرجه الترمذي.
و قال : "إنّ المؤمن ليدرك بحسن خلقه درجة الصائم القائم " أخرجه أبو داود إنّه توافق عجيب وتلازم رتيب، الخلق الحسن من أكثر ما يدخل الناس الجنّة، والصيام من أكثر ما يعتق الله به الناس من النار ويدخلهم الجنّة.
إنّ الصيام والأخلاق قرينان، والصائم الحقّ المبتغي وجه الله تعالى، المؤمن بما عند الله من وافر الأجر والمثوبة، من أشدّ الناس مراعاة لحسن خلقه ومكارم أخلاقه وعاداته، ولربّما يُنفى عن المرء صفة الصيام إذا كان خلقه ينافي الصيام، فربّ صائم ليس له من صيامه سوى الجوع و العطش .
لنركز على عند أهم خلق من أخلاق الصائم يتميز به على غيره  وهو الصبر ، والصبر كما ورد أنّه نصف الإيمان، فالايمان نصفان: نصف صبر ونصف شكر كما قال غير واحد من السلف ،وقال عبدالله بن مسعود رضى الله عنه: "الايمان نصفان نصف صبر ونصف شكر" ولهذا جمع الله سبحانه بين الصبر والشكر في قوله : ( ان في ذلك لآيات لكل صبار شكور)  في سورة ابراهيم والشورى وسبأ ولقمان وقد ذكر لهذا التنصيف اعتبارات، فلا عبادة بدون صبر.
و كما أنّ الصيام طريق التقوى والمراقبة، فإنّه أيضا مضمار للتربّية على خلق الصبر، وهو خلق يتخلّق به الصائم، يصبر عن الطعام والشراب وكلّ ما يفطر من المفطرات، لا يلين أمام هذه الشهوات بل تقوى إرادته وتنمو عزيمته، فيصبر على طاعة الله تعالى و اجتناب ما نهى عنه :" وبشّرِ الصَّابِرين " .( البقرة 155)
ولقد اختُصّ رمضان بأنّه شهر الصبر لما فيه من حبس النفس عن شهواتها خلال شهر كامل، وكأنّ المسلم قد التحق بدورة تدريبية في كيفية الصبر، يتخرّج بعدها وقد حصل على شهادة الصبر من مدرسة شهر رمضان.
والصبر ضرورة حياتية لكل عمل سواء كان دنيويا أم أخرويا. و لهذا احتاج كل عامل في هذه الحياة الدنيا إلى خلق الصبر، إذ به تسير حياته بصورة مطمئنّة واثقة، قال رسول الله ﷺ: "عجبا لأمر المؤمن إنّ أمره كلّه له خير و ليس ذلك لأحد إلاّ المؤمن، إن أصابته سرّاء شكر فكان خيرا له، و إن أصابته ضرّاء صبر فكان خيرا له " أخرجه مسلم
والصائم صابر لله وبالله وفي الله ومع الله تبارك وتعالى، فلا يتأفّف من طول وقت النهار، ولا يضجر من شدّة الجوع، بل تجده صابرا محتسبا يتقبّل الصيام بنفس رضية، فهو الذي يسعد بالصيام ويفرح بالعبادة مهما كانت شاقة وقاسية، لأنّه عرف محبوبه وامتلأ قلبه بنوره.
والورع الذي يتحلى به الصائم لا يقلّ قيمة عن الصبر، بل يلتقي معه في مسلك واحد، وإن كان الصبر يعطي للنفس القوة على الثبات، فإنّ الورع يطهّر دنس القلب ممّا علّق به من أدران الحياة الدنيا و زينتها، وهو أوّل طريق إلى الزهد، فقّهه أبو الدرداء رضي الله عنه فقال:" تمام التقوى أن يتّقي العبد الله حتّى يتّقيه في مثقال ذرّة حيث يترك بعض ما يرى أنّه حلال خشية أن يكون حراما ".
فلا تحقرنّ شيئا من الشرّ أن تتّقيه، ولا شيئا من الخير أن تفعله. والصيام ليس عبارة عن عبادة شكلية مجرّدة، هي ترك الطعام و الشراب !!لا، و إنّما الصيام عبادة كاملة تامة قلبا وقالبا، شكلا ومضمونا، فشكلها وقالبها هو ترك المفطرات الحسّية المادية كالأكل والشرب، ومضمونها ومعناها هو القدرة على التخلّص من كل ما يغضب الله تعالى، والابتعاد عن كلّ ما يخدش الصيام، والابتعاد عن كلّ ما نهى عنه الحقّ تبارك و تعالى، سواء في شهر رمضان أو في غير شهر رمضان، واستمع إلى الإرشاد النبوي حول هذا المعنى عندما قال صلى الله عليه وسلم:" كم من صائم ليس له من صيامه إلاّ الظمأ وكم من قائم ليس له من قيامه إلاّ السهر " أخرجه الدارمي بإسناد جيّد، وما منعه من قبول صيامه إلا أنه لم يكمله بالتزام الورع عن محرمات اللسان والعين وجميع جوارحه،فليس الصيام يكتمل بالمظهر العام، إنّما توجد هناك أمور معنوية تكمل ذلك بعد الصبر، من إخلاص وتقوى وورع، ولهذا فالصائم تراه بعيدا كل البعد عن المحرّمات، بل يترك كثيرا من المباحات حرصا على صيانة نفسه من الوقوع في الحرام، ولا سيما إذا كان ذلك المباح متردّدا بين الحلال والحرام، قال تعالى:" يا أيها الناس اتقوا ربكم الذي حلقكم و الذين من قبلكم لعلّكم تتّقون " فالوصول لتحقيق تقوى الله هي الغاية من العبادات جميعا عموما ، والصيام خاصة .

اللَّهُمَّ كما أَحْسَنْتَ خَلْقِنا فجعلته مستقيما معتدلا في غاية الإحسان والإتقان نسألك أن تحسن أخلاقنا فتكون في غاية الحسن والكمال والهيئة

نكمل غدا إن شاء الله في أخلاق المسلم الصائم



No comments:

Post a Comment