Wednesday 16 July 2014

مختصر شامل في احكام الصيام – الدرس السابع عشر- الصيام أخلاق وتهذيب؛ الصدقة والصيام



 



العلاقة بين الصوم والإنفاق
  ونحن نتنعم في أيام وليالي هذا الشهر الفضيل، موسم التقوى والخير، نتذكر الصلة الوطيدة بين الصيام والإنفاق والجود، والتي تستنبط من تلازم هاتين الصفتين في قول ربنا جل وعلا : (إِنَّ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِمَاتِ وَالْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ وَالْقَانِتِينَ وَالْقَانِتَاتِ وَالصَّادِقِينَ وَالصَّادِقَاتِ وَالصَّابِرِ‌ينَ وَالصَّابِرَ‌اتِ وَالْخَاشِعِينَ وَالْخَاشِعَاتِ وَالْمُتَصَدِّقِينَ وَالْمُتَصَدِّقَاتِ وَالصَّائِمِينَ وَالصَّائِمَاتِ وَالْحَافِظِينَ فُرُ‌وجَهُمْ وَالْحَافِظَاتِ وَالذَّاكِرِ‌ينَ اللَّـهَ كَثِيرً‌ا وَالذَّاكِرَ‌اتِ أَعَدَّ اللَّـهُ لَهُم مَّغْفِرَ‌ةً وَأَجْرً‌ا عَظِيمًا ) ( الأحزاب 35) ، ربط الله تعالى بين الصدقة والصيام ، فجعل الله الصدقة أقرب ما تكون إلى الصيام، فذكر من صفات عباده التي يحبها أنهم؛ المتصدقين، وقرنها بالصائمين، فالصدقة قريبة من الصائم تلازمه، بل إن الصدقة هي خلق الصائم المتقي، وكذلك كان خُلق سيد الخلق وهو المثل الأعلى الذي طبق هذه الصلة ، اسمع إلى حديث أنس بن مالك رضي الله عنه : (كان رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ أجودَ الناسِ بالخيرِ . وكان أجودَ ما يكون في شهرِ رمضانَ . إنَّ جبريلَ عليه السلام ُكان يلقاه ، في كلِّ سنةٍ ، في رمضانَ حتى ينسلخَ . فيعرض عليه رسولُ اللهِ القرآنَ . فإذا لقِيه جبريلُ كان رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ أجودَ بالخيرِ من الريح المُرسلةِ) رواه مسلم
 ولقد كان فعل سيد الخلق ، تبيانا واضحا لحقيقة هذا التلازم وهذا الترابط الوثيق بين رمضان والصيام وبين الإنفاق والصدقة، ففيما فقد الحديث السابق قال عنه خادمه أنس رضي الله عنه: (كان رسول الله أجود الناس) ، فهل هناك تعبير أبلغ من هذا؟ هو أجود الناس، أي: بلغ الرتبة العليا في الكرم والجود والسخاء.ومن جوده أنه: (  ما قال( لا ) قط إن كان عنده أعطى، وإلا رد بميسور من القول) ، بل (كان أجود الناس) هذه المرتبة العليا، فهل بعد ذلك من شيء؟ لا.
قال: (وكان أجود ما يكون في رمضان) أي: يزداد جوداً إلى جود، وكرماً إلى كرم، وعطاءً إلى عطاء، وسخاءً إلى سخاء.
(فلرسول الله أجود بالخير من الريح المرسلة) تعبير بليغ.
(الريح المرسلة) أي: المطلقة.
فالريح المرسلة تأتي مندفعة قوية هادرة، وكذلك كان هذا الوصف لجود المصطفى ، وهو الذي به تنأسى ، وعلى سنته نموت ونحيا، كان أجود الناس في كل يوم ، بل ويزداد جودا في رمضان فهو كالريح المرسلة ، فأين نحن من فعله،  لقد كان رسول الله ينفق فيعطي عطاء من لا يخشى الفقر، كان الأعرابي إذا جاء أعطاه رسول الله ، فيرجع إلى قومه فيرفع عقيرته فيقول: يا قوم! أسلموا؛ فإن محمداً يعطي عطاء من لا يخشى الفقر.

وينبغي أن ننتبه إلى قوله عليه : (إن الله طيب لا يقبل إلا طيباً) ، وأخبرنا الحق جلا وعلا فقال: {أَنفِقُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا كَسَبْتُمْ} [البقرة:267] ، فهذه شروط النفقة التي يحبها ربنا ويربيها.
ومن جوده وانفاقه وحثه على النفقة ما روى أبو هريرة رضي الله عنه قال:(أنَّ رسولَ اللهِ أَمَرَ أن تُذبحَ شاةٌ فيُقَسِّمُهَا بينَ الجيرانِ ، قال : فذَبحتُهَا فقسَمتُهَا بينَ الجيرانِ ، ورفعتُ الذراعَ إلى النبيِّ وكان أحبَّ الشاةِ إليهِ الذراعُ ، فلمَّا جاء النبيُّ قالت عائشةُ : ما بقي عندَنا منها إلا الذراعُ ، قال : كلُّها بَقِيَ إلا الذراعُ) السلسة الصحيحة للألباني
وللصدقة عموما إذا ذكرت فإنها تدل على مفهومين: مفهوم عام واسع شامل لكل خير كما في حديث عن أبي هريرة : (كلُّ سُلامَى من الناسِ عليه صدقةٌ، كلُّ يومٍ تطلُعُ فيه الشمسُ ، يعدلُ بينَ الاثنينِ صدقةٌ ، ويعينُ الرجلَ على دابتِه فيحملُ عليها، أو يرفعُ عليها متاعَه صدقةٌ، والكلمةُ الطيبةُ صدقةٌ، وكلُّ خطوةٍ يخطوها إلى الصلاةِ صدقةٌ، ويميطُ الأذَى عن الطريقِ صدقةٌ) رواه البخاري ، فهذا من مفهوم الصدقة العامة الشاملة، وللصدقة نوع آخر أخص من سابقه،
فالصدقة إذا أطلقت في الكتاب والسنة فيقصد بها الزكاة المفروضة والنافلة، فقوله : ( فأخبرهم أن الله افترض عليهم صدقة تؤخذ من أغنيائهم فترد على فقرائهم)  رواه البخاري ، وقوله تعالى: (إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ) [التوبة:60] يعني: الزكاة، فهي تشمل هذا وهذا والحمد لله.
وأصل الصدقة مأخوذة من الصدق، ولهذا يلزم المتصدق أن يكون صادقاً، فإن كان كذلك فإن النبي قال: (من تصدَّقَ بعدْلِ تمرةٍ من كَسْبٍ طَيِّبٍ ، ولا يقبَلُ اللهُ إلَّا الطَّيِّبُ ، وإنَّ اللهَ يَتَقَبَّلُهَا بيمينِهِ ، ثم يُربيها لصاحبها ، كما يُرَبِّي أحدكم فَلُوَّهُ ، حتى تكونَ مثلَ الجبلِ .) رواه البخاري، والفلو: هو المهر، فكما أنك تربي فرسك فيكبر على عينك -ولله المثل الأعلى- فإن الله عز وجل يأخذ الصدقة بيمينه فيربيها للعبد حتى تصير كأمثال الجبال! والعبد أنما يفاجىء بهذه الحسنات التي ما كان يتوقعها، تصدق بصدقة وهو مخلص فيها ثم نسيها، فيفاجأ هذا الرجل يوم القيامة بعد انتهاء حسابه بجبال من الحسنات من أين هذه الجبال؟! إنها من الصدقة التي وضعها يوماً ما في يد مسكينٍ أو فقيرٍ أو معول ونسيها: ( وَمَا مِنْ غَائِبَةٍ فِي السَّمَاءِ وَالأَرْضِ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ) [النمل:75] ، في كتابٍ عند الله تبارك وتعالى.
والحق جل وعلا يقول: ( يَمْحَقُ اللَّهُ الرِّبَا وَيُرْبِي الصَّدَقَاتِ)  [البقرة:276] ، فلن يزداد الخير ولن يضاعف أجر، ولن تكون بركة إلا فيما هو في مرضاة الله، وأما كل ما هو زيادة فيما هو من الحرام فإنها زيادة سحت له عاقبة في الدنيا قبل الآخرة.
ونتأمل كيف كان أصحاب النبي ، كما في حديث ابن مسعود في البخاري قال: (لما نزل فضل الصدقة كنا نحامل) أي: ليس عندنا مال،ومن ليس عنده مال فليس عليه زكاة، ولا تطلب منه الصدقة؛ لأن النبي قال: (الصدقة ما كان عن ظهر غنى) ، يعني: بعد أن تستغني تصدق بما يزيد، لكن الصحابة المحبين للخير الراغبين في الأجر يقولون: (كنا نحامل) أي: يعمل أحدهم حاملاً، فيحمل حتى يأخذ أجراً.
لماذا يأخذ هذا الأجر؟ هل ليوسع على أهله وليدخر قرشه الأبيض ليومه الأسود؟ كلا. إنما يريد أن يحصل على شيء من المال لكي ينفق منه لوجه الله فيكتب من المتصدقين ويكون من المنفقين، فإذا كان هذا فما حال الذين عندهم فائض ثم لا ينفقون ولا يكتبون في هذا الباب؟ وحديث أبي سعيد الخدري يدل على ذلك: (بينَما نحنُ في سفرٍ مع النَّبيِّ إذ جاء رجُلٌ على راحلتِه قال: فجعَل يضرِبُ يمينًا وشِمالًا فقال النَّبيُّ : ( مَن كان معه فضلُ ظَهرٍ فلْيعُدْ به على مَن لا ظهرَ له ومَن كان معه فضلُ زادٍ فلْيعُدْ به على مَن لا زادَ له ) فذكَر مِن أصنافِ المالِ ما ذكَر حتَّى رأَيْنا أنْ لا حقَّ لأحدٍ منَّا في فضلٍ) صحيح ابن حبان
فضائل الصدقة:
وقد جاءت النصوص الكثيرة التي تبين فضائل الصدقة والإنفاق في سبيل الله ، وتحث المسلم على البذل والعطاء ابتغاء الأجر الجزيل من الله سبحانه ، فقد جعل الله الإنفاق على السائل والمحروم من أخص صفات عباد الله المحسنين ، فقال عنهم : ( إنهم كانوا قبل ذلك محسنين ، كانوا قليلاً من الليل ما يهجعون ، وبالأسحار هم يستغفرون ، وفي أموالهم حق للسائل والمحروم ) ( الذاريات 16-19) وضاعف العطية للمنفقين بأعظم مما أنفقوا أضعافاً كثيرة في الدنيا والآخرة فقال سبحانه : ( من ذا الذي يقرض الله قرضاً حسناً فيضاعفه له أضعافاً كثيرة ) ( البقرة 245) .

والصدقة من أبواب الخير العظيمة ، ومن أنواع الجهاد المتعددة ، بل إن الجهاد بالمال مقدم على الجهاد بالنفس في جميع الآيات التي ورد فيها ذكر الجهاد إلا في موضع واحد ، يقول : ( جاهدوا المشركين بأموالكم وأنفسكم وألسنتكم ) رواه أبو داود .

وأحب الأعمال إلى الله كما جاء في الحديثه ( سرور تدخله على مؤمن ، تكشف عنه كرباً ، أو تقضي عنه ديناً، أو تطرد عنه جوعاً ) رواه البيهقي ، وحسنه الألباني .

والصدقة ترفع صاحبها حتى توصله أعلى المنازل ، قال: ( إنما الدنيا لأربعة نفر: عبد رزقه الله مالاً وعلماً فهو يتقي فيه ربه ، ويصل فيه رحمه ، ويعلم لله فيه حقاً فهذا بأفضل المنازل... ) رواه الترمذي .

كما أنها تدفع عن صاحبها المصائب والبلايا ، وتنجيه من الكروب والشدائد ، وفي ذلك يقول : ( صنائع المعروف تقي مصارع السوء والآفات والهلكات ، وأهل المعروف في الدنيا هم أهل المعروف في الآخرة ) رواه الحاكم وصححه الألباني ، أضف إلى ذلك إطفاؤها للخطايا وتكفيرها للسيئات ، ومضاعفتها عند الله إلى أضعاف كثيرة ، ووقايتها من عذاب الله كما جاء في الحديث ( اتقوا النار ولو بشق تمرة ) رواه البخاري وغير ذلك من الفضائل .
أختي المسلمة ، في هذه الأيام الفضيلة الأجور مضاعفة لمن عمل يبتغي مرضاة ربه ، وعمل فيما يرضي عنه خالقه، ومن حولنا المعوزين من المسلمين كثير، فلا تكاد تنظر في قطر من أقطار الإسلام إلا ومبتلى ومحتاج وجائع وفقير، والله تعالى قد أنعم على الكثير منا بنعم لا تحصى من الأمن والسلامة والفضل ، فلا تحرمي نفسك الأجر المضاعف، أخرجي من مال الله الذي استخلفك عليه، ولا تخشي فقرا ولا عِوزا ، فالرازق حي لا يموت، وهو جل في علاه يدخره لك عنده وينميه ويضاعفه، حتى إن رأيتيه يوم القيامة قلت يا ليتني أنفقت أكثر ليدوم لي، ولا يذهب مع ما ذهب مما أكلت وشربت ولبست، وتذكري قول رسول الله  فيما يرويه عن ربه سبحانه وتعالى: ( قَالَ الله تَبَارَكَ وَتَعَالَى: يَا ابْنَ آدَمَ أَنْفِقْ أُنْفِقْ عَلَيْكَ) متفق عليه، وقد قال تعالى : (وَأَنفِقُوا خَيْراً لأَنفُسِكُمْ وَمَن يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُوْلَئِكَ هُمُ المُفْلِحُونَ ) ( التغابن 16) ،
ومن فضائل الصدقة إخلاف الله على صاحبها بما هو أنفع له وأكثر وأطيب ، وقد وعد سبحانه في كتابه بالإخلاف على من أنفق - والله لا يخلف الميعاد - قال تعالى : (وما أنفقتم من شيء فهو يخلفه وهو خير الرازقين ) (سبأ 39)، أي مهما أنفقتم من شيء فيما أمركم به وأباحه لكم ، فإنه يخلفه عليكم في الدنيا بالبدَل ، وفي الآخرة بحسن الجزاء والثواب ، فأكد هذا الوعد بثلاث مؤكدات تدل على مزيد العناية بتحقيقه ، ثم أتبع ذلك بقوله :(وهو خير الرازقين ) لبيان أن ما يُخْلِفه على العبد أفضل مما ينفقه .
وتذكري قول الحبيب ﷺودعاء الملائكة للمنفقين كل يوم تطلع فيه الشمس

عَنْ أَبي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللهِ : « مَا مِنْ يَومٍ يُصْبِحُ الْعِبَادُ فِيهِ إِلَّا مَلَكَانِ يَنْزِلانِ فَيَقُولُ أَحَدُهُمَا : اللَّهُمَّ أَعْطِ مُنْفِقَاً خَلَفَاً ، وَيَقُولُ الآخَرُ : اللَّهُمَّ أَعْطِ مُمْسِكَاً تَلَفاً » متَّفَقٌ عَلَيْهِ .


اللهم اجعلنا ممن دخل في دعاء الملائكة لهم بان يخلف عليهم خيرا مما أنفقوا، اللهم بارك لنا في أموالنا وأبنائنا وأهلنا، واجعلنا ممن يحسنون صنعا، ولا يدخرون فرصة للأجر والثواب إلا واغتنموها


No comments:

Post a Comment