Sunday 20 July 2014

مختصر شامل لأحكام الصيام – الدرس التاسع عشر ، العشرة الأخيرة من رمضان وليلة القدر






كيف نستثمر العشر الأواخر ؟

 لا ينبغي لمسلم عاقل يعرف فضل ومكانة العشر الأواخر من شهر رمضان، أن يفوّت هذه الفرصة الثمينة على نفسه وأهله فما هي إلا ليال معدودة ربما يُدرك الإنسان فيها نفحة من نفحات المولى فتكون سعادة في الدنيا والآخرة . ويكفينا لبيان فضلها ما رواه مسلم في صحيحه عن عائشة رضي الله عنها :( أن النبي كان يجتهد في العشر الأواخر مالا يجتهد في غيرها )، وفي الصحيح عنها قالت :( كان النبي إذا دخل العشر شد مئزره وأحيا ليله وأيقظ أهله) . ففي هذه العشر كان يجتهد النبي أكثر مما يجتهد في غيرها من الليالي والأيام من أنواع العبادة : من صلاة وقرآن وذكر وصدقة وغيرها.

  فكان " يشد مئزره " يعني: يعتزل نساءه ويتفرغ للصلاة والذكر، وكان يحيي ليله بالقيام والقراءة والذكر بقلبه ولسانه وجوارحه لشرف هذه الليالي والتي فيها ليلة القدر التي قال فيها النبي ﷺ: (  مَن قام ليلةَ القدرِ إيمانًا واحتسابًا، غُفِرَ له ما تقدَّمَ من ذنبِه، ومَن صام رمضانَ إيمانًا واحتسابًا غُفِرَ له ما تقدَّمَ من ذنبِه )( البخاري) ،  كما كان يحيي الليل كله في عبادة ربه من الذكر وقراءة القرآن والصلاة، وكان يوقظ أهله فيها للصلاة والذكر حرصا على اغتنام هذه الليالي المباركة بما هي جديرة به من العبادة فإنها فرصة العمر وغنيمة لمن وفقه الله عز وجل


فضل العشر الأواخر وليلة القدر:


يعطيهم ليلة القدر، ولابد أن تأخذ في اعتبارك أنه لا يوجد نص يقول إنها ليلة 27 رمضان، ولذلك إذا أردت حقاً أن تصادفها وتأخذ خيرها احرص على العبادة في الأيام العشر الأخيرة، وكأنهم جميعاً ليلة القدر؛ فليلة القدر لها فضل عظيم يتمثل في أربع فوائد:

الفائدة الأولى: أنها خير من ألف شهر، بنص القرآن بما يعادل 84 عاماً؛ يعني عمرك كله؛ لأن متوسط أعمار أمة سيدنا محمد ما بين الستين والسبعين؛ وكأنه يقول لك: وكأنها أفضل من عمرك كله، وزيادة بضعة أعوام، فإدراكك لهذه الليلة تعني أنك عبدت الله 84 سنة متصلة، يعني: صلاة ركعتين في هذه الليلة كأنك تصلي بين يدي الله 84 عاماً؛ فما بالك بركعتين كل ليلة، والأمر نفسه بالنسبة للصدقة.

والفائدة الثانية: أن الدعاء فيها مستجاب لأكثر من سبب أولها ما تقوله تلك الآية:  (تَنَزَّلُ الْمَلَائِكَةُ وَالرُّوحُ فِيهَا بِإِذْنِ رَبِّهِمْ مِنْ كُلِّ أَمْرٍ، سَلَامٌ هِيَ حَتَّى مَطْلَعِ الْفَجْر) [سورة القدر4-5).

ليلة كلها رحمة، هل تتخيل تأمين الملائكة على دعائك كيف سيكون؟
وهناك سبب آخر لإجابة الدعاء في هذه الليلة؛ فحدث أن سألت السيدة عائشة النبي وقالت: ( يا رسول الله أرأيت إن أدركت هذه الليلة ماذا أقول؟ فقال: عليكِ بهذا الدعاء: اللهم إنك عفو كريم تحب العفو فاعفُ عني".

فحاول أنت أيضا أن ترتّب الدعوات التي تريد الدعاء بها في هذه الليلة؛ ضع في اعتبارك أن تقول بمجرد دخول العشر الأواخر: "اللهم بلّغني ليلة القدر"، ولكن بالله عليك لا تنسَ في قائمة دعواتك الدعاء لإخوانك في فلسطين وسوريا والعراق وسائر بلاد المسلمين ، وادعُ للمسلمين في شتى بقاع الأرض أن يجمع شملهم على كلمة الحق ، ويرشدهم إلى سواء السبيل، واحرص أن تكون ملحا جداً في دعائك.

والفائدة الثالثة: أن القيام في هذه الليلة يغفر ما تقدم من الذنب، يقول النبي : "من قام ليلة القدر إيمانا واحتساباً غُفِر له ما تقدم من ذنبه"؛ فالعلماء هنا يقولون هل المقصود من الحديث غفران صغائر الذنوب أو الكبائر؟ وخلصوا إلى أنه طالما لم يحدد النبي؛ فالمقصود كل الذنوب صغيرها وكبيرها، ولذلك يقول النبي : "إن من عباد الله من يخرج إلى صلاة العيد وليس عليه خطيئة"، يعني: تخرج إلى صلاة العيد وصحيفتك ليس بها معصية، وليلة القدر إدراكها يكفر ما فات من الذنوب.
ويقصد بـ"إيماناً واحتساباً" في الحديث أن "إيماناً" يعني رغبة في إرضاء الله و"احتساباً" يعني رغبة في الحصول على الثواب.


والفائدة الرابعة: العتق من النار؛ فالعتق في العشر الأواخر أمر مختلف عن العتق في العشرين يوماً الأولى فالعتق في الأيام الأولى يكون لأخلص الناس وأعبد الناس؛ ولكن العتق في الأيام الأخيرة مفتوح للأقل مقاماً والأقل كفاءة؛ فالعتق في العشر الأواخر زيادة عن العشرين الأولى؛ ولكن انظر لماذا كان رمضان في أوله رحمة؛ لأن الإنسان المسلم يدخله وهو مكبل بالمعاصي والذنوب والتي أبعدته عن الله؛ ولذلك فالرحمة تسبق المغفرة في رمضان، وبعد الغفران تُعتق من النار.كما جاء في الحديث عنه ﷺ: (أعطِيَتْ أمَّتي في شهرِ رمضانَ خمسًا لم يُعطَهنَّ نبيٌّ قبلي أمَّا واحدةٌ فإنَّه إذا كان أوَّلُ ليلةٍ من شهرِ رمضانَ نظر اللهُ عزَّ وجلَّ إليهم ومن نظر اللهُ إليه لم يعذِّبْه أبدًا وأمَّا الثَّانيةُ فإنَّ خلوفَ أفواهِهم حين يُمسون أطيبُ عند اللهِ من ريحِ المسكِ وأمَّا الثَّالثةُ فإنَّ الملائكةَ تستغفِرُ لهم في كلِّ يومٍ وليلةٍ وأمَّا الرَّابعةُ فإنَّ اللهَ عزَّ وجلَّ يأمُرُ جنَّتَه فيقولُ لها استعدِّي وتزيَّني لعبادي أوْشَك أن يستريحوا من تعبِ الدُّنيا إلى داري وكرامتي وأمَّا الخامسةُ فإنَّه إذا كان آخرُ ليلةٍ غفر اللهُ لهم جميعًا فقال رجلٌ من القومِ أهي ليلةُ القدرِ فقال لا ألم ترَ إلى العمَّالِ يعملون فإذا فرغوا من أعمالِهم وُفُّوا أجورَهم) ( الترغيب والترهيب للمنذري: إسناده لا بأس به )

وكأن العبّاد في رمضان مثل العمّال لن يحصلوا على أجر جهدهم إلا في آخر ليله من الشهر.
وحسبك أنك في آخر ليله من الشهر تأخذ من خالقك جائزتك، وليس خير جائزة تعطي مثل الغفران للذنوب، كما ورد في حديث مشهور ولو أن فيه مقال ، وأحسنه أنه مرسل، قال

(إذا كانَ يومُ عيدِ الفِطرِ وقفتِ الملائكةُ على أبوابِ الطُّرُقِ ، فنادَوا : اغدوا يا مَعشرَ المسلِمينَ إلى ربٍّ كريمٍ ، يَمُنُّ بالخيرِ ، ثمَّ يُثيبُ عليهِ الجزيلَ ، لقد أُمِرتُم بقيامِ اللَّيلِ فقُمتُم ، وأُمِرتُم بِصيامِ النَّهارِ فصُمتُم ، وأطَعتُم ربَّكم ، فاقبِضُوا جَوائزَكُم ، فإذا صلَّوا نادى منادٍ : ألا إنَّ ربَّكم قد غَفرَ لكم ، فارجِعوا راشدينَ إلى رحالِكم ، فهوَ يومُ الجائزةِ ، ويُسمَّى ذلكَ اليومُ في السَّماءِ يومَ الجائزةِ) ( ضعيف الترغيب والترهيب ؛ الألباني)

ولذلك، إياك والتكاسل والتخاذل بعد حلول الأيام الأخيرة من رمضان.

كيف استفيد من العشر الأواخر ، وأستعد لليله القدر؟
تعتبر العشر الأواخر من رمضان نفحة من نفحات الله عز وجل التي أمرنا النبي صلى الله عليه وسلم بالتعرض لها واستثمارها، وهي فرصة لتغيير النفس إلى الأفضل. ومجالات التغيير التي يجب أن يعنى بها العبد تنحصر في علاقته بربه، ونفسه، وأهله، والناس من حوله على اختلافهم . وكل مجال من هذه المجالات يحتاج إلى مكاشفة ومصارحة مع النفس، وعزيمة على التغيير إلى الأحسن.
فهناك من يكون مقبلاً بشوق وبهمة على العشر الأواخر ولا يعرف ماذا يفعل، ونقول  له عليك أولا : أن تستصطحب نيتك الصالحة هذه معك طوال هذه الأيام العشر الباقية من هذا الشهر الكريم، فضعها نصب عينيك دائما، وذكِّر نفسك بها دائما أن عملي وطاعتي لله وحده لا شريك له، له أنصب ,وإليه أرغب.
ثم تذكر أن لا تدع مجالا مما يلي ولا تصلحه وتعتني به:
أولا: في مجال إصلاح العلاقة مع الله عز وجل:  انظر لتقصيرك في عبادته سبحانه، واجبر هذا التقصير، فإن كان في الصلاة فعاهد الله عز وجل على أن تحافظ على الصلوات في أوقاتها، وإن كان في الزكاة  فاعلم أنها الفرض الآكد والعمود الثالث من أعمدة الإسلام ، فاحرص على إخراجها كاملة لمستحقيها ، وأتبعها بالصدقات في كل المجالات عسى أن تجبر ما قصرت من أداء حق الله وحق الفقراء في زكاة أموالك سابقا، أخرج صدقة كل يوم ولو قلّت ، ولا تقتصر هذه الصدقات على المال فقط؛ بل يمكن أن تكون ملابس قديمة، أو طعاما ولو شق تمرة. وإن كنت مرتكبا لذنب فعاهد ربك على الإقلاع عنه والتوبة النصوح منه، فتحول بذلك من المعصية إلى الطاعة.صبر نفسك على أداء صلاة التراويح بعد العشاءكاملة مع الإمام لا تترك منها ركعة واحدة، لتحسب عند الله ممن قام الليل كله.
ثانيا:  القرآن: احرص على أن تختم القرآن على الأقل مرة في العشر الأواخر، واستعن بالله؛ على أن يقل النوم والأكل، ويعلو التركيز أكثر.
فلا شك أن القرآن ورمضان متلازمان؛ فالقرآن أنزل في شهر رمضان، قال تعالى: (شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدًى لِّلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِّنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ)( البقرة 185). وقال رسول الله : “الصيام والقرآن يشفعان للعبد يوم القيامة، يقول الصيام: أي ربي منعته الطعام والشهوة، فشفعني فيه، ويقول القرآن: منعته النوم بالليل فشفعني فيه. قال: فيُشفَّعان” [رواه أحمد والحاكم بسند صحيح]. وكان سيدنا جبريل ينزل للرسول في رمضان فيدارسه القرآن،  وأقترح عليك أن تعتني بهذه الأمور وتحرص عليها:
1-       الاستعداد لقراءة القرآن بالوضوء وإفراغ القلب من الدنيا وهمومها.
2-     ختم القرآن مع نفسك مرة على الأقل خلال العشر الأواخر .
3-     صلاة التراويح يوميا يطيل فيهابما تيسر عليه من القرآن زيادة عما اعتاده في أوائل الشهر.
4-     صلاة التهجد في العشر الأواخر، يقرأ فيها ما تيس له من القرآن يطيل ما استطاع ، وأن تمكنت فاحرص على أن تصلي صلاة التهجد في المسجد، وإذا لم تستطع فلتصلِّ في بيتك مع زوجتك وأولادك.
5-     مراجعة ما تحفظه من القرآن لتثبيته .
6-     التدبر في الآيات واستحضار معانيها.
7-     استحضار عظمة الله عز وجل واستشعار أنه يكلمك؛ فمن أراد أن يكلم الله فليدخل في الصلاة، ومن أراد أن يكلمه الله فليقرأ القرآن.
8-     استثمار أوقات المواصلات في قراءة القرآن، وكذا التواجد في البيت في الاستماع إلى القرآن.
9-     التأدب بآداب حملة القرآن.
ثالثاً:.صلة الرحم والعلاقة مع الإصدقاء والجيران: انظر كيف كنت تعامل والديك وإخوتك وذوي أرحامك وباقي أهلك، فتحول من العقوق إلى البر، ومن القطيعة إلى الصلة، ومن سوء العشرة إلى حسنها. راجع علاقاتك مع جيرانك، وزملائك، ومع إخوانك وأصدقائك، فتحول من الإيذاء إلى الإحسان، ومن الحقد إلى التسامح والعفو، ومن الحسد إلى حب الخير للناس، احرص على أن تصل من قطعته من أهلك قبل أن تأتي العشر الأواخر؛ حتى يكون ثواب عبادتك كاملاً غير منقوص.

رابعا: مع نفسك : إياك والمعصية،انظر إلى عيوب نفسك الدفينة،التي تسترها عن الناس  واسع إلى علاجها، لتتحول من الكبر إلى التواضع، ومن الرياء إلى الإخلاص، ومن الكذب إلى الصدق، ومن النقمة إلى الرضا.

وهكذا تخرج من هذا الشهر الكريم، وقد منَّ الله عز وجل عليك بفضله، وتحولت نفسك، وتغيرت إلى الأفضل في كل المجالات، وأذكرك بأن هذا يحتاج إلى صبر ومجاهدة ، ومن المهم أن ألا يتوقف المسلم الصادق بعد رمضان، بل يظل حريصا على إصلاح نفسه وتهذيبها وتحسين علاقتها مع الله ومع الناس، بل يجب أن يستمر هذا بعد انقضاء شهر رمضان، فرب رمضان، هو رب كل الشهور والاعوام ،وما رمضان إلا محطة وقود يتزود منها العبد لباقي الشهور، وليجدد عهده ويزيد إيمانه بالله، ويعود النفس على الطاعة وترك المعصية ، فقد فعلها في رمضان وجاهد نفسه عليها ، فهانت عليه بعد ذلك ، فليثابر ، فلا يكون من عبَاد رمضان، ولكن من عبَاد الله عز وجل رب الزمان والمكان سبحانه في علاه.

اللهم أنا نسألك يا الله ، يا سميع ، يا مجيب ، يامنتقم ، يا شديد البطش ، يا جبار ، يا قهار ، يا من لا يعجزه قهرَ الجبابرة ، ولا يعظُم عليه إهلاك المتمردة من الملوك والأكاسرة ، أن تجعل كيد من كاد أهل غزة في نحره ، ومكْر من مكر بهم عائدا عليه .
اللهم سلط على أعدائهم النقم ، اللهم بدد شملهم ، اللهم فرِّق جمعهم ، اللهم أقلل عددهم ، اللهم إجعل الدائرة عليهم ، اللهم أوصل العذاب إليهم ، واشدد على قلوبهم ولا تبلغهم الآمال ، اللهم مزِّقهم كلَّ ممزَّق مزَّقته  لأعدائك انتصارا لأنبيائك ورسلك.

اللهم انتصر لنا ولأهل غزة  وجميع فلسطين ، وأهل سوريا والعراق وجميع بلاد المسلمين إنتصارك لأحبابك على أعدائك
اللهم لا تمكّن الأعداء فينا ولا تسلطهم علينا بذنوبنا
اللهم أنجز لأهل غزة وعدَك الذي وعدتَه لعبادك المؤمنين ، إنقطعت آمالُهم
وعزَّتك إلاّ منك ، وخاب رجاؤهم إلاّفيك ، وكفى بالله وليا ، وكفى بالله
نصيرا ، وحسبنا الله ونعم الوكيل ، ولا حول ولا قوة إلاّ بالله العلي
العظيم.
اللهم إستجب لنا ، آمين ، وصلِّ اللهم على سيدنا محمّد سيد المرسلين

No comments:

Post a Comment