Friday 18 July 2014

مختصر شامل لأحكام الصيام – الدرس الثامن عشر ؛ الصيام تهذيب وأخلاق فحذار ما يحبط صيامك

 

 



 الصيام تهذيب وأخلاق حذار مما يحبط صيامك

واليوم نتتبع ما ورد عن رسول الله من الأحاديث في أخلاق الصائم ، وبين أيدينا حديث طويل رواه البخاري هو من جوامع كلمه ، فيه أبلغ الكلام فيما على الصائم خصوصا والمسلم عموما أن يتحلى به من الأخلاق، وهي من جماع الخلق:
روي البخاري في صحيحه بسنده عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله قال :( الصِّيامُ جُنَّةٌ ، وإذا كان أحدُكم صائِمًا فلا يَرْفُثْ ، ولا يَجهلْ ، وإنْ امْرؤٌ قاتَلَهُ أو شاتَمَه فلْيَقُلْ : إنِّي صائِمٌ ( مَرَّتينِ ) ، والَّذِي نفْسِي بيدِه لَخَلُوفُ فمِ الصائمِ أطيبُ عند اللهِ من رِيحِ الِمسْكِ ، يَتركُ طعامَه وشرابَه وشَهوتَه من أجلِي ، الصِّيامُ لِي وأنا أجَزِي به ، والحَسنةُ بعَشْرِ أمْثالِها).
وهذا حديث جليل القدر يبرز القيمة الأخلاقية للصوم، ويجعل من الصائم إنساناً ربانياً، يحجز لسانه عن كلِ إساءة وتطاول ابتغاء مرضاة الله، ويمنع نفسه بعض المتع وإن كانت حلالاً في أوقات غير هذا الشهر المبارك، وفي غير نهاره بالذات، ابتغاء وجه الله،وفي ذلك تربية وتهذيب يأخذ النفس بالشدة يحرم عليها ما هو حلال عموما فتصبر وتنتهي عنه، فيصبح الإنتهاء عن المحرمات في كل الأوقات أيسر عليها في رمضان وفي غيره ، ولما كان هذا التدريب في هذا الشهر شديدا وهو خفي عن الناس فكان خلوقا علي الله وحده أن يتولى مكافأته بذاته سبحانه ،ويجزيه الجزاء الأوفى !! تعالوا معي نفهم كلام سيد الخلق لنتبعه، فنكون من المقربين إليه يوم القيامة ومن آله ، نرى كيف صور النبي الكريم أثر الصوم في أخلاق المسلم:
فقوله : ( الصيام جنة ) : الجنة هي الوقاية والستر من النار،كما فسر رسول الله في حديث غيره:  (الصِّيامُ جُنَّةٌ يَستجِنُّ بها العبدُ من النَّارِ ) إسناده حسن؛ الترغيب والترهيب، وحسبك بهذا فضلا للصائم ،وهي تعبير موجز حي يوحي بالكثير من المعاني، ذلك أن الجُنَّة هي الدرع الذي يلبسه المحارب ليتقي به ضربات السيوف ووخزات الرماح ووقعات السهام ، والرسول الكريم يشبه الصوم بهذا الدرع ، فكما أن الدرع يقي ويحفظ من أخطار الحرب ، فكذلك الصوم يقي ويحفظ من أخطار الذنوب والآثام ، والدرع من أدوات الحرب ولوازم المعركة ، وكذلك الصوم من لوازم الخوض في معركة الحياة وفتنها، لأن الأنسان طيلة حياته يخوض معركة عنيفة ضد شهوات النفس ووساوس الشيطان، وهي حرب تكون أشد في رمضان وهو صائم ، يلاقي فيها من العنت والرهق الشيء الشديد، ولذا كان مضطرا إلى درع يقيه وسلاح يستعمله ، أما الدرع الواقي فهو الصوم ، وأما السلاح الذي يستعمله فمراقبة الله .
وكما أن فائدة الدرع في الحرب النجاة من الضربات ، فكذلك فائدة الصوم النجاة من الآثام والمعاصي، وكما أن استعمال الدرع في الحرب حيطة وحزم، فكذلك استعمال الصوم في معركة النفس، وكما أن ترك الدرع إهمال وجرم فكذلك ترك الصوم .
والحديث بإيحائه القوي البليغ يترك في خواطرنا انطباعا قويا بخطورة الذنوب والآثام ، وكيف أن الصوم وقاء منها، وكيف أن المعركة التي يخوضها الإنسان ضد شهواته لا يعصمه من أخطارها ومهالكها إلا الصوم وكيف أن المعاصي كضربات السيوف كلاهما قاتل مُتبِّر؟!
وإذا كان الصوم جنة كما مر فهو لا شك حاجز عن كل بذاءة وتطاول ، ولذا جاء بعده مباشرة (وإذا كان أحدُكم صائِمًا فلا يَرْفُثْ ) وإذا كان الصائم في رعاية ربه وحفظه فإنه لا يرد على الإساءة بمثلها (وإنْ امْرؤٌ قاتَلَهُ أو شاتَمَه فلْيَقُلْ : إنِّي صائِمٌ ( مَرَّتينِ ) ويكفي لتذكيره بالله أن يردد (إنِّي صائِمٌ) ، وكأنما اللغو ضد طبيعة الصوم، وإذا كان الصائم يجد في هذه المعركة مشقة، فما أجدر أن يكون ثوابه على قدر المشقة التي يجدها (الصِّيامُ لِي وأنا أجَزِي به).
وبهذا التصوير الجميل يرتبط الخلق الكريم بالصوم ارتباطا وثيقاً ، فإن الصوم وقاء من كل شر وفاحشة ومنكر ، ولأنه تجربة يخوضها الصائم مع نفسه ، ويتعامل بها مع ربه ، فكيف يتصور أن يكون عيابا أو شتاما أو مغتابا أو فاحشا أو ظالما ؟ وكيف يعامل المسيء بإساءته فيرد عليه إهانته ؟ يكفي أن يذكر أنه صائم ليكف عن الرد السفيه، لأن طبيعة الصوم تتجافى مع كل خلق وضيع، وتأبى النزول إلى درك الجاهلين .
ولا قيمة لصوم لا يرتفع بصاحبه إلى هذا المستوى ، ويظل معه الإنسان مرتكبا للموبقات ملابسا للخنا والفجور ومن ثم يقول الرسول الكريم : (من لمْ يَدَعْ قولَ الزورِ والعملَ بِهِ ، فليسَ للهِ حاجَةٌ في أنِ يَدَعَ طعَامَهُ وشرَابَهُ .)( البخاري)
وهذا في آداب وسنن الصيام أن لا يرفث الصائم ولا يغتاب أحداً، وأن يجتنب قول الزور والعمل به ،وهو هنا معناه الكراهية والتغليظ،  فمن اغتاب أو شهد زورا أو منكرا لم يؤمر بأن يدع صيامه ، ولكنه يؤمر باجتناب ذلك ليتم له أجر صومه ، فليتقى عبد ربه ويمسك عن الخنا والغيبة والباطل بلسانه ، صائما كان أو غير صائم ، فإنما يكب الناس في النار على وجوههم حصائد ألسنتهم .
ولأن الصوم ليس مظهرا سلبيا يكفي لتحقيقه أن تمتنع عن الطعام والشراب والمعاني الجنسية ، بل على العكس هو مظهر إيجابي ثمرته التقوى ، وإن ما فيه من كبت وحرمان ليس هدفه إلا التدريب على القيادة والسيادة : قيادة النفس والاستعلاء فوق شهواتها، والسيادة على أمرها، ليكون ذلك منطلقا إلى السيادة في الحياة وقيادة زمامها، وتلك هي وظيفة الأمة المسلمة: (وَكَذَٰلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِّتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّ‌سُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا ۗ) ( البقرة 143)
إنك بالصوم إنسان تملك زمام شهوتك وغضبك فلا تشتم أو تسب، ولا ترد الإساءة بمثلها، وإنه لصبر يقود إلى صبر، ونصر يقود إلى نصر لتكف عن كل شر ومأثم، وتنتصر في كل مواقف الحياة : ( ويومئذ يفرح المؤمنون بنصر الله ) ( الروم 4-5)
من أقوال السلف في آداب الصائم:
عَنْ مَسْرُوقٍ عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ لَيْسَ الصِّيَامُ مِنْ الشَّرَابِ وَالطَّعَامِ وَحْدَهُ‏;‏ وَلَكِنَّهُ مِنْ الْكَذِبِ‏,‏ وَالْبَاطِلِ وَاللَّغْوِ) وَعَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ مِثْلُهُ نَصًّا‏.‏

وعن جَابِرٌ ابْنُ عَبْدِ اللَّهِ‏:‏ إذَا صُمْت فَلْيَصُمْ سَمْعُكَ‏,‏ وَبَصَرُكَ‏,‏ وَلِسَانُكَ عَنْ الْكَذِبِ وَالْمَأْثَمِ‏,‏ وَدَعْ أَذَى الْخَادِمِ وَلْيَكُنْ عَلَيْكَ وَقَارٌ‏,‏ وَسَكِينَةٌ يَوْمَ صِيَامِكَ‏,‏ وَلاَ تَجْعَلْ يَوْمَ فِطْرِكَ وَيَوْمَ صَوْمِكَ سَوَاءً‏.‏

وعن أَبُي ذَرٍّ‏:‏ إذَا صُمْت فَتَحَفَّظْ مَا اسْتَطَعْت‏,‏ فَكَانَ طَلِيقٌ إذَا كَانَ يَوْمُ صِيَامِهِ دَخَلَ فَلَمْ يَخْرُجْ إلاَّ إلَى صَلاَةٍ‏.‏
عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ قَالَ‏:‏ إذَا اغْتَابَ الصَّائِمُ أَفْطَرَ‏.‏

كَانَ أَبُو هُرَيْرَةَ وَأَصْحَابُهُ إذَا صَامُوا جَلَسُوا فِي الْمَسْجِدِ وَقَالُوا‏:‏ نُطَهِّرُ صِيَامَنَا فَهَؤُلاَءِ مِنْ الصَّحَابَةِ رضي الله عنهم‏:‏ عُمَرُ‏,‏ وَأَبُو ذَرٍّ وَأَبُو هُرَيْرَةَ‏,‏ وَأَنَسٌ‏,‏ وَجَابِرٌ‏,‏ وَعَلِيٌّ‏:‏ يَرَوْنَ بُطْلاَنَ الصَّوْمِ بِالْمَعَاصِي‏,‏ لأِنَّهُمْ خَصُّوا الصَّوْمَ بِاجْتِنَابِهَا وَإِنْ كَانَتْ حَرَامًا عَلَى الْمُفْطِرِ‏,‏ فَلَوْ كَانَ الصِّيَامُ تَامًّا بِهَا مَا كَانَ لِتَخْصِيصِهِمْ الصَّوْمَ بِالنَّهْيِ عَنْهَا مَعْنًى‏,‏ وَلاَ يُعْرَفُ لَهُمْ مُخَالِفٌ مِنْ الصَّحَابَةِ رضي الله عنهم‏.‏

وَمِنْ التَّابِعِينَ‏:‏ مَنْصُورٌ عَنْ مُجَاهِدٍ قَالَ‏:‏ مَا أَصَابَ الصَّائِمُ شَوًى إلاَّ الْغِيبَةَ‏,‏ وَالْكَذِبَ‏.‏

وَعَنْ حَفْصَةَ بِنْتِ سِيرِينَ‏:‏ الصِّيَامُ جُنَّةٌ‏;‏ مَا لَمْ يَخْرِقْهَا صَاحِبُهَا‏,‏ وَخَرْقُهَا‏:‏ الْغِيبَةُ وَعَنْ مَيْمُونِ بْنِ مِهْرَانَ‏:‏ إنَّ أَهْوَنَ الصَّوْمِ تَرْكُ الطَّعَامِ وَالشَّرَابِ وَعَنْ إبْرَاهِيمَ النَّخَعِيّ قَالَ‏:‏ كَانُوا يَقُولُونَ‏:‏ الْكَذِبُ يُفْطِرُ الصَّائِمَ
 هل الغيبة والنميمة تفطر:
ان بعض من الفقهاء اعتبر ان الغيبة تفطر لقوله تعالى: ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيرًا مِنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ ۖ وَلَا تَجَسَّسُوا وَلَا يَغْتَبْ بَعْضُكُمْ بَعْضًا ۚ أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَنْ يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتًا فَكَرِهْتُمُوهُ ۚ وَاتَّقُوا اللَّهَ ۚ إِنَّ اللَّهَ تَوَّابٌ رَحِيمٌ ) (الحجرات 12)
فهل الغيبة حقا تفطر؟
الغيبة لا تُفطِّر الصائم بالاتفاق وذلك أن الغيبة مجرد كلام يتلفظ به وقول ينطق به، فلا يدخل في الأكل والشُرب الذي يحصل بتركه الصيام وبفعله الفطر، وقد روي عن بعض العلماء أنهم تأولوا حديثه : ( أفطر الحاجم والمحجوم) فقالوا إنما أفطرا لكونهما يغتابان الناس، فقال الإمام أحمد ردًا على ذلك: "لو كانت الغيبة تُفطر لما صح صوم أحد منا"، أو كما قال فعلى هذا ينهى الصائم عن اللغو والرفث لقوله : (إنَّ الصِّيامَ ليس مِن الأكلِ والشُّربِ فقطْ إنَّما الصِّيامُ مِن اللَّغوِ والرَّفثِ فإنْ سابَّك أحدٌ أو جهِل عليك فقُلْ إنِّي صائمٌ) ( صحيح ابن حبان) ليتم بذلك أجره، فإن خالف وفعل الغيبة، أو اللغو وقول الزور والجهل فقد أثم ونقص أجره ولا يبطل صومه. والله أعلم.
وفي فتوى لابن باز رحمه الله قال: الغيبة لا تفطر الصائم وهي ذكر الإنسان بما يكره. وهي معصية؛ لقول الله عز وجل:( وَلَا يَغْتَبْ بَعْضُكُمْ بَعْضًا) (الحجرات 12). وهكذا النميمة والسب والشتم والكذب، كل ذلك لا يفطر الصائم وغيره، وهي تجرح الصوم وتنقص الأجر؛ لقول النبي : (من لم يدع قول الزور والعمل به والجهل، فليس لله حاجة في أن يدع طعامه وشرابه) رواه الإمام البخاري في صحيحه، ولقوله :(الصيام جنة، فإذا كان يوم صوم أحدكم فلا يرفث ولا يصخب فإن سابه أحد أو قاتله فليقل إني صائم) متفق عليه، والأحاديث في هذا المعنى كثيرة
 نسأل الله أن يجملنا بأحسن الأخلاق ، ويبعد عنا سيئها

No comments:

Post a Comment