Thursday 1 January 2015

تفسير ميسر وربط للآيات وبيان المتشبهات – سورة الزخرف ج 2



 سورة الزخرف ج 2

في هذا الجزء من السورة يدحض الله تعالى أقوال الكفار ومعتقداتهم بأن الملائكة هم إناثا وأنهم بنات الله تعالى عما يقولون علوا كبيرا .
يقول تعالى مخبراً عن المشركين فيما افتروه وكذبوه، في أن جعلوا له من الأولاد ما يكرهونه لأنفسهم وهم البنات، كما قال تعالى: { لَكُمُ الذَّكَرُ‌ وَلَهُ الْأُنثَىٰ * تِلْكَ إِذًا قِسْمَةٌ ضِيزَىٰ } ( النجم 22 )، وقال جلَّ وعلا ههنا: { وَجَعَلُوا لَهُ مِنْ عِبَادِهِ جُزْءًا ۚ إِنَّ الْإِنسَانَ لَكَفُورٌ‌ مُّبِينٌ } ؟ وهذا إنكار عليهم غاية الإنكار، أن قالوا الملائكة بنات الله؛ فجعلوهم جزءا له وبعضا، كما يكون الولد بضعة من والده وجزءا له، فهم بذلك يشبهون الملائكة بالله سبحانه وتنزه عن ذلك ، وهم لا يعلمون قدره ، وقرئ { جزؤا} بضمتين{ إِنَّ الْإِنسَانَ } يعني الكافر، {  لَكَفُورٌ‌ مُّبِينٌ } قال الحسن : يعد المصائب وينسى النعم، {  مُّبِينٌ } مُظهر الكفر.  ثم ذكر تمام الإنكار فقال جلَّت عظمته: { أَمِ اتَّخَذَ مِمَّا يَخْلُقُ بَنَاتٍ }  الميم صلة؛ تقديره اتخذ مما يخلق بنات كما زعمتم أن الملائكة بنات الله؛ فلفظه الاستفهام ومعناه التوبيخ، { وَأَصْفَاكُم بِالْبَنِينَ } أي اختصكم وأخلصكم بالبنين؛ يقال : أصفيته بكذا؛ أي آثرته به. وأصفيته الود أخلصت الود  له. وتصافينا تخالصنا، عجب الله من إضافتهم إلى الله اختيار البنات مع اختيارهم لأنفسهم البنين، وهو مقدس عن أن يكون له ولد إن توهم جاهل أنه اتخذ لنفسه ولدا فهلا أضاف إليه أرفع الجنسين عندكم! ولم جعل هؤلاء لأنفسهم ما يجبون  وله ما يكرهون ؟ وهذا كما قال تعالى:  {  وَإِذَا بُشِّرَ‌ أَحَدُهُم بِمَا ضَرَ‌بَ لِلرَّ‌حْمَـٰنِ مَثَلًا ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدًّا وَهُوَ كَظِيمٌ } أي إذا بشر أحد هؤلاء بما جعلوه للّه من البنات، يكره من ذلك غاية الكره، وتعلوه كآبة من سوء ما بُشِّرَ به، ويتوارى من القوم من خجله من ذلك، يقول تبارك وتعالى: فكيف تكرهون أنتم ذلك لأنفسكم، وترضونه لله عزَّ وجلَّ؟ ثم قال سبحانه وتعالى: { أَوَمَن يُنَشَّأُ فِي الْحِلْيَةِ وَهُوَ فِي الْخِصَامِ غَيْرُ‌ مُبِينٍ }، { يُبَشَأُ } بضم الياء وفتح النون وتشديد الشين؛ أي يُربى، ويرسخ وينبت، وأصله من نشأ أي: ارتفع، { فِي الْحِلْيَةِ } أي في الزينة، ذلك أن الجواري يحببن الزينة،{ وَهُوَ فِي الْخِصَامِ غَيْرُ‌ مُبِينٍ } أ أي في المجادلة والإدلاء بالحجة، لا تظهر ، أو أن حجتها ضعيفة، أو قيل المقصود { فِي الْخِصَامِ}  أي في الحرب ، فهي لا دور لها ، ولا تظهر هناك أو تشارك، والمعنى أن من ولد له بنت فإن عليه أن ينفق عليها فيزينها كما تحب، ثم هي لا تنفعه في حجة ولا جدل ، ولا في حرب . قال ابن عباس وغيره : هن الجواري زيهن غير زي الرجال، قال مجاهد : رخص( أي النبي ) للنساء في الذهب والحرير؛ وقرأ هذه الآية. وهذه الآية فيها دلالة على إباحة الحلي للنساء، والإجماع منعقد عليه والأخبار فيه لا تحصى فيه.  وقوله تبارك وتعالى: {  وَجَعَلُوا الْمَلَائِكَةَ الَّذِينَ هُمْ عِبَادُ الرَّ‌حْمَـٰنِ إِنَاثًا } أي اعتقدوا فيهم ذلك فأنكر عليهم تعالى قولهم ذلك فقال: {  أَشَهِدُوا خَلْقَهُمْ  } ؟ أي شاهدوه وقد خلقهم الله إناثاً؟ أي أحضروا حالة خلقهم حتى حكموا بأنهم إناث. وقيل : إن النبي  سألهم وقال : [فما يدريكم أنهم إناث] ؟ فقالوا : سمعنا بذلك من آبائنا ونحن نشهد أنهم لم يكذبوا في أنهم إناث، فقال الله تعالى{  سَتُكْتَبُ شَهَادَتُهُمْ وَيُسْأَلُونَ } أي يسألون عنها في الآخرة، وهذا تهديد شديد ووعيد أكيد، { وَقَالُوا لَوْ شَاءَ الرَّ‌حْمَـٰنُ مَا عَبَدْنَاهُم  } أي لو أراد الله لحال بيننا وبين عبادة هذه الأصنام، التي هي على صور الملائكة بنات الله- فهم يعبدون اللات وهي بزعمهم أنثى من الله تعالى الله عما يقولون علوا كبيرا- فإنه عالم بذلك وهو يقرنا عليه، وهذا جهل منهم بالرسالات، وأنكار فإنه تعالى منذ بعث الرسل وأنزل الكتب يأمر بعبادته وحده لا شريك له وينهى عن عبادة ما سواه، قال تعالى: { وَاسْأَلْ مَنْ أَرْ‌سَلْنَا مِن قَبْلِكَ مِن رُّ‌سُلِنَا أَجَعَلْنَا مِن دُونِ الرَّ‌حْمَـٰنِ آلِهَةً يُعْبَدُونَ } ؟ وقال جلَّ وعلا في هذه الآية: { مَّا لَهُم بِذَٰلِكَ مِنْ عِلْمٍ ۖ } أي بصحة ما قالوه واحتجوا به { إِنْ هُمْ إِلَّا يَخْرُ‌صُونَ } أي يكذبون ويتقولون على الله ، وهم لا يعلمون قدرة الله  تبارك وتعالى على ذلك.
ثم يقول تعالى منكراً على المشركين في عبادتهم غير اللّه، بلا برهان ولا دليل :{ أَمْ آتَيْنَاهُمْ كِتَابًا مِّن قَبْلِهِ } أي من قبل شركهم، { فَهُم بِهِ مُسْتَمْسِكُونَ } أي ليس الأمر كذلك، وهذا سؤال إنكاري ، ينكر عليهم وجود مثل هذا الكتاب، ولا أمر بعبادة غيره، فلم يكن ذلك، ثم قال تعالى: { بَلْ قَالُوا إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَىٰ أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَىٰ آثَارِ‌هِم مُّهْتَدُونَ } أي ليس لهم مستند فيما هم فيه من الشرك، سوى تقليد الآباء والأجداد بأنهم كانوا على { أُمَّةٍ } والمراد بها الدين ههنا، كما في قوله تبارك وتعالى: { إن هذه أُمتكم أُمّة واحدة}، أي دينكم، وقولهم { وَإِنَّا عَلَىٰ آثَارِ‌هِم } أي وراءهم { مُّهْتَدُونَ } دعوى منهم بلا دليل. ثم بين جلَّ وعلا أن مقالة هؤلاء قد سبقهم إليها أشباههم ونظراؤهم من الأمم السالفة المكذبة للرسل تشابهت قلوبهم فقالوا مثل مقالتهم { وَكَذَٰلِكَ مَا أَرْ‌سَلْنَا مِن قَبْلِكَ فِي قَرْ‌يَةٍ مِّن نَّذِيرٍ‌ إِلَّا قَالَ مُتْرَ‌فُوهَا إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَىٰ أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَىٰ آثَارِ‌هِم مُّقْتَدُونَ }  ، ثم قال عزَّ وجلَّ { قَالَ } أي قل يا محمد لهؤلاء المشركين{ أَوَلَوْ جِئْتُكُم بِأَهْدَىٰ مِمَّا وَجَدتُّمْ عَلَيْهِ آبَاءَكُمْ ۖ قَالُوا إِنَّا بِمَا أُرْ‌سِلْتُم بِهِ كَافِرُ‌ونَ } يعني أتتبعون آباءكم ولو جئتكم بدين أهدى من دين آبائكم ؟ قالوا : إنا ثابتون على دين آبائنا لا ننفك عنه وإن جئتنا بما هو أهدى منه،  أي حتى لو تيقنوا صحة ما جئتهم به لما انقادوا لذلك لسوء قصدهم ومكابرتهم للحق وأهله. قال الله تعالى { فَانتَقَمْنَا مِنْهُمْ } أي من الأمم المكذبة بأنواع من العذاب كما فصله تبارك وتعالى في قصصهم،{ فَانظُرْ‌ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ }  أي كيف بادوا وهلكوا، وكيف نَّجى لله المؤمنين.
وفي إثبات إرسال الله تعالى الرسل بالتوحيد أنهم بلغوا هذه الرسالة من الله ، يقص الله علينا جانب من قصة أبي الأنبياء إبراهيم عليه السلام ، وهو حواره مع أبيه وقومه في شأن عباة الأصنام ؛ {وَإِذْ قَالَ إِبْرَ‌اهِيمُ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ }، فهو عليه السلام يحاور أباه وقومه في شأن عبادتهم للأصنام ، فلما لم يستجيبوا له وأصروا عليها، قال: { { إِنَّنِي بَرَ‌اءٌ مِّمَّا تَعْبُدُونَ}  أي أنه تبرأ من أبيه وقومه في عبادتهم الأوثان حين لم يجد منهم قبولا للحق ، ولا عدولا عن الباطل .
في اللغة :
البراءا يستعمل للواحد فما فوقه فلا يثنى ولا يجمع ولا يؤنث؛ لأنه مصدر وضع موضع النعت؛ لا يقال : البراءان والبراءون، لأن المعنى ذو البراء وذوو البراء. أما إذا قلت : أنا بريء منه وخلي ثنيت وجمعت وأنثت، وقلت في الجمع : نحن منه بُراء مثل فقيه وفقهاء، وبراء أيضا مثل كريم وكرام، وأبراء مثل شريف وأشراف، وأبرياء مثل نصيب وأنصباء، وبريئون. وامرأة بريئة بريئتان وهن بريئات وبرايا. ورجل بريء وبراء مثل عجيب وعجاب.
 والبراء بالفتح أول ليلة من الشهر، سميت بذلك لتبرؤ القمر من الشمس. ( قالها القرطبي)
ثم فقال‏:‏ { إِلَّا الَّذِي فَطَرَ‌نِي فَإِنَّهُ سَيَهْدِينِ } استثناء متصل، لأنهم عبدوا الله مع آلهتهم. قال قتادة : كانوا يقولون الله ربنا؛ مع عبادة الأوثان. فقال لهم أني بريء مما تعبدون ( الأصنام ) وليس من الله ، ويجوز أن يكون منقطعا؛ أي لكن الذي فطرني فهو يهدين. قال ذلك ثقة بالله وتنبيها لقومه أن الهداية من ربه. { وَجَعَلَهَا كَلِمَةً بَاقِيَةً فِي عَقِبِهِ }  ‏أي هذه الكلمة وهي ‏:‏لا إله إلا الله، ‏أي جعلها دائمة في ذريته، يقتدي به فيها من هداه الله تعالى، من ذرية إبراهيم عليه الصلاة والسلام ‏{ لَعَلَّهُمْ يَرْ‌جِعُونَ }‏ أي إليها- إلى كلمة التوحيد – ولما لم يتعظوا ، قال تعالى عنهم وعن أمثالهم في الفعل : { بَلْ مَتَّعْتُ هَـٰؤُلَاءِ } ‏ يعني المشركين ‏ { وَآبَاءَهُمْ }  ‏ فتطاول عليهم العمر في ضلالهم ‏ { حَتَّىٰ جَاءَهُمُ الْحَقُّ وَرَ‌سُولٌ مُّبِينٌ }  أي بَيِّنُ الرسالة والنذارة‏.‏ ‏{ وَلَمَّا جَاءَهُمُ الْحَقُّ قَالُوا هَـٰذَا سِحْرٌ‌ وَإِنَّا بِهِ كَافِرُ‌ونَ } ‏ أي كابروه وعاندوه كفراً وحسداً وبغياً،  { وَقَالُوا} ‏ أي كالمعترضين على الذي أنزله تعالى وتقدس، ‏{ لَوْلَا نُزِّلَ هَـٰذَا الْقُرْ‌آنُ عَلَىٰ رَ‌جُلٍ مِّنَ الْقَرْ‌يَتَيْنِ عَظِيمٍ} ‏ أي هّلا كان إنزال هذا القرآن على رجل عظيم كبير في أعينهم‏؟‏ ‏ { مِّنَ الْقَرْ‌يَتَيْنِ }  ‏يعنون مكّة والطائف قاله ابن عباس وغيره ، وقد ذكر غير واحد من السلف أنهم أرادوا بذلك الوليد ابن المغيرة ، وعروة بن مسعود الثقفي، وقيل غير ذلك ،و قال تعالى رداً عليهم في هذا الاعتراض‏:‏ ‏ { أَهُمْ يَقْسِمُونَ رَ‌حْمَتَ رَ‌بِّكَ } ‏‏؟‏ أي ليس الأمر مردوداً إليهم، بل إلى اللهِ عزَّ وجلّ،َ واللهُ أعلم حيث يجعل رسالاته، فإنه لا ينزلها إلا على أزكى الخلق قلباً ونفساً، وأشرفهم بيتاً، وأطهرهم أصلاً، ثم قال عزَّ وجلَّ مبيناً أنه قد فاوت بين خلقه، فيما أعطاهم من الأموال والأرزاق والعقول الفهوم، وغير ذلك من القوى الظاهرة والباطنة فقال‏:‏ { نَحْنُ قَسَمْنَا بَيْنَهُم مَّعِيشَتَهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا } أي أفقرنا قوما وأغنينا قوما؛ فإذا لم يكن أمر الدنيا إليهم فكيف يفوض أمر النبوة إليهم،  وقوله جلَّت عظمته‏:‏‏{ وَرَ‌فَعْنَا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَ‌جَاتٍ لِّيَتَّخِذَ بَعْضُهُم بَعْضًا سُخْرِ‌يًّا }‏ أي ليُسخّر بعضُهم بعضاً في الأعمال والحرف والصنائع. لاحتياج هذا إلى هذا وهذا إلى هذا. فلو تساوى الناس في الغنى والقدرات، ولم يحتج بعضهم إلى بعض، لتعطلت كثير من مصالحهم ومنافعهم.
في اللغة :
الفرق بين سُخريا( بضم السين )  وسِخريا ( بكسر السين )
سِخرياً هنا بكسر السين هي من الإستهزاء والسخرية ..
أما سُخرياً هنا بضم السين فهي بمعنى الإستغلال والتسخير

ثم قال عزَّ وجلَّ‏:‏ ‏{‏ وَرَ‌حْمَتُ رَ‌بِّكَ خَيْرٌ‌ مِّمَّا يَجْمَعُونَ} ‏ أي رحمة الله  بخلقه، خير لهم مما بأيديهم من الأموال ومتاع الحياة الدنيا، ثم قال سبحانه وتعالى: { ‏ وَلَوْلَا أَن يَكُونَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً } ‏اي أمة واحدة دينهم الكفر، أي لولا أن يعتقد كثير من الناس الجهلة، أن أعطائنا المال لأحد دليل على محبتنا لمن أعطيناه، فيجتمعوا على الكفر لأجل المال ‏{ لجَعَلْنَا لِمَن يَكْفُرُ‌ بِالرَّ‌حْمَـٰنِ لِبُيُوتِهِمْ سُقُفًا مِّن فِضَّةٍ وَمَعَارِ‌جَ } أي سلالم ودرجاً من فضة  { عَلَيْهَا يَظْهَرُ‌ونَ‏} أي يصعدون { وَلِبُيُوتِهِمْ أَبْوَابًا }‏ أي أغلاقاً على أبوابهم ‏ { وَسُرُ‌رً‌ا عَلَيْهَا يَتَّكِئُونَ } ‏ أي جميع ذلك يكون فضة ‏{ وَزُخْرُ‌فًا } أي وذهباً، ‏ { وَإِن كُلُّ ذَٰلِكَ لَمَّا مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا } ‏ أي إنما ذلك من الدنيا الفانية، الزائلة الحقيرة عند الله تعالى، أي يعجل لهم بحسناتهم التي يعملونها في الدنيا مآكل ومشارب، ليوافوا الآخرة وليس لهم عند اللهِ تبارك وتعالى حسنة يجزيهم بها‏.‏ ثم قال سبحانه وتعالى‏:‏ ‏{ وَالْآخِرَ‌ةُ عِندَ رَ‌بِّكَ لِلْمُتَّقِينَ } ‏ أي هي لهم خاصة لا يشاركهم فيها أحد غيرهم، ولهذا لما قال عمر بن الخطّاب لرسول اللهِ حين رآه على رمال الحصير، قد آثر بجنبه، فابتدرت عيناه بالبكاء، وقال‏:‏ يا رسول الله‏!‏ هذا كسرى وقيصر فيما هم فيه، وأنت صفوة اللهِ من خلقه‏؟‏ وكان رسول الله متكئاً فجلس وقال‏:‏ ‏(‏أو في شك أنت يا ابن الخطاب‏؟‏‏)‏ ثم قال : ‏(‏أولئك قوم عجلت لهم طيباتهم في حياتهم الدنيا‏)‏، وفي رواية‏:‏ ‏(‏أما ترضى أن تكون لهم الدنيا ولنا الآخرة‏)‏، وفي الصحيحين أن رسول اللهِ قال‏:‏ ‏(‏لا تشربوا في آنية الذهب والفضة، ولا تأكلوا في صحافها، فإنها لهم في الدنيا ولنا في الآخرة‏)‏ وإنما خوَّلهم الله تعالى في الدنيا لحقارتها، قال رسول الله ‏(‏لو كانت الدنيا تزن عند اللّه جناح بعوضة ما سقى منها كافراً شربة ماء أبداً‏)‏ ‏"‏أخرجه الترمذي، وقال : حسن صحيح ‏"‏‏
وقوله تعالى : { وَمَن يَعْشُ عَن ذِكْرِ‌ الرَّ‌حْمَـٰن } من يعش أي يتعامى ويتغافل ويعرض عنه إلى أقاويل المضلين وأباطيلهم. والعشا في العين ضعف بصرها، والمراد ههنا عشا البصيرة
في اللغة:
عشوت إلى كذا أي قصدته. وعشوت عن كذا أي أعرضت عنه، فتفرق بين ( إلى)  و ( عن) ؛ مثل : ملت إليه وملت عنه. وكذا قال قتادة : يعش، يعرض؛. وقال القرظي : يولي ظهره؛ والمعنى واحد. وقال أبو عبيدة والأخفش : تظلم عينه.
 { نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطَانًا } أي نسبب له شيطانا يصاحبه ويغويه جزاء له على كفره، وهو  كقوله تعالى: { فلما أزاغوا أزاغ اللهُ قلوبهم}، {  فَهُوَ لَهُ قَرِ‌ينٌ }أ ي ملازم ومصاحب، قيل في الدنيا، يمنعه يمنعه من الحلال، ويبعثه على الحرام، وينهاه عن الطاعة، ويأمره بالمعصية؛ وهو معنى قول ابن عباس. وقيل في الآخرة إذا قام من قبره؛ والصحيح أن يصبح له قرين في الدنيا والآخرة. { وَإِنَّهُمْ لَيَصُدُّونَهُمْ عَنِ السَّبِيلِ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُم مُّهْتَدُونَ } أي وإن الشياطين ليصدونهم عن سبيل الهدى؛ وذكر بلفظ الجمع لأن ( من)  في قوله: { وَمَن يَعْشُ } في معنى الجمع. { وَيَحْسَبُونَ} أي ويحسب الكفار { أَنَّهُم مُّهْتَدُونَ } وقيل : ويحسب الكفار إن الشياطين مهتدون فيطيعونهم.
{ حَتَّىٰ إِذَا جَاءَنَا} أي هذا الذي تغافل عن الهدى، إذا وافى اللّه عزَّ وجلَّ يوم القيامة، يتبرم بالشيطان الذي وُكِّلَ بهو { قَالَ يَا لَيْتَ بَيْنِي وَبَيْنَكَ بُعْدَ الْمَشْرِ‌قَيْنِ فَبِئْسَ الْقَرِ‌ينُ}  والمراد بالمشرقين ههنا هو ما بين المشرق والمغرب، فغلب اسم أحدهماعلى الآخر، كما يقال : القمران للشمس والقمر، والعمران لأبي بكر وعمر، والأبوان للأب والأم، { فَبِئْسَ الْقَرِ‌ينُ}  أي فبئس الصاحب أنت؛ لأنه يورده إلى النار. قال أبو سعيد الخدري : إذا بعث الكافر زوج بقرينه من الشياطين فلا يفارقه حتى يصير به إلى النار.
ثم قال تعالى: { وَلَن يَنفَعَكُمُ الْيَوْمَ إِذ ظَّلَمْتُمْ أَنَّكُمْ فِي الْعَذَابِ مُشْتَرِ‌كُونَ } أي لا يغني عنكم اجتماعكم في النار واشتراككم في العذاب الأليم. ولن ينفعكم اليوم اشتراككم في العذاب؛ لأن لكل واحد نصيبه الأوفر منه، أي إن العذاب لا يتوزع بينكم ، بل لكل واحد منكم العذاب الأكمل على افترائه على الله ،  أعلم الله تعالى أنه منع أهل النار التأسي كما يتأسى أهل المصائب في الدنيا، وذلك أن التأسي يستروحه أهل الدنيا فيقول أحدهم : لي في البلاء والمصيبة أسوة؛ فيسكن ذلك من حزنه؛ كما قالت الخنساء :
 فلولا كثرة الــباكين حولي ** على إخوانهم لقتلت نفسي
وما يبكون مثل أخي ولـكن ** أعزي النفس عنه بالتأسي
 فإذا كان في الآخرة لم ينفعهم التأسي، شيئا لشغلهم بالعذاب، قيل معناه: لن ينفعكم الاعتذار والندم اليوم؛ لأن قرناءكم وأنتم في العذاب مشتركون كما اشتركتم في الكفر. أعاذنا الله منه .

اللهم إنّا نسألك الجنّة وما قرَّب إليها من قول أو عمل ،
ونعوذ بك من النّار وما قرَّب إليها من قول وعمل

يتبع في الجزء الثالث إن شاء الله تعالى

No comments:

Post a Comment