Thursday 15 January 2015

تفسير ميسر – وربط للآيات وبيان المتشابهات – سورة الزخرف ج 4 الأخير



  




 سورة الزخرف ج 4  الأخير

بعد أن رسَّخ الحق سبخانه وتعالى الحقيقة التي ستنجلي يوم القيامة أن كل صداقة وصحابة لغير الله، فإنها تنقلب يوم القيامة عداوة إلا ما كان للهِ عزَّ وجلَّ، فإنه دائم بدوامه ، يلتفت بالخطاب إلى عباده المحبين فيطمئنهم سبحانه ويسكن خوفهم ، فيقول{ يَا عِبَادِ لَا خَوْفٌ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ وَلَا أَنتُمْ تَحْزَنُونَ } ، وذلك يكون يوم القيامة ،حين يبعث الناس فلا يبقى أحد منهم إلا فزع فينادي مناد { يَا عِبَادِ لَا خَوْفٌ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ وَلَا أَنتُمْ تَحْزَنُونَ } فيرجوها الناس كلهم، قال، فيتبعها: { الَّذِينَ آمَنُوا بِآيَاتِنَا وَكَانُوا مُسْلِمِينَ } أي آمنت قلوبهم وبواطنهم، وانقادت لشرع الله جوارحهم وظواهرهم،فعندها ييأس الناس منها غير المؤمنين، فيقال لهم: { ادْخُلُوا الْجَنَّةَ  أَنتُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ } أي نظراؤكم وأمثالكم ومن كان على مثل حالكم من الإخلاص والعمل،{ تُحْبَرُ‌ونَ }  أي تتنعمون وتسعدون، { يُطَافُ عَلَيْهِم بِصِحَافٍ مِّن ذَهَبٍ } أي زبادي آنية الطعام { وَأَكْوَابٍ  } وهي آنية الشراب أي من ذهب لا خراطيم لها ولا عرى، وفي الصحيحين عن حذيفة أنه سمع النبي يقول : "لا تلبسوا الحرير ولا الديباج ولا تشربوا في آنية الذهب والفضة ولا تأكلوا في صحافها فإنها لهم في الدنيا ولكم في الآخرة" ، وقال الفقهاء من أكل فيهما في الدنيا أو لبس الحرير في الدنيا ولم يتب حرم ذلك في الآخرة تحريما مؤيدا، { وَفِيهَا مَا تَشْتَهِيهِ الْأَنفُسُ } أي طيب الطعم والريح وحسن المنظر، وفي صحيح مسلم عن جابر بن عبدالله قال : سمعت رسول الله يقول : "إن أهل الجنة يأكلون فيها ويشربون ولا يتفلون ولا يبولون ولا يتغوطون ولا يمتخطون قالوا فما بال الطعام ؟ قال : جشاء ورشح كرشح المسك يلهمون التسبيح والتحميد والتكبير - في رواية - كما يلهمون النفس"، وقوله تعالى { وَتَلَذُّ الْأَعْيُنُ } النظر إلى الله عز وجل؛ كما في الخبر : " أسألك لذة النظر إلى وجهك". وقوله تعالى: { وَأَنتُمْ فِيهَا خَالِدُونَ } أي في الجنة خالدون لا تخرجون منها ولا تبغون عنها حولاً، ثم قيل لهم على وجه التفضل والامتنان: { وَتِلْكَ الْجَنَّةُ الَّتِي أُورِ‌ثْتُمُوهَا بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ } أي أعمالكم الصالحة كانت سبباً لشمول رحمة الله إياكم، فإنه لا يدخل أحداً عملُه الجنة ولكن برحمة اللهُ  وفضله، وإنما الدرجات ينال تفاوتها بحسب الأعمال الصالحات، روى ابن أبي حاتم، عن أبي هريرة رضي اللهُ عنه قال، قال رسول اللهِ :"  وما من أحد إلا وله منزل في الجنة ومنزل في النار، الكافر يرث المؤمن منزله من النار، والمؤمن يرث الكافر منزله في الجنة وذلك قوله تعالى: { وتلك الجنة أورثتموها بما كنتم تعملون}  ،وقوله تعالى: { لَكُمْ فِيهَا فَاكِهَةٌ كَثِيرَ‌ةٌ مِّنْهَا تَأْكُلُونَ } أي من جميع الأنواع  تأكلون ما اخترتم وأردتم، ولما ذكر الطعام والشراب ذكر بعده الفاكهة لتتمم النعمة والغبطة.
ثم لما ذكر تعالى حال السعداء ثنَّى بذكر الأشقياء، فقال: { إِنَّ الْمُجْرِ‌مِينَ فِي عَذَابِ جَهَنَّمَ خَالِدُونَ* لَا يُفَتَّرُ‌ عَنْهُمْ }  أي ساعة واحدة { وَهُمْ فِيهِ مُبْلِسُونَ } أي آيسون من كل خير، { وَمَا ظَلَمْنَاهُمْ وَلَـٰكِن كَانُوا هُمُ الظَّالِمِينَ } أي بأعمالهم السيئة بعد قيام الحجة عليهم، وإرسال الرسل إليهم فكذبوا وعصوا فجوزوا بذلك جزاء وفاقاً وما ربك بظلام للعبيد، { وَنَادَوْا يَا مَالِكُ } وهو خازن النار، { لِيَقْضِ عَلَيْنَا رَ‌بُّكَ } أي يقبض أرواحنا فيريحنا مما نحن فيه،فإنهم وإن كانوا قد عاينوا ألم الموت وكربته ، فإنهم لما يجدون عذاب النار، يتمنون الموت، ولكن لا يجابون إلى ذلك، كما قال تعالى: { لَا يُقْضَىٰ عَلَيْهِمْ فَيَمُوتُوا وَلَا يُخَفَّفُ عَنْهُم مِّنْ عَذَابِهَا كَذَٰلِكَ نَجْزِي كُلَّ كَفُورٍ‌  } ) فاطر: ٣٦)، فلما سألوا أن يموتوا أجابهم مالك { قَالَ إِنَّكُم مَّاكِثُونَ } أي لا خروج لكم منها ولا محيد لكم عنها، ثم ذكر سبب شقوتهم وهو مخالفتهم للحق ومعاندتهم له فقال: { لَقَدْ جِئْنَاكُم بِالْحَقِّ } أي بيناه لكم ووضحناه وفسرناه، { وَلَـٰكِنَّ أَكْثَرَ‌كُمْ لِلْحَقِّ كَارِ‌هُونَ } أي ولكن كانت سجاياكم لا تقبله ولا تقبل عليه، وإنما تنقاد للباطل وتعظمه، وتصد عن الحق وتأباه، فعودوا على أنفسكم بالملامة، واندموا حيث لا تنفعكم الندامة، ثم قال تبارك وتعالى: { أَمْ أَبْرَ‌مُوا أَمْرً‌ا فَإِنَّا مُبْرِ‌مُونَ قال مجاهد: أرادوا كيد شر فكدناهم، وذلك لأن المشركين كانوا يتحيلون في رد الحق بالباطل بحيل ومكر يسلكونه، فكادهم اللهُ تعالى ورد وبال ذلك عليهم، ولهذا قال: { أَمْ يَحْسَبُونَ أَنَّا لَا نَسْمَعُ سِرَّ‌هُمْ وَنَجْوَاهُم }، أي سرهم وعلانيتهم { بَلَىٰ وَرُ‌سُلُنَا لَدَيْهِمْ يَكْتُبُونَ } أي نحن نعلم ما هم عليه، والملائكة أيضاً يكتبون أعمالهم صغيرها وكبيرها.
يقول تعالى: { قُلْ إِن كَانَ لِلرَّ‌حْمَـٰنِ وَلَدٌ } قل يا محمد لو فرض أن كان للرحمن ولداَ لعبدته على ذلك، لأني من عبيده مطيع لجميع ما يأمرني به، ليس عندي استكبار ولا إباء عن عبادته، فلو فرض هذا لكان هذا، ولكن هذا ممتنع في حقه تعالى، والشرط لا يلزم منه الوقوع ولا الجواز أيضاً، كما قال عزَّ وجلَّ: { لَّوْ أَرَ‌ادَ اللهُ أَن يَتَّخِذَ وَلَدًا لَّاصْطَفَىٰ مِمَّا يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ ۚ سُبْحَانَهُ ۖ هُوَ اللهُ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ‌ }( الزمر 4)، قال البيضاوي: لا يلزم منه صحة وجود الولد وعبادته له، بل المراد نفيهما على أبلغ الوجوه، وإنكاره للولد ليس لعناد ومراء، بل لو كان أولى الناس بالاعتراف به، فإن النبي يكون أعلم بالله  وبما يصح له وما لا يصح. انتهى وهو قول جيد. تفسير آخر للآية:  وقال ابن عباس :أي  لم يكن للرحمن ولد فأنا أول الشاهدين، فالمعنى على ذلك : قُلْ ما كان للرحمن ولد فأنا أول مَنْ ينفي ذلك لأنني أول العابدين له واحد أحد، وأول المؤمنين بوحدانية الله تعالى، وقال قتادة: هي كلمة من كلام العرب أي إن ذلك لم يكن فلا ينبغي، وقال أبو صخر { فأنا أول العابدين} أي فأنا أول من عبده بأن لا ولد له، وأنا أول من وحده، ولهذا قال تعالى: { سُبْحَانَ رَ‌بِّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْ‌ضِ رَ‌بِّ الْعَرْ‌شِ عَمَّا يَصِفُونَ } أي تعالى وتقدس وتنزه خالق الأشياء، عن أن يكون له ولد، فإنه فرد صمد، لا نظير له، ولا كفء له، فلا ولد له، وقوله تعالى: { فَذَرْ‌هُمْ يَخُوضُوا } أي في جهلهم وضلالهم { وَيَلْعَبُوا }  في دنياهم { حَتَّىٰ يُلَاقُوا يَوْمَهُمُ الَّذِي يُوعَدُونَ } وهو يوم القيامة، أي فسوف يعلمون كيف يكون مصيرهم ومآلهم وحالهم في ذلك اليوم. وقوله تبارك وتعالى: { وَهُوَ الَّذِي فِي السَّمَاءِ إِلَـٰهٌ وَفِي الْأَرْ‌ضِ إِلَـٰهٌ }  أي هو إله من في السماء، وإله من في الأرض يعبده أهلهما، وكلهم خاضعون له أذلاء بين يديه، { وَهُوَ الْحَكِيمُ الْعَلِيمُ }  وهذه الآية كقوله سبحانه وتعالى: { . وَهُوَ اللهُ فِي السَّمَاوَاتِ وَفِي الْأَرْ‌ضِ يَعْلَمُ سِرَّ‌كُمْ وَجَهْرَ‌كُمْ وَيَعْلَمُ مَا تَكْسِبُونَ } ﴿الأنعام: ٣﴾ أي هو المدعو اللّه في السماوات والأرض { وَتَبَارَ‌كَ الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْ‌ضِ وَمَا بَيْنَهُمَا } أي هو خالقهما ومالكهما والمتصرف فيهما بلا مدافعة ولا ممانعة، فسبحانه وتعالى عن الولد { وَتَبَارَ‌كَ } أي استقر له السلامة من العيوب والنقائص، لأنه الرب العلي العظيم المالك للأشياء، الذي بيده أزمة الأمور نقضاً وإبراماً، { وَعِندَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ } أي لا يجليها لوقتها إلا هو، { وَإِلَيْهِ تُرْ‌جَعُونَ } أي فيجازي كلاًّ بعمله، إن خيراً فخير، وإن شراً فشر، ثم قال تعالى: { وَلَا يَمْلِكُ الَّذِينَ يَدْعُونَ مِن دُونِهِ } أي من الأصنام والأوثان { الشَّفَاعَةَ } أي لا يقدرون على الشفاعة لهم { إِلَّا مَن شَهِدَ بِالْحَقِّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ } هذا استثناء منقطع، أي لكن من شهد بالحق على بصيرة وعلم، فإنه تنفع شفاعته عنده بإذنه له، ثم قال عزَّ وجلَّ: { وَلَئِن سَأَلْتَهُم مَّنْ خَلَقَهُمْ لَيَقُولُنَّ االلهُ ۖ } أي ولئن سألت هؤلاء المشركين بالله العابدين معه غيره { مَّنْ خَلَقَهُمْ لَيَقُولُنَّ االلهُ } أي هم يعترفون أنه الخالق للأشياء جميعها وحده لا شريك له في ذلك، ومع هذا يعبدون معه غيره ممن لا يملك شيئاً ولا يقدر على شيء، فهم في ذلك في غاية الجهل والسفاهة وسخافة العقل، ولهذا قال تعالى:{  فَأَنَّىٰ يُؤْفَكُونَ } ؟أي فأين تنصرف عقولهم؟
متشابه:
في أول السورة قال تعالى : { وَلَئِن سَأَلْتَهُم مَّنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْ‌ضَ لَيَقُولُنَّ خَلَقَهُنَّ الْعَزِيزُ الْعَلِيمُ} ، وهنا قال تعالى: { وَلَئِن سَأَلْتَهُم مَّنْ خَلَقَهُمْ لَيَقُولُنَّ االلهُ ۖ }
 عودة للتفسير:
 وقوله جلَّ وعلا: { وَقِيلِهِ يَا رَ‌بِّ إِنَّ هَـٰؤُلَاءِ قَوْمٌ لَّا يُؤْمِنُونَ }  أي وقال محمد { وَقِيلِهِ } أي شكا إلى ربه شكواه من قومه الذين كذبوه فقال: يا رب إن هؤلاء قوم لا يؤمنون، كما أخبر تعالى في الآية الأُخْرى: { وَقَالَ الرَّ‌سُولُ يَا رَ‌بِّ إِنَّ قَوْمِي اتَّخَذُوا هَـٰذَا الْقُرْ‌آنَ مَهْجُورً‌ا } ( الفرقان 30) وقال قتادة في قوله: { وَقِيلِهِ يَا رَ‌بِّ إِنَّ هَـٰؤُلَاءِ قَوْمٌ لَّا يُؤْمِنُونَ }  هو قول نبيكم صلى اللّه عليه وسلم يشكو قومه إلى ربه عزَّ وجلَّ، وقوله تعالى {  فَاصْفَحْ عَنْهُمْ ۚ } ، أي عن المشركين، { وَقُلْ سَلَامٌ } أي لا تجاوبهم بمثل ما يخاطبونك به من الكلام السيء، ولكن تألفهم واصفح عنهم فعلاً وقولاً، {  فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ } هذا تهديد من اللهِ تعالى لهم، ولهذا أحل بهم بأسه الذي لا يرد، وأعلى دينه وكلمته، حتى دخل الناس في دين اللّه أفواجاً، وانتشر الإسلام في المشارق والمغارب، واللّه أعلم.

اللهم إن كان رزقنا في السماء فأنزله ، وإن كان في الأرض فأخرجه
وإن كان بعيداً فقربه ، وإن كان قريباً فيسره
وإن كان يسيرا فاجعله في طاعتك، اللهم امين برحمتك يا ارحم الراحمين

No comments:

Post a Comment