Wednesday 18 December 2013

شرح أحاديث الأربعين النووية - الحديث الثاني




  


الحديث الثاني


عن عمر رضي الله عنه  أيضاً قال : ( بينما نحن جلوس عند رسول الله ذات يوم ، إذ طلع علينا رجل شديد بياض الثياب ، شديد سواد الشعر ، لا يرى عليه أثر السفر ولا يعرفه منا أحد . حتى جلس إلى النبي صلى الله عليه وسلم   ، فأسند ركبتيه إلى ركبتيه ، ووضع كفيه على فخذيه ، وقال : يا محمد أخبرني عن الإسلام . فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ” الإسلام أن تشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله ، وتقيم الصلاة ، وتؤتي الزكاة ، وتصوم رمضان ، وتحج البيت إن استطعت إليه سبيلاً “ . قال : صدقت . فعجبنا له يسأله ويصدقه !
قال : فأخبرني عن الإيمان .
قال : ” أن تؤمن بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر وتؤمن بالقدر خيره وشره “ ـ
قال : صدقت .
قال : فأخبرني عن الإحسان  
قال : ” أن تعبد الله كأنك تراه ، فإن لم تكن تراه فإنه يراك “ ـ
قال : فأخبرني عن الساعة  
قال : ” ما المسؤول عنها بأعلم من السائل “ ـ
قال : فأخبرني عن أماراتها  
قال : ” أن تلد الأمة ربتها ، وأن ترى الحفاة العراة العالة رعاء الشاء يتطاولون في البنيان “ ـ
ثم انطلق ، فلبثت ملياً ، ثم قال : ” يا عمر أتدري من السائل ؟ “ـ
قلت : الله ورسوله أعلم  
قال : ” فإنه جبريل أتاكم يعلمكم دينكم “      رواه مسلم 

معاني الكلمات
طلع علينا : أي ظهر علينا .
رجل : هو جبريل أتى إلى النبي صلى الله عليه وسلم  بصورة رجل لا يعرفونه، وذكر في كتب السنة أن جبريل عليه السلام كان يأتي النبي في صورة الصحابي دحية الكلبي رضي الله عنه.
لا يرى عليه أثر السفر : أي لا يرى عليه علامة السفر وهيئته .
 لا يعرفه منّا أحد : أي معاشر الصحابة .
ووضع كفيه على فخذيه : أي فخذي نفسه كهيئة المنادي .
فعجبنا له يسأله ويصدقه : أي أصابنا العجب من حاله ، وهو يسأل سؤال العارف المحقق المصدق .
أماراتها : علاماتها .
الحفاة : جمع حاف ، وهو من لا نعل له في رجليه .
العراة : جمع عار ، وهو من لا ثياب على جسده .
العالة : جمع عائل ، وهو الفقير .
رعاء الشاء : جمع راع ، وهو الحافظ ، والشاء : جمع شاة ، وهي واحدة الضأن
أن تلد الأمة ربتها : قال الأكثرون من العلماء : هو إخبار عن كثرة السراري وأولادهن ، فإن ولدها من سيدها بمنزلة سيدها “ ، أو هو دلالة على عقوق الأولاد لآبائهم في آخر الزمان
الفوائد :
1-   استحباب السؤال في العلم .
وقد قال تعالى : (فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ‌ إِن كُنتُمْ لَا تَعْلَمُونَ) ( الأنبياء 7 ، النحل 43)
وقد قيل : السؤال نصف العلم .
فقد كان غرض جبريلَ عليه السلام من أسئلته هذه أن يتعلم المسلمون ، وهذا ما بينه النبيُّ صلى الله عليه وسلم  بقوله : “ فَإِنَّهُ جِبْرِيلُ أتاكم يُعَلِّمُكُمْ دِينَكُمْ ” .
2-   قال النووي : ” وينبغى للسائل حسن الأدب بين يدي معلمه، وأن يرفق في سؤاله“ ـ
3-   استحباب حضور مجالس العلم على أحسن هيئة وأكملها : فقد جاء وصف السائل بكونه " شديد بياض الثياب شديد سواد الشعر ، لا يرى عليه أثر السفر
4-   -أن حسن السؤال من أسباب تحصيل العلم .
قيل لابن عباس : ” بما بلغت العلم ؟ قال : بلسان سؤول ، وقلب عقول “ ـ
وقال الزهري : ” العلم خزانة مفتاحها المسألة “ ـ
5-   الحديث دليل على أن الإسلام غير الإيمان .
فالإسلام هو الأعمال الظاهرة ، كما في الحديث ، نطق اللسان بالشهادتين، إقام الصلاة ، أيتاء الزكاة ، وصوم رمضان ، وحج البيت .
والإيمان هو الأعمال الباطنة:  وهوالتصديق بالجنان – القلب- الإعتقاد واليقين القلبي، وهذا التصديف يظهر بعمل الجوارح ، وبقول اللسان.والإيمان كما بينه الحديث يجب أن يكون بسته أركان ، وهي :  
أولا: الإيمان بالله تعالى: هو أن تؤمن بذاته وأسمائه وصفاته وأفعاله.
تؤمن بذاته كما جاء فى الكتاب والسنة بلا تشبيه ولا تمثيل ولا تعطيل (لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ‌).( الشورى 11)
وتؤمن بأن أسمائه حسنى وصفاته عليا وأفعاله بقدرته ومشيئته .
ثانيا:الإيمان بالملائكة:
والملائكة : عالم غيبي خلقوا من نور ، جعلهم الله طائعين له لا يعصون الله ما أمرهم ، ويفعلون ما يؤمرون ، متذللين له .( مَلَائِكَةٌ غِلَاظٌ شِدَادٌ لَّا يَعْصُونَ اللَّـهَ مَا أَمَرَ‌هُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُ‌ونَ ) ( التحريم 6 )
وعددهم كثير :
قال تعالى : (وَمَا يَعْلَمُ جُنُودَ رَ‌بِّكَ إِلَّا هُوَ ۚ وَمَا هِيَ إِلَّا ذِكْرَ‌ىٰ لِلْبَشَرِ‌)ـ (المدثر 31 )
وقال في حيث الإسراء عندما انتهى إلى السماء السابعة قال يصف ما رآه: ( ... فإذا البيت المعمور وإذا يدخله سبعون ألف ملك لا يعودون عن آخرهم ) ـ
وقال : ( أطت السماء وحق لها أن تئط ، ما فيها موضع شبر إلا ملك ساجد أو راكع ) ( رواه الترمذي ) ـ أطت : صاحت                                            
وأن الملائكة خلقوا من نور :
قال : ( خلقت الملائكة من نور )  رواه مسلم
ولكل ملك وظيفة :فجبريل عليه السلام موكل بالوحي للأنبياء ، فهو رسول الله من الملائكة إلى الرسل من البشر.
وإسرافيل موكل بنفخ الصور ، وميكائيل موكل بالقطر والنبات، ومالك خازن النار  
ورضوان خازن الجنة ، ومنهم أيضا ملك الموت ولم يصح له تسمية بإسم.
قال تعالى : (جَاعِلِ الْمَلَائِكَةِ رُ‌سُلًا أُولِي أَجْنِحَةٍ مَّثْنَىٰ وَثُلَاثَ وَرُ‌بَاعَ ۚ يَزِيدُ فِي الْخَلْقِ مَا يَشَاءُ)( فاطر 1)ـأي يزيد في عظم خلقهم ، وعدد أجنحة الواحد منهم ما يشاء ، وقال رسول الله أنه رآى جبريل عليه السلام ليلة الإسراء وله ستمئة جناح.
ثالثا:، الإيمان بالرسل .
والرسول : هو من أوحي إليه بشرع وأمر بتبليغه .
والإيمان بالرسل يتضمن :
أنهم صادقون في ما قالوه من الرسالة ، ونؤمن بأسماء من علمنا اسمه منهم، وهم 25 رسول نبي ورد أسمائهم في القرآن الكريم ، ومن لم نعرف اسمه فنؤمن به إجمالاً ، قال تعالى : (لَقَدْ أَرْ‌سَلْنَا رُ‌سُلًا مِّن قَبْلِكَ مِنْهُم مَّن قَصَصْنَا عَلَيْكَ وَمِنْهُم مَّن لَّمْ نَقْصُصْ عَلَيْكَ ۗ )ـ( غافر 78)
رابعا: الإيمان بالكتب السماوية :
قال تعالى : (قَدْ أَرْ‌سَلْنَا رُ‌سُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ) ( الحديد 25)
والكتب التي علمنا اسمها ، منها : القرآن ، والتوراة ، والإنجيل ، والزبور  
خامساً: الإيمان باليوم الآخر ، وسمي بذلك لأنه لا يوم بعده  
ويشمل كل ما يكون بعد موت الإنسان من البعث والنشور وتطاير الصحف والقبر والجنة والنار .
سادساً: الإيمان بالقضاء خيره وشره :
أما القضاء لغة فهو: الحكم، والقدر: هو التقدير.
فالقدر: هو ما قدره الله سبحانه من أمور خلقه في علمه.
والقضاء: هو ما حكم به الله سبحانه من أمور خلقه وأوجده في الواقع.
وعلى هذا فالإيمان بالقضاء والقدر معناه: الإيمان بعلم الله الأزلي، والإيمان بمشيئة الله النافذة وقدرته الشاملة سبحانه.
ومراتب الإيمان بالقضاء والقدر أربع: الإيمان بعلم الله ، وكتابته لما قدَّر،  ومشيئته، وأيجاده.
فالعلم: أن تؤمن بعلم الله سبحانه بالأشياء قبل كونها، قال تعالى:  وما يعزب عن ربك من مثقال ذرة )  (يونس 61)
وكتابته لما قدَّر : أن تؤمن أنه سبحانه كتب ما علمه بعلمه القديم في اللوح المحفوظ، قال تعالى: (  مَا أَصَابَ مِن مُّصِيبَةٍ فِي الْأَرْ‌ضِ وَلَا فِي أَنفُسِكُمْ إِلَّا فِي كِتَابٍ مِّن قَبْلِ أَن نَّبْرَ‌أَهَا ۚ)   (الحديد:24)
والمشيئة: أن تؤمن أن مشيئة الله شاملة فما من حركة ولا سكون في الأرض ولا في السماء إلا بمشيئته، قال تعالى:  (وما تشاءون إلا أن يشاء الله) (الإنسان:30)
الإيجاد: أن تؤمن أن الله تعالى خالق كل شيء، قال تعالى:اللهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ) ( الزمر 62 )
لا يجوز لأحد أن يحتج بقدر الله ومشيئته على ما يرتكبه من معصية أو كفر، وقد أورد رب العزة ذلك في كتابه ورد عليهم فقال: ( سَيَقُولُ الَّذِينَ أَشْرَ‌كُوا لَوْ شَاءَ اللَّـهُ مَا أَشْرَ‌كْنَا وَلَا آبَاؤُنَا وَلَا حَرَّ‌مْنَا مِن شَيْءٍ ۚ كَذَٰلِكَ كَذَّبَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ ) (الأنعام:148).
أما في المغايره بين الإسلام والإيمان، فالصحيح في هذه المسألة : ما ذكره الشيخ ابن عثيمين رحمه الله : حيث قال :
” إذا قرن الإسلام بالإيمان فإن الإسلام يكون الأعمال الظاهرة من نطق اللسان وعمل الجوارح ، والإيمان الأعمال الباطنــة من العقيدة وأعمال القلوب ، ويدل لهذا التفريق قوله تعالى ( قالت الأعراب آمنا قل لم تؤمنوا ولكن قولوا أسلمنا ولما يدخل الإيمان في قلوبكم) ( الحجرات  )  ، ويدل لذلك أيضاً حديث عمر بن الخطاب .. ثم ذكر حديث الباب “ .

6- بيان نوع من أنواع الوحي،  ومن أنواع الوحي :
            1-   الرؤيا الصادقة: وكانت هي مبتدأ الوحي لنبينا الكريم ، واستمرت معه. ورؤيا الأنبياء وحي، منها رؤيا سيدنا إبراهيم عليه السلام:( إِنِّي أَرَى فِي الْمَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ )(الصافات: 102).
            2-   الإلقاء في الروع :  ما كان الملك يلقيه في روعه -أي قلبه- من غير أن يراه، كما قال صلى الله عليه وسلم: إن روح القدس نَفَثَ في روعي أنه لن تموت نفس حتى تستكمل رزقها وأجلها، فاتقوا الله وأجملوا في الطلب، ولا يحملنكم استبطاء الرزق على أن تطلبوه بمعصية الله، فإن ما عند الله لا يُنال إلا بطاعته.
            3-   إن يراه في صورة آدمي: كان جبريل - عليه الصلاة والسلام- غالباً ما يتمثل بصورة صحابي جليل وهو دحية بن خليفة الكلبي ، وهذا الصحابي الجليل كان جميل الصورة فكان جبريل ينزل عليه بصورة هذا الصحابي، لأن الملائكة صورهم حسنة مثلما ذكر الله تعالى في النساء اللاتي دعتهن امرأة العزيز قلن في حق يوسف ﴿ مَا هَذَا بَشَراً إِنْ هَذَا إِلاَّ مَلَكٌ كَرِيمٌ (يوسف: 31)، وأحياناً يأتي بصورة أعرابي ورجل لا يعرفه الصحابة رضوان الله تعالى عليهم كما في هذا الحديث.
            4-    يأتيه في مثل صلصلة الجرس:  وكان أشده عليه فيتلبث به الملك حتى إن جبينه ليتفصد عرقاً في اليوم الشديد البرد، وحتى إن راحلته لتبرك به إلى الأرض إذا كان راكباً ولقد جاءه الوحي مرة كذلك، وفخذه على فخذ زيد بن ثابت فثقلت عليه حتى كادت تردها.وهذه هي الصورة التي نزل بها القرآن
5-  أنه يرى الملك في صورته االملكية لتي خلق عليها،يسد الأفق، وله ستمائة جناح ،  فيوحي إليه ما شاء الله أن يوحيه وهذا وقع له مرتين كما ذكر الله ذلك في سورة النجم في قوله تعالى: ( وَلَقَدْ رَآَهُ نـزلَةً أُخْرَى* عِنْدَ سِدْرَةِ الْمُنْتَهَى)  17

6-  كلام الله له منه إليه بلا واسطة ملك : وهو ما أوحاه الله وهو فوق السماوات ليلة المعراج ، وعندها فرض الصلاة وغيرها. كما كلم الله موسى بن عمران، وهذه المرتبة هي ثابتة لموسى قطعاً بنص القرآن وثبوتها لنبينا هو في حديث الإسراء
يقول  ابن القيم  رحمه الله في كتابه: زاد المعاد في بيان تكميل النبي
لمراتب الوحي التي نزل بها الوحي على الأنبياء فقد استكملها رسول الله
 جميعاً.
7-أن النبي لا يعلم الغيب .
8-أنه لا يدري أحد متى الساعة ، وقد استأثر الله بعلمها ، فلم يطلع على ذلك ملكاً مقرباً ولا نبياً مرسلاً.
قال تعالى : ( يسألونك عن الساعة قل إنما علمها عند ربي لا يجليها لوقتها إلا هو ثقلت في السموات والأرض لا تأتيكم إلا بغتة يسألونك كأنك حفي عنها قل إنما علمها عند الله )ـ
قال ابن كثير : ” أي ليس علمها إليك ، ولا إلى أحد من الخلق ، بل مردها ومرجعها إلى الله ، فهو الذي يعلم وقتها على التعيين “ـ
لكن هي قريبة :ـ
قال تعالى : ( اقترب للناس حسابهم وهم في غفلة معرضون )ـ
9-أن للساعة علامات تدل على قربها ، وقد ذكر النبي صلى الله عليه وسلم  في الحديث علامتان من هذه العلامات :ـ
الأولى : أن تلد الأمة ربتها . ( وسبق تفسيرها ) ـ
الثانية : أن ترى أسافل الناس يصيرون رؤساء وتكثر أموالهم ويشيدون المباني العالية مباهاة وتفاخراً على عباد الله
قال القرطبي : ” المقصود الإخبار عن تبدل الحال ، فاستولى أهل البادية على الأمر ، وتملكوا البلاد بالقهر ، فتكثر أموالهم وتنصرف همومهم إلى تشييد البنيان والتفاخر به ، وقد شاهدنا ذلك في هذه الأزمان “ ـ
10-                 في الحديث دلالة على فساد الزمن بين يدي الساعة ، حيث تضعف الأخلاق، ويكثر عقوق الأولاد ومخالفتهم لآبائهم فيعاملونهم معاملة السيد لعبيده .
وتنعكس الأمور وتختلط ، حتى يصبح أسافل الناس ملوك الأمة ورؤساءها، وتسند الأمور لغير أهلها، ويكثر المال في أيدي الناس، ويكثر البذخ والسَّرف، ويتباهى الناس بعلو البنيان، وكثرة المتاع والأثاث، ويُتعالى على الخلق ويملك أمرهم من كانوا في فقر وبؤس، يعيشون على إحسان الغير من البدو والرعاة وأشباههم.


  




 

No comments:

Post a Comment