سورة الفتح ج 2
في هذا الجزء من السورة يذكر الله
عز وجل حال المتخلفين عن رسول الله وأعذارهم ، ويكشف كذبهم ونفاقهم ، قال تعالى : (سَيَقُولُ لَكَ الْمُخَلَّفُونَ مِنَ الْأَعْرَابِ شَغَلَتْنَا
أَمْوَالُنَا وَأَهْلُونَا فَاسْتَغْفِرْ لَنَا)
قوله تعالى: ( سَيَقُولُ لَكَ الْمُخَلَّفُونَ مِنَ الْأَعْرَابِ) قال مجاهد وابن عباس
: يعني أعراب غفار ومزينة وجهينة وأسلم وأشجع والديل، وهم الأعراب الذين كانوا حول
المدينة، تخلفوا عن رسول الله ﷺ حين أراد السفر إلى مكة عام الحديبية، بعد أن كان استنفرهم
ليخرجوا معه حذرا وخوفا من قريش، وكان ﷺ قد أحرم بعمرة وساق معه الهدي، ليعلم الناس أنه لا يريد حربا فتثاقلوا
عنه واعتلوا بالشغل، فنزلت الآية فيهم. وإنما قال (الْمُخَلَّفُونَ) لأن
الله خلَّفهم( أي تركهم وأبعدهم ) عن صحبة نبيه ﷺ. والمخلف المتروك.
( شَغَلَتْنَا
أَمْوَالُنَا وَأَهْلُونَا فَاسْتَغْفِرْ لَنَا) أي ليس
لنا من يقوم على أموالنا بإصلاحها ، ولا حماية أهلنا ، فاستغفر لنا، جاؤوا
يطلبون الاستغفار واعتقادهم بخلاف ظاهرهم، ففضحهم الله تعالى بقوله (يَقُولُونَ بِأَلْسِنَتِهِمْ مَا
لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ) وهذا هو النفاق المحض. فإن طلبهم
الاستغفار من رسول الله ﷺ يدل على ندمهم وإقرارهم على أنفسهم بالذنب، وأنهم تخلفوا تخلفا يحتاج إلى
توبة واستغفار، فلو كان هذا الذي في قلوبهم، لكان استغفار الرسول ﷺ نافعا لهم، لأنهم قد تابوا وأنابوا، ولكن الذي في قلوبهم، أنهم إنما
تخلفوا لأنهم ظنوا بالله ظن السوء، أنه لن ينصر نبيه.
قوله تعالى (فَمَنْ يَمْلِكُ لَكُمْ مِنَ اللَّهِ
شَيْئًا إِنْ أَرَادَ بِكُمْ ضَرًّا أَوْ أَرَادَ بِكُمْ نَفْعًا بَلْ كَانَ
اللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا)
أي أن
قضى الله عليكم أمرا يضركم،مثل الهزيمة، أو أراد بكم نفعا ،أي نصرا وغنيمة ،فلا
راد لإرادته سبحانه وقضائه ، وهو حاصل بكم أينما كنتم ، والله سبحانه كان وما زال بكل ما يعمل العباد خبيراً وبما
تكتمون في أنفسكم، وما تظهرون من العمل. وهذا رد على المنافقين حين ظنوا أن التخلف
عن الرسول يدفع عنهم الضر ويعجل لهم النفع
والضَر بالفتح : مصدر ضَررته ضَرا. وبالضم اسم لما ينال الإنسان من
الهزال وسوء الحال. والمصدر يؤدي عن المرة وأكثر. وهو هنا بالفتح لأنه
قابله بالنفع وهو ضد الضَر.
وقوله تعالى :
(بَلْ ظَنَنْتُمْ أَنْ لَنْ يَنْقَلِبَ الرَّسُولُ وَالْمُؤْمِنُونَ إِلَى
أَهْلِيهِمْ أَبَدًا وَزُيِّنَ ذَلِكَ فِي قُلُوبِكُمْ وَظَنَنْتُمْ ظَنَّ
السَّوْءِ وَكُنْتُمْ قَوْمًا بُورًا ) ولكن الذي في قلوبهم، أنهم إنما تخلفوا لأنهم
ظنوا بالله ظن السوء، فظنوا ( أَنْ لَنْ
يَنْقَلِبَ الرَّسُولُ وَالْمُؤْمِنُونَ إِلَى أَهْلِيهِمْ أَبَدًا ) أي: إنهم سيقتلون ويستأصلون، ولم يزل هذا الظن يزين في
قلوبهم، ويطمئنون إليه، حتى استحكم، وسبب ذلك أمران:
أحدها: أنهم كانوا قَوْمًا بُورًا أي: هلكى، لا خير فيهم، فلو كان فيهم خير لم يكن
هذا في قلوبهم.
الثاني: ضعف إيمانهم ويقينهم بوعد الله، ونصر دينه، وإعلاء كلمته، ولهذا
قال: ( وَمَنْ لَمْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ ) أي: فإنه كافر مستحق للعقاب، ( فَإِنَّا أَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ سَعِيرًا ) ، وسوء الظن بالله هو سبب الشرك ، لأن الشرك هضم لحق
الربوبية، وتنقيص لعظمة الإلوهية، وسوء ظن برب العالمين ، ولهذا قال إبراهيم إمام
الحنفاء لخصمائه من المشركين: (أَئِفْكًا
آلِهَةً دُونَ اللَّهِ تُرِيدُونَ فَمَا ظَنُّكُم بِرَبِّ الْعَالَمِينَ) (الصافات: 86-87)
(وللهِ مُلْكُ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ يَغْفِرُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ وَكَانَ الله غَفُورًا رَحِيمًا)
فالله تعالى هو المنفرد بملك السماوات والأرض، يتصرف فيهما بما يشاء من
الأحكام القدرية من النصر أو الهزيمة، والأحكام الشرعية ومنها الأمر بطاعته ، وعدم
مخالفته وعصيان ، والأحكام الجزائية المترتبة على كل حالة، ولهذا ذكر حكم الجزاء
المرتب على الأحكام الشرعية، فقال: ( يَغْفِرُ لِمَنْ يَشَاءُ ) وهو من قام بما أمره الله به ( وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ ) ممن تهاون بأمر الله، ( وَكَانَ الله غَفُورًا رَحِيمًا) وصفته اللازمة له التي لا تنفك عنه المغفرة والرحمة، فلا يزال في جميع
الأوقات يغفر للمذنبين، ويتجاوز عن الخطائين، ويتقبل توبة التائبين، في كل وقت
وزمان. وورود هذه الآية بعد ذكر حال المنافقين فيها حث لهم على الإستغفار والإنابة
إليه ليغفر لهم.
قوله تعالى: ( سَيَقُولُ الْمُخَلَّفُونَ إِذَا انْطَلَقْتُمْ إِلَى مَغَانِمَ
لِتَأْخُذُوهَا) يعني مغانم خيبر، لأن الله عز وجل وعد أهل الحديبية فتح خيبر،
وأنها لهم خاصة من غاب منهم ومن حضر. ولم يغب منهم عنها غير جابر بن عبدالله فقسم
له رسول الله ﷺ كسهم من حضر. قال ابن إسحاق : وكان المتولي للقسمة بخيبر جبار بن
صخر الأنصاري من بني سلمة، وزيد بن ثابت من بني النجار، كانا حاسبين قاسمين وقوله تعالى (ذَرُونَا نَتَّبِعْكُمْ) أي
دعونا. تقول : ذره، أي دعه. وهو يذره، أي يدعه. لا يقال : وذره ولا واذر، ولكن
تركه وهو تارك
قال مجاهد : تخلفوا عن الخروج إلى مكة، فلما خرج النبي ﷺ لخيبر وأخذ قوما ووجه بهم إليها ، قال من تخلف عن الحديبية ذرونا نتبعكم فنقاتل معكم، فيرد عليهم الله أنهم
( يُرِيدُونَ أَنْ يُبَدِّلُوا كَلَامَ الله) أي
يغيروا،والمعنى يريدون أن يغيروا وعد الله الذي وعد لأهل الحديبية، وذلك أن الله
تعالى جعل لهم غنائم خيبر عوضا عن فتح مكة إذ رجعوا من الحديبية على صلح.
والكلام : ما استقل بنفسه من الجمل. قال الجوهري : الكلام اسم جنس يقع على القليل والكثير. والكلم لا يكون أقل من
ثلاث كلمات لأنه جمع كلمة، مثل نبقة ونبق.
قوله تعالى (قُلْ لَنْ تَتَّبِعُونَا كَذَلِكُمْ
قَالَ الله مِنْ قَبْلُ) أي
قالها الله لنا من قبل رجوعنا من الحديبية، فقد بشرنا بغنائم خيبر لمن شهد الحديبية خاصة. (فَسَيَقُولُونَ بَلْ تَحْسُدُونَنَا) أن نصيب معكم من الغنائم. وقيل : قال رسول الله ﷺ : (إن خرجتم لم أمنعكم
إلا أنه لا سهم لكم). فقالوا
: هذا حسد. فقال المسلمون : قد أخبرنا الله في الحديبية بما سيقولونه (فَسَيَقُولُونَ بَلْ تَحْسُدُونَنَا ) ، فقال
الله تعالى (بَلْ كَانُوا لَا يَفْقَهُونَ إِلَّا قَلِيلًا) يعني لا
يعلمون إلا أمر الدنيا. وقيل: لا يفقهون من أمر الدين إلا قليلا، وهو ترك القتال.
ثم قال تعالى ممتحنا لهم: ( قُلْ
لِلْمُخَلَّفِينَ مِنَ الْأَعْرَابِ سَتُدْعَوْنَ إِلَى قَوْمٍ أُولِي بَأْسٍ
شَدِيدٍ ) أي قل لهؤلاء الذين
تخلفوا عن الحديبية. (سَتُدْعَوْنَ إِلَى
قَوْمٍ أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ) وقد اختلف في هؤلاء القوم فقيل : هم هوازن وغطفان يوم
حنين أو بنو حنيفة أهل اليمامة أصحاب مسيلمة، أو هم فارس والروم .
وقال رافع بن خديج : والله لقد كنا نقرأ هذه الآية فيما مضى (ستدعون إلى قوم أولي بأس شديد) فلا
نعلم من هم حتى دعانا أبو بكر إلى قتال بني حنيفة فعلمنا أنهم هم.
قالوا : وفي هذه الآية دليل على صحة إمامة أبي بكر وعمر رضي الله
عنهما، لأن أبا بكر دعاهم إلى قتال بني حنيفة، وعمر دعاهم إلى قتال فارس والروم.
وأما قول عكرمة وقتادة إن ذلك في هوازن وغطفان يوم حنين فلا، لأنه يمتنع أن يكون
الداعي لهم الرسول عليه السلام، لأنه أولا في الآية إبهام للداعي فلا يكون هو
النبي ﷺ، وثانيا : أن النبي ﷺ مأمور من ربه بأن لا يدعوهم أن يخرجوا معه ، قال (لن تخرجوا معي أبدا ولن تقاتلوا معي عدوا) فدل على أن المراد بالداعي غير النبي ﷺ. ومعلوم أنه لم يدع هؤلاء القوم بعد النبي ﷺ إلا أبو بكر وعمر رضي الله عنهما.
و قوله تعالى ( تُقَاتِلُونَهُمْ أَوْ يُسْلِمُونَ ) هذا حكم من لا تؤخذ منهم الجزية، أي يكون أحد الأمرين : إما
المقاتلة وإما يسلموا بدون قتال ، لا ثالث
لهما، وهذا في قتال المشركين لا في أهل الكتاب
وقوله تعالى: ( فَإِنْ تُطِيعُوا
يُؤْتِكُمُ اللَّهُ أَجْرًا حَسَنًا)
الغنيمة
والنصر في الدنيا، والجنة في الآخرة.
ومرة أخرى أبهم المطاع ، وهو دليل آخر على أنه ليس الرسول ﷺ هو داعيهم إلى قتال المشركين . وقوله : (وَإِنْ تَتَوَلَّوْا كَمَا تَوَلَّيْتُمْ
مِنْ قَبْلُ يُعَذِّبْكُمْ عَذَابًا أَلِيمًا) أي كما توليتم عام
الحديبية، يعذبكم
عذابا أليما ؛ عذاب النار
ثم ذكر الأعذار التي يعذر بها العبد عن الخروج إلى الجهاد، فقال: ( لَيْسَ عَلَى الْأَعْمَى حَرَجٌ وَلَا عَلَى الْأَعْرَجِ حَرَجٌ وَلَا
عَلَى الْمَرِيضِ حَرَجٌ ) ثم ذكر تعالى الأعذار المبيحة للتخلف عن الجهاد فمنها ما هو لازم
كالعمى والعرج المستمر، وعارض كالمرض الذي يطرأ أياماً ثم يزول، فهو في حال مرضه
ملحق بذوي الأعذار اللازمة حتى يبرأ، ثم قال تبارك وتعالى مرغباً في الجهاد وطاعة الله
ورسوله: (وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ
وَرَسُولَهُ يُدْخِلْهُ
جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ ) فهنيئا له الجنات ،
لكن ( وَمَنْ
يَتَوَلَّ) أي ينكل عن الجهاد ويقبل على المعاش (يُعَذِّبْهُ عَذَابًا أَلِيمًا) في
الدنيا بالمذلة، وفي الآخرة بالنار.
متشابهات :
يلاحظ أنه قد ورد في
ثلاث أيات قول المخلفون ، أو القول لهم وهي:
في الأولى : (سَيَقُولُ لَكَ الْمُخَلَّفُونَ مِنَ الْأَعْرَابِ)
وفي الثانية : ( سَيَقُولُ الْمُخَلَّفُونَ..)
وفي الثالثة : ( قُلْ لِلْمُخَلَّفِينَ مِنَ الْأَعْرَابِ...)
في الأولى تفصيل ، سيقولون ( لك ) وهم ( من الأعراب )
وفي الثانية وصفهم فقط بأنهم (الْمُخَلَّفُونَ )
وفي الثالثة :الأمر للنبي ( قل ) وجاء بوصفهم ( من الأعراب )
متشابه آخر :
جاء في أول السورة في ذكر ما أنعم الله
تعالى على المؤمنين الذين شهدوا الحديبية قوله تعالى : ( لِيُدْخِلَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ
تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا..)
بينما قال لما أعطي المنافقين فرصة ثانية
ليصلحوا ما أفسدوا من تخلفهم عن رسول الله في الخروج لمكة ، فقال في ثوابهم وثواب
من يطع الله ورسوله عامة :(وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ
تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ ) فلم يذكر ( خالدين فيها ) ، ولو أنه من دخل
الجنة فإنه يخلد فيها ولا يزحزح عنها ، إلا أن تفصيل الخلود للفئة الأولى أحرى
بتصور عظيم الفضل الذي أُعطوه هؤلاء السابقين بالخير والصبر،والنعيم المقيم .
والله أعلم
No comments:
Post a Comment