Wednesday, 26 March 2014

تدبر آية من القرآن العظيم - الحزب الثالث عشر ج 2 - سورة الأنعام



تدبر آية من القرآن العظيم – الحزب الثالث عشر ج 2 – سورة الأنعام  
   
تعريف بسورة الأنعام :  

-سورة الأنعام هي السورة السادسة حسب ترتيب المصحف، وقبلها سور : الفاتحة، والبقرة، وآل عمران، والنساء، والمائدة.
-وهي السورة الخامسة والخمسون، حسب ترتيب نزول القرآن، حيث أنزلت بعد سورة ” الحجر “، وأنزلت بعدها سورة ” الصافات “.
-وسورة الأنعام أول سورة مكية طويلة حسب ترتيب المصحف، فما قبلها أربع سور مدنية طويلة( سورة البقرة وآل عمران والنساء والمائدة)  
- تبدأ السورة بأحد أساليب الثناء وهو " الحمد لله " ، وهي ثاني سورة تبدأ بالحمد بعد الفاتحة .

سبب تسمية السورة بهذا الإسم : 

اسم السورة التوقيفي، أي أنه من عند الله، ويؤخذ من شيء مذكور فيها، أو اختصت هي بذكره أو تميزت به.
‏‏سميت ‏سورة " ‏الأنعام ‏‏" بهذا الإسم ‏لورود ‏ذكر ‏الأنعام ‏فيها،  فكلمة ” الأنعام” مذكورة فيها ست مرات فيها. أولها  في آية: ‏‏( ‏َوَجعلوا ‏لله ‏مما ‏ذرأ ‏من ‏الحرث ‏والأنعام ‏نصيبا ‏‏)136، ‏ولأن ‏اكثر ‏أحكام الأنعام فيها ، وفيها ما يبين‏  ‏جهالات ‏المشركين وأفعالهم ‏تقربا ‏بها ‏إلى ‏أصنامهم، وفيها عرض نماذج سخيفة مضحكة من عقائدهم وممارساتهم وعباداتهم وأحكامهم وتشريعاتهم وقد روى البخاري في صحيحه عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: ” إذا سرّك أن تعلم جهل العرب، فاقرأ ما فوق الثلاثين ومائة من سورة الأنعام. وهو قوله تعالى : (  قَدْ خَسِرَ‌ الَّذِينَ قَتَلُوا أَوْلَادَهُمْ سَفَهًا بِغَيْرِ‌ عِلْمٍ وَحَرَّ‌مُوا مَا رَ‌زَقَهُمُ اللهُ افْتِرَ‌اءً عَلَى اللهِ ۚ قَدْ ضَلُّوا وَمَا كَانُوا مُهْتَدِينَ) 140 .

ومن اللطائف أن كلمة ” الأنعام ” مذكورة ثلاث مرات في آية واحد من آياتها، هي قوله تعالى : (  وقالوا هذه أنعام وحرث حجر، لا يطعمها إلا من نشاء بزعمهم، وأنعام حرمت ظهورها، وأنعام لا يذكرون اسم الله عليها افتراءً عليه، سيجزيهم بما كانوا يفترون) (الأنعام : 138).
وفي اللغة :
 
كلمة  ” الأنعام” جمع. ومفرده: " نَعَم " – بفتح النون والعين – ويكون أيضا ( النَعَم ) اسم يدل على الجمع الذي لا مفرد له
وقد ورد كلمة ( النَّعَم ) مرة واحدة في القرآن، وذلك في قوله تعالى: ( يا أيها الذين آمنوا لا تقتلوا الصيد وأنتم حرم، ومن قتله منكم متعمداً فجزاء مثل ما قتل من النعم ((المائدة : 95) ، نقول : نَعَمٌ وأنعام. كما نقول: ثَقَل وأثقال ولفظ الأنعام يطلق على أصناف حيوانات الأربعة، التي أنعم الله بها علينا، وهي : الإبل، والبقر، والضأن، والماعز،  التي قد ذكرت نفس سورة الأنعام في الآيتين : ( 143 - 144) قوله تعالى :( ثَمَانِيَةَ أَزْوَاجٍ ۖ مِّنَ الضَّأْنِ اثْنَيْنِ وَمِنَ الْمَعْزِ اثْنَيْنِ ۗ قُلْ آلذَّكَرَ‌يْنِ حَرَّ‌مَ أَمِ الْأُنثَيَيْنِ أَمَّا اشْتَمَلَتْ عَلَيْهِ أَرْ‌حَامُ الْأُنثَيَيْنِ ۖ نَبِّئُونِي بِعِلْمٍ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ * وَمِنَ الْإِبِلِ اثْنَيْنِ وَمِنَ الْبَقَرِ‌ اثْنَيْنِ ۗ..)

وسميت هذه الأصناف الأربعة أنعاماً، لأن النعمة فيها ظاهرة من الله على الناس، ولأن الناس يستفيدون من كل ما يتصل بهذه الأنعام، من اللحم والشحم واللبن والجلد والصوف والروث والركوب والانتقال. كما قال تعالى: ( أو لم يروا أنا خلقنا لهم مما عملت أيدينا أنعاماً فهم لها مالكون* وذلّلناها لهم فمنها ركوبهم ومنها يأكلون* ولهم فيها منافع ومشارب أفلا يشكرون ) (يس: 71-73).
ومن ‏فضائل سورة الأنعام :

 
1)    أنزلت كلها دفعة واحدة فليس فيها آية مدنية.
ودليل ذلك ما قاله عبدالله بن عباس رضي الله عنهما : ” أنزلت سورة الأنعام : بمكة، ليلاً، جملة واحدة ، حولها سبعون ألف ملك، يجأرون حولها بالتسبيح”.، ويؤخذ منه أنها : أنزلت سورة الأنعام بمكة معها موكب من الملائكة يشيعونها قد طبقوا ما بين السماء والارض،  لهم زجل بالتسبيح حتى كادت الارض أن ترتج من زجلهم بالتسبيح ارتجاجا فلما سمع النبي زجلهم بالتسبيح رعب من ذلك فخَرَّ ساجدا .
2)    قالت أسماء بنت يزيد :( نزلت سورة الأنعام على النبي جملة  وأنا آخذة بزمام ناقة النبي ، إن كادت من ثقلها لتكسر عظام الناقة ) وهو كذلك كما قال تعالى عنه :( نَّا سَنُلْقِي عَلَيْكَ قَوْلًا ثَقِيلًا ) المزمل5
3)    وعن أنس بن مالك قال : ( نزلت سورة الأنعام معها موكب من الملائكة  ، سد ما بين الخافقين ، لهم زجل بالتسبيح ، والأرض بهم ترتج ، ورسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : ( سبحان الله العظيم ،  سبحان الله العظيم
4)     ومن أقوال السابقين، الدالة على فضائل ومزايا هذه السورة:
    ما قاله الإمام أبوإسحاق الإسفراييني : ” في سورة الأنعام كل قواعد التوحيد "
     وقال الإمام فخر الدين الرازي : ” قال الأصوليون : اختصت هذه السورة بنوعين من الفضيلة: أحدهما : أنها نزلت دفعة واحدة، والثاني أنها شيّعها سبعون ألفاً من الملائكة. والسبب في ذلك أنها مشتملة على دلائل التوحيد والعدل والنبوة والمعاد، وإبطال مذاهب المبطلين والملحدين، وذلك يدل على أن علمأصول الدين ” في غاية الجلالة والرفعة “.
من أسباب نزول السورة :

1) قال المشركون : يا محمد خبرنا عن الشاة إذا ماتت من قتلها قال : الله قتلها قالوا : فتزعم أن ما قتلت أنت وأصحابك حلال وما قتل الكلب والصقر حلال وما قتله الله حرام ، فأنزل الله تعالى هذه الآية ... قوله تعالى :( وَلَا تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ‌ اسْمُ اللَّـهِ عَلَيْهِ وَإِنَّهُ لَفِسْقٌ ۗ  )   121 ، وقال عكرمة : إن المجوس من أهل فارس لما أنزل الله تعالى تحريم الميتة كتبوا إلى مشركي قريش وكانوا أولياءهم في الجاهلية وكانت بينهم مكاتبة أن محمدا وأصحابه يزعمون أنهم يتبعون أمر الله ثم يزعمون أن ما ذبحوا فهو حلال وما ذبح الله فهو حرام فوقع في أنفس ناس من المسلمين من ذلك شئ فأنزل الله تعالى هذه الآية .
2) قال ابن عباس : أن أبا جهل رمى رسول الله بفرث ، وحمزة لم يؤمن بعد فأُخبِر حمزة بما فعل أبو جهل وهو راجع من قنصه وبيده قوس فأقبل غضبان حتى علا أبا جهل بالقوس وهو يتضرع إليه ويقول : يا أبا يعلي أما ترى ما جاء به سفه عقولنا وسب آلهتنا وخالف آباءنا؟  قال حمزة : ومن أسفه منكم تعبدون الحجارة من دون الله أشهد أن لا اله الا الله لا شريك له وأن محمدا عبده ورسوله ، فأنزل الله تعالى هذه الآية (  قَدْ خَسِرَ الذينَ قَتَلوا أَولادَهُم سَفَهًا بِغيرِ عِلمٍ )
3) عن عكرمة في قوله " قَدْ خَسِرَ الذينَ قَتَلوا أَولادَهُم سَفَهًا بِغيرِ عِلمٍ " قال نزلت فيمن كان يئد البنات من مضر وربيعة كان الرجل يشترط على امرأته أنك تئدين جارية وتستحيين أخرى فاذا كانت الجارية التي توأد غدا من عند أهله أو راح وقال أنت علي كأمي إن رجعت اليك لم تئديها فترسل إلى نسوتها فيحفرن لها حفرة فيتداولنها بينهن فإذا بصرن به مقبلا دسسنها في حفرتها وسوين عليها التراب .
محور مواضيع السورة : 

سورة الأنعام إحدى السور المكية الطويلة التي يدور محورها حول " العقيدة وأصول الإيمان " وهي تختلف في أهدافها ومقاصدها عن السور المدنية التي سبقتها وهي سور البقرة وال عمران والنساء والمائدة ،فهي لم تعرض لشئ من الأحكام التنظيمية لجماعة المسلمين كالصوم والحج والعقوبات وأحكام الأسرة ...،  وإنما تناولت القضايا الكبرى الأساسية لأصول العقيدة والإيمان وهذه القضايا يمكن تلخيصها فيما يلى :
1 ـ قضية التوحيد بأنواعه الثلاث: فالله يدلل بكونه وحده الخالق الرازق على استحقاقة وحده للعبادة دون الشركاء سبحانه .كقوله تعالى (ذَٰلِكُمُ الله رَ‌بُّكُمْ ۖ لَا إِلَـٰهَ إِلَّا هُوَ ۖ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ فَاعْبُدُوهُ ۚ وَهُوَ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ  ) 102 .
وقوله تعالى :  (قُلْ أَغَيْرَ‌ اللهِ أَتَّخِذُ وَلِيًّا فَاطِرِ‌ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْ‌ضِ وَهُوَ يُطْعِمُ وَلَا يُطْعَمُ ۗ قُلْ إِنِّي أُمِرْ‌تُ أَنْ أَكُونَ أَوَّلَ مَنْ أَسْلَمَ ۖ وَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُشْرِ‌كِينَ ) ( 14 )
وقد عدد في هذه السورة الكثير من أسماء الله وصفاته سبحانه وتعالى، منها قوله تعالى (لَّا تُدْرِ‌كُهُ الْأَبْصَارُ‌ وَهُوَ يُدْرِ‌كُ الْأَبْصَارَ‌ ۖ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ‌) 103  ، وقال (....العزيز العليم) 96، وقال (... السميع العليم ) 13 ، ( الحكيم الخبير ) 18 ، 73 ، وقوله : ( ... غفور رحيم ) 54 ، ( ... لنسلم لرب العالمين ) 71 ، وهكذا .

2 ـ قضية الوحي والرسالة، في قضية الوحي وتكذيب كفار قريش لمحمد في أنه يوحى إليه من ربه ، فيأكد حدوثه ، بما يعلمون مسبقا من إنزال الوحي على النبيين من قبله، يقول تعالى : (وَمَا قَدَرُ‌وا اللَّـهَ حَقَّ قَدْرِ‌هِ إِذْ قَالُوا مَا أَنزَلَ اللَّـهُ عَلَىٰ بَشَرٍ‌ مِّن شَيْءٍ ۗ قُلْ مَنْ أَنزَلَ الْكِتَابَ الَّذِي جَاءَ بِهِ مُوسَىٰ نُورً‌ا وَهُدًى لِّلنَّاسِ ) 91 ،وفي قصص النبيين من قبله فقد خص الله تعالى هذه السورة بذكر قصة إبراهيم الخليل عليه السلام الذي أراه الله تعالى ملكوت السموات والأرض ، ومحاجته لقومه التي أيده الله إليها ، وكيف وصل بهم إلى أن إله الكون لا بد أن يكون قائما بنفسه وغيره لا يأفل ولا يكل ، فقال سبحانه فيه (وَكَذَٰلِكَ نُرِ‌ي إِبْرَ‌اهِيمَ مَلَكُوتَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْ‌ضِ وَلِيَكُونَ مِنَ الْمُوقِنِينَ * فَلَمَّا جَنَّ عَلَيْهِ اللَّيْلُ رَ‌أَىٰ كَوْكَبًا ۖ قَالَ هَـٰذَا رَ‌بِّي ۖ فَلَمَّا أَفَلَ قَالَ لَا أُحِبُّ الْآفِلِينَ )( 75-76) وتستمر الآيات في المحاجَّة ، حتى يثني الله تعالى عليه صبره على قومه ، ثم يبين لنا ربنا أن إبراهيم أبو الأنبياء ، فقد خص هذه السورة بذكر اسم 18 نبي في ثلاث آيات متتالية من ذرية إبراهيم عليه السلام ، وهذا أكبر عدد من أسماء الأنبياء مذكور في سورة واحدة ، يليه ما ورد في آية واحدة من سورة النساء 13 نبي ، في الآية رقم 113 .
أما في نبوة محمد عليه أفضل الصلاة والتسليم فالسورة تعمر بدلائل نبوته ، وبيان تكذيب قومه له ، وكذلك بالآيات التي يصبر بها نبيه على تكذيب قومه،  كقوله تعالى : (قَدْ نَعْلَمُ إِنَّهُ لَيَحْزُنُكَ الَّذِي يَقُولُونَ ۖ فَإِنَّهُمْ لَا يُكَذِّبُونَكَ وَلَـٰكِنَّ الظَّالِمِينَ بِآيَاتِ اللَّـهِ يَجْحَدُونَ ) 33 – فربه سبحانه وتعالى يقول له ، لا تحزن أن تسمع تكذيبهم لك ، فإنهم في الحقيقة لا يرمونك أنت بالكذب ، فهم يعرفون أنك الصادق الأمين ، ولكنهم يرفضون آيات الله ، وبها يجحدون.ويرشده أيضا بالإقتداء بمن سبقه من الرسل ، فيقول سبحانه  : (أُولَـٰئِكَ الَّذِينَ هَدَى الله ۖ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهْ ۗ قُل لَّا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرً‌ا ۖ إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرَ‌ىٰ لِلْعَالَمِينَ  ) 90  ، وفي ختام السورة يؤكد على أنه لم يكن بدعا من الرسل ، وأنه متبع لمله أبيه إبراهيم – ويذكر إبراهيم هنا لأن أهل الجزيزة العربية ما زال عندهم بقية من دين إبراهيم عليه السلام من تعظيم بيت الله الحرام والحج إليه ، والمناسك ، إلا أنهم أتوا على قواعد دينه وهدموها ، ذلك انهم أقاموا المناسك وهم يشركون مع الله أصنامهم، فلذلك ترى في آخر السورة يذكرهم بتراث إبراهيم عليه السلام ؛ الدين الحنيف ، فيرشد الله نبيه إلى أن يجهر بحقيقة ملته :( قُلْ إِنَّنِي هَدَانِي رَ‌بِّي إِلَىٰ صِرَ‌اطٍ مُّسْتَقِيمٍ دِينًا قِيَمًا مِّلَّةَ إِبْرَ‌اهِيمَ حَنِيفًا ۚ وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِ‌كِينَ *  قُلْ إِنَّ صَلَاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لله رَ‌بِّ الْعَالَمِينَ * لَا شَرِ‌يكَ لَهُ ۖ وَبِذَٰلِكَ أُمِرْ‌تُ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ ) 161-163 ، وما أفصحها من خاتمة للجدل ، وما أوجزها ، فهذا ما أمرت أن أتبع ، وهذا ديني الذي هداني ربي إليه، فحياتي هي في ديني ، وكل ما فيها خالصا لوجه ربي سبحانه وتعالى ، بل كيف أبغي غيره وهو ...( قُلْ أَغَيْرَ‌ اللَّـهِ أَبْغِي رَ‌بًّا وَهُوَ رَ‌بُّ كُلِّ شَيْءٍ ۚ وَلَا تَكْسِبُ كُلُّ نَفْسٍ إِلَّا عَلَيْهَا ۚ وَلَا تَزِرُ‌ وَازِرَ‌ةٌ وِزْرَ‌ أُخْرَ‌ىٰ ۚ ثُمَّ إِلَىٰ رَ‌بِّكُم مَّرْ‌جِعُكُمْ فَيُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ  ) 164 

3 ـ قضية البعث والجزاء: كذلك فالسورة تهتم كمثيلاتها من السور المكية بإثبات البعث ، والحشر والجزاء ، كقوله تعالى : (وَلَوْ تَرَ‌ىٰ إِذْ وُقِفُوا عَلَىٰ رَ‌بِّهِمْ ۚ قَالَ أَلَيْسَ هَـٰذَا بِالْحَقِّ ۚ قَالُوا بَلَىٰ وَرَ‌بِّنَا ۚ قَالَ فَذُوقُوا الْعَذَابَ بِمَا كُنتُمْ تَكْفُرُ‌ونَ  *  قَدْ خَسِرَ‌ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِلِقَاءِ الله ۖ حَتَّىٰ إِذَا جَاءَتْهُمُ السَّاعَةُ بَغْتَةً قَالُوا يَا حَسْرَ‌تَنَا عَلَىٰ مَا فَرَّ‌طْنَا فِيهَا وَهُمْ يَحْمِلُونَ أَوْزَارَ‌هُمْ عَلَىٰ ظُهُورِ‌هِمْ ۚ... ) 30- 31 .

ومن بداية السورة :

قال تعالى : (لْحَمْدُ لِلَّـهِ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْ‌ضَ وَجَعَلَ الظُّلُمَاتِ وَالنُّورَ‌ ۖ ثُمَّ الَّذِينَ كَفَرُ‌وا بِرَ‌بِّهِمْ يَعْدِلُونَ) 1


التفسير : 

هي واحدة من السور التي تبدأ بالحمد ، الثانية بترتيب المصحف بعد فاتحة الكتاب ، والحمد هو من أنواع الثناء على الله .
يقول الله تعالى مادحا نفسه الكريمة، حامداً لها على خلقه السموات والأرض قراراً لعباده، وجعل الظلمات والنور منفعة لعباده في ليلهم ونهارهم، عَنْ قَتَادَة :  أَمَّا قَوْله : ( الْحَمْد لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَ السَّمَوَات وَالْأَرْض وَجَعَلَ الظُّلُمَات وَالنُّو ) فَإِنَّهُ خَلَقَ السَّمَوَات قَبْل الْأَرْض , وَالظُّلْمَة قَبْل النُّور , وَالْجَنَّة قَبْل النَّار . 

دلالة كلمة "جعل"  عن تفسير الطبري

فَإِنْ قَالَ قَائِل : فَمَا مَعْنَى قَوْله إِذَنْ " جَعَلَ " ؟ قِيلَ : إِنَّ الْعَرَب تَجْعَلهَا ظَرْفًا لِلْخَبَرِ وَالْفِعْل , فَتَقُول : جَعَلْت أَفْعَل كَذَا , وَجَعَلْت أَقُوم وَأَقْعُد , تَدُلّ بِقَوْلِهَا " جَعَلْت " عَلَى اِتِّصَال الْفِعْل ودوامه، لَا أَنَّهَا فِي نَفْسهَا فِعْل , يَدُلّ عَلَى ذَلِكَ قَوْل الْقَائِل : جَعَلْت أَقُوم , وَأَنَّهُ لَا جَعْل هُنَاكَ سِوَى الْقِيَام ,
 فَكَذَلِكَ كُلُّ جَعْل فِي الْكَلَام إِنَّمَا هُوَ دَلِيل عَلَى فِعْل لَهُ اِتِّصَال ،; فَقَوْله : ( وَجَعَلَ الظُّلُمَات وَالنُّور ) إِنَّمَا هُوَ أَظْلَمَ لَيْلهمَا وَأَنَارَ نَهَارهمَا . 

وقوله : (وجعل سبحانه الظلمات والنور) ، فيلاحظ فيه أنه سبحانه جمع الظلمات وأفرد النور ، فما دلالة ذلك ؟ 
   
 إنّ النور سواء أكان المراد به كتابا يهدي إلى الرشد ، أو حجة تكشف النقاب عن الشبهات . أو رسولا يدعو الناس إلى الحق . أو إيمانا يعمر به قلب المؤمن . أو عملا يحقق لصاحبه رضوان الله ... كل ذلك له مصدر واحد هو الله سبحانه وتعالى . والقرآن على ذلك خير شاهد
  الله نور السموات والأرض " ، " يهدي الله لنوره من يشاء " ، " ومن لم يجعل الله له نورا فما له من نور "ـ
ولهذا الاعتبارات وحّد النور في القرآن تبعا لوحدة مصدره . وهو" الله "  ( الله  نور السموات والأرض )
أما الجهل والكفر والظلال فقد تعددت أسبابها ومصادرها . فالشيطان ضال مضل والأوثان والأصنام مضلة ، والأهواء مضلة ، والنفس الأمّارة بالسوء  مضلة ، وأصدقاء السوء ضالون مضلون ، لهذا تعددت الظلمات لتعدد مصادرها" أهـ  من كتاب : خصائص التعبير القرآني وسماته البلاغية  د .عبدالعظيم المطعني 
ونظير ذلك كثير في القرآن ، قال تعالى في سورة البقرة : (اللهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا يُخْرِ‌جُهُم مِّنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ‌ ۖ وَالَّذِينَ كَفَرُ‌وا أَوْلِيَاؤُهُمُ الطَّاغُوتُ يُخْرِ‌جُونَهُم مِّنَ النُّورِ‌ إِلَى الظُّلُمَاتِ ۗ ) ( البقرة 257) وهنا بيان إلى أن مصادر الظلمات متعددة ، فقد أفرد نفسه سبحانه عن الشبيه ، فقال( الله ولي )وقال :( أولياؤهم الطاغوت ) ، ومثلها أيضا في قوله : (وَأَنَّ هَـٰذَا صِرَ‌اطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلَا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّ‌قَ بِكُمْ عَن سَبِيلِهِ) ( الأنعام 153) فأفرد سبيله لأن الطريق إلى الله ، هي طريق الحق واحدة ، وطرق الباطل والضلال متعددة ، وقال ابن كثير: وحد لفظ النور لكونه أشرف، كقوله تعالى: ( عن اليمين والشمائل)
 
اللهم اجعلنا من أصحاب اليمين، واجعل قرآننا أنيسنا في قبورنا ، ونبينا شفيعنا يوم القيامة  



No comments:

Post a Comment