تدبر آية من آيات القرآن العظيم - الحزب الحادي عشر – ج 2 - سورة المائدة آخر
ما نزل من التشريع
معنا في هذا الحزب الجزء الأول من سورة المائدة ، وهي سورة مدنية من السور
الطوال ، تختص بالأحكام والشرائع ، فيها ثمان عشر فريضة، وليس فيها منسوخ من
الأحكام ، وعلى العكس فأنه يعتد بالأحكام التي فيها ، لأنها آخر من نزل من القرآن.
ومنها قوله تعالى في الآية 3 منها
:
( ..الْيَوْمَ
يَئِسَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِن دِينِكُمْ فَلَا تَخْشَوْهُمْ وَاخْشَوْنِ ۚ
الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ
لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا ۚ فَمَنِ اضْطُرَّ فِي مَخْمَصَةٍ غَيْرَ مُتَجَانِفٍ
لِّإِثْمٍ ۙ فَإِنَّ اللَّـهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ ﴿٣ )
فهي من آخر ما نزل من القرآن ، ذكر المفسرون أن هذه الآية نزلت يوم عرفة، فلم ينزل بعدها
حلال ولا حرام. ورجع رسول الله ﷺ المدينة بعدها فما لبث أن توفي. قالت أسماء بنت عميس: حججت مع
رسول الله ﷺ تلك
الحجة، فبينما نحن نسير، إذ تجلى له جبريل عليه السلام على الراحلة، فلم تطق الراحلة من ثقل ما عليها من القرآن، فبركت، فأتيته،
فسجيت عليه برداء كان عليَّ.
وروى البخاري
ومسلم أن رجلاً من اليهود جاء إلى عمر بن الخطاب رضي الله عنه، فقال: يا أمير المؤمنين! إنكم تقرؤون آية في كتابكم، لو علينا معشر
اليهود نزلت، لاتخذنا ذلك اليوم عيداً. قال: وأيُّ آية؟ قال: قوله: ( الْيَوْمَ
أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي ) ، فقال عمر: والله إني لأعلم اليوم الذي نزلت على رسول الله ﷺ ، والساعة التي نزلت فيها على رسول الله ﷺ ، نزلت عشية عرفة في يوم جمعة
وقد روى الطبري
عن هارون بن عنترة عن أبيه، قال: لما نزلت: (الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ
لَكُمْ دِينَكُمْ)، وذلك يوم الحج الأكبر، بكى عمر رضي الله عنهما، فقال له النبي ﷺ: ما يبكيك؟ قال: أبكاني أنا كنا في زيادة من ديننا، فأما إذ كَمُل، فإنه لم
يكمل شيء إلا نقص! فقال ﷺ:( صدقت.)
وروى الطبري عن
ابن عباس رضي الله عنهما، قال: قوله تعالى: (الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ
لَكُمْ دِينَكُمْ) ، وهو الإسلام. قال: أخبر الله نبيه ﷺ والمؤمنين، أنه قد أكمل لهم الإيمان، فلا يحتاجون إلى زيادة
أبداً، وقد أتمه الله عز ذكره، فلا ينقصه أبداً، وقد رضيه الله، فلا يسخطه أبداً.
وقد قال أصحاب
الآثار: إنه لما نزلت هذه الآية على النبي ﷺ ، لم يعمر بعد نزولها إلا أحد وثمانين يوماً، أو اثنين
وثمانين يوماً، ولم يحصل في الشريعة بعدها زيادة، ولا نسخ، ولا تبديل البتة، وكان ذلك جارياً مجرى
إِخبار النبي ﷺ عن قرب وفاته، وذلك إخبار عن الغيب فيكون معجزاً.
وللفائدة : فإن آخر آية على الإطلاق نزلت من القرآن هي:( وَاتَّقُوا يَوْمًا تُرْجَعُونَ
فِيهِ إِلَى اللهۖ ثُمَّ تُوَفَّىٰ كُلُّ نَفْسٍ مَّا كَسَبَتْ وَهُمْ لَا
يُظْلَمُونَ ) ﴿٢٨١ سورة البقرة )
ومن الشرائع التي تؤخذ من هذه السورة قوله عز وجل : (الْيَوْمَ أُحِلَّ
لَكُمُ الطَّيِّبَاتُ وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ حِلٌّ لَّكُمْ
وَطَعَامُكُمْ حِلُّ لَّهُمْ) (5 المائدة)
فالله سبحانه وتعالى أحل لنا معشر المسلمين
الطيبات من المآكل والمشارب والملابس وغير ذلك، وأحل لنا طعام الذين أتوا الكتاب،
والذين أوتوا الكتاب هم اليهود والنصارى، يقال لهم: أهل كتاب، فطعامهم حل لنا،
والطعام هو الذبائح كما قال ابن عباس وغيره، طعامهم ذبائحهم، فإذا ذبحوا إبلاً أو
بقراً أو غنماً أو غيرها مما أباح الله من الصيود والدجاج ونحو ذلك هو حل لنا،
وطعامنا حل لهم، طعام المسلمين حل لهم أيضاً، وهذا كله إذا لم نعلم أنهم ذبحوه على
غير الشرع، أما إذا علمنا أنهم أهلوه بغير الله فهو حرام علينا؛ لأن الله حرم
علينا ما أهل به لغير الله،
فإذا علمنا أنهم خنقوها
خنقاً لم يذبحوها فهي محرمة علينا، وهكذا إذا علمنا أنهم ذبحوها على طريقة أخرى
غير شرعية فلا تحل لنا، كالوقيذة التي يضربونها بالعمود أو بغيره أو بالصعق
الكهربائي- إذا ماتت منه - هذه لا تحل
لنا، أما إذا كنا لا نعلم فذبيحتهم حل لنا، إذا جاءنا طعامهم من بلادهم أو جلبوه
إلينا فإنا نشتريه ونأكله. ( فتوى للشيخ بن باز في ذبائح أهل الكتاب )
وقد يقال أنه في سورة الأنعام يقول تعالى : ( وَلَا تَأْكُلُوا
مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ الله عَلَيْهِ وَإِنَّهُ لَفِسْقٌ ۗ
وَإِنَّ الشَّيَاطِينَ لَيُوحُونَ إِلَىٰ أَوْلِيَائِهِمْ لِيُجَادِلُوكُمْ ۖ
وَإِنْ أَطَعْتُمُوهُمْ إِنَّكُمْ لَمُشْرِكُونَ ) ﴿١٢١ الأنعام )
فسورة
الأنعام مكية ، والسور المكية لم تختص بالتشريع ، وقد ورد في سبب نزول هذه الآية
ما يلي :
عن ابن عباس قال ابن عبد الأعلى: خاصمت اليهودُ
النبي ﷺ وقال ابن وكيع: جاءت اليهود النبي ﷺ فقالوا: نأكل ما قتلنا, ولا نأكل ما قتل الله ! فأنـزل الله: (وَلَا تَأْكُلُوا
مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ الله
عَلَيْهِ وَإِنَّهُ لَفِسْقٌ ) .
سئل عطاء: ما قوله: ( فَكُلُوا مِمَّا ذُكِرَ اسْمُ اللهِ عَلَيْهِ ) ؟ قال: يأمر بذكر اسمه على الشراب والطعام والذبح . قلت لعطاء: فما قوله: ( وَلَا تَأْكُلُوا مِمَّا
لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللهِ عَلَيْهِ وَإِنَّهُ لَفِسْقٌ) ؟ قال: ينهى عن ذبائح كانت في الجاهلية على الأوثان،
كانت تذبحها العرب وقريش . وفيل ينهى عن الميتة .
وفي رواية في موطأ مالك،وفي والبخاري وغيرهم من حديث عائشة رضي
الله عنها: أن قوما قالوا: يا رسول الله: إن
قوما يأتوننا باللحم ولا ندري أذكر اسم الله عليه أم لا؟ فقال: ( سموا عليه أنتم وكلوا ).
قالت: وكانوا حديثي عهد بكفر، رواه البخاري والنسائي وابن ماجه.
اللهم علمنا ما ينفعنا وانفعنا
بما علمتنا وزدنا علما يا رب العالمين
No comments:
Post a Comment