Thursday, 13 March 2014

تفسير مختصر وربط للآيات وبيان المتاشبهات لتثبيت الحفظ - سورة الفتح -ج 3





سورة الفتح –ج 3 

في هذا الجزء من السورة ذكر لبيعة الرضوان، أو بيعة الشجرة ، وبشرى برضوان الله تعالى عمن شهدها ، وما بعد رضوان الله تعالى إلا النعيم المقيم في جنات النعيم ، اللهم أجعلنا من أهلها.وفي هذا الجزء أفسر آية واحدة وهي آية البيعة ، وأسرد قصة الحديبية والبيعة والمعاهدة بما تيسر بإذن الله تعالى ..
قال تعالى : (لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ فَعَلِمَ مَا فِي قُلُوبِهِمْ فَأَنْزَلَ السَّكِينَةَ عَلَيْهِمْ وَأَثَابَهُمْ فَتْحًا قَرِيبًا )
قوله تعالى (لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ ) هذا في صلح الحديبية خبر تعالى عن رضاه عن المؤمنين، الذين بايعوا رسول الله  تحت الشجرة، وكانت سمرة بأرض الحديبية، وقوله تعالى: ( فعلم ما في قلوبهم) أي من الصدق والوفاء، والسمع والطاعة (فأَنزل السكينة) وهي الطمأنينة ( عليهم وأثابهم فتحاً قريباً) وهو ما أجرى اللّه عزَّ وجلَّ على أيديهم من الصلح بينهم وبين أعدائهم، وما حصل بذلك من الخير العام بفتح خيبر وفتح مكة، ثم فتح سائر البلاد والأقاليم، وما حصل لهم من العز والنصر والرفعة في الدنيا والآخرة، ولهذا قال تعالى: ( ومغانم كثيرة يأخذونها وكان اللّه عزيزاً حكيماً )  يعني أموال خيبر، وكانت خيبر ذات عقار وأموال، وكانت في آخر محرم أوائل صفر السنة السابعة للهجرة ، بين الحديبية وفتح مكة .
قوله تعالى: (  وعدكم اللّه مغانم كثيرة تأخذونها) هي جميع المغانم إلى اليوم (  فعجل لكم هذه) يعني فتح خيبر، ( وكف أيدي الناس عنكم)  أي لم ينلكم سوء مما كان أعداؤكم أضمروه لكم من المحاربة والقتال، وكذلك كف أيدي الناس عنكم الذين خلفتموهم وراء ظهوركم عن عيالكم وحريمكم ( ولتكون آية للمؤمنين)  أي يعتبرون بذلك، فإن الله تعالى حافظهم وناصرهم على سائر الأعداء مع قلة عددهم، وليعلموا بصنيع اللّه هذا بهم أنه العالم بعواقب الأمور، وأن الخيرة فيما يختاره لعباده المؤمنين وإن كرهوه في الظاهر، كما قال عزَّ وجلَّ: ( وعسى أن تكرهوا شيئاً وهو خير لكم) ، ( ويهديكم صراطاً مستقيماً)  أي بسبب انقيادكم لأمره واتباعكم طاعته وموافقتكم رسوله ، وقوله تبارك وتعالى: ( وأخرى لم تقدروا عليها قد أحاط اللّه بها وكان اللّه على كل شيء قديراً)  أي وغنيمة أخرى وفتحاً آخر معيناً لم تكونوا تقدرون عليها، قد يسرها اللّه عليكم وأحاط بها لكم،
وقد اختلف المفسرون في هذه الغنيمة ما المراد بها؟ ويجمله قول مجاهد: هي كل فتح وغنيمة إلى يوم القيامة، وقوله تعالى: ( ولو قاتلكم الذين كفروا لولّوا الأدبار ثم لا يجدون ولياً ولا نصيراً)  يقول عزَّ وجلَّ مبشراً لعباده المؤمنين، بأنه لو ناجزهم المشركون لنصر الله رسوله وعباده المؤمنين عليهم، ولانهزم جيش الكفر فاراً مدبراً ( لا يجدون ولياً ولا نصيراً)  لأنهم محاربون لله ولرسوله ولحزبه المؤمنين، ثم قال تبارك وتعالى: (  سنة الله التي قد خلت من قبل ولن تجد لسنة الله تبديلاً) أي هذه سنة الله وعادته في خلقه ، كما فعل تعالى يوم بدر بأوليائه المؤمنين، نصرهم على أعدائه من المشركين، مع قلة عدد المسلمين وكثرة المشركين، وقوله سبحانه وتعالى: (وهو الذي كف أيديهم عنكم وأيديكم عنهم ببطن مكة من بعد أن أظفركم عليهم وكان الله بما تعملون بصيراً)  هذا امتنان من الله تعالى على عباده المؤمنين، حين كف أيدي المشركين عنهم، فلم يصل إليهم منهم سوء، وكف أيدي المؤمنين عن المشركين فلم يقاتلوهم عند المسجد الحرام، بل صان كلاً من الفريقين وأوجد بينهم صلحاً، فيه خيرة للمؤمنين وعاقبة لهم في الدنيا والآخرة.
 روى الإمام أحمد عن أنس بن مالك رضي اللّه عنه قال: لما كان يوم الحديبية هبط على رسول الله وأصحابه ثمانون رجلاً من أهل مكة بالسلاح، من قبل جبل التنعيم، يريدون غرة رسول الله ، فدعا عليهم، فأخذوا، قال عفان: فعفا عنهم، ونزلت هذه الآية: ( وهو الذي كف أيديهم عنكم وأيديكم عنهم ببطن مكة من بعد أن أظفركم عليهم)  أخرجه أحمد ورواه مسلم وأبو داود والترمذي والنسائي
يقول تعالى مخبراً عن الكفار ومشركي العرب، من قريش ومن مالأهم على نصرتهم على رسول الله : (هم الذين كفروا) أي هم الكفار دون غيرهم ( وصدوكم عن المسجد الحرام ) أي وأنتم أحق به وأنتم أهله في نفس الأمر ( والهدي معكوفاً أن يبلغ محله ) أي وصدوا الهدي أن يصل إلى محله، وهذا من بغيهم وعنادهم، وكان الهدي سبعين بدنة، وقوله عزَّ وجلَّ: (  ولولا رجال مؤمنون ونساء مؤمنات ) أي بين أظهرهم ممن يكتم إيمانه ويخفيه منهم، خيفة على أنفسهم من قومهم، لكنا سلطانكم عليهم فقتلتموهم وأبدتم خضراءهم، ولكن بين أفنائهم من المؤمنين والمؤمنات أقوام لا تعرفونهم حالة القتل، ولهذا قال تعالى: ( لم تعلموهم أن تطأوهم فتصيبكم منهم معرة) أي إثم وغرامة ( بغير علم ليدخل الله في رحمته من يشاء)  أي يؤخر عقوبتهم ليخلص من بين أظهرهم المؤمنين، وليرجع كثير منهم إلى الإسلام، ثم قال تبارك وتعالى:( لو تزيلوا ) أي لو تميز الكفار من المؤمنين الذين بين أظهرهم (  لعذبنا الذين كفروا منهم عذاباً أليماً)  أي لسلطانكم عليهم فقتلتموهم قتلاً ذريعاً. عن جنيد بن سبيع قال: ( قاتلت رسول الله أول النهار كافراً، وقاتلت معه آخر النهار مسلماً، وفينا نزلت: (  ولولا رجال مؤمنون ونساء مؤمنات) ، قال: كنا تسعة نفر سبعة رجال وامرأتين) ""أخرجه الحافظ الطبراني، قال ابن كثير: الصواب عن حبيب بن سباع"".

 وقوله عزَّ وجلَّ: (  إذ جعل الذين كفروا في قلوبهم الحمية حمية الجاهلية)  وذلك حين أبوا أن يكتبوا: بسم اللّه الرحمن الرحيم، وأبوا أن يكتبوا: هذا ما قاضى عليه محمد رسول اللّه (  فأنزل اللّه سكينته على رسوله وعلى المؤمنين وألزمهم كلمة التقوى)  وهي قول: لا إله إلا اللّه، كما قال ابن جرير عن رسول الله يقول: ( وألزمهم كلمة التقوى)  قال: (لا إله إلا اللّه) رواه الترمذي، وقال: حديث غريب""، وقال ابن أبي حاتم عن سعيد بن المسيب إن أبا هريرة رضي اللّه عنه أخبره أن رسول الله قال: (أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا لا إله إلا اللّه فمن قال: لا إله إلا اللّه فقد عصم مني ماله ونفسه إلا بحقه وحسابه على اللّه عزَّ وجلَّ)، وأنزل اللّه عزَّ وجلَّ في كتابه وذكر قوماً فقال: (  إنهم كانوا إذا قيل لهم لا إله إلا اللّه يستكبرون)  وقال مجاهد: كلمة التقوى الاخلاص، وقال عطاء: هي لا إله إلا اللّه وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد وهو على شيء قدير، وقال علي رضي اللّه عنه: لا إله إلا اللّه واللّه أكبر، ( وكانوا أحق بها وأهلها)  كان المسلمون أحق بها وكانوا أهلها ( وكان اللّه بكل شيء عليماً)  أي هو عليم بمن يستحق الخير ممن يستحق الشر 

 وإليك مختصر في بيعة الرضوان، والمعاهدة:

 قال: كانت البيعة سنة ست في ذي القعدة، وهذا هو الصحيح، الذي عليه معظم الرواة.
ومختصر القول فيها :  خرج رسول الله إلى الحديبية في ذي القعدة، من السنة السادسة للهجرة.
وفي الصحيحين عن أنس، أن النبي اعتمر أربع عمر، كلهن في ذي القعدة، فذكر منهن عمرة الحديبية، وكان معه ألف وخمسمائة، هكذا في الصحيحين عن جابر، وعنه فيهما: كانوا ألفا وأربعمائة، وفيهما، وقيل : الف وخمسمائة ، وقيل ألف وثلاثمئة ، والله  أعلم  . وصح عن جابر بن عبد الله؛ أنهم نحروا عام الحديبية سبعين بدنة، البدنة عن سبعة، فقيل له: كم كنتم؟ قال: ألفا وأربعمائة، بخيلنا ورجلنا، يعني: فارسهم وراجلهم. وهو أقرب للصواب، وهو قول كثيرين غيره.
فصل في قصة الصلح:
فلما كانوا بذي الحليفة، قلد رسول الله الهدي وأشعره، وأحرم بالعمرة، وبعث عينا له بين يديه من خزاعة، يخبره عن قريش، حتى إذا كانوا قريبا من عسفان، أتاه عينه، فقال: إني قد تركت كعب بن لؤي، قد جمعوا لك الأحابيش، وجمعوا لك جموعا، وهم مقاتلوك وصادوك عن البيت.
واستشار النبي أصحابه،  فقال أبو بكر: الله ورسوله أعلم، إنما جئنا معتمرين، ولم نجئ لقتال أحد، ولكن من حال بيننا وبين البيت قاتلناه، فقال النبي : "فروحوا إذا" فراحوا، حتى إذا كانوا ببعض الطريق، قال النبي : "إن خالد بن الوليد بالغميم في خيل لقريش، فخذوا ذات اليمين" ، فوالله ما شعر بهم خالد، حتى إذا هو بغبرة الجيش، فانطلق يركض نذيرا لقريش.
وسار النبي ، حتى إذا كان بالثنية التي يهبط عليهم منها، بركت راحلته، فقال الناس: حل حل، فألحت، فقالوا: خلأت القصواء، فقال النبي : "ما خلأت القصواء، وما ذاك لها بخلق، ولكن حبسها حابس الفيل" ثم قال: "والذي نفسي بيده، لا يسألوني خطة يعظمون فيها حرمات الله إلا أعطيتموها" ثم زجرها، فوثبت به، فعدل حتى نزل بأقصى الحديبية، على ثمد قليل الماء، إنما يتبرضه الناس تبرضا، فلم يلبث الناس أن نزحوه، فشكوا إلى رسول الله العطش.
فانتزع سهما من كنانته، ثم أمرهم أن يجعلوها فيه، قال: فوالله ما زال يجيش لهم بالري حتى صدروا عنها، وفزعت قريش لنزوله عليهم، فأحب رسول الله أن يبعث إليهم رجلا من أصحابه، فدعا عمر بن الخطاب ليبعثه إليهم، فقال: يا رسول الله، ليس بمكة أحد من بني كعب يغضب لي، إن أوذيت، فأرسل عثمان بن عفان، فإن عشيرته بها، وإنه مبلغ ما أردت.
فدعا رسول الله عثمان بن عفان، فأرسله إلى قريش، وقال: "أخبرهم أنا لم نأت لقتال، إنما جئنا عمارا، وادعهم إلى الإسلام"
وأمره أن يأتي رجالا بمكة مؤمنين، ونساء مؤمنات، فيدخل عليهم ويبشرهم بالفتح، ويخبرهم أن الله عز وجل مظهر دينه بمكة، حتى لا يستخفى فيها بالإيمان، فانطلق عثمان، فمر على قريش ببلدح، فقالوا: أين تريد؟ فقال: بعثني رسول الله وسلم أدعوكم إلى الله وإلى الإسلام، ونخبركم أنا لم نأت لقتال، وإنما جئنا عمارا، قالوا: قد سمعنا ما تقول، فانفذ لحاجتك.
وقام إليه أبان بن سعيد بن العاص، فرحب به، وأسرج فرسه، فحمل عثمان على الفرس، فأجاره، وأردفه أبان حتى جاء مكة، وقال المسلمون قبل أن يرجع عثمان: خلص عثمان قبلنا إلى البيت وطاف به، فقال رسول : "ما أظنه طاف بالبيت ونحن محصورون" فقالوا: وما يمنعه يا رسول الله وقد خلص؟ قال: "ذاك ظني به، أن لا يطوف بالكعبة حتى نطوف معه" واختلط المسلمون بالمشركين في أمر الصلح، فرمى رجل من أحد الفريقين رجلا من الفريق الآخر، وكانت معركة، وتراموا بالنبل والحجارة، وصاح الفريقان كلاهما، وارتهن كل واحد من الفريقين بمن فيهم، وبلغ رسول الله أن عثمان قد قتل، فدعا إلى البيعة.
فثار المسلمون إلى رسول الله ، وهو تحت الشجرة، فبايعوه على أن لا يفروا، فأخذ رسول الله بيد نفسه، وقال: "هذه عن عثمان" ولما تمت البيعة، رجع عثمان، فقال له المسلمون: اشتفيت يا أبا عبد الله من الطواف بالبيت، فقال: بئسما ظننتم بي، والذي نفسي بيده، لو مكثت بها سنة، ورسول الله ، مقيم بالحديبية، ما طفت بها حتى يطوف بها رسول الله ولقد دعتني قريش إلى الطواف بالبيت فأبيت، فقال المسلمون: رسول الله ، كان أعلمنا بالله، وأحسننا ظنا.
وكان عمر أخذ بيد رسول الله للبيعة تحت الشجرة، فبايعه المسلمون كلهم إلا الجد ابن قيس، وكان معقل بن يسار، أخذ بغصنها يرفعه عن رسول الله ، وكان أول من بايعه، أبو سنان الأسدي، وبايعه سلمة بن الأكوع ثلاث مرات، في أول الناس، وأوسطهم، وآخرهم.
فبينما هم كذلك، إذ جاء بديل بن ورقاء الخزاعي، في نفر من خزاعة، وكانوا عيبة نصح لرسول الله ،من أهل تهامة، فقال: إني تركت كعب بن لؤي، وعامر بن لؤي، نزلوا أعداد مياه الحديبية، معهم العوذ المطافيل، وهم مقاتلوك، وصادوك عن البيت.
قال رسول الله : "إنا لم نجئ لقتال أحد، ولكن جئنا معتمرين، وإن قريشا قد نهكتهم الحرب وأضرت بهم، فإن شاءوا أماددهم ويخلوا بيني وبين الناس، وإن شاءوا أن يدخلوا فيما دخل فيه الناس فعلوا، وإلا فقد جموا، وإن أبوا إلا القتال، فوالذي نفسي بيده، لأقاتلنهم على أمري هذا حتى تنفرد سالفتي، أو لينفذن الله أمره" قال بديل: سأبلغهم ما تقول.
فانطلق حتى أتى قريشا، فقال: إني قد جئتكم من عند هذا الرجل، وسمعته يقول قولا، فإن شئتم عرضته عليكم، فقال سفهاؤهم: لا حاجة لنا أن تحدثنا عنه بشيء، وقال ذوو الرأي: منهم: هات ما سمعته، قال: سمعته يقول كذا وكذا، فقال عروة بن مسعود الثقفي: إن هذا قد عرض عليكم خطة رشد، فاقبلوها، ودعوني آته، فقالوا: ائته، فأتاه، فجعل يكلمه، فقال له النبي نحوا من قوله لبديل، فقال له عروة عند ذلك: أي: محمد، أرأيت لو استأصلت قومك، هل سمعت بأحد من العرب اجتاح أهله قبلك؟ وإن تكن الأخرى، فوالله إني لأرى وجوها، وأرى أوباشا من الناس، خليقا أن يفروا ويدعوك، فقال له أبو بكر: .... أنحن نفر عنه وندعه؟ قال: من ذا؟ قال: أبو بكر، قال: أما والذي نفسي بيده، لولا يد كانت لك عندي لم أجزك بها، لأجبتك.
وجعل يكلم النبي ، وكلما كلمه أخذ بلحيته، والمغيرة بن شعبة على رأس النبي ، ومعه السيف، وعليه المغفر فكلما أهوى عروة إلى لحية النبي ، ضرب يده بنعل السيف، وقال: أخر يدك عن لحية رسول الله فرفع عروة رأسه، وقال: من ذا؟ قال: المغيرة بن شعبة، فقال: أي: غدر، أولست أسعى في غدرتك؟ وكان المغيرة صحب قوما في الجاهلية، فقتلهم وأخذ أموالهم، ثم جاء فأسلم، فقال النبي : "أما الإسلام فأقبل، وأما المال فلست منه في شيء"
ثم إن عروة جعل يرمق أصحاب رسول الله ، فوالله إن تنخم النبي نخامة، إلا وقعت في كف رجل منهم، فدلك بها جلده ووجهه.
وإذا أمرهم ابتدروا إلى أمره، وإذا توضأ، كادوا يقتتلون على وضوئه، وإذا تكلم، خفضوا أصواتهم عنده، وما يحدون إليه النظر، تعظيما له.
فرجع عروة إلى أصحابه، فقال: أي قوم، والله لقد وفدت على الملوك، على كسرى، وقيصر، والنجاشي، والله ما رأيت ملكا يعظمه أصحابه، ما يعظم أصحاب محمد محمدا، والله ما تنخم نخامة إلا وقعت في كف رجل منهم، فدلك بها وجهه وجلده، وإذا أمرهم ابتدروا أمره، وإذا توضأ كادوا يقتتلون على وضوئه، وإذا تكلم، خفضوا أصواتهم عنده، وما يحدون إليه النظر تعظيما له، وقد عرض عليكم خطة رشد فاقبلوها.
فقال رجل من بني كنانة: دعوني آته، فقالوا: ائته.
فلما أشرف على النبي ، قال رسول الله : "هذا فلان، وهو من قوم يعظمون البدن فابعثوها له" فبعثوها فاستقبله القوم يلبون، فلما رأى ذلك، قال: سبحان الله، لا ينبغي لهؤلاء أن يصدوا عن البيت.
فرجع إلى أصحابه، فقال: رأيت البدن قد قلدت وأشعرت، وما أرى أن يصدوا عن البيت .
ثم جاء سهيل بن عمرو، فقال النبي : "قد سهل لكم من أمركم" فقال: هات، اكتب بيننا وبينك كتابا، فدعا الكاتب، فقال : "اكتب: بسم الله الرحمن الرحيم" فقال سهيل: أما الرحمن، فوالله ما ندري ما هو، ولكن اكتب: "باسمك اللهم" كما كنت تكتب، فقال المسلمون: والله لا نكتبها إلا بسم الله الرحمن الرحيم.
فقال النبي : "اكتب باسمك اللهم"
ثم قال: "اكتب: هذا ما قاضى عليه محمد رسول الله " فقال سهيل: فوالله لو نعلم أنك رسول الله، ما صددناك عن البيت ولا قاتلناك، ولكن اكتب: محمد بن عبد الله، فقال النبي : "إني رسول الله وإن كذبتموني، اكتب: محمد بن عبد الله " فقال النبي : "على أن تخلوا بيننا وبين البيت فنطوف به" فقال سهيل: والله لا تتحدث العرب أنا أخذنا ضغطة، ولكن لك من العام المقبل، فكتب.
فقال سهيل: على أن لا يأتيك منا رجل، وإن كان على دينك، إلا رددته علينا.
فقال المسلمون: سبحان الله، كيف يرد إلى المشركين وقد جاء مسلما؟
فبينما هم كذلك إذ جاء أبو جندل بن سهيل يرسف في قيوده، قد خرج من أسفل مكة، حتى رمى بنفسه بين أظهر المسلمين، فقال سهيل: هذا يا محمد أول ما قاضيتك عليه، أن ترده، فقال النبي : "إنّا لم نقض الكتاب بعد" فقال: فوالله إذا لا أصالحك على شيء أبدا، فقال النبي : "فأجزه لي" فقال: ما أنا بمجيزه، فقال: "بلى فافعل" قال: ما أنا بفاعل.
فقال أبو جندل: يا معشر المسلمين، أرد إلى المشركين وقد جئت مسلما، ألا ترون ما لقيت؟ وكان قد عذب في الله عذابا شديدا.
قال عمر بن الخطاب: والله ما شككت منذ أسلمت إلا يومئذ، فأتيت النبي ، فقلت: يا رسول الله ألست نبي الله؟ قال: "بلى" قلت: ألسنا على الحق، وعدونا على الباطل؟ قال: "بلى" فقلت: علام نعطي الدنية في ديننا ونرجع ولما يحكم الله بيننا وبين أعدائنا؟ فقال: "إني رسول الله، وهو ناصري، ولست أعصيه" قلت: أولست كنت تحدثنا أنا سنأتي البيت ونطوف به؟ قال: "بلى، أفأخبرتك أنك تأتيه العام؟" قلت: لا، قال: "فإنك آتيه ومطوف به"
قال: فأتيت أبا بكر، فقلت له كما قلت لرسول الله ، ورد عليه أبو بكر كما رد عليه رسول الله سواء، وزاد: فاستمسك بغرزه حتى تموت، فوالله إنه لعلى الحق، قال عمر: فعملت لذلك أعمالا – يعني ليكفر عن خطئه وسوء ظنّه.-
فلما فرغ من قضية الكتاب، قال رسول الله : "قوموا وانحروا، ثم احلقوا" فوالله ما قام منهم رجل حتى قال ثلاث مرات، فلما لم يقم منهم أحد، قام فدخل على أم سلمة، فذكر لها ما لقي من الناس، فقالت: ( يا رسول الله أتحب ذلك؟ اخرج، ثم لا تكلم أحدا كلمة حتى تنحر بدنك، وتدعو حالقك فيحلق لك)  فقام فخرج، فلم يكلم أحدا منهم حتى فعل ذلك، نحر بدنه، ودعا حالقه فحلقه، فلما رأى الناس ذلك، قاموا فنحروا، وجعل بعضهم يحلق بعضا، حتى كاد بعضهم يقتل بعضا غما.
 ثم جاءت نسوة مؤمنات منهن أم كلثوم بنت عقبة بن أبي معيط ، فأنزل الله عز وجل نقض بند إعادة مسلمي قريش إلى أهلهم في النساء، وقضي باختبار إيمانهن، فإن كنّ خرجن إلى المدينة مؤمنات لا يعدن إلى مكة ، فقال تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا جَاءَكُمُ الْمُؤْمِنَاتُ مُهَاجِرَ‌اتٍ فَامْتَحِنُوهُنَّ ۖ اللَّـهُ أَعْلَمُ بِإِيمَانِهِنَّ ۖ فَإِنْ عَلِمْتُمُوهُنَّ مُؤْمِنَاتٍ فَلَا تَرْ‌جِعُوهُنَّ إِلَى الْكُفَّارِ‌ ۖ لَا هُنَّ حِلٌّ لَّهُمْ وَلَا هُمْ يَحِلُّونَ لَهُنَّ ۖ وَآتُوهُم مَّا أَنفَقُوا ۚ وَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ أَن تَنكِحُوهُنَّ إِذَا آتَيْتُمُوهُنَّ أُجُورَ‌هُنَّ ۚ وَلَا تُمْسِكُوا بِعِصَمِ الْكَوَافِرِ‌) الممتحنة 10،  حتى بلغ ( بِعِصَمِ الْكَوَافِرِ ) فطلق عمر يومئذ امرأتين كانتا له في الشرك، فتزوج إحداهما معاوية، والأخرى صفوان بن أمية، ثم رجع إلى المدينة.
وفي مرجعه أنزل الله عليه: ( إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحًا مُبِينًا ) إلى آخرها، فقال عمر: أفتح هو يا رسول الله؟ فقال: "نعم" فقال الصحابة: هنيئا لك يا رسول الله، فما لنا؟
فأنزل الله عز وجل: ( هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ السَّكِينَةَ فِي قُلُوبِ الْمُؤْمِنِينَ ) 

 من تفسير ( تيسير الكريم الرحمن في تفسير كلام المنان) للشيخ السعدي رحمه الله، عن الإمام شمس الدين ابن القيم في ( الهدي النبوي) بتصرف

No comments:

Post a Comment