تدبر آية من القرآن العظيم – الحزب الحادي عشر
– ج 1 – الجهر بالسوء
تعالوا معي أخوتي وأخواتي ندخل في رحاب
هذه الآية ، ونقرأ ما قاله علماء الأمة والسلف الصالح فيها ، ثم نعرض حالنا وما تخوض
به ألسنتنا ، نعرضه على هذه المعاني فنرى ما يجوز منها ، وما هو اعتداء أو افتراء.
قال تعالى : (لَّا يُحِبُّ الله الْجَهْرَ بِالسُّوءِ مِنَ
الْقَوْلِ إِلَّا مَن ظُلِمَ ۚ وَكَانَ الله سَمِيعًا عَلِيمًا * إِن تُبْدُوا خَيْرًا أَوْ تُخْفُوهُ أَوْ تَعْفُوا
عَن سُوءٍ فَإِنَّ الله كَانَ عَفُوًّا قَدِيرًا )(
النساء 148-149)
يقول الله عز وجل أنه لا يحب أن يجهر
المرء بالسوء من القول، ثم أستثنى وقال إلا من ظُلم فلا يكره له أن يجهر به ، ولكن
ما كيفية الجهر بالسوء المباحة ، وفي أي الأحوال ؟
قال ابن عباس في الآية يقول: لا يحب الله
أن يدعو أحد على أحد إلا أن يكون مظلوماً، فإنه قد أرخص له يدعو على من ظلمه، وذلك
قوله: ( إِلَّا
مَن ظُلِمَ ) ، وإن صبر فهو خير له، وقال الحسن البصري: لا
يدعُ عليه ولكن ليقل: اللهم أعنّي
عليه واستخرج حقي منه، وفي
رواية عنه قال: قد أرخص له أن يدعو على من ظلمه من غير أن يعتدي عليه، ، وقال أبو
داود عن أبي هريرة أن رسول الله ﷺ قال: (المستبان ما قالا فعلى البادىء منهما ما لم
يعتد المظلوم )الترمذي ؛ حسن صحيح .
وعن مجاهد: في تفسير الآية قال:
هو الرجل ينزل بالرجل فلا يحسن ضيافته فيخرج فيقول: أساء ضيافتي ولم يحسن. وقد روى الجماعة سوى النسائي والترمذي عن عقبة بن عامر قال،
قلنا: يا رسول الله إنك تبعثنا فننزل بقوم فلا يقرونا، فما ترى في ذلك؟ فقال: (إذا نزلت بقوم فأمروا لكم بما ينبغي للضيف فاقبلوا منهم، وإن لم
يفعلوا فخذوا منهم حق الضيف الذي ينبغي لهم) البخاري.
وعن النبي ﷺ أنه قال: (أيما
مسلم ضاف قوماً فاصبح الضيف محروماً فإن حقاً على كل مسلم نصره حتى يأخذ بقرى
ليلته من زرعه وماله) تفرد به أحمد.
ومن
هذه الأحاديث وأمثالها ذهب أحمد وغيره إلى وجوب الضيافة، ومن هذا القبيل الحديث الذي
رواه الحافظ أبو بكر البزار عن أبي هريرة، أن رجلاً أتى النبي صلى اللّه عليه وسلم
فقال: إن لي جاراً يؤذيني، فقال له: (أخرج متاعك فضعه على الطريق)، فأخذ الرجل
متاعه فطرحه على الطريق، فكل من مر به قال: مالك؟ قال جاري يؤذيني، فيقول: اللهم
العنه، اللهم أخزه قال، فقال الرجل ارجع إلى منزلك واللّه لا أوذيك أبداً.
ويجوز لمن
ظلم أن ينتصر ممن ظلمه بمثل ظلمه لا يزيد ابدا حتى لا يكون متعديا (سنأتي لذلك )
ويجهر له بالسوء ، وهذه أيضا مرتبة أعلى من السابقة.
أما عن
الحالات التي يجوز فيها الجهر بالسوء لمن ظُلم على من ظلمه فهي:
في الضيافة :ـ انظر ما أشد حقها ،ـفقد قيل أن
الآية نزلت في هذه الحالة على الأخص : أي نزلت في الظلم في الضيافة ، فيكون معناها
: أن من نزل في مكان مقطوع ( بفلاة ) على رجل فلم يضيفه ، فرخص له أن يقول فيه ما
يصف حاله معه ولا يزيد .
ومن هذه
الآية استدل العلماء وجوب الضيافة !!، فإذا مر الرجل بالرجل فلم يضيفه فله أن
يقول فيه : إنه لم يحسن ضيافتي
ولنذكر هنا - والشيء بالشيء يذكر – في
سورة الكهف كيف أن موسى والخضر مرا على قرية فاستضافوا أهلها فلم يضيفوهما، وفكيف أن
هذا الأمر جعل موسى ينسى - من شدة غضبه على أهل القرية – ينسى أنه وعد الخضر بأن
لا يبدأه بالسؤال ، ولا يعصي له أمرا .
وفي الحث على
استضافة الضيف روى مسلم عن أبي شريح العدوي أنه قال سمعت أذناي وأبصرت عيناي حين تكلم رسول
الله ﷺ فقال:( من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليكرم ضيفه جائزته قالوا وما
جائزته يا رسول الله قال يومه وليلته والضيافة ثلاثة أيام فما كان وراء ذلك فهو
صدقة عليه )
معناه الاهتمام به في اليوم والليلة
وإتحافه بما يمكن من بر وإلطاف ، وأما في اليوم الثاني والثالث فيطعمه ما تيسر ،
ولا يزيد على عادته ، وأما ما كان بعد الثلاثة فهو صدقة ومعروف إن شاء فعل ، وإن
شاء ترك
هذه الأحاديث متظاهرة على الأمر بالضيافة والاهتمام بها وعظيم موقعها ، وقد أجمع المسلمون على الضيافة ، وأنها من متأكدات الإسلام ، ثم قال الجمهور : هي سنة ليست بواجبة ، وقال الإمام أحمد :: هي واجبة يوما وليلة على أهل البادية وأهل القرى دون أهل المدن ، وتأول الجمهور هذه الأحاديث وأشباهها على الاستحباب ومكارم الأخلاق.
والآية وإن
كانت نزلت في الضيافة ، فالعبرة في آيات القرآن بعموم اللفظ ، لا بخصوص السبب ، أي أن المعنى يطبق على
عمومه ، وليس فقط على مخصوص ما أنزل فيه .
ما القدر المباح فيه من السوء الذي يحق
للمظلوم أن يجهر به ؟
1- على المظلوم أن ينتبه إلا يصبح ظالما
متعديا ، بعد ان كان مظلوما ، وذلك بأن لا يزيد على قدر الظلم الذي لحق به ، فلا يتكلم عمن لم يضيفه ، في عرضه ،
وعلمه وتقاه ، فليحاذر أن تدور الدائرة عليه فيصبح ظالما ليس مظلوماً.
2- وأيضا لا يحل لمن قُذف في عرضه ، أن
يقابل القذف بالقذف ونحوه ، وهذا وإن كان في ظاهره لم يتعد ، بل قابل الإساءة
بمثلها ، فليس هذا هو المقصود ، فإنه قد قابل بهتان ببهتان ، بل عليه فقط أن يبين
كذب من افترى عليه ، وهذا قدر دقيق على المرء المسلم أن ينتبه إليه فلا يتعدى
وقال عبد الكريم الجزري في هذه الآية:
هو الرجل يشتمك فتشتمه، ولكن إن افترى
عليك فلا تفتر عليه لقوله تعالى: ( ولمن انتصر بعد ظلمه فأولئك ما عليهم من سبيل) الشورى 41
3- واباحوا لمن ظُلم ممن شخص مجاهر بالظلم
أن يدعو عليه جهرا ، فالمجاهر لا عرض له محترم ، فهو بنفسه هتك عرض نفسه بالمجاهرة
بالظلم – وأيضا في حدود ما جاهر به من الظلم ـ
روي عن عائشة
أنها قد سرق لها شيء ، فجعلت تدعو على السارق ، فقال رسول الله ﷺ: ( لا تُسبِّخي عنه : أي لا تخففي عنه
العقوبة بدعائك عليه ) وفي هذا دليل على أن الدعاء على الظالم يخفف عنه العقوبة
يوم القيامة، والله أعلم.
حالات من
السنة أجاز فيها الجهر بالسوء، وكشف الظالم :
روى ابن
مبارك عن رسول الله ﷺ قال : ( ليّ الواجد ظلم يحل عرضه وعقوبته ) أي مماطلة المستدين بأداء الدين وهو يجد
ما يؤدي به دينه ، ظلم ، وبهذا الظلم يحل عرضه أي يُغلظ عليه في القول وتبيين حاله
من عدم أداء دينه ، ويحل أيضا عقوبته بالحبس .
وفي صحيح
مسلم قول النبي ﷺ: ( مطل الغني ظلم ) فالموسر المتمكن إذا طُولب بالأداء وماطل
، يكون ظالم ، فيبيح هذا عرضه بأن يقال عنه : فلان يماطل الناس ويحبس حقوقهم حتى
يرتدع عن ذلك .
ويختم الله
تعالى هذه الآية باسميه سبحانه السميع العليم ، وفي هذا تحذير للظالم حتى لا يظلم
، وللمظلوم حتى لا يتعدى الجد في الإنتصار.
وقوله: ( إن تبدوا خيراً أو تخفوه أو تعفوا عن سوء فإن الله كان عفواً
قديراً) ، أي إن أظهرتم أيها الناس خيراً أو أخفيتموه أو عفوتم عمن أساء
إليكم، فإن ذلك مما يقربكم عند الله ويجزل ثوابكم لديه، فإن من صفاته تعالى أن يعفو
عن عباده مع قدرته على عقابهم، ولهذا قال: ( فإن الله كان عفواً
قديرا )، فيها ندب إلى العفو ، وترغيب فيه ، والعفو
من صفة الله تعالى مع قدرته جل وعلا على الإنتقام ، ومعنى الآية : أنك إن عفوت
فيعفو الله عنك
وفي الحديث الصحيح: (ما نقص مال من صدقة، ولا زاد الله عبداً بعفوا إلا عزاً، ومن تواضع
لله رفعه) "الحديث رواه مسلم
ومالك والترمذي
.
وإن صبر فهو خير
له، وقد ورد في الحديث: ( إذا جثت الأمم بين يدي رب العالمين يوم القيامة نُوديّ
ليقم من أجره على الله، فلا يقوم إلا من عفا في الدنيا ) وهذا الحديث يصدق قول الله تعالى : ( فمن عفا وأصلح فأجره على الله ) (الشورى 40 )ـ
اللهم عافنا واعف عنا ، ووسع قلوبنا
وصدورنا لنسع من الناس ما نحب أن يسعوه منا ، واجعلنا ممن احتسب أجره على الله
فعفا وأصلح القول والفعل
No comments:
Post a Comment