Tuesday 27 May 2014

تفسير مختصر، وربط للآيات وبيان المتشابهات لتثبيت الحفظ– سورة الشورى ج 2




 سورة الشورى ج 2

قوله تعالى : (وَالَّذِينَ يُحَاجُّونَ فِي الله مِن بَعْدِ مَا اسْتُجِيبَ لَهُ حُجَّتُهُمْ دَاحِضَةٌ عِندَ رَ‌بِّهِمْ وَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ وَلَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ ( 16 ) الله الَّذِي أَنزَلَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ وَالْمِيزَانَ ۗ وَمَا يُدْرِ‌يكَ لَعَلَّ السَّاعَةَ قَرِ‌يبٌ ( 17 ) يَسْتَعْجِلُ بِهَا الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِهَا ۖ وَالَّذِينَ آمَنُوا مُشْفِقُونَ مِنْهَا وَيَعْلَمُونَ أَنَّهَا الْحَقُّ ۗ أَلَا إِنَّ الَّذِينَ يُمَارُ‌ونَ فِي السَّاعَةِ لَفِي ضَلَالٍ بَعِيدٍ( 18 )

التفسير :
يقول تعالى متوعداً الذين يصدون عن سبيل الله من آمن به (وَالَّذِينَ يُحَاجُّونَ فِي الله مِن بَعْدِ مَا اسْتُجِيبَ لَهُ)  أي يجادلون المؤمنين المستجيبين للّه ولرسوله، ووالضمير وهو الهاء في ( لَهُ ) يجوز أن يكون لله عز وجل؛ أي من بعد ما وحدوا الله وشهدوا له بالوحدانية. ويجوز أن يكون للنبي ؛ أي من بعد ما استجيب محمد في دعوته من أهل بدر ونصر الله المؤمنين، فهم يحاجون المؤمنين ليصدوهم عما سلكوه من طريق الهدى(  حُجَّتُهُمْ دَاحِضَةٌ عِندَ رَ‌بِّهِمْ)  أي باطلة عند الله
وفي اللغة :
دَاحِضَةٌ  من دحضت حجته دحوضا أي : بَطَلَت. والإدحاض : الإزلاق. ويقال : مكان دَحْضَ أو دَحَضَ :  أي زلق. ودحضت رجله : اي زلقت. ودحضت الشمس عن كبد السماء زالت وقت الظهيرة ، وهو وقت الزوال  ( تفسير القرطبي)


( وَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ وَلَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ) والغضب هو الطرد من رحمة الله ، والعذاب الشديد : أي يوم القيامة، قال ابن عباس ومجاهد: جادلوا المؤمنين بعد ما استجابوا الله ولرسوله، ليصدونهم عن الهدى، وهؤلاء هم اليهود والنصارى قالوا لهم: ديننا خير من دينكم، ونبينا قبل نبيكم، ونحن خير منكم وأولى باللّه منكم، وقد كذبوا في ذلك. ثم قال تعالى: (الله الَّذِي أَنزَلَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ وَالْمِيزَانَ)  يعني الكتب المنزلة من عنده على أنبيائه هي حق من عنده ، وهو العدل والإنصاف، وهذه كقوله تعالى: ( وأنزلنا معهم الكتاب والميزان ليقوم الناس بالقسط)  ،. وقوله تعالى: (  وَمَا يُدْرِ‌يكَ لَعَلَّ السَّاعَةَ قَرِ‌يبٌ)  فيه ترهيب منها، وتزهيد في الدنيا، وقوله عزَّ وجلَّ: (يَسْتَعْجِلُ بِهَا الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِهَا ۖ وَالَّذِينَ آمَنُوا مُشْفِقُونَ مِنْهَا وَيَعْلَمُونَ أَنَّهَا الْحَقُّ )  اي إن اللذين لا يؤمنون بها يتساءلون عن موعدها تكذيبا واستبعادا وعنادا ،يقولون متى هذا الوعد؟ أما المؤمنون بها ، فهم مشفقون وجلون من إيمانهم إنها حق وأنها قريبة الوقوع ، فهم مستعدون لها عاملون من أجلها، وقد روي أن رجلاً سأل رسول الله بصوت جهوري، وهو في بعض أسفاره، فناداه، فقال يا محمد، فقال له رسول الله ، نحواً من صوته: (هاؤم)، فقال له: متى الساعة؟ فقال رسول الله : (ويحك إنها كائنة فما أعددت لها؟) فقال: حب الله ورسوله، فقال : (أنت مع من أحببت) ""أخرجه أصحاب السنن والمسانيد وله طرق تبلغ درجة ، والغرض أنه لم يجبه عن وقت الساعة بل أمره بالاستعداد لها، وقوله تعالى: ( أَلَا إِنَّ الَّذِينَ يُمَارُ‌ونَ فِي السَّاعَةِ لَفِي ضَلَالٍ بَعِيدٍ) أي يجادلون في وجودها، ويدفعون وقوعها في جهل بيّن، لأن الذي خلق السماوات والأرض، قادر على إحياء الموتى بطريق الأولى والأحرى، كما قال تعالى: (وَهُوَ الَّذِي يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ ۚ) الروم 27.

وقوله تعالى : (اللهُ لَطِيفٌ بِعِبَادِهِ يَرْ‌زُقُ مَن يَشَاءُ ۖ وَهُوَ الْقَوِيُّ الْعَزِيزُ (19) مَن كَانَ يُرِ‌يدُ حَرْ‌ثَ الْآخِرَ‌ةِ نَزِدْ لَهُ فِي حَرْ‌ثِهِ ۖ وَمَن كَانَ يُرِ‌يدُ حَرْ‌ثَ الدُّنْيَا نُؤْتِهِ مِنْهَا وَمَا لَهُ فِي الْآخِرَ‌ةِ مِن نَّصِيبٍ ( 20 )  أَمْ لَهُمْ شُرَ‌كَاءُ شَرَ‌عُوا لَهُم مِّنَ الدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَن بِهِ الله ۚ وَلَوْلَا كَلِمَةُ الْفَصْلِ لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ ۗ وَإِنَّ الظَّالِمِينَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (21) تَرَ‌ى الظَّالِمِينَ مُشْفِقِينَ مِمَّا كَسَبُوا وَهُوَ وَاقِعٌ بِهِمْ ۗ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فِي رَ‌وْضَاتِ الْجَنَّاتِ ۖ لَهُم مَّا يَشَاءُونَ عِندَ رَ‌بِّهِمْ ۚ ذَٰلِكَ هُوَ الْفَضْلُ الْكَبِيرُ‌ (22)
بعد أن ذكر خوف المؤمنين وخشيتهم من الساعة، يطمئنهم ويخبرهم عن لطفه بخلقه في رزقه إياهم سواء منهم البر والفاجر، ومن لطفه أنه سبحانه رزقهم الطيبات ، وقال الكتاني : اللطيف بمن لجأ إليه من عباده إذا يئس من الخلق توكل ورجع إليه، فحينئذ يقبله ربه ويقبل عليه. كقوله عزَّ وجلَّ: (وَمَا مِن دَابَّةٍ فِي الْأَرْ‌ضِ إِلَّا عَلَى اللَّـهِ رِ‌زْقُهَا) هود 6 ، ومن لطفه بهم طيف بهم في القرآن وتفصيله وتفسيره، فهو سبحانه يرزق من يشاء ، وأو يوسع على من يشاء رزق الدنيا ، والعلم به سبحانه،  ( وهو القوي العزيز) قوي لا يعجزه شيء ، عزيز لا منيع الجناب، ومعاني الرزق كثيرة ذكر المفسرون بعضها ، وبالجملة منها رزق للدنيا ، ورزق أكمل وأتم للآخرة ، لذلك قال بعدها سبحانه : (مَن كَانَ يُرِ‌يدُ حَرْ‌ثَ الْآخِرَ‌ةِ نَزِدْ لَهُ فِي حَرْ‌ثِهِ ) أي عمل من عمل الآخرة  نزد له في عمله فنقويه ونعينه عليه، ونضاعفه له فيه، ونجزيه بالحسنة عشر أمثالها، إلى سبعمائة ضعف، إلى ما يشاء الله ،( وَمَن كَانَ يُرِ‌يدُ حَرْ‌ثَ الدُّنْيَا نُؤْتِهِ مِنْهَا وَمَا لَهُ فِي الْآخِرَ‌ةِ مِن نَّصِيبٍ )  أي ومن كان سعيه ليحصل له شيء من الدنيا، وليس له إلى الآخرة هم بالكلية، حرمه الله الآخرة وفاز بالصفقة الخاسرة في الدنيا والآخرة، وفي الحديث: (بشر هذه الأمة بالسناء والرفعة والنصر، والتمكين في الأرض، فمن عمل منهم عمل الآخرة للدنيا لم يكن له في الآخرة من نصيب) ""رواه الثوري عن أبي العالية عن أبي كعب مرفوعاً للنبي ، قال الألباني : إسناده صحيح على شرط البخاري"، وقوله جلَّ وعلا: (أَمْ لَهُمْ شُرَ‌كَاءُ شَرَ‌عُوا لَهُم مِّنَ الدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَن بِهِ الله )  أي هم لا يتبعون ما شرع الله لك من الدين القويم، بل يتبعون ما شرع لهم شياطينهم من الجن والإنس، من تحريم ما حرموا عليهم من البحيرة والسائبة والوصيلة والحام، وتحليل أكل الميتة والدم والقمار، إلى نحو ذلك من الضلالات والجهالات الباطلة، وقد ثبت في الصحيح أن رسول الله قال: ( رأيت عمرو بن لحي بن قمعة بن خندف أبو خزاعة أبا بني كعب هؤلاء . يجر قصبه في النار)  أخرجه البخاري ،وذلك لأنه أول من سيّب السوائب، وكان هذا الرجل أحد ملوك خزاعة، وكان أول من غير دين إسماعيل عليه السلام وجاء بالأوثان لقريش من بلاد الشام،  وسيب السائبة وبحر البحيرة ووصل الوصيلة وحمى الحام
قال ابن تيمية : هذا كما كانت العرب عليه قبل ان يبتدع عمرو بن لحي الشرك وعبادة الاوثان فانهم كانوا حنفاء يعبدون الله وحده ويعظمون ابراهيم واسماعيل ولم يكن لهم كتاب يقرؤنه ويتبعون شريعته وكان موسى قد بعث الى بني اسرائيل بشريعة التوراة وحج البيت العتيق ولم يبعث الى العرب لا عدنان ولد اسماعيل ولا قحطان. ،لعنه الله وقبحه، ولهذا قال تعالى: ( وَلَوْلَا كَلِمَةُ الْفَصْلِ لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ ۗ وَإِنَّ الظَّالِمِينَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ)  أي لولا أن الله أنظر عباده إلى يوم مقدر وقته عنده ، لعجل لهم العذاب في الدنيا، لكن موعدهم يوم القيامة ، فللظالمين عذاب شديد موجع دائم في جهنم وبئس المصير، ثم قال تعالى: (  تَرَ‌ى الظَّالِمِينَ مُشْفِقِينَ مِمَّا كَسَبُوا وَهُوَ وَاقِعٌ بِهِمْ ۗ) أي تراهم في عرصات القيامة خائفين من نتيجه أعمالهم، وهو واقع بهم الذي يخافون منه لا محالة، (وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فِي رَ‌وْضَاتِ الْجَنَّاتِ ۖ لَهُم مَّا يَشَاءُونَ عِندَ رَ‌بِّهِمْ ۚ ذَٰلِكَ هُوَ الْفَضْلُ الْكَبِيرُ‌) فأين هذا من هذا؟ أين من هو في الذل والهوان، ممن هو في روضات الجنان، فيما يشاء من مآكل ومشارب وملاذ، مما لا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر؟ ولهذا قال تعالى فذلك هو الفضل الكبير وهو الفوز العظيم والنعمة التامة، الشاملة العامة.

ذَٰلِكَ الَّذِي يُبَشِّرُ‌ اللهُ عِبَادَهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ ۗ قُل لَّا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرً‌ا إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْ‌بَىٰ ۗ وَمَن يَقْتَرِ‌فْ حَسَنَةً نَّزِدْ لَهُ فِيهَا حُسْنًا ۚ إِنَّ اللهَ غَفُورٌ‌ شَكُورٌ‌ (23) أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَ‌ىٰ عَلَى الله كَذِبًا ۖ فَإِن يَشَإِ اللهُ يَخْتِمْ عَلَىٰ قَلْبِكَ ۗ وَيَمْحُ اللهُ الْبَاطِلَ وَيُحِقُّ الْحَقَّ بِكَلِمَاتِهِ ۚ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ‌ (24) وَهُوَ الَّذِي يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبَادِهِ وَيَعْفُو عَنِ السَّيِّئَاتِ وَيَعْلَمُ مَا تَفْعَلُونَ (25) وَيَسْتَجِيبُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَيَزِيدُهُم مِّن فَضْلِهِ ۚ وَالْكَافِرُ‌ونَ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ (26)
يقول تعالى لما ذكر روضات الجنات، لعباده الذين آمنوا وعملوا الصالحات (ذَٰلِكَ الَّذِي يُبَشِّرُ‌ اللهُ عِبَادَهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ ) أي هذا حاصل لهم كائن لا محالة، ببشارة اللّه تعالى لهم به، وقوله عزَّ وجلَّ: ( قُل لَّا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرً‌ا إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْ‌بَىٰ)  أي قل يا محمد لهؤلاء المشركين من كفار قريش، لا أسألكم على هذا البلاغ والنصح مالاً، وإنما أن تذروني أبلغ رسالات ربي، فلا تؤذوني بما بيني وبينكم من القرابة، قال بان عباس:  لم يكن بطن من قريش إلا كان له فيهم قرابة، فقال: ( إلا أن تصلوا ما بيني وبينكم من القرابة) ""أخرجه البخاري، فالمقصود بالقرابة هنا : هم اهل قريش فهم أقاربه .
 وقول ثاني في القرابة:  وهو ما حكاه البخاري عن سعيد بن جبير أنه قال: معنى ذلك أن تودوني في قرابتي، أي تحسنوا إليهم وتبروهم، وعلى هذا القول فإن المراد بالقربى قرابة النبي .
 والحق والأبين تفسير هذه الآية بما فسرها به حبر الأمة وترجمان القرآن، عبد اللّه بن عباس رضي اللّه عنهما، كما رواه عنه البخاري، ولا ننكر الوصية بأهل البيت، والأمر بالإحسان إليهم واحترامهم وإكرامهم، فإنهم من ذرية طاهرة، من أشرف بيت وجد على وجه الأرض، فخراً وحسباً ونسباً. وقد ثبت في الصحيح أن رسول الله قال في خطبته بغدير خم: (إني تارك فيكم الثقلين كتاب اللّه وعترتي، وإنهما لم يفترقا حتى يردا عليَّ الحوض)، وفي الصحيح أن الصديق رضي الله عنه قال لعلي رضي الله عنه: والله لقرابة رسول الله أحب إلي أن أصل من قرابتي، وقال عمر بن الخطاب للعباس رضي الله عنهما: والله لإسلامك يوم أسلمت كان أحب إلي من إسلام الخطاب لو أسلم، لأن إسلامك كان أحب إلى رسول الله   من إسلام الخطّاب. وروى الترمذي، عن زيد بن أبي أرقم رضي الله عنه قال، قال رسول الله : (إني تارك فيكم ما إن تمسكتم به لن تضلوا بعدي، أحدهما أعظم من الآخر: كتاب الله حبل ممدود من السماء إلى الأرض، والآخر عترتي أهل بيتي ولن يفترقا حتى يردا عليَّ الحوض فانظروا كيف تخلفوني فيهما) "أخرجه الترمذي وقال: حسن غريب".
متشابه :
هذه الآية الوحيدة فيها : ( قُل لَّا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرً‌ا إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْ‌بَىٰ) الشورى
وفي غيرها : أُولَـٰئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهْ قُل لَّا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرً‌ا إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرَ‌ىٰ لِلْعَالَمِينَ ﴿الأنعام: ٩٠﴾
2. (قُلْ مَا سَأَلْتُكُم مِّنْ أَجْرٍ‌ فَهُوَ لَكُمْ إِنْ أَجْرِ‌يَ إِلَّا عَلَى الله وَهُوَ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ ﴿سبإ: ٤٧﴾
3. (قُلْ مَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ‌ إِلَّا مَن شَاءَ أَن يَتَّخِذَ إِلَىٰ رَ‌بِّهِ سَبِيلًا ﴿ ٥٧ الفرقان﴾

وقوله عزَّ وجلَّ: (وَمَن يَقْتَرِ‌فْ حَسَنَةً نَّزِدْ لَهُ فِيهَا حُسْنًا ۚ إِنَّ اللهَ غَفُورٌ‌ شَكُورٌ‌ )  أي ومن يعمل حسنة يزيدالله له أجراً وثواباً مضاعفاً، وختمت الآية باسم الله تعالى (غَفُورٌ‌ ) لمناسبة ذكر الله الأعمال وخصوصا الصالحة ، فقال إنه يغفر الكثير من السيئات، ويكثر القليل من الحسنات ( وهذا من معاني ( شَكُورٌ‌ ) يزيد وينمي ، فهو سبحانه يستر ويغفر، ويضاعف فيشكر.)
متشابه :
في القرآن عموما يجمع الله تعالى بين أسميه غفور رحيم ، في هذه الآية قال تعالى ( إِنَّ اللهَ غَفُورٌ‌ شَكُورٌ‌ )  
وقد ورد هذان الإسمان معا في ثلاث مواضع في القرآن هي
هنا في الشورى قوله : (وَمَن يَقْتَرِ‌فْ حَسَنَةً نَّزِدْ لَهُ فِيهَا حُسْنًا ۚ إِنَّ اللهَ غَفُورٌ‌ شَكُورٌ‌ )  
وفي سورة فاطر بموضعين : 1- لِيُوَفِّيَهُمْ أُجُورَ‌هُمْ وَيَزِيدَهُم مِّن فَضْلِهِ إِنَّهُ غَفُورٌ‌ شَكُورٌ‌ ﴿فاطر ٣٠﴾
2- وَقَالُوا الْحَمْدُ لِلَّـهِ الَّذِي أَذْهَبَ عَنَّا الْحَزَنَ إِنَّ رَ‌بَّنَا لَغَفُورٌ‌ شَكُورٌ‌ ﴿فاطر٣٤﴾

 وقوله جلَّ وعلا: ( أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَ‌ىٰ عَلَى الله كَذِبًا ۖ فَإِن يَشَإِ اللهُ يَخْتِمْ عَلَىٰ قَلْبِكَ ۗ) أي لو افتريت عليه كذباً كما يزعم هؤلاء الجاهلون فإن الله يختم على قلبك،ويسلبك ما كان آتاك من القرآن، كقوله جلَّ جلاله: (وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنَا بَعْضَ الْأَقَاوِيلِ ﴿44)  لَأَخَذْنَا مِنْهُ بِالْيَمِينِ ﴿45 )ثُمَّ لَقَطَعْنَا مِنْهُ الْوَتِينَ ﴿ 46 الحاقة )، أي لانتقمنا منه أشد الانتقام، وما قدر أحد من الناس أن يحجز عنه.
تنبيه لغوي:
 وقوله جلَّت عظمته: ( وَيَمْحُ اللهُ الْبَاطِلَ)  يمحُ مرفوع وحذفت من كتابته الواو في رسم مصحف الإمام- فأصل الكلمة ( يمحو )- كما حذفت في قوله: (سَنَدْعُ الزَّبَانِيَةَ) ( العلق 18 ) أصله ( سندعو )
وقوله عزَّ وجلَّ (وَيُحِقُّ الْحَقَّ بِكَلِمَاتِهِ ) أي كما أن الله يمحو الباطل لو تقول به أحد ، فإنه يحقق ويثبت ويحق الحق الذي جاء به النبي ويوضحه بكلماته التي تأتي بالحجج والبراهين ، وهو سبحانه (إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ‌) أي بما تكنه الضمائر، وتنطوي عليه السرائر .
وقوله تعالى: (وَهُوَ الَّذِي يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبَادِهِ وَيَعْفُو عَنِ السَّيِّئَاتِ وَيَعْلَمُ مَا تَفْعَلُونَ (25) وَيَسْتَجِيبُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَيَزِيدُهُم مِّن فَضْلِهِ ۚ وَالْكَافِرُ‌ونَ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ (26)

قوله تعالى: ( وَهُوَ الَّذِي يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبَادِهِ)  قال ابن عباس : لما نزل قوله تعالى:( قُل لَّا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرً‌ا إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْ‌بَىٰ) قال قوم في نفوسهم : ما يريد إلا أن يحثنا على أقاربه من بعده؛ فأخبر جبريل النبي ، وأنهم قد اتهموه فأنزل: ( أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَ‌ىٰ عَلَى الله كَذِبًا )  الآية؛ فقال القوم : يا رسول الله، فإنا نشهد أنك صادق ونتوب. فنزلت: (وَهُوَ الَّذِي يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبَادِهِ)  قال ابن عباس : أي عن أوليائه وأهل طاعته. والآية عامة في عفوه سبحانه. (وَيَعْفُو عَنِ السَّيِّئَاتِ) أي يقبل التوبة في المستقبل ويعفو عن السيئات في الماضي، أي عن الشرك قبل الإسلام (وَيَعْلَمُ مَا تَفْعَلُونَ) أي هو عالم بجميع ما فعلتم وصنعتم وقلتم من الخير والشر، ومع هذا يتوب على من تاب إليه.
وقوله تعالى: (وَيَسْتَجِيبُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَيَزِيدُهُم مِّن فَضْلِهِ ) قال السدي: يعني يستجيب لهم، أي الدعاء لأنفسهم ولأصحابهم وإخوانهم، ويزيدهم فوق ذلك، وقال إبراهيم النخعي : قال: يشفعون في إخوانهم، (وَيَزِيدُهُم مِّن فَضْلِهِ ) قال: يشفعون في إخوان إخوانهم، وقوله عزَّ وجلَّ: ( وَالْكَافِرُ‌ونَ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ) وهذا ذكر للمقابل؛ الكافرين لهم العذاب الشديد المؤلم الموجع.

(وَلَوْ بَسَطَ  اللهُ الرِّ‌زْقَ لِعِبَادِهِ لَبَغَوْا فِي الْأَرْ‌ضِ وَلَـٰكِن يُنَزِّلُ بِقَدَرٍ‌ مَّا يَشَاءُ ۚ إِنَّهُ بِعِبَادِهِ خَبِيرٌ‌ بَصِيرٌ‌ (27) وَهُوَ الَّذِي يُنَزِّلُ الْغَيْثَ مِن بَعْدِ مَا قَنَطُوا وَيَنشُرُ‌ رَ‌حْمَتَهُ ۚ وَهُوَ الْوَلِيُّ الْحَمِيدُ (28) وَمِنْ آيَاتِهِ خَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْ‌ضِ وَمَا بَثَّ فِيهِمَا مِن دَابَّةٍ ۚ وَهُوَ عَلَىٰ جَمْعِهِمْ إِذَا يَشَاءُ قَدِيرٌ‌ (29) وَمَا أَصَابَكُم مِّن مُّصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَن كَثِيرٍ‌ (30) وَمَا أَنتُم بِمُعْجِزِينَ فِي الْأَرْ‌ضِ ۖ وَمَا لَكُم مِّن دُونِ اللهِ مِن وَلِيٍّ وَلَا نَصِيرٍ‌ (31)
وقوله تعالى: (وَلَوْ بَسَطَ  اللهُ الرِّ‌زْقَ لِعِبَادِهِ لَبَغَوْا فِي الْأَرْ‌ضِ) في سبب نزولها؛ قيل : إنها نزلت في قوم من أهل الصفة – أهل الصفة هم فقراء المسلمين كانوا يقيمون بالمسجد لهم زاوية فيه-  تمنوا سعة الرزق.
 وقال خباب بن الأرت : فينا نزلت؛ نظرنا إلى أموال بني النضير وقريظة وبني قينقاع فتمنيناها فنزلت.
(وَلَوْ بَسَطَ  ) أي وسع ، (لَبَغَوْا فِي الْأَرْ‌ضِ): أي طغوا وعصوا
  أي لو أعطاهم فوق حاجتهم من الرزق لحملهم ذلك على البغي والطغيان، من بعضهم على بعض أشراً وبطراً، قال ابن عباس : بغيهم طلبهم منزلة بعد منزلة ودابة بعد دابة ومركبا بعد مركب وملبسا بعد ملبس. أي : لو أعطاهم الكثير لطلبوا ما هو أكثر منه كما قال : (لوكان لابن آدم واديان من ذهب لابتغى إليهما ثالثا)  وهذا هو البغي وقال قتادة: وكان يقال خير العيش ما لا يلهيك ولا يطغيك.
ومنه قول : (أخوفُ ما أخافُ عليكم ما أنبَتتِ الأرضُ أو زهرةُ الدُّنيا ) فقال رجلٌ: يا رسولَ اللهِ يأتي الخيرُ بالشَّرِّ ؟)  قال: فسكَت رسولُ اللهِ حتَّى ظنَنَّا أنَّه يُنزَّلُ عليه فأخَذه عَرَقٌ أو بُهْرٌ ثمَّ أفاق فقال: ( أين السَّائلُ ؟ ) فقال: ها أنا ذا ولم أُرِدْ إلَّا خيرًا فقال: ( إنَّ الخيرَ لا يأتي إلَّا بالخيرِ وإنَّ كلَّ ما أنبَت الرَّبيعُ يقتُلُ حبَطًا أو يُلِمُّ إلَّا آكِلةَ الخضِرِ فإنَّها أكَلتْ فلمَّا اشتدَّت خاصِرتاها استقبَلتِ الشَّمسَ فثلَطتْ ثمَّ بالت ثمَّ عادت فأكَلت ثمَّ أفاضت فاجترَّتْ،  وإنَّ هذا المالَ حُلوةٌ خضِرةٌ فمَن أخَذه بحقِّه بُورِك له فيه ومَن أخَذه بغيرِ حقِّه لم يُبارَكْ له فيه وكان كالَّذي يأكُلُ ولا يشبَعُ واليدُ العليا خيرٌ مِن اليدِ السُّفلى)اخرجه ابن حبان في صحيحه.
( ولكن ينزل بقدر ما يشاء) أي ينزل أرزاقهم بقدر ما يشاء لكفايتهم، فجعل من يشاء غنيا ومن يشاء فقيرا. قال اهل العلم : أفعال الرب سبحانه لا تخلو عن مصالح ؛ فقد يعلم من حال عبد أنه لو بسط عليه قاده ذلك إلى الفساد فيزوي عنه الدنيا مصلحة له، فليس ضيق الرزق هوانا ولا سعتة فضيلة؛ قال ابن عباس :أي  لو جعلناهم سواء في المال لما انقاد بعضهم لبعض، ولتعطلت الصنائع. وهو سبحانه لا يديم الحال على أحد من عباده، بل يقبض تارة ليتضرعوا ويبسط أخرى ليشكروا، ثم يخصص الله تعالى سبب من أسباب الرزق وهو إنزال المطر، فقال سبحانه:
( وَهُوَ الَّذِي يُنَزِّلُ الْغَيْثَ مِن بَعْدِ مَا قَنَطُوا وَيَنشُرُ‌ رَ‌حْمَتَهُ ۚ وَهُوَ الْوَلِيُّ الْحَمِيدُ)
والغيث المطر؛ وسمي الغيث غيثا لأنه يغيث الخلق. وقد غاث الغيث الأرض أي أصابها. وغاث الله البلاد يغيثها غيثا، وربما سمي السحاب والنبات غيثا، والغيث ما كان نافعا في وقته، والمطر قد يكون نافعا وضارا في، وقته وغير وقته.
والقنوط الإياس؛ وذكر أن رجلا قال لعمر بن الخطاب : يا أمير المؤمنين، قحط المطر وقل الغيث وقنط الناس؟ فقال : مطرتم إن شاء الله، ثم قرأ: ( وَهُوَ الَّذِي يُنَزِّلُ الْغَيْثَ مِن بَعْدِ مَا قَنَطُوا). وقوله : (وَيَنشُرُ‌ رَ‌حْمَتَهُ  ) أي يعم بها الوجود أو على أهل ذلك القطر وتلك الناحية، قيل: رحمته ؛ هي المطر؛ وقيل ظهور الشمس بعد المطر،(وَهُوَ الْوَلِيُّ الْحَمِيدُ) الولي  الذي ينصر أولياءه ، الحميد؛ المحمود بكل لسان.
يقول تعالى: ( وَمِنْ آيَاتِهِ ۚ)  الدالة على عظمته وقدرته العظيمة وسلطانه القاهر (خَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْ‌ضِ وَمَا بَثَّ فِيهِمَا مِن دَابَّةٍ)  ، أي ذرأ فيهما، في السماوات والأرض ،وهذا يشمل الملائكة والإنس والجن وسائر الحيوانات، على اختلاف أشكالهم وألوانهم ولغاتهم وطباعهم وأجناسهم وأنواعهم، وقد فرقهم في أرجاء أقطار السماوات والأرض، (وَهُوَ عَلَىٰ جَمْعِهِمْ إِذَا يَشَاءُ قَدِيرٌ‌) مع هذا كله  قادر على أن يجمعهم؛ أي يوم القيامة يجمع الأولين والآخرين وسائر الخلائق في صعيد واحد، فيحكم فيهم بحكمه العدل الحق، وقوله عزَّ وجلَّ: (وَمَا أَصَابَكُم مِّن مُّصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَن كَثِيرٍ‌)  أي لا تصيبكم مصيبة  فغنما هي بمعصيتكم ، وكثير منها يعفو عنها،  وفي الحديث الصحيح: (والذي نفسي بيده ما يصيب المؤمن من نصب ولا وصب ولا هم ولا حزن إلا كفَّر اللّه عنه بها من خطاياه حتى الشوكة يشاكها) وعن أبي جحيفة قال: دخلت على علي بن أبي طالب رضي اللّه عنه فقال: ألا أحدثكم بحديث ينبغي لكل مؤمن أن يعيه؟ قال، فسألناه، فتلا هذه الآية: (وَمَا أَصَابَكُم مِّن مُّصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَن كَثِيرٍ‌)  قال: ما عاقب الله تعالى به في الدنيا، فالله أحلم من أن يثني عليه العقوبة يوم القيامة، وما عفا الله عنه في الدنيا، فالله أكرم من أن يعود في عفوه يوم القيامة) ""أخرجه ابن أبي حاتم موقوفاً، ورواه مرفوعاً من وجه آخر"". وروى الإمام أحمد، عن عائشة رضي الله عنها قالت، قال رسول الله : (إذا كثرت ذنوب العبد ولم يكن له ما يكفرها ابتلاه اللّه تعالى بالحزن ليكفرها) "أخرجه الإمام أحمد في المسند"، وقال الحسن البصري: لما نزلت – يعني لآية - قال رسول الله : (والذي نفس محمد بيده ما من خدش عود، ولا اختلاج عرق، ولا عثرة قدم، إلا بذنب، وما يعفو اللّه عنه أكثر) "أخرجه ابن أبي حاتم عن الحسن البصري مرسلاً"، وعن الضحّاك قال: ما نعلم أحداً حفظ القرآن ثم نسيه إلا بذنب، ثم قرأ الآية ، ثم قال الضحّاك: وأي مصيبة أعظم من نسيان القرآن؟
( وَيَعْفُو عَن كَثِيرٍ‌)  أي عن كثير من المعاصي ألا يكون عليها حدودا.
 وقيل : أي يعفو عن كثير من العصاة ألا يعجل عليهم بالعقوبة.، وهي الحد في الدنيا .
وقوله تعالى :
(وَمَا أَنتُم بِمُعْجِزِينَ فِي الْأَرْ‌ضِ ۖ وَمَا لَكُم مِّن دُونِ اللهِ مِن وَلِيٍّ وَلَا نَصِيرٍ‌)  أي بفائتين الله؛ أي لن تعجزوه ولن تفوتوه.
في اللغة:   المُعْجز هو الذي ينسب غيره للعجز بفعله،  ويُعجزني يعني: يأتي بأمر لا أقدر أنا عليه.
 فالحق يقول لهم: لن تعجزونا ولن تهربوا منا أبداً، فأينما كُنتم سنأتي بكم، وحتى الجنّ علموا أنهم لن يستطيعوا أن يعجزوا الله ، أو يفلتوا منه ، فقالوا:
(  وَأَنَّا ظَنَنَّآ أَن لَّن نُّعْجِزَ الله  فِي ٱلأَرْضِ وَلَن نُّعْجِزَهُ هَرَباً ) (الجن: 12) ، فالجنّ وهم أقدر على الهرب من الإنس، ومع ذلك يعترفون أنه لن يستطيع أحد منهم أنْ يهرب أو يفر من الله عز وجل، وقوله تعالى : (  وَمَا لَكُم مِّن دُونِ اللهِ مِن وَلِيٍّ وَلَا نَصِيرٍ‌)  الولي: الصديق المخلص القريب  منك دائماً، والذي يدفع عنك المصيبة قبل أن تقع، والنصير: المعين الذي ينصرك ويُعينك إذا وقعتْ بك المصيبة. فالحق سبحانه يُعلم عباده أنه هو وليهم وناصرهم ، وأن لا مهرب منه سبحانه إلا إليه . وهذه الآية تشبه الآية (8) من السورة ، قوله عز وجل : ( وَالظَّالِمُونَ مَا لَهُم مِّن وَلِيٍّ وَلَا نَصِيرٍ‌)

تم تفسير الجزء الثاني من سورة الشورى

No comments:

Post a Comment