Monday 26 May 2014

تفسير مختصر وربط للآيات وبيان المتشابهات لتثبيت الحفظ - سورة الشورى -ج1








 سورة الشورى ج 1

سورة الشورى هي سورة مكية ماعدا الآيات 23- 24- 25 – 27  فهي مدنية ، عدد آياتها 53 آية وترتيبها  42  في المصحف الشريف،  نزلت بعد فصلت، سبب التسمية : سميت سورة " الشورى" تنويها بمكانة الشورى في الإسلام وتعليما للمؤمنين أن يقيموا حياتهم على هذا المنهج الأمثل الأكمل منهج الشورى لما له من أثر عظيم جليل في حياة الفرد والمجتمع , كما قال الله تعالى –( وأمرهم شورى بينهم).
سورة الشورى هي ثالث الحواميم ( آل حم ) بدأت "حم" والآية الثانية فيها تتكون من ثلاث حروف من حروف الهجاء ( عسق )
فهي تتميز عن بقية الحواميم  بزيادة ثلاث أحرف من الأحرف المقطعة في الآية الثانية فيها، فالآيتين الاوليتين هما أحرف مقطعة ( حم ( 1 )  عسق ( 2 )،  وتتميز أيضا عن سور القرآن أنها الوحيدة التي فيها آيتين متتاليتين هما عبارة عن أحرف مقطعة .
 ومجموع عدد الأحرف المقطعة فيها هو خمس أحرف، وهو أكبر عدد ، وهي تشترك مع سورة مريم في هذا العدد ، إلا أن الخمس أحرف في سورة مريم : ( كهيعص ) ( 1 )   في آية واحدة .
وقد أورد القرطبي في تفسيره لطيفه في ذلك ، قال : قال عبدالمؤمن : سألت الحسين بن الفضل : لم قطع ( حم)  من ( عسق)  ولم تقطع (  كهيعص)  و ( المر) و ( المص)  ؟ فقال : لأن (حم* عسق) بين سور أولها ( حم) فجرت مجرى نظائرها قبلها وبعدها؛ أي لتبقى هذه السورة مثل نظيراتها من الحواميم تبدأ يآية فيها فقط ( حم ) 

محور السورة : هذه السورة الكريمة مكية وموضوعها نفس موضوعات السور المكية التي تعالج أمور العقيدة الوحدانية , الرسالة , البعث , والجزاء والمحور الذي تدور عليه السورة هو الوحي والرسالة وهو الهدف الأساسي للسورة الكريمة .
وسورة الشورى تختص بين السور المكية بالحديث عن الوحي، فتبدأ بـ: فكما أوحينا إلى من قبلك من الرسل، كذلك أيضا يوحي إليك ربك، ثم في الآية 7 ، التأكيد على أنه أوحى إليه قرآنا عربيا، خصوصا بلغة أهل مكة ليعوا وويفهموا مراده ، وتنتهي بذكر الوحي والتأكيد على أنه كذلك أوحينا إليك ، أي مثل هذا أوحينا إليك . فهي سورة الوحي
فيها آية يذكر فيها أولي العزم من الرسل ، وفيها أمر من ربه إلى نبينا محمد بأن يستقيم على ما أحي إليه ، وفيها تكذيب لقول الكفار أنه افترى على الله كذبا ، وليس ما جاء به وحيا ( آية 24) وفيها ذكر بعض صور الوحي ( آية 51 ) ... وهكذا مما سيأتي تفصيله بإذن الله تعالى .
وقد تكلمنا عن الأحرف المقطعة قبل ذلك بما يغني عن الإعادة .

قال تعالى : (كَذَٰلِكَ يُوحِي إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِكَ اللهُ  الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ ( 3 )  لَهُ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْ‌ضِ ۖ وَهُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ ( 4 )  تَكَادُ السَّمَوَاتُ يَتَفَطَّرْ‌نَ مِن فَوْقِهِنَّ ۚ وَالْمَلَائِكَةُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَ‌بِّهِمْ وَيَسْتَغْفِرُ‌ونَ لِمَن فِي الْأَرْ‌ضِ ۗ أَلَا إِنَّ اللهَ هُوَ الْغَفُورُ‌ الرَّ‌حِيمُ ( 5 )  وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِن دُونِهِ أَوْلِيَاءَ اللهُ حَفِيظٌ عَلَيْهِمْ وَمَا أَنتَ عَلَيْهِم بِوَكِيلٍ ( 6 ) 

وقوله عزَّ وجلَّ‏:‏ ‏ (كَذَٰلِكَ يُوحِي إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِكَ اللهُ  الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ ( 3 )  أي كما أنزل إليك هذا القرآن كذلك أنزل على الأنبياء قبلك، بل يوحى إليك كما أوحى إلى من قبلك من الرسل، وقوله تعالى‏:‏ ‏ ( اللهُ  الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ ) أي عزيز منيع  في انتقامه، والحكيم‏ في أقواله وأفعاله.

 وفي صورة الوحي أحاديث منها : عن عائشة رضي الله عنها قالت‏:‏ إن الحارث بن هشام سأل رسول الله فقال‏:‏ يا رسول الله  كيف يأتيك الوحي‏؟‏ فقال رسول الله   ‏:‏ ‏(‏أحياناً يأتيني مثل صلصلة الجرس، وهو أشده علي فيفصم عني وقد وعيت ما قال، وأحياناً يأتيني المَلك رجلاً، فيكلمني فأعي ما يقول‏)‏‏.‏ قالت عائشة رضي الله عنها‏:‏ ( فلقد رأيته ينزل عليه الوحي في اليوم الشديد البرد فيفصم عنه، وإن جبينه ليتفصد عرقاً‏)‏ ‏"‏أخرجاه في الصحيحين واللفظ للبخاري‏"‏‏.‏ ومعنى يتفصد‏:‏ أي يتصبب عرقاً‏.‏
 وعن عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما قال‏:‏ سألت رسول ، فقلت‏:‏ يا رسول الله هل تحس بالوحي‏؟‏ فقال رسول الله ‏:‏ ‏( ‏أسمع صلصلة، ثم أسكت عند ذلك، فما من مرة يوحى إليَّ إلا ظننت أن نفسي تقبض‏)‏ ‏"‏أخرجه الإمام أحمد‏"‏‏.‏ وسيأتي مزيد من الصور في تفسير آخر السورة إن شاء الله .
وقوله تبارك وتعالى‏:‏ ‏ ( لَهُ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْ‌ضِ ‏) والجملة صفة لنهاية الآية التي قبلها ، أي الله العزيز الحكيم؛ له ما في السموات والأرض أي الجميع عبيد له وملك له تحت قهره وتصريفه ‏وأيضا هو  (وَهُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ ‏)، كقوله تعالى‏:‏ ‏( ‏وهو الكبير المتعال‏)، ‏والآيات في هذا كثيرة‏.‏ وقوله عزَّ وجلَّ‏:‏ ‏ (تَكَادُ السَّمَوَاتُ يَتَفَطَّرْ‌نَ مِن فَوْقِهِنَّ ‏) قال ابن عباس والسدي‏:أي يتشقق أي فَرَقاً وخوفا من عظمة الله وجلاله فوقهن. (وَالْمَلَائِكَةُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَ‌بِّهِمْ وَيَسْتَغْفِرُ‌ونَ لِمَن فِي الْأَرْ‌ضِ ‏)

متشابه : 

وهذه الآية كقوله عزَّ وجلَّ‏:‏ ( ‏الذين يحملون العرش ومن حوله يسبحون بحمد ربهم ويؤمنون به ويستغفرون للذين آمنوا ربنا وسعت كل شيء رحمة وعلماً‏) ( غافر 7 ) وقد مرت معنا في سورة غافر ، وآية غافر فيها تفصيل أكثر ، ففيها أن الملائكة – خص منهم الذين تحملون العرش ، وهنا عمم بالملائكة - يسبحون بحمد ربهم ، ويؤمنون به ، وأنهم يستغفرون للذين آمنوا ، فهذه الزيادة في البيان تنسحب على آية سورة الشورى ، فيقال في تفسيرها : انهم يستغفرون لمن في الأرض من المؤمنين .واستغفار الملائكة للمؤمنين لتكفير الذنوب والخطايا ، وقيل : طلب الرزق لهم، والسعة .
 وقوله جلَّ جلاله‏:‏ ‏( ‏ألا إن اللّه هو الغفور الرحيم‏)  إعلام بذلك وتأكيد به، وقوله سبحانه وتعالى‏:‏ ‏( ‏والذين اتخذوا من دونه أولياء‏)  يعني المشركين (  ‏اللّه حفيظ عليهم‏) أي شهيد على أعمالهم يحصيها ويعدها عداً، وسيجزيهم بها أوفر الجزاء، ( ‏وما أنت عليهم بوكيل‏) ‏ أي إنما أنت نذير والله على كل شيء وكيل‏.‏
( وَكَذَٰلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ قُرْ‌آنًا عَرَ‌بِيًّا لِّتُنذِرَ‌ أُمَّ الْقُرَ‌ىٰ وَمَنْ حَوْلَهَا وَتُنذِرَ‌ يَوْمَ الْجَمْعِ لَا رَ‌يْبَ فِيهِ ۚ فَرِ‌يقٌ فِي الْجَنَّةِ وَفَرِ‌يقٌ فِي السَّعِيرِ‌( 7 ) وَلَوْ شَاءَ اللهُ لَجَعَلَهُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَـٰكِن يُدْخِلُ مَن يَشَاءُ فِي رَ‌حْمَتِهِ ۚ وَالظَّالِمُونَ مَا لَهُم مِّن وَلِيٍّ وَلَا نَصِيرٍ‌ ( 8 ) أَمِ اتَّخَذُوا مِن دُونِهِ أَوْلِيَاءَ ۖ فَالله هُوَ الْوَلِيُّ وَهُوَ يُحْيِي الْمَوْتَىٰ وَهُوَ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ‌ ( 9 ) وَمَا اخْتَلَفْتُمْ فِيهِ مِن شَيْءٍ فَحُكْمُهُ إِلَى اللهِۚ ذَٰلِكُمُ اللهُ رَ‌بِّي عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ ( 10 )
يقول تعالى: وكما أوحينا إلى الأنبياء قبلك ( وَكَذَٰلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ قُرْ‌آنًا عَرَ‌بِيًّا ) أي واضحاً جلياً بيِّناً(  لِّتُنذِرَ‌ أُمَّ الْقُرَ‌ىٰ وَمَنْ حَوْلَهَا )  وهي مكة، ومن حولها أي من سائر البلاد شرقا وغربا؛ وسميت مكة أم القرى لأنها أشرف من سائر البلاد لأدلة كثيرة منها قول رسول الله : (والله إنك لخير أرض الله، وأحب أرض الله إلى الله، ولولا أني أُخرجت منك ما خرجت) ""أخرجه أحمد والترمذي والنسائي وابن ماجة، وقال الترمذي: حسن صحيح"". وقوله عزَّ وجلَّ: ( وَتُنذِرَ‌ يَوْمَ الْجَمْعِ لَا رَ‌يْبَ فِيهِ )  وهو يوم القيامة يجمع الله الأولين والآخرين في صعيد واحد،، ولاشك في وقوعه وأنه كائن لا محالة،  (فَرِ‌يقٌ فِي الْجَنَّةِ وَفَرِ‌يقٌ فِي السَّعِيرِ‌)  . روى الإمام أحمد، عن عبد الله بن عمرو رضي اللّه عنهما قال: خرج علينا رسول الله وفي يديه كتابان، فقال: (أتدرون ما هذان الكتابان؟) قلنا: لا، إلا أن تخبرنا يا رسول اللّه، قال للذي في يمينه: (هذا كتاب من رب العالمين بأسماء أهل الجنة وأسماء آبائهم وقبائلهم، ثم أجمل على آخرهم لا يزاد فيهم ولا ينقص منهم أبداً)  ثم قال للذي في يساره: (هذا كتاب أهل النار بأسمائهم وأسماء آبائهم وقبائلهم، ثم أجمل على آخرهم لا يزاد فيهم ولا ينقص منهم أبداً)، فقال أصحاب رسول الله : فلأي شيء نعمل إن كان هذا أمر قد فرغ منه؟ قال رسول الله : (سدّدوا وقاربوا، فإن صاحب الجنة يختم له بعمل أهل الجنة وإن عمل أي عمل، وإن صاحب النار يختم له بعمل أهل النار وإن عمل أي عمل)، ثم قال بيده فقبضها، ثم قال: (فرغ ربكم عزَّ وجلَّ من العباد، ثم قال باليمنى فنبذ بها فقال: فريق في الجنة، ونبذ باليسرى وقال فريق في السعير) "أخرجه أحمد والترمذي والنسائي، وقال الترمذي: حسن صحيح غريب" .
وقوله تبارك وتعالى: (وَلَوْ شَاءَ اللهُ لَجَعَلَهُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً )  أي إما على الهداية أو على الضلالة، ولكنه تعالى فاوت بينهم، فهدى من يشاء إلى الحق، وأضل من يشاء عنه، وله الحكمة والحجة البالغة، ولهذا قال عزَّ وجلَّ:  ( وَلَـٰكِن يُدْخِلُ مَن يَشَاءُ فِي رَ‌حْمَتِهِ ۚ وَالظَّالِمُونَ مَا لَهُم مِّن وَلِيٍّ وَلَا نَصِيرٍ) ‌ وقال ابن جرير: إن موسى عليه الصلاة والسلام قال: (يا رب خلقك الذين خلقتهم، جعلت منهم فريقاً في الجنة وفريقاً في النار، لو ما أدخلتهم كلهم الجنة؟ فقال: يا موسى ارفع درعك، فرفع، قال: قد رفعت، قال: ارفع، فرفع، فلم يترك شيئاً، قال يا رب قد رفعت، قال: ارفع، قال: قد رفعت، إلا ما لا خير فيه، قال: كذلك أدخل خلقي كلهم الجنة إلا ما لا خير فيه)  "أخرجه ابن جرير من حديث عمرو بن أبي سويد".
وقال سبحانه في أول الآية ( .. يُدْخِلُ مَن يَشَاءُ فِي رَ‌حْمَتِهِ فكان مقابلتها بأن ( الظالمون ) ليسوا في رحمته ، فإذا (وَالظَّالِمُونَ مَا لَهُم مِّن وَلِيٍّ وَلَا نَصِيرٍ) ، ليس لهم ولي محب ينصرهم .
ثم يؤكد ربنا على المعنى ثانية ، فيقول جل وعلا منكرا على المشركين: (أَمِ اتَّخَذُوا مِن دُونِهِ أَوْلِيَاءَ ۖ فَالله هُوَ الْوَلِيُّ وَهُوَ يُحْيِي الْمَوْتَىٰ وَهُوَ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) ينكر عليهم  في اتخاذهم آلهة من دون الله، ومخبراً أنه الولي الحق الذي لا تنبغي العبادة إلا له وحده، فإنه هو القادر على إحياء الموتى، وهو على كل شيء قدير.
( وَمَا اخْتَلَفْتُمْ فِيهِ مِن شَيْءٍ) أي مهما اختلفتم فيه من الأمور، وهذا عام في جميع ( فَحُكْمُهُ إِلَى اللهِۚ ) أي هو الحاكم فيه بكتابه وسنة نبيّه ، كقوله جلَّ وعلا: ( فإن تنازعتم في شيء فردوه إلى اللّه والرسول) النساء 59 ، (  ذَٰلِكُمُ اللهُ رَ‌بِّي)  أي الحاكم في كل شيء، (عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ)أي أرجع في جميع الأمور.
وقوله تعالى : ( فاطِرُ‌ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْ‌ضِ ۚ جَعَلَ لَكُم مِّنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجًا وَمِنَ الْأَنْعَامِ أَزْوَاجًا ۖ يَذْرَ‌ؤُكُمْ فِيهِ ۚ لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ ۖ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ‌ ( 11 )  لَهُ مَقَالِيدُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْ‌ضِ ۖ يَبْسُطُ الرِّ‌زْقَ لِمَن يَشَاءُ وَيَقْدِرُ‌ ۚ إِنَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ ( 12 )
قوله تعالى: ( فاطِرُ‌ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْ‌ضِ ) بالرفع على النعت لاسم الله، أو على تقدير هو فاطر، والفاطر : المبدع والخالق. ( جَعَلَ لَكُم مِّنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجًا)  قيل معناه إناثا، وإنما قال: ( من أنفسكم)  لأنه خلق حواء من ضلع آدم، وايضا لأن الرجل يولد له البنت، فيتزوجها الرجل، كما قال تعالى (..أَنِّي لَا أُضِيعُ عَمَلَ عَامِلٍ مِّنكُم مِّن ذَكَرٍ‌ أَوْ أُنثَىٰ ۖ بَعْضُكُم مِّن بَعْضٍ ) آل عمران 195 ، فالذكر من الأنثى، والأنثى من الذكر، وهكذا قال مجاهد : نسلا بعد نسل، وقوله ( وَمِنَ الْأَنْعَامِ أَزْوَاجًا ) يعني الثمانية التي ذكرها في سورة الأنعام ذكور الإبل والبقر والضأن والمعز وإناثها،(يَذْرَ‌ؤُكُمْ فِيهِ ) أي يخلقكم وينشئكم ( فيه) أي في الرحم، وقوله تعالى : ( لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ ۖ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ‌)  قيل : إن الكاف زائدة للتوكيد؛ أي ليس مثله شيء.
والذي يعتقد في باب التوحيد الخالص: أن الله جل اسمه في عظمته وكبريائه وملكوته وحسنى أسمائه وعليّ صفاته، لا يشبه شيئا من مخلوقاته ولا يشبَه به، وإنما جاء مما أطلقه الشرع على الخالق والمخلوق، فلا تشابه بينهما في المعنى الحقيقي؛ إذ صفات القديم جل وعز بخلاف صفات المخلوق؛ إذ صفاتهم لا تنفك عن الأغراض والأعراض، وهو تعالى منزه عن ذلك، وقد قال بعض العلماء المحققين : التوحيد إثبات ذات الله غير مشَبَهة للذوات ولا مُعَطَلة من الصفات. وزاد الواسطي رحمه الله بيانا فقال : ليس كذاته ذات، ولا كاسمه اسم، ولا كفعله فعل، ولا كصفته صفة إلا من جهة موافقة اللفظ؛ وجلت الذات القديمة أن يكون مثلها من ذاته حديثة؛ وهذا كله مذهب أهل الحق والسنة والجماعة. رضي الله عنهم !
( لَهُ مَقَالِيدُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْ‌ضِ ۖ يَبْسُطُ الرِّ‌زْقَ لِمَن يَشَاءُ وَيَقْدِرُ‌ ۚ إِنَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ) هو الذي يملك المفاتيح ، ويملك الخزائن؛ يقال للمفاتيح : إقليد، وجمعه ( مقاليد ) على غير قياس؛ كمحاسن والواحد حسن. (يَبْسُطُ الرِّ‌زْقَ لِمَن يَشَاءُ وَيَقْدِرُ‌ ۚ إِنَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ)  إخبار أنه تعالى هو الرزاق القابض الباسط، المتصرف في خلقه بما يشاء، فيغني من يشاء ويفقر من يشاء، لما له في ذلك من الحكمة، ولهذا قال:  (إِنَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ)  أي عليم بمن يستحق الغنى ويستحق الفقر. كما جاء في الحديث: (إن من عبادي لمن لا يصلحه إلا الفقر ولو أغنيته لأفسدت عليه دينه، وإن من عبادي لمن لا يصلحه إلا الغنى ولو أفقرته لأفسدت عليه دينه) ضعيف  وقد يكون الغنى في حق بعض الناس استدراجاً، والفقر عقوبة عياذاً بالله من هذا وهذا.
وقوله تعالى : (شَرَ‌عَ لَكُم مِّنَ الدِّينِ مَا وَصَّىٰ بِهِ نُوحًا وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَ‌اهِيمَ وَمُوسَىٰ وَعِيسَىٰ ۖ أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلَا تَتَفَرَّ‌قُوا فِيهِ ۚ كَبُرَ‌ عَلَى الْمُشْرِ‌كِينَ مَا تَدْعُوهُمْ إِلَيْهِ ۚ اللهُ يَجْتَبِي إِلَيْهِ مَن يَشَاءُ وَيَهْدِي إِلَيْهِ مَن يُنِيبُ ( 13 )  وَمَا تَفَرَّ‌قُوا إِلَّا مِن بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْعِلْمُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ ۚ وَلَوْلَا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِن رَّ‌بِّكَ إِلَىٰ أَجَلٍ مُّسَمًّى لَّقُضِيَ بَيْنَهُمْ ۚ وَإِنَّ الَّذِينَ أُورِ‌ثُوا الْكِتَابَ مِن بَعْدِهِمْ لَفِي شَكٍّ مِّنْهُ مُرِ‌يبٍ ( 14 )
يقول تعالى لهذه الأمة: (شَرَ‌عَ لَكُم مِّنَ الدِّينِ مَا وَصَّىٰ بِهِ نُوحًا وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَ‌اهِيمَ وَمُوسَىٰ وَعِيسَىٰ ) ، شرع : أي نهج وأوضح وبين المسالك.
في اللغة :
 شرع لهم : يشرع شرعا أي سن. والشارع : الطريق الأعظم. وقد شرع المنزل إذا كان على طريق نافذ.
  وهكذا بيّن أن لكل دين شريعة ، أو منهاجا ، ولكن كما سيأتي عقيدتهم في التوحيد واحدة ، وهنا  ذكر الرسل،  فبدأ بأول الرسل بعد آدم - آدم نبي ليس معه رسالة - وهو نوح عليه السلام، وآخرهم وهو محمد ، ثم ذكر ما بين ذلك من أولي العزم، وهو: إبراهيم وموسى وعيسى بن مريم، وهذه الآية انتظمت ذكر الخمسة، كما اشتملت آية الأحزاب عليهم في قوله تبارك وتعالى: (  وإذ أخذنا من النبيين ميثاقهم ومنك ومن نوح وإبراهيم وموسى وعيسى بن مريم) الأحزاب 7 . 

يبان متشابه :

في آية سورة الأحزاب ذكر نبينا محمد أولهم لفضله عليهم ، ثم ذكر باقي الرسل الأربعة أولي العزم بترتيب زمانهم ، وفي آية الشورى ذكر أول الرسل ( نوحا ) ثم ذكر محمدا ،ثم بقيتهم بترتيب زمانهم .
وقوله تعالى (أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلَا تَتَفَرَّ‌قُوا فِيهِ )  والدين الذي جاءت به الرسل كلهم، هو عبادة اللّه وحده لا شريك له، كما قال عزَّ وجلَّ: ( وما أرسلنا من قبلك من رسول إلا نوحي إليه أنه لا إله إلا أنا فاعبدون) الأنبياء 25 ، وفي الحديث: (الأنْبياءُ أوْلادُ عَلَّاتٍ ؛ أُمَّهاتُهُمْ شَتَّى ، و دِينُهُمْ واحِدٌ) صحيح الجامع ،  أي القدر المشترك بينهم هو عبادة اللّه وحده لا شريك له، وإن اختلفت شرائعهم ومناهجهم، كقوله جلَّ جلاله: (لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنكُمْ شِرْ‌عَةً وَمِنْهَاجًا) المائدة 48، ولهذا قال تعالى ههنا: (أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلَا تَتَفَرَّ‌قُوا فِيهِ ) أي أوصى اللّه تعالى جميع الأنبياء عليهم السلام بالائتلاف والإجتماع على الدين والتوحيد الذي بعثوا عليه، ونهاهم عن الافتراق والاختلاف. وقوله عزَّ وجلَّ: ( كَبُرَ‌ عَلَى الْمُشْرِ‌كِينَ مَا تَدْعُوهُمْ إِلَيْهِ ۚ) أي شق عليهم، وأنكروا ما تدعوهم إليه يا محمد من التوحيد، ثم قال جلَّ جلاله: ( اللهُ يَجْتَبِي إِلَيْهِ مَن يَشَاءُ وَيَهْدِي إِلَيْهِ مَن يُنِيبُ) أي هو الذي يقدر الهداية لمن يستحقها، ويكتب الضلالة على من آثرها على طريق الرشد، ولهذا قال تعالى: ( وَمَا تَفَرَّ‌قُوا إِلَّا مِن بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْعِلْمُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ ) أي إنما كان مخالفتهم للحق بعد بلوغه إليهم، وقيام الحجة عليهم، وما حملهم على ذلك إلا البغي والعناد، ثم قال عزَّ وجلَّ: ( وَلَوْلَا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِن رَّ‌بِّكَ إِلَىٰ أَجَلٍ مُّسَمًّى لَّقُضِيَ بَيْنَهُمْ)  أي لولا الكلمة السالفة من اللهِ تعالى بإنظار العباد إلى يوم المعاد، لعجّل عليهم العقوبة في الدنيا سريعاً، وقوله جلَّت عظمته: (وَإِنَّ الَّذِينَ أُورِ‌ثُوا الْكِتَابَ مِن بَعْدِهِمْ لَفِي شَكٍّ مِّنْهُ مُرِ‌يبٍ) يعني الجيل المتأخر بعد القرن المكذب للحق في شك ،أي ليسوا على يقين من أمرهم وإيمانهم، وإنما هم مقلدون لآبائهم وأسلافهم، بلا دليل ولا برهان، وهم في حيرة من أمرهم، وشك مريب وشقاق بعيد.
وقوله جل وعلا: (فَلِذَٰلِكَ فَادْعُ ۖ وَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْ‌تَ ۖ وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ ۖ وَقُلْ آمَنتُ بِمَا أَنزَلَ اللَّـهُ مِن كِتَابٍ ۖ وَأُمِرْ‌تُ لِأَعْدِلَ بَيْنَكُمُ ۖ الله رَ‌بُّنَا وَرَ‌بُّكُمْ ۖ لَنَا أَعْمَالُنَا وَلَكُمْ أَعْمَالُكُمْ ۖ لَا حُجَّةَ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ ۖ اللهُ يَجْمَعُ بَيْنَنَا ۖ وَإِلَيْهِ الْمَصِيرُ‌ ( 15 )
قال ابن كثير في هذه الآية اشتملت هذه الآية الكريمة على عشر كلمات مستقلات( اي جمل مفيدة )  كل منها منفصلة عن التي قبلها، حكم برأسها، قالوا: ولا نظير لها سوى آية الكرسي، فإنها أيضاً عشرة فصول كهذه.
وقوله (فَلِذَٰلِكَ فَادْعُ )أي فللذي أوحينا إليك من الدين الذي وصينا به جميع المرسلين قبلك، أصحاب الشرائع المتبعة، فادع الناس إليه، وقوله عزَّ وجلَّ: ( وَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْ‌تَ )  أي واستقم أنت ومن اتبعك على عبادة الله وتوحيده ، كما أمركم الله عزَّ وجلَّ. وقوله تعالى: (َلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ)  يعني المشركين فيما اختلقوه فيه وكذبوه وافتروا على الله، وقوله جلَّ وعلا: (وَقُلْ آمَنتُ بِمَا أَنزَلَ اللهُ مِن كِتَابٍ ) أي صدقت بجميع الكتب المنزلة من السماء على الأنبياء لا نفرق بين أحد منهم، وقوله:  (وَأُمِرْ‌تُ لِأَعْدِلَ بَيْنَكُمُ )  أي في الحكم كما أمرني الله. وقوله جلَّت عظمته (الله رَ‌بُّنَا وَرَ‌بُّكُمْ ) أي هو المعبود لا إله غيره فنحن نقر بذلك اختياراً، وأنتم وإن لم تفعلوه اختياراً فله يسجد من في العالمين طوعاً وإجباراً، وقوله تبارك وتعالى: ( لَنَا أَعْمَالُنَا وَلَكُمْ أَعْمَالُكُمْ )  أي نحن برآء منكم ومن أعمالكم ، سنحاسب على أعمالنا ، وتحاسبون على ما عملتم، وقوله تعالى: ( لَا حُجَّةَ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ )  قال مجاهد: أي لا خصومة بيننا وبينكم، لأن البراهين قد ظهرت، والحجج قد قامت، فلم يبق إلا العناد، وبعد العناد لا حجة ولا جدال. وقوله عزَّ وجلَّ:( اللهُ يَجْمَعُ بَيْنَنَا ) أي يوم القيامة ، (  وَإِلَيْهِ الْمَصِيرُ‌) أي المرجع والمآب يوم الحساب. 


تم الجزء الأول من تفسير  سورة الشورى

No comments:

Post a Comment