Wednesday 28 May 2014

شرح أحاديث الأربعين النووية - الحديث السادس عشر - " لا تغضب"


  



 
عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ أَنَّ رَجُلاً قَالَ لِلنَّبيِّ :
( أَوصِنِيْ، قَال : لاَ تَغْضَبْ ) رواه البخاري

الشرح

" قَالَ: يَارَسُولَ اللهِ أَوصِنِي" الوصية: هي العهد إلى الشخص بأمر هام، كما يوصي الرجل مثلاً على ثلثه أوعلى ولده الصغير أو ما أشبه ذلك.

قَالَ: لاَتَغْضَبْ" الغضب: بيَّن النبي أنه جمرة يلقيها الشيطان في قلب ابن آدم فيغلي القلب، ولذلك يحمرّ وجهه وتنتفخ أوداجه وربما يقف شعره.
فهل مراد الرسول لاتغضب،  أي لايقع منك الغضب،وهو الغضب الطبيعي والذي يتفاوت الناس به ؟  أو المعنى: لاتنفذ الغضب ؟

المعنى الأول : إن نظرنا إلى ظاهر اللفظ قلنا: "لاَ تَغْضَبْ" أي الغضب الطبيعي، لكن هذا فيه صعوبة، وله وجه يمكن أن يحمل عليه بأن يقال: اضبط نفسك عند وجود السبب حتى لاتغضب.

والمعنى الثاني لقوله: لاَ تَغْضَبْ أي لا تنفذ مقتضى الغضب، فلو غضب الإنسان وأراد أن يطلّق امرأته، فنقول له: اصبر وتأنَّ.

من فوائد هذا الحديث:

.1
حرص الصحابة رضي الله عنهم على ماينفع، لقوله: "أَوصِنِيْ" ، والصحابة رضي الله عنهم إذا علموا الحق لايقتصرون على مجرّد العلم، بل يعملون، وكثير من الناس اليوم يسألون عن الحكم فيعلمونه ولكن لايعملون به، أما الصحابة رضي الله عنهم فإنهم إذا سألوا عن الدواء استعملوا الدواء، فعملوا.

.2
أن المخاطب يخاطب بما تقتضيه حاله وهذه قاعدة مهمة، فإذا قررنا هذا لايرد علينا الإشكال الآتي وهو أن يقال: لماذا لم يوصه بتقوى الله عزّ وجل،كما قال الله عزّ وجل: ( وَلَقَدْ وَصَّيْنَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَإِيَّاكُمْ أَنِ اتَّقُوا اللَّهَ)(النساء: الآية131)

فالجواب: أن كل إنسان يخاطب بما تقتضيه حاله، فكأن النبي عرف من هذا الرجل أنه غضوب فأوصاه بعدم الغضب.

مثال آخر: رجل أتى إليك وقال: أوصني، وأنت تعرف أن هذا الرجل يصاحب الأشرار، فيصح أن تقول: أوصيك أن لاتصاحب الأشرار، لأن المقام يقتضيه.

ورجل آخر جاء يقول: أوصني، وأنت تعرف أن هذا الرجل يسيء العشرة إلى أهله، فتقول له: أحسن العشرة مع أهلك.

فهذه القاعدة التي ذكرناها يدل عليها جواب النبي ، أي أن يوصى الإنسان بما تقتضيه حاله لا بأعلى ما يوصى به، لأن أعلى ما يوصى به غير هذا.

.3
النهي عن الغضب، لقوله: "لاَ تَغْضَبْ" لأن الغضب يحصل فيه مفاسد عظيمة إذا نفذ الإنسان مقتضاه.
.4أن الدين الإسلامي ينهى عن مساوئ الأخلاق لقوله: "لاَ تَغضبْ" والنهي عن مساوئ الأخلاق يستلزم الأمر بمحاسن الأخلاق، فعوّد نفسك التحمل وعدم الغضب، فقد كان الأعرابي يجذب رداء النبي حتى يؤثر في رقبته ثم يلتفت إليه ويضحك، ولايغضب عليه، فعليك بالحلم ما أمكنك ذلك حتى يستريح قلبك وتبتعد عن الأمراض الطارئة من الغضب كالسكر، والضغط وما أشبهه. والخُلُقْ بالتَّخَلُّقْ، والصَّبر بالتَّصَبُّرْ، فمن جَاهَدَ نَفْسَهُ على هذا أعانَهُ اللهُ جلَّ وعلا.
آثار الغضب:
واعلم أن للغضب المذموم ءاثارا في الظاهر وفي اللسان وفي الأعضاء وفي القلب .
-     أما في الظاهر فتغير اللون وشدة الرعدة في الأطراف وخروج الأفعال عن الترتيب والنظام واضطراب الحركة والكلام حتى يظهر الزبد على الأشداق وتحمر الأحداق ، ولو رأى الغضبان قبح صورته في حالة غضبه لسكن غضبه حياء من قبح صورته .
- وأما أثره في اللسان فانطلاقه بالشتم والفحش من الكلام الذي يستحي منه ذو العقل ويستحي منه قائله عند فتور الغضب .
وأكبر ذنب يقع عند الغضب في اللسان هو الكفر والعياذ بالله تعالى فكم من إنسان كفر وخرج من الإسلام عند الغضب بسبه لله أو رسول الله أو الملائكة أو القرءان أو دين الإسلام ، وكم من إنسان بسبب الغضب تكلم بلسانه كلمات سببت سجنه طيلة عمره أو كانت سببا لقتله وخراب داره .
- وأما أثره في الأعضاء فالضرب والتهجم والتمزيق والقتل والجرح عند التمكن من غير مبالاة فإن هرب المغضوب عليه منه أو فاته بسبب وعجز عن التشفي رجع الغضب على صاحبه فمزق ثوب نفسه ولطم نفسه وقد يضرب بيده على الأرض ويعدو عدو الواله السكران والمدهوش المتحير وربما يسقط سريعا .
- وأما أثره في القلب مع المغضوب عليه فالحقد والحسد وإضمار السوء والعزم على إفشاء السر وهتك الستر والاستهزاء وغير ذلك من القبائح .
فهذه ثمرة الغضب المفرط ومن مال غضبه إلى الإفراط حتى جره إلى التهور واقتحام الفواحش فينبغي أن يعالج نفسه لينقص من الغضب.

ودواء الغضب نوعين :  لفظي وفعلي

- أما الدواء اللفظي: إذا أحس بالغضب فليقل: أعوذ بالله من الشيطان الرجيم. لأن النبي رأى رجلاً قد غضب غضباً شديداً فقال: " إِنِّي أَعلَمُ كَلِمَةً لوْ قَالَهَا لَذَهَبَ عَنْهُ مَايَجِد - يعني الغضب - لَوقَالَ: أَعُوذُ بِاللهِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيْمِ"  صحيح مسلم

- وأما الدواء الفعلي: إذا كان قائماً فليجلس، وإذا كان جالساً فليضطّجع،لأن تغير حاله الظاهر يوجب تغير حاله الباطن، فإن لم يفد فليتوضّأ، لأن اشتغاله بالوضوء ينسيه الغضب، ولأن الوضوء يطفئ حرارة الغضب.

ولايقتصر على هذا ولكن يفضل انه إذا غضب ولم ينفعه كل ما سبق عليه أن يغادر المكان الذي كان فيه فتغيير المكان يغير الحالة التي كان عليها.

موقف واحداث في الغضب من سيرة السلف
وروى الترمذي أن الرسول قال :(ألا إن الغضب جمرة في قلب ابن ءادم)،  وقال رسول الله ﷺ: ( ليس الشديد بالصرعة وإنما الشديد الذي يملك نفسه عند الغضب) .
وقال عكرمة في قوله تعالى :( أَنَّ اللَّـهَ يُبَشِّرُ‌كَ بِيَحْيَىٰ مُصَدِّقًا بِكَلِمَةٍ مِّنَ اللَّـهِ وَسَيِّدًا وَحَصُورً‌ا وَنَبِيًّا مِّنَ الصَّالِحِينَ) أل عمران 39،  قال :"السيد هو الذي لا يغلبه الغضب" ، فالغضب مفتاح شر . .

وقد كتب عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه إلى عامه :"أن لا تعاقب عند غضبك على رجل، فاحبسه فإذا سكن غضبك فأخرجه فعاقبه على قدر ذنبه ولا تجاوز به خمسة عشر سوطا".
ولما أغلظ القول رجل من قريش لعمر بن عبد العزيز أطرق عمر زمانا طويلا ثم قال :"أردت أن يستفزني الشيطان بعز السلطان فأنال منك اليوم ما تناله مني غدا".
 فمن أراد الخير والسعادة والنجاة فليقتد بسيد المرسلين سيدنا محمد فإنه كان كما قال هند بن أبي هالة في وصفه :"لا تغضبه الدنيا وما كان منها فإذا تعدي الحق لم يقم لغضبه شىء حتى ينتصر له ولا يغضب لنفسه ولا ينتصر لها وكان إذا سر ورضي فهو أحسن الناس رضا وإن وعظ وعظ بجد وإن غضب ولا يغضب إلا لله لم يقم لغضبه شىء".
وثابت أن الرسول كان غضبه لا يخرجه عن الحق ولا عن كلام الحق ولا عن موقف الحق كما أن رضاه لا يدخله في الباطل لأنه معصوم ، وبه اقتدى فاروق الأمة سيدنا عمر رضي الله عنه لما قال له رجل : والله ما تقضي بالعدل ولا تعطي الجزل فغضب عمر حتى عرف ذلك في وجهه فقال له رجل : يا أمير المؤمنين ألا تسمع أن الله تعالى يقول : (خذ العفو وأمر بالعرف وأعرض عن الجاهلين) فهذا من الجاهلين ، فقال عمر : صدقت ، قال فكأنما كانت نارا فأطفئت".
وجاء رجل إلى سيدنا سلمان الفارسي رضي الله عنه وقال له : يا عبد الله أوصني قال : لا تغضب ، قال لا أقدر ، قال : فإن غضبت فأمسك لسانك ويدك .
وروي أن سيدنا محمدا قال للسيدة عائشة أم المؤمنين رضي الله عنها إن غضبت :"قولي :اللهم رب النبي محمد اغفر لي ذنبي وأذهب غيظ قلبي وأجرني من مضلات الفتن" ، فيستحب لك أيها المسلم أن تقول ذلك إذا غضبت

اللهم علمنا ما ينفعنا ، وانفعنا بما علمتنا وزدنا علما يا رب العالمين

No comments:

Post a Comment