Saturday 15 February 2014

تدبر آيات من القرآن العظيم - الحزب الثامن - ج2 - سورة النساء - التوبة



 الحزب الثامن – ج 2–  سورة النساء التوبة حقيقتها ، وشروطها 

قال تعالى : (إِنَّمَا التَّوْبَةُ عَلَى اللَّـهِ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السُّوءَ بِجَهَالَةٍ ثُمَّ يَتُوبُونَ مِن قَرِ‌يبٍ فَأُولَـٰئِكَ يَتُوبُ اللَّـهُ عَلَيْهِمْ ۗ وَكَانَ اللَّـهُ عَلِيمًا حَكِيمًا *وَلَيْسَتِ التَّوْبَةُ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ حَتَّىٰ إِذَا حَضَرَ‌ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ إِنِّي تُبْتُ الْآنَ وَلَا الَّذِينَ يَمُوتُونَ وَهُمْ كُفَّارٌ‌ ۚ أُولَـٰئِكَ أَعْتَدْنَا لَهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا ) (النساء 17-18 )

التفسير المجمل:ـ ( من تفسير السعدي )

توبة الله على عباده مرحلتان‏:‏ توفيق منه للتوبة، وقبول لها بعد وجودها من العبد، فأخبر هنا ـ أن التوبة المستحقة على الله حق أحقه على نفسه، كرما منه وجودا، لمن عمل السوء أي‏:‏ المعاصي ‏( بِجَهَالَةٍ ) أي‏:‏ جهالة منه بعاقبتها وإيجابها لسخط الله وعقابه، وجهل منه بنظر الله ومراقبته له، فكل عاص لله، فهو جاهل بهذا الاعتبار وإن كان عالما بالتحريم‏.‏ بل العلم بالتحريم شرط لكونها معصية معاقبا عليها ، فإنه إن لم يعلم بالتحريم حال قيامه بها لم تعد معصية، وقوله( ثُمَّ يَتُوبُونَ مِن قَرِ‌يبٍ ) ‏ يحتمل أن يكون المعنى‏:‏ ثم يتوبون قبل معاينة الموت، فإن الله يقبل توبة العبد إذا تاب قبل معاينة الموت . وأما بعد حضور الموت فلا يُقبل من العاصين توبة ولا من الكفار رجوع، كما قال تعالى عن فرعون‏:‏‏ ( حَتَّىٰ إِذَا أَدْرَ‌كَهُ الْغَرَ‌قُ قَالَ آمَنتُ أَنَّهُ لَا إِلَـٰهَ إِلَّا الَّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنُو إِسْرَ‌ائِيلَ وَأَنَا مِنَ الْمُسْلِمِينَ ‏) يونس 90 وقال تعالى‏:‏( ‏فَلَمَّا رَ‌أَوْا بَأْسَنَا قَالُوا آمَنَّا بِاللَّـهِ وَحْدَهُ وَكَفَرْ‌نَا بِمَا كُنَّا بِهِ مُشْرِ‌كِينَ* فَلَمْ يَكُ يَنفَعُهُمْ إِيمَانُهُمْ لَمَّا رَ‌أَوْا بَأْسَنَا ۖ) (غافر 84-85 )
‏وذلك أن التوبة في هذه الحال توبة اضطرار لا تنفع صاحبها، إنما تنفع توبة الاختيار‏.‏ ويحتمل أن يكون معنى قوله‏:‏ (مِن قَرِ‌يبٍ )  أي‏:‏ قريب من فعلهم للذنب الموجب للتوبة، فيكون المعنى‏:‏ أن من بادر إلى الإقلاع من حين صدور الذنب وأناب إلى الله وندم عليه فإن الله يتوب عليه، بخلاف من استمر على ذنوبه وأصر على عيوبه، حتى صارت فيه صفاتٍ راسخةً فإنه يعسر عليه إيجاد التوبة التامة‏.‏
والغالب أنه لا يوفق للتوبة ولا ييسر لأسبابها، كالذي يعمل السوء على علم تام ويقين وتهاون بنظر الله إليه، فإنه سد على نفسه باب الرحمة‏.‏
نعم قد يوفق الله عبده المصر على الذنوب عن عمد ويقين لتوبة تامة ‏ يمحو بها ما سلف من سيئاته وما تقدم من جناياته، ولكن الرحمة والتوفيق للأول أقرب، ولهذا ختم الآية الأولى بقوله‏:‏ ‏( وَكَانَ اللَّـهُ عَلِيمًا حَكِيمًا )  
فمِن علمه أنه يعلم صادق التوبة وكاذبها فيجازي كلا منهما بحسب ما يستحق بحكمته، ومن حكمته أن يوفق من اقتضت حكمته ورحمته توفيقَه للتوبة، ويخذل من اقتضت حكمته وعدله عدمَ توفيقه‏.‏ والله أعلم‏.‏

التفصيل:
إنما يقبل اللّه التوبة ممن عمل السوء بجهالة ثم يتوب قبل الغرغرة، قال مجاهد: كل من عصى اللّه خطأ أو عمداً فهو جاهل حتى ينزع عن الذنب، وقال قتادة، كان أصحاب رسول اللّه يقولون: كل ذنب أصابه عبد فهو جهالة،، ما بينه وبين أن ينظر إلى ملك الموت. وقال الضحاك: ما كان دون الموت فهو قريب، وقال قتادة والسُدِّي: ما دام في صحته، وقال الحسن البصري: (  ثم يتوبون من قريب) (ما لم يغرغر). فكل ما كان قبل الموت فهو قريب
ذكر الأحاديث في ذلك قال الإمام أحمد عن ابن عمر عن النبي قال: (إن اللّه يقبل توبة العبد ما لم يغرغر) ومعنى ما لم يغرغر : ما لم تبلغ روحه حلقومه؛ فيكون بمنزلة الشيء الذي يتغرغر به ،حديث آخر: قال ابن مردويه عن عبد اللّه بن عمر، سمعت رسول اللّه يقول: (ما من عبد مؤمن يتوب قبل الموت بشهر إلا قَبِل الله منه أدنى من ذلك؛ وقبل موته بيوم وساعة يعلم اللّه منه التوبة والأخلاص إليه إلا قبل منه) وحديث آخر: عن عبد اللّه بن عمر، يقول: إن تاب قبل موته بعام تيب عليه، ومن تاب قبل موته بشهر تيب عليه، ومن تاب قبل موته بجمعة تيب عليه، ومن تاب قبل موته بيوم تيب عليه، ومن تاب قبل موته بساعة تيب عليه) فقلت له: إنما قال اللّه : ( إنما التوبة على اللهّ للذين يعملون السوء بجهالة ثم يتوبون من قريب) فقال إنما أحدثك ما سمعته من رسول اللّه

وروى صالح المري عن الحسن قال : من عير أخاه بذنب قد تاب إلى الله منه ابتلاه الله به. وقال الحسن أيضا : إن إبليس لما هبط قال : بعزتك لا أفارق ابن آدم ما دام الروح في جسده. قال الله تعالى : (فبعزتي لا أحجب التوبة عن ابن آدم ما لم تغرغر نفسه، وقوله تعالى (وليست التوبة)  نفى سبحانه أن يدخل في حكم التائبين من حضره الموت وصار في حين اليأس؛ كما كان فرعون حين صار في غمرة الماء والغرق فلم ينفعه ما أظهر من الإيمان؛ لأن التوبة في ذلك الوقت لا تنفع، لأنها حال زوال التكليف.

وهذا على أن السيئات ما دون الكفر؛ أي ليست التوبة لمن عمل دون الكفر من السيئات ثم تاب عند الموت، ولا لمن مات كافرا فتاب يوم القيامة. وقد قيل : إن السيئات هنا الكفر، فيكون المعنى وليست التوبة للكفار الذين يتوبون عند الموت، ولا للذين يموتون وهم كفار. وقال أبو العالية : نزل أول الآية في المؤمنين ( إنما التوبة على الله) . والثانية في المنافقين. ( وليست التوبة للذين يعملون السيئات) يعني قبول التوبة للذين أصروا على فعلهم. ( حتى إذا حضر أحدهم الموت) يعني الشرق والنزع ومعاينة ملك الموت. ( قال إني تبت الآن) فليس لهذا توبة. ثم ذكر توبة الكفار فقال تعالى ( ولا الذين يموتون وهم كفار أولئك أعتدنا لهم عذابا أليما) أي وجيعا دائما.

يشترط للتوبة من المعصية الشروط التالية:

الشرط الأول: الإخلاص لله، فينبغي أن تكون النية فيها خالصة لله تعالى.

الشرط الثاني: الإقلاع عن الذنب.

الشرط الثالث : الندم على ما فات. والندم بحد ذاته توبة.
ا
لشرط الرابع : العزم على عدم العود ، وإن عاد بعدها غلبته شهوته فتوبته في وقتها مقبولة.

الشرط الخـامس : التحلل من أصحاب الحق إذا كانت المعصية فيها تعدي على حق فلا تصح التوبة منه إلا برده إلى صاحبه والخروج عنه - عينا كان أو غيره - إن كان قادرا عليه، فإن لم يكن قادرا فالعزم أن يؤديه إذا قدر في أعجل وقت وأسرعه.

وإن كان أضر بواحد من المسلمين وذلك الواحد لا يشعر به أو لا يدري من أين أتى، فإنه يزيل ذلك الضرر عنه، ثم يسأله أن يعفو عنه ويستغفر له، فإذا عفا عنه فقد سقط الذنب عنه. وإن أرسل من يسأل ذلك له، فعفا ذلك المظلوم عن ظالمه - عرفه بعينه أو لم يعرفه - فذلك صحيح.

وإن أساء رجل إلى رجل بأن فزعه بغير حق، أو غمه أو لطمه، أو صفعه بغير حق، أو ضربه بسوط فآلمه، ثم جاءه مستعفيا نادما على ما كان منه، عازما على ألا يعود، فلم يزل يتذلل له حتى طابت نفسه فعفا عنه، سقط عنه ذلك الذنب، وإلا يستقص منه ، وهكذا إن كان شانه بشتم لا حد فيه.
وليس من شروط التوبة التي ذكرها العلماء إقامة الحد، فلو سرق المسلم أو زنى أو شرب الخمر أو قتل مسلماً أو قذف مسلماً، وستر الله عليه وتاب من المعصية تاب الله عليه، فالتوبة تغسل الحوبة، ولا يشترط للمغفرة أقامة الحد!

هل التوبة تكفر العذاب الأخروي المتعلق بفعل المعاصي؟ الجواب : عن عُبَادَةَ بْنَ الصَّامِتِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وَكَانَ شَهِدَ بَدْرًا وَهُوَ أَحَدُ النُّقَبَاءِ لَيْلَةَ الْعَقَبَةِ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ قَالَ وَحَوْلَهُ عِصَابَةٌ مِنْ أَصْحَابِهِ: ( بَايِعُونِي عَلَى أَنْ لَا تُشْرِكُوا بِاللَّهِ شَيْئًا وَلَا تَسْرِقُوا وَلَا تَزْنُوا وَلَا تَقْتُلُوا أولـَادَكُمْ وَلَا تَأْتُوا بِبُهْتَانٍ تَفْتَرُونَهُ بَيْنَ أَيْدِيكُمْ وَأَرْجُلِكُمْ وَلَا تَعْصُوا فِي مَعْرُوفٍ فَمَنْ وَفي مِنْكُمْ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ، وَمَنْ أَصَابَ مِنْ ذَلِكَ شَيْئًا فَعُوقِبَ فِي الدُّنْيَا فَهُوَ كَفَّارَةٌ لَهُ ، وَمَنْ أَصَابَ مِنْ ذَلِكَ شَيْئًا ثُمَّ سَتَرَهُ اللَّهُ فَهُوَ إلى اللَّهِ إِنْ شَاءَ عَفَا عَنْهُ وَإِنْ شَاءَ عَاقَبَه. فَبَايَعْنَاهُ عَلَى ذَلِك" أخرجه) البخاري ومسلم.

والشاهد في الحديث قوله : (وَمَنْ أَصَابَ مِنْ ذَلِكَ شَيْئًا ثُمَّ سَتَرَهُ اللَّهُ فَهُوَ إلى اللَّهِ إِنْ شَاءَ عَفَا عَنْهُ وَإِنْ شَاءَ عَاقَبَه)؛ فهذا يشمل مـن تاب من ذلك ومن لم يتب، وعلى هذا من عمل معصية فهو في مشيئة الله إن شاء غفر له وإن شاء عذبه، والأولى لمن تاب أن يغفر الله له بعفوه وكرمه.
وذهب الجمهور إلى أن من تاب لا يبقى عليه مؤاخذة، ومع ذلك فلا يأمن مكر الله لأنه لا اطلاع له هل قبلت توبته أو لا!

والحاصل : أن من تاب من الذنب توبة نصوحا فإن الله يتقبل توبته، والله عزوجل يقول: (أَلَمْ يَعْلَمُوَاْ أَنّ اللّهَ هُوَ يَقْبَلُ التّوْبَةَ عَنْ عِبَادِهِ وَيَأْخُذُ الصّدَقَاتِ وَأَنّ اللّهَ هُوَ التّوّابُ الرّحِيمُ)التوبة 104 
 ويقول: (وَهُوَ الّذِي يَقْبَلُ التّوْبَةَ عَنْ عِبَادِهِ وَيَعْفُواْ عَنِ السّيّئَاتِ وَيَعْلَمُ مَا تَفْعَلُونَ).الشورى 25 
ويقول: (يَا أَيُّهَا الّذِينَ آمَنُواْ تُوبُوَاْ إلى اللّهِ تَوْبَةً نّصُوحاً عَسَى رَبّكُمْ أَن يُكَفّرَ عَنكُمْ سَيّئَاتِكُمْ وَيُدْخِلَكُمْ جَنّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأنْهَارُ يَوْمَ لاَ يُخْزِى اللّهُ النّبِيّ وَالّذِينَ آمَنُواْ مَعَهُ نُورُهُمْ يَسْعَى بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمَانِهِمْ يَقُولُونَ رَبّنَآ أَتْمِمْ لَنَا نُورَنَا وَاغْفِرْ لَنَآ إِنّكَ عَلَى كُلّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) التحريم 7. وعسى من الله واجبة!  
وقال سبحانه : (غافِرِ‌ الذَّنبِ وَقَابِلِ التَّوْبِ شَدِيدِ الْعِقَابِ ذِي الطَّوْلِ ۖ لَا إِلَـٰهَ إِلَّا هُوَ ۖ إِلَيْهِ الْمَصِيرُ‌ ) غافر 3

وهذه الآيات ترجح مذهب جمهور العلماء، فيكون من تاب من المعصية توبة نصوحاً داخلاً في المغفرة، ومن مات على المعصية ولم يتب منها فهو في مشيئة الله إن شاء غفر له، وإن شاء عذبه.

No comments:

Post a Comment