Friday 14 February 2014

شرح أحاديث الأربعين النووية - الحديث الحادي عشر - دع ما يريبك



  


الحديث الحادي عشر


عَنْ أَبِي مُحَمَّدٍ الحَسَنِ بنِ عَلِيّ بنِ أبِي طالبٍ سِبْطِ رَسُولِ اللهِ وَرَيْحَانَتِهِ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا قَالَ: حَفِظْتَ مِنْ رَسُوْلِ اللهِ ـ
 
(دَعْ مَا يَرِيْبُكَ إِلَى مَا لاَ يَرِيْبُكَ)

 رواه الترمذي والنسائي وقال الترمذي: حديث حسن صحيح

راوي الحديث :ـ

الحسن بن علي بن أبي طالب رضي الله عنهما سبط النبي ، والسبط: هوابن البنت، وابن الابن يسمى: حفيداً، وقد وصفه النبي بأنه سيد فقال:ـ
 ( إِنَّ ابْنِي هذَا سَيِّدٌ، وَسَيُصْلِحُ اللهُ بهِ بَيْنَ فِئَتَيْنِ مِنَ المُسْلِمِيْنَ)  وكان الأمر كذلك، فإنه بعد أن استشهد علي بن أبي طالب رضي الله عنه وبويع بالخلافة للحسن،  تنازل عنها لمعاوية رضي الله عنه، فأصلح الله بهذا التنازل بين أصحاب معاوية وأصحاب علي رضي الله عنهما، وحصل بذلك خير كثير.  
 وأما قوله :ـ وَرَيحَانَتهُ الريحانة هي تلك الزهرة الطيبة الرائحة،وقد وصف النبي صلى الله عليه وسلم الحسن والحسين بأنهما ريحانتاه.   
    والحسن قد حفظ أحاديث كثيرة جداً عن النبي ، لكن أكثرها بواسطة ( اي سمعها من صحابي أكبرمنه، ممن سمع من النبي )؛ لأنه من صغار الصحابة، فكثير منها بواسطة، وإذا كان ابن عباس لم يثبت عنه أنه روى مباشرة عن النبي -عليه الصلاة والسلام- إلا ما يقارب الأربعين حديثاً، وما عداه فبواسطة، فالحسن على قربه من النبي مثله، فالصغير لا يحضر كل مجلس، ولا يحفظ كل ما يسمع، ولا ينتبه لكل ما يقال، على كل حال هذا الحديث الذي معنا مما حفظه من النبي

معاني الألفاظ:ـ

 دَعْ :ـ أي اترك
 مَا يرِيْبُكَ:ـ أي ما يلحقك به ريب وشك وقلق ، إلى 
مَا لاَ يَرِيْبُكَ:ـ أي شيء لا يلحقك بي ريب وشك وقلق

الشرح :ـ 

وهذا الحديث من جوامع الكلم وما أجوده وأنفعه للعبد إذا سار عليه.
لهذا الحديث تطبيقين واضحين:ـ 

اولهما :ـفي الشبهات ؛أي شيء تشك فيه، أي شيء فيه أدنى شبهة أتركه، كما تقدم في حديث النعمان بن بشير:ـ( الحلال بيِّن، والحرام بيِّن، وبينهما أمور مشتبهات، فمن اتقى الشبهات فقد استبرأ لدينه وعرضه)
 هكذا ينبغي لطالب العلم على وجه الخصوص، والمسلم عموماً أن يأطر نفسه ويجبرها على هذا الأمر، يبتعد عن الشبهات ليضع لنفسه سياجاً يأمن معه ارتكاب المحرمات، والنفس لا نهاية لهواها.
 وقد جاء في السير أن سلف هذه الأمة يتركون من الحلال الشيء الكثير؛ لأن النفس إذا ذاقت شيء ودرت عليه ،تعودت عليه لا تطيق فراقه، فقد لا يحصل هذا الشيء الذي عود نفسه عليه من وجه حلال بيِّن، ثم بعد ذلك يرتكب شبهة، يقول: الشبهة الحمد لله ما ارتكبنا حرام، لكن الشبهة تجره إلى الحرام كالراعي يحوم حول الحمى يكاد يقع فيه ، فكل شيء يقربك من الحرام ابتعد عنه، كما قال تعالى :ـ ( تلك حدود الله فلا تقربوها ) ( البقرة 187)

 هذا ضابط أي شيء تشك فيه اتركه، ولا تقدم على شيء إلا أن تجزم بأنه حلال، لا شبهة فيه ولا كراهية فضلاً عن أن يكون محرماً 

يدخل هذا الحديث في الاعتقادات نفياً وإثباتاً، فلا تثبت لله -جل وعلا- إلا ما تجزم بثبوته عنه، وما كان مشكوكاً فيه ولم يتفق عليه علماء هذه الأمة من سلفها وأئمتها فإنك لا تثبته لله -جل وعلا-

في العبادات :ـ  إذا أردت أن تصلي صلاة من الصلوات الخاصة الذي جاء فيها بعض النصوص التي يختلف أهل العلم في ثبوتها ونفيها، صلاة التسابيح، صلاة الرغائب، صلاة كذا، صلاة كذا، لا تقدم على هذه العبادة إلا مع عدم الشك في ثبوتها؛ لئلا تتعبد لله -جل وعلا- بما لم يشرعه.

في أمور المعاملات :ـ ظاهرة واضح في المقتنيات من المآكل والمشارب والملابس والمساكن لا تقدم المسلم على شيء إلا في عقد صحيح تبرأ به الذمة، والعقود التي تشك في صحتها، وإن أفتاك من أفتاك بأنها صحيحة فإنك لا تقدم عليها امتثالاً لهذا الأمر؛ لأن فيها ما يريب
 
ثانيها :ـ في الشكوك التي ترد على النفس ،  فالعبد يرد عليه شكوك كثيرة في أشياء كثيرة، وأعمال يعملها  ، فنقول: دع الشك إلى ما لاشكّ فيه حتى تستريح وتسلم، فكل شيء يلحقك به شكّ وقلق وريب اتركه إلى أمر لا يلحقك به ريب، وهذا مالم يصل إلى حد الوسواس، فإن وصل إلى حد الوسواس فلا تلتفت له.

وهذا يكون في العبادات، ويكون في المعاملات، ويكون في النكاح، ويكون في كل أبواب العلم

ومثال ذلك في العبادات: رجل انتقض وضوؤه، ثم صلى، وشكّ هل توضّأ بعد نقض الوضوء أم لم يتوضّأ ؟ فوقع في الشكّ ، فإن توضّأ فالصلاة صحيحة، وإن لم يتوضّأ فالصلاة باطلة، وبقي في قلق

فنقول: دع ما يريبك إلى ما لايريبك، فالريب هنا صحة الصلاة، وعدم الريب أن تتوضّأ وتصلي

وعكس المثال السابق : رجل توضّأ ثم صلى وشك هل انتقض وضوؤه  أم لا؟

فنقول: دع ما يريبك إلى ما لايريبك، عندك شيء متيقّن وهو الوضوء، ثم شككت هل طرأ على هذا الوضوء حدث أم لا؟ فالذي يُترك هو الشك: هل حصل حدث أو لا؟ وأرح نفسك، واترك الشك

كذلك أيضاً في النّكاح: كما لو شكّ الإنسان في شاهدي النكاح هل هما ذوا عدل أم لا ؟ فنقول: إذا كان الأمر قد تم وانتهى فقد انتهى على الصحة ودع القلق لأن الأصل في العقود الصحة حتى يقوم دليل الفساد  

في الرّضاع: شَكُّ المرضعةِ هل أرضعت الطفل خمس مرات أو أربع مرات؟

نقول: الذي لاريب فيه الأربع، والخامسة فيها ريب، فنقول: دع الخامسة واقتصر على أربع، وحينئذ لايثبت حكم الرضاع  

هذا الباب بابٌ واسعٌ لكنه في الحقيقة طريق مستقيم إذا مشى الإنسان عليه في حياته حصل على خير كثير

وقد تَقَدَّمَ أَنَّ هذا مقيّد بما إذا لم يكن وسواساً، فإن كان وسواساً فلا يلتفت إليه، وعدم الالتفات إلى الوسواس هو ترك لما يريبه إلى ما لايريبه، ولهذا قال العلماء - رحمهم الله - الشك إذا كثر فلا عبرة به، لأنه يكون وسواساً، وعلامة كثرته: أن الإنسان إذا توضّأ لا يكاد يتوضأ إلا شك، وإذا صلى لا يكاد يصلي إلا شك، فهذا وسواس فلا يلتفت إليه، وحينئذ يكو ن قد ترك ما يريبه إلى ما لايريبه  

مثال آخر: رجل أصاب ثوبه نجاسة وغسلها، وشكّ هل النجاسة زالت أم لم تزل؟ يغسلها ثانية، لأن زوالها الآن مشكوك فيه، وعدم زوالها هو الأصل، فنقول:دع هذا الشك وارجع إلى الأصل واغسلها حتى تتيقّن أو يغلب على ظنك أنها زالت  

من فوائد هذا الحديث  

.1
أن الدين الإسلامي لا يريد من أبنائه أن يكونوا في شكّ ولا قلق، لقوله (  دَعْ مَا يرِيْبُكَ إِلَى مَا لاَيَرِيْبُكْ. )

.2
أنك إذا أردت الطمأنينة والراحة فاترك المشكوك فيه واطرحه جانباً،لاسيّما بعد الفراغ من العبادة حتى لايلحقك القلق
 ومثاله: رجل طاف بالبيت وانتهى وذهب إلى مقام إبراهيم ليصلي، فشك هل طاف سبعاً أو ستًّا فماذا يصنع؟

الجواب: لايصنع شيئاً، لأن الشك طرأ بعد الفراغ من العبادة، إلا إذا تيقن أنه طاف ستًّا فيكمل إذا لم يطل الفصل.

-
 مثال آخر: رجل انتهى من الصلاة وسلم، ثم شك هل صلى ثلاثاً أم أربعاً، فماذا يصنع؟

الجواب: لايلتفت إلى هذا الشك، فالأصل صحة الصلاة مالم يتيقن أنه صلى ثلاثاً فيأتي بالرابعة إذا لم يطل الفصل ويسلم ويسجد للسهو ويسلم.
3. أنه على المسلم أن يتقى الشبهات قدر استطاعتهن ، ويعمل بما هو حلال بيّب حله ، ويبتعد عن الشيء الغير متفق على حله .

.3
أن النبي صلى الله عليه وسلم أعطي جوامع الكلم، واختصر له الكلام اختصاراً، لأن هاتين الجملتين: "دع مايريبك إلى مالايريبك" لو بنى عليهما الإنسان مجلداً ضخماً لم يستوعب ما يدلان عليه من المعاني

وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم 
.
تجميع وترتيب من شرح الحديث للشيخين:ـ 

- محمد صالح العثيمين غفر الله له

-  عبد الكريم الخضير حفظه الله تعالى

No comments:

Post a Comment