Sunday 16 February 2014

تدبر آيات من القرآن العظيم - الحزب التاسع ج2 - تزكية النفس والغير حكمها




الحزب التاسع – سورة النساء – تزكية النفس والغير

قال تعالى : في سورة النساء
(أَلَمْ تَرَ‌ إِلَى الَّذِينَ يُزَكُّونَ أَنفُسَهُم ۚ بَلِ اللهُ يُزَكِّي مَن يَشَاءُ وَلَا يُظْلَمُونَ فَتِيلًا ) 49
سبب نزول الآية :

قال الكلبي: نزلت في رجال من اليهود أتوا رسول الله بأطفالهم ، وقالوا : يا محمد هل على أولادنا هؤلاء من ذنب ؟ قال : لا ، فقالوا : والذي نحلف به، ما نحن إلا كهيئتهم، ما من ذنب نعمله بالنهار إلا كفر عنا بالليل ، وما من ذنب نعمله بالليل إلا كفر عنا بالنهار . فهذا الذي زكوا به أنفسهم .
تعجّب من حال اليهود إذ يقولون : ( نحن أبناء الله وأحباؤه ) ، ( وَقَالُواْ لَن يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلاَّ مَن كَانَ هُوداً ) ونحو ذلك من إدلالهم الكاذب.

معنى الزكاة في اللغة

والتزكية: هي المدح والثناء. وأَصل الزكاة في اللغة الطهارة والنَّماء والبَركةُ والمَدْح، وكله قد استعمل في القرآن والحديث، وقوله تعالى: ( والذين هم للزَّكاةِ فاعلون )( المؤمنون4) 
فالزكاة في اللغة هي الزيادة في الخير، ومنه يقال: زكا الزرع، وزكا المال إذا نما، ولن ينمو الخير إلا بترك الشر، والزرع لا يزكو حتى يزال عنه الدغل، فكذلك النفس، والأعمال لا تزكوا حتى يزال عنها ما يناقضها، ولا يكون الرجل متزكيًا إلا مع ترك الشر
أو التطهير، ومنه قوله تعالى ( قد أفلح من زكاها ) ( الشمس 9)

وإن تزكية النفس بذكر محاسنها التى يراها من عند نفسه أمر خطير، وهو من مداخل الشيطان، وقد نهى الشارع الحكيم عنه، والله سبحانه وتعالى أعلم بنفوسنا، فقد قال الله تعالى: ( فَلا تُزَكُّوا أَنْفُسَكُمْ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اتَّقَى )[ النجم 32 ] وفيها تحذير للمؤمنين من العُجب بأعمالهم الحسنة عُجباً يُحدثه المرء في نفسه ،أو يُدخله أحد على غيره بالثاء عليه بعمله.

أي لا تمدحوها وتشكروها وتَمُنوا بأعمالكم على الناس وعلى خالقكم، هو ربكم وخالقكم أعلم بمن اتقى منكم.

قال الحسن: قد علم الله سبحانه كل نفس ما هي عاملة، وما هي صانعة، وإلى ما هي صائرة. اهـ

وقال القرطبي: - قوله تعالى -: ( فَلا تُزَكُّوا أَنْفُسَكُمْ ) أي لا تمدحوها ولا تثنوا عليها، فإنه أبعد من الرياء وأقرب إلى الخشوع، هو أعلم بمن اتقى، أي أخلص العمل واتقى عقوبة الله

 هذه بعض النصوص الشرعية الدالة على عدم جواز تزكية المرء لنفسه أو غيره، لِمَا فيها من الحماقة والمُراءاة والغرور والإعجاب بالنفس:

حديث أم عطية حين مات عثمان بن مظعون في بيتها ، ودخل عليه رسول الله فقالت أم عطية : رحمة الله عليك أبا السائب فشهادتي عليك لقد أكرمك الله ، فقال النبي : وما يدريك أن الله أكرمه ؟ فقلت : بأبي أنت يا رسول الله ! فمن يكرمه الله ؟ فقال : أما هو فقد جاءه اليقين ، والله إني لأرجو له الخير ، والله ما أدري  وأنا رسول الله  ما يُفعل بي . قالت : فو الله لا أزكي أحدا بعده أبدا . ( رواه البخاري )
عن عمرو بن عطاء، قال: "سميت ابنتي برة، فقالت لي زينب بنت أبي سلمة: إن رسول الله نهى عن هذا الاسم، وسميت برة، قال رسول الله : لا تزكوا أنفسكم الله أعلم بأهل البر منكم، فقالوا: بم نسميها؟ قال: سموها زينب".
إن النهي عن تزكية النفس إنما هو لمن زكاها ومدحها لغير حاجة بل للفخر والإعجاب، أو مدحها بما ليس فيها، غير أنه إذا اقتضت الضرورة ذلك، جاز للمرء أن يزكي نفسه حينئذ.كأن يكون تزكيته لنفسه شكرا للنعمة، أو لبيان فضله ليقتدى به كما في الحديث عن  النبي قوله عن نفسه : ( أما والله إني لأخشاكم لله وأتقاكم له ..) ، فلا ينهى عن ذلك، فقد قال أهل التفسير في معنى الآية الأولى: ( فَلَا تُزَكُّوا أَنفُسَكُمْ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اتَّقَى) (النجم: 32). أي لا تمدحوها وتشكروها وتمنوا بأعمالكم وبطهارة أنفسكم من المعاصي والرذائل، وهذه الآية مثل قول الله تعالى: ( أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يُزَكُّونَ أَنفُسَهُمْ بَلِ اللّهُ يُزَكِّي مَن يَشَاء وَلاَ يُظْلَمُونَ فَتِيلاً )  (النساء: 49 ).
المواضع التي يصرح فيها بتزكية النفس:
ففي آية سورة النجم نهي صريح عن مدح النفس والرفع من شأنها، وفي آية سورة النساء إنكار شديد على من يفعل ذلك من اليهود وغيرهم، وقال النووي في شرحه لصحيح مسلم: وأما النهي عن تزكية النفس فإنما هو لمن زكاها ومدحها لغير حاجة، بل للفخر والإعجاب. ولكن لا مانع من تزكية الشخص لنفسه في مواضع ،  وقد كثرت تزكية النفس من الأماثل ( أي الفضلاء ) عند الحاجة كدفع شر عنه بذلك، أو تحصيل مصلحة للناس، أو ترغيب في أخذ العلم عنه، أو نحو ذلك.

- للمصلح التقي أن يزكي نفسه لتحصيل مصلحة للناس:

- فقد زكى يوسف عليه السلام نفسه عند الملك العزيز لما دعته الضرورة إلى ذلك، والمصلحة فيها  فقال :( اجعلني على خزائن الأرض إني حفيظ عليم )( يوسف 55 )، وفي هذه الآية دليل ناطق على جواز وصف الإنسان نفسه بما فيه من علم وفضل.
-     وقد زكى الرسول نفسه في أكثر من حديث شريف، ومنها الحديث الذي أخرجه الإمام مالك وغيره:( والذي نفسي بيده لو أفاء الله عليكم مثل سمر تهامة نعما لقسمته بينكم، ثم لا تجدونني بخيلا ولا جبانا ولا كذابا )، وتأملا في هذا الحديث يقول ابن عبد البر النمري"وفيه جواز مدح الرجل الفاضل الجليل لنفسه، ونفيه عن نفسه ما يعيبه بالحق الذي هو فيه وعليه، إذا دفعت إلى ذلك ضرورة أو معنى يوجب ذلك فلا بأس، ومثل هذا كثير في السنن وعن علماء السلف، لا ينكر ذلك إلا من لا علم له بآثار من مضى". وفي الإخبار بما فضل الله به نبيه المصطفى على خلقه ؛ روي عن أبي هريرة قال: قال رسول الله : ( أنا سيد ولد آدم يوم القيامة، وأوّل من ينشق عنه القبر، وأوّل شافع وأوّل مشفع) رواه مسلم
من هنا يتبين أنه ليس على المكلف جناح أن يمدح نفسه إذا دعت الحاجة إلى ذلك، وعلى هذا استقر قول أهل العلم، يقول العز بن عبد السلام في قواعد الأحكام:"ولا يمدح المرء نفسه إلا إذا دعت الحاجة إلى ذلك مثل أن يكون خاطباً إلى قوم فيرغبهم في نكاحه، أو ليعرف أهليته الولايات الشرعية والمناصب الدينية ليقوم بما فرض الله عليه عينا أو كفاية وقد يمدح المرء نفسه ليُقتدى به فيما مدح به نفسه وهذا مختصُّ بالأقوياء الذين يأمنون التسميع ويُقتدى بأمثالهم.

 - ومن مدح الشخص لنفسه لدفع الشر؛ قول عثمان رضي الله عنه في وقت حصاره أنه جهز جيش العسرة  وحفر بئر رومة.

-  ومنه ما يكون للترغيب قول ابن مسعود هذا، وقول سهل بن سعد: ما بقي أحد أعلم بذلك مني، وقول غيره: على الخبير سقطت وأشباهه. انتهى. 

المرجع الحقيقي لتزكية النفس إلى الله سبحانه وتعالى: ( فَلَا تُزَكُّوا أَنفُسَكُمْ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اتَّقَى) (النجم: 32). 
يقول الإمام الطبري:"والله يزكي من يشاء من خلقه، فيطهره ويبرئه من الذنوب بتوفيقه لاجتناب ما يكرهه من معاصيه إلى ما يرضاه من طاعته" .
وفي صحيح مسلم، أن رسول الله قال:"لا تزكوا أنفسكم، الله أعلم بأهل البر منكم".
فجاءت هذه النصوص لبيان أن المرجع الحقيقي في التزكية إلى الله عز وجل، لأنه هو الأعلم بحقائق الأمور وغوامضها؛ فهو الذي يوفق أهل الخير إلى الخير، ويهيئ لهم أسباب ذلك، وبذلك فإن العدل الحق من زكاه الله تعالى بأن هداه إلى الصراط المستقيم، وحال بينه وبين الكبائر والصغائر، تزكيةٌ ربانية قوامها التطهير والتوفيق: تطهير من ذميم الأقوال والأفعال، وتوفيق إلى أحسن الخطاب وأصلح المعاملات

حكم تزكية الغير
 
لم يكتف الشرع الحكيم بالنهي عن أن يزكي المرء نفسه، وإنما حذر أيضا من تزكية المرء لغيره ومدحه له مع الإفراط في ذلك، كل ذلك سداً للذريعة وحتى لا يوصف الإنسان بما ليس فيه فيفتتن به. فقد أخرج الشيخان عن عبد الرحمن بن أبي بكرة عن أبيه قال: مدح رجل رجلا، فقال له النبي (ويحك قطعت عنق صاحبك، قطعت عنق صاحبك، مراراً، إذا كان أحدكم مادحا صاحبه لا محالة فليقل أحسب فلانا، والله حسيبه، ولا أزكي على الله أحدا، أحسبه، إن كان يعلم ذاك، كذا وكذا) . وإنما حذّر الشرع هذا التحذير حتى لا يكون ذلك سبيلا إلى التغرير بالناس لأكل أموالهم بالباطل، أو تمهيداً لمصلحة ذاتية متوقعة. غير أنه إذا دعت الضرورة إلى مدح الغير وكان ذلك مما تتوقف عليه مصلحة من المصالح النبيلة، ولاسيما العامة منها، فلا حرج في أن يزكي الرجلُ الرجلَ، وليس هذا بدعا من الفعل، فقد نقل القرآن الكريم ثناء بنت شعيب على موسى عليه السلام تُزكِّيه عند أبيها بقولها: (يَا أَبَتِ اسْتَأْجِرْهُ إِنَّ خَيْرَ مَنِ اسْتَأْجَرْتَ الْقَوِيُّ الْأَمِينُ)( القصص26) وهي تعني بقولها: "إن خير من تستأجره للرعي، القوي على حفظ ماشيتك والقيام عليها في إصلاحها وصلاحها، الأمين الذي لا تخاف خيانته فيما تأمنه عليه"
 وقد مُدح النبي بمنظوم الخطاب ومنثوره ولم يُنكِر على أحد صنيعه ما دام ذلك لم يتعد حدود المعقول، وزكَّى عليه أصحابَه في أكثر من مناسبة، كما زكى الصحابة بعضُهم بعضاً، وكذلك التابعون ومن بعدهم من الأئمة المجتهدين، وكُتُب الرجال والطبقات والتراجم طافحة بأقوال العلماء في الجرح والتعديل. وبالجملة فإن العلماء أجمعوا على جواز تزكية الغير إذا دعت الضرورة إلى ذلك، وهذا ما عبّر عنه الإمام القرطبي بقوله :"فأما مدح الرجل بما فيه من الفعل الحسن والأمر المحمود ليكون منه ترغيبا له في أمثاله، وتحريضا للناس على الاقتداء به في أشباهه فليس بمدح، وإن كان قد صار مادحا بما تكلم به من جميل القول فيه، وهذا راجع إلى النيات". 

ولا يجوز مجاوزة المقدار و رفع الأمر فوق حده في المدح :

وذلك حتى لو كان بأفضل الخلق محمد بن عبد الله
قال القرطبي – رحمه الله : ويدل عليه قوله في صحيح الحديث : ( لا تُطرُوني كما أطرتِ النصارى عيسى بن مريم وقولوا : عبد الله ورسوله ) فمعناه لا تصفوني بما ليس فيّ من الصفات تلتمسون بذلك مدْحي ، كما وصفت النصارى عيسى بما لم يكن فيه ، فنسبوه إلى أنه ابن الله فكفروا بذلكم وضلـّوا . وهذا يقتضي أن من رفع أمرا فوق حدّه وتجاوز مقداره بما ليس فيه فمعتـَد آثم لأن ذلك لو جاز في أحد لكان أولى الخلق بذلك رسول الله .


اللهم آت أنفسنا تقواها وزكها أنت خير من زكاها ، أنت وليها ومولاها

No comments:

Post a Comment